الأثر العثماني في لبنان ماذا تبقى منه؟

بيروت في أجواء الحروب الخارجية المحيطة بها ومن حولها، تستعيد أحد الوجوه التي مرت عليها، فاللاعب التركي اليوم وبالصخب الذي يحدثه، يحاكي عصراً عثمانياً يتجاوز الـ 400 سنة، ويكاد يدخل في طي النسيان، ويصبح جزءاً من الماضي.
هذا الاستطلاع محاولة لاستكشاف ما تبقي من هذا الأثر وفي جوانبه التراثية والثقافية، فالسياحة الجغرافية في هذا البلد الساحر بثقافاته وتنوعه وجماله الطبيعي، كثيراً ما تتشابك فيه مع معالم من الآثار والأمكنة التاريخية، لتنقلك إلى حيث شاء الهوى، وما تعشقه العين قبل القلب أحياناً.
بيروت، تلك االجوهرة في تاج السلطانب، كما وصفها الإمبراطور الألماني غليوم الثاني، عندما زارها في عهد السلطان عبدالحميد الثاني، كانت المحطة الأولى لرحلة امتدت لثلاثة أيام، اصطحبنا فيها نقيب المصورين الصحفيين في لبنان سابقاً، الزميل نبيل إسماعيل.
لعل وجود االسرايب في قلب العاصمة، وهي مقر رئاسة مجلس الوزراء، ما يعطي لهذه المدينة نكهة عثمانية، إلى جانب الساعة الحميدية وكانت تسمى االقشلةب باللغة التركية، وهو مبنى كثير الشبه بمبنى االسليميةب بإسطنبول من ناحية الموقع والهندسة وتاريخ البناء. فقد شيد عام 1849م، في عهد السلطان عبدالمجيد الأول وجدد عام 1877 م، في عهد الخليفة السلطان عبدالمجيد الثاني، وأعيد تجديده زمن رئيس الحكومة الشهيد رفيق الحريري عام 1998 م.
وفي ذلك العهد (1876 - 1909) تحولت بيروت إلى مركز لولاية حملت اسمها، كما يذكر كتاب ابيروت والسلطانب لمؤلفيه سوسن آغا قصاب وخالد عمر تدمري، حيث أصبحت المرفأ الرئيس على شرقي البحر الأبيض المتوسط، وشهدت تحولاً في نمط الإدارة بمشاركة عدد من سكانها، سواء في المجالس الإدارية أو البلدية والمحاكم الشرعية والنظامية.
الأبــــراج
مازالت هناك مناطق تحمل اسم االبرجب، فقد بنت فيها السلطنة العثمانية ما يقرب من 16 برجاً، بقي منها ابرج أبي حيدرب على سبيل المثال، الذي يمتد إلى ناحية مدرسة احوض الولايةب، وهي من المدارس التي أنشئت في تلك الفترة، وانتقلت إلى مرافق وزارة التربية بعد الاستقلال، وهذا ما تراه في درج منطقة اعين المريسةب، وهو واحد من سبعة أدراج عمره 200 سنة تقريباً، حيث كانوا يربطون الأحياء بواسطة الأدراج، ويبلغ طول الواحد منها حوالي مائة متر تقريباً.
اللغة والثقافة
أسواق بيروت لها حصة من تلك الآثار، فدرج اخان البيضب ودرج الجامعة الأمريكية شاهدان على ذلك العصر، أما التقديرات، بحسب رواية مدير المركز الثقافي التركي في لبنان، السيد جنكيز أروغلو، فتصل إلى ألف أثر عثماني، فهناك حوالي خُمس المساجد في بيروت، المسجد العمري الكبير اوفي الأصل كان كنيسة تحمل اسم مار يوحنا، وترجع إلى الحقبة الصليبيةب، ومسجد الأمير عساف ومسجد الأمير منذر والمجيدية، وهذه تتوزع وسط المدينة، فالدولة التركية، كما يضيف أروغلو أنفقت حوالي 30 مليون دولار على الآثار وترميمها في بيروت وطرابلس وصيدا خلال السنوات الأربع التي أمضاها في بيروت، ويعمل جاهداً على رسم خريطة يثبت فيها المواقع والآثار العثمانية على عموم أنحاء االجمهورية اللبنانيةب.
وعند سؤاله عن حال اللغة والثقافة التركية في لبنان، أو ما تبقى منها مقارنة باللغة والثقافة الفرنسية، أجاب: االسلطة العثمانية لم يكن لديها قلق حول هذا الشأن، فالولايات التي حكمتها لم تفرض عليها اللغة التركية، وإن استخدمت سياسية التتريك لاحقاًب.
الوثائق العثمانية
ثم استدرك مداخلته، متحدثاً باللغة العربية التي يجيدها بعد أن تعلمها في بغداد وتخرج في جامعتها اإن فترة وجود الأتراك ليست استعماراً، إنما هذه المنطقة كانت جزءاً من دولة الخلافة، وبيروت هي ولاية من الولايات العثمانيةب، مبدياً اعتراضه على التسمية، لأن الغرب هو من استخدم هذا الوصف، لكن في الحقيقة هي االدولة العاليةب، وبعد عام 1516م صارت ادولة الخلافةب، وإن كان العنصر الأقوى فيها هو العنصر التركي، ولم يكن هناك فرق بين الأناضول والبلقان أو المنطقة العربية.
وعن تفسيره لعدم وجود لبنانيين يتحدثون اللغة التركية، وعما تبقى من آثار بعد تدمير معظمها، قال أروغلو: اأكثر المثقفين وعامة الناس لا يعرفون أن هناك آثاراً عثمانية أو تركية في لبنان، فسