الجرائم والعقوبات في المجتمع الصليبي في بلاد الشام
شهدت منطقة بلاد الشام خلال القرنين الثاني والثالث عشر الميلاديين/ السادس والسابع الهجريين، حركة «استخرابية» من قبل الغرب الأوربي المُظلم فكرياً تجاه الشرق الإسلامي المستنير، حملت في طياتها مظاهر التخلف والتعصب الأعمى تجاه كل مذهب مُخالف للكاثوليكية. فعلى الرغم من أن دعوة البابا أوربان الثاني أواخر القرن الحادي عشر الميلادي/ الخامس الهجري، للقيام بالحركة الصليبية لإنقاذ بيت المقدس من أيدي المسلمين، فإن الواقع العملي لمسير تلك الجيوش الصليبية من بداية خروجها من الغرب الأوربي مروراً بالمدن الأوربية المختلفة، ثم بالقسطنطينية عاصمة الإمبراطورية البيزنطية، لم تترك تلك الجيوش مدينة إلا وأقاموا بها أعمال السلب والنهب، ما جعل الإمبراطور البيزنطي ألكسيوس كومنين يسارع بنقل تلك الجيوش المتبربرة خارج عاصمته اتقاء لشرهم.
وبعد اجتياز تلك الجيوش لبلاد الشام واستيلائهم على بيت المقدس من أيدي المسلمين، وبعد اقتحام تلك الجيوش بلاد الشام، مستغلة ما نشب بين القوى الإسلامية من صراعات عرقية ومذهبية، يسَّرت اختراق القوى الفرنجية الغازية لبلاد الشام مكونة الكيانات الصليبية الأربعة، وهي: الرها – أنطاكية – طرابلس- بيت المقدس. وما إن استقر المجتمع الصليبي في بلاد الشام حتى ظهرت مثالبه وأمراضه الاجتماعية التي أفرزت الكثير من الجرائم التي أدرك عقلاء الصليبيين خطورتها على هذا المجتمع الجديد، ويلفت الكاتب إلى حرص الصليبيين منذ بداية احتلالهم لمدن بلاد الشام، على سن التشريعات لمواجهة الجرائم التي انتشرت بين الجيوش الصليبية بصورة كبيرة، والتي جعلت رجال الدين يلقون باللوم على قادة الجيوش الصليبية بسبب المحن التي مروا بها.
فقد تعددت الجرائم في مملكة بيت المقدس الصليبية ومن بعدها مملكة عكا، وبقية الإمارات الصليبية الأخرى، على نحو استدعى تنوع القوانين التي تم سنها لمواجهة ذلك، وكانت القوانين الصليبية صورة مُصغرة للقوانين التي كانت تطبَّق في فرنسا في ذلك الوقت، فقد كانت تلك القوانين المصدر الأساسي للتشريع الصليبي، وكانت فرنسا تمد الكيان الصليبي من وقت لآخر بالمُشرعين لتطوير تلك القوانين لمواجهة تطور الجريمة وانتشارها بصورة كبيرة.
وكان للطبقية دورها في التفرقة في تنفيذ القوانين بين أبناء المجتمع الصليبي، فقد اختلف تطبيق العقوبة في الجريمة الواحدة بين النبلاء وعامة الشعب، ما أدى إلى إفلات الكثير من المجرمين من العقاب، وفي المقابل نزل العقاب على المذنبين من عامة الصليبيين، فساعد ذلك على تزايد الاختلاف والفرقة بين أبناء الطبقتين. وعندما كانت مملكة الصليبيين قوية، كان هناك اتجاه قوي لتطبيق القوانين وفرضها على الجميع، وعندما ضعفت كانت القوانين – على الأرجح - مجرد حبر على ورق، وانطبق ذلك الوضع على الإمارات الصليبية.
ويرى الكاتب أن التأمل في العقوبات المذكورة يدل دلالة واضحة على أن الكيان الصليبي على نحو واقعي كان أبعد ما يكون عن المثالية التي صورتها لنا كتب الحوليات الصليبية الباكرة، فقد صورت الصليبيين على أنهم جُند المسيح الأطهار، بينما الواقع التاريخي دل بوضوح على تفشي كل أشكال الجريمة في صفوف الغزاة، وعلى نحو كشفت عنه قوانين بيت المقدس نفسها، وكذلك النصوص الصريحة لمؤرخي الصليبيين خاصة منذ النصف الثاني من القرن الثاني عشر الميلادي/ السادس الهجري فصاعداً.
أيضاً كشفت العقوبات التي فُرضت على الهيئات الدينية الحربية الصليبية مثل الاسبتارية، والداوية، والتيتون وغيرها أنها بالفعل كانت أشبه بدولة داخل الدولة، فقد وجدت لها قوانينها الخاصة بها المختلفة عن قوانين المملكة الصليبية، وكان ذلك – مع عوامل أخرى - مؤشراً دالاً على التفكك والتناثر الذي عانى منه بشدة المجتمع الصليبي. ومن ثم قامت القوى الصليبية بسن القوانين للتصدي لهذه الجرائم، أملاً في إطالة عمر هذا الكيان الغريب عن المنطقة الإسلامية.
ووفق المؤلف فإن الهدف من الكتاب دراسة ظاهرة الجريمة وتحليلها وأسباب انتشارها داخل المجتمع الصليبي في بلاد الشام، والتي كانت بدورها عاملاً من عوامل النحر الداخلي التي ساعدت على انهياره نهاية القرن الثالث عشر الميلادي/ السابع الهجري.
عوامل ظهور الجريمة في المجتمع الصليبي
أما عن الفصل الأول فجاء بعنوان: عوامل ظهور الجريمة في المجتمع الصليبي، وتناول تكوين المجتمع الصليبي، الذي تعددت جنسياته المتباينة بطباعها وأخلاقها، والتي اشتملت على الحجاج الذين وفدوا من الغرب مصاحبين للجيوش الصليبية واستقر بهم المقام ببلاد الشام، مكونين نواة المجتمع الصليبي، بالإضافة إلى العناصر الشرقية التي اشتملت على المسلمين وقد مثلوا الغالبية بحكم أن بلاد الشام كانت تحت السيادة الإسلامية قبيل مجيء الصليبيين للمنطقة، بالإضافة إلى بقية عناصر السكان الآخرين من مسيحيين شرقيين وسريان وغيرهم، وكيف أن المجتمع الصليبي قام على أساس طبقي من بدايته، تمثل في طبقة النبلاء والفرسان، الذين مثلوا الطبقة الأرستقراطية داخل المجتمع الصليبي، ثم طبقة العامة من المحاربين الصليبيين، ثم طبقة المسيحيين المحليين، ثم الطبقات الأقل شأناً بعد ذلك.
ثم تطرق إلى دراسة النزاعات التي قامت داخل المجتمع الصليبي ببلاد الشام، وكيف أنهم دخلوا في نزاعات داخلية كثيرة بعضهم مع بعض ببلاد الشام، ما أدى إلى تصدُّع النظام الأمني داخل الإمارات الصليبية نتيجة تلك النزاعات. ثم ناقش الفصل الصراعات الأوربية التي انتقلت من الغرب الأوربي إلى داخل الإمارات الصليبية ببلاد الشام، وما نتج عن ذلك من حروب أهلية كثيرة أنهكت القوى الصليبية، مما أدى إلى وجود بيئة مناسبة للمجرمين من أجل تنفيذ جرائمهم من دون خوف من العقاب.
وناقش الفصل الثاني «جريمة القتل»، فتناول تعريفها ودوافعها المتباينة التي أدت إلى انتشارها داخل المجتمع الصليبي، ثم ناقش استخدام القتل من جانب الصليبيين لتصفية خلافاتهم السياسية في ما بينهم، فقد مثَّل القتل أسرع تلك الوسائل للتخلص من الخصوم والمعارضين في الرأي خاصة باستخدام الطرق المختلفة لتنفيذ تلك الجريمة، ومن أشهرها السموم التي انتشر استخدامها على نطاق واسع داخل المجتمع الصليبي، وبالأخص بمدينة عكا في النصف الثاني من القرن الثالث عشر الميلادي/ السابع الهجري.
وتناول تورُّط رجال الدين الصليبيين في تلك الجريمة، متغاضين عن الهيبة والوقار اللذين كانا من المفترض أن يتمتعوا بهما، وقد كانت دوافعهم لذلك دنيوية، وكان للمرأة الصليبية نصيب من تلك الجريمة، مع اختلاف دوافعها، فقد كانت دوافع سياسية للمحافظة على الاستقلال السياسي أو دوافع عاطفية من أجل التخلص من الأزواج، وأخيراً استخدام القتل كعقاب للتخلص من الخصوم أو لمجرد الشك في الولاء.
واستعرض الفصل الثالث جريمة الزنا، وناقش الأسباب والدوافع المتباينة التي أدت إلى ارتكاب تلك الجريمة، وألقى الضوء على تفشيها داخل الطبقة العليا للمجتمع الصليبي ببلاد الشام، وإقدام هذه الطبقة على ارتكابها من دون مراعاة لمكانتهم الاجتماعية بين رعاياهم من الصليبيين. ويضاف إلى ذلك تورط رجال الكنيسة في اقتراف تلك الجريمة الأخلاقية، التي كانت على النقيض تماماً مما يجب عليهم القيام به تجاه الصليبيين من نصح وإرشاد والابتعاد عن الرذائل الأخلاقية بكل أشكالها، ثم تأتي طبقة العامة التي مثلت القاعدة العريضة من المجتمع الصليبي نظراً لكثرة أعدادها، والتي تفشت بينها تلك الجريمة بشكل قبيح.
بينما تناول الفصل الرابع «جريمة الرشوة»، وقام بتعريفها ودراسة دوافعها المختلفة، ثم ناقش تورط رجال الطبقة العليا للمجتمع الصليبي، سواء كانوا من الملوك أو النبلاء، في تلك الجريمة، وتعددت الأسباب التي دفعتهم لفعل ذلك، ثم مشاركة رجال الكنيسة بنصيب في تلك الجريمة، التي دلت على تدني المستوى الأخلاقي لتلك الطبقة، ثم مساهمة طبقة العامة بنصيب منها.
القوانين والعقوبات داخل المجتمع الصليبي
واستعرض الفصل الخامس القوانين والعقوبات ومدى تطبيقها داخل المجتمع الصليبي، وكيفية نشأة القوانين الصليبية وتطورها على مدى القرنين الثاني والثالث عشر الميلاديين/ السادس والسابع الهجريين، ثم عرف بالتنظيم القضائي عند الصليبيين وتعدد أنواع المحاكم داخله، وكيف اختصت كل طائفة بمحكمة خاصة بها، ثم وضَّح القوانين الخاصة بالجرائم التي انتشرت داخل ذلك المجتمع ■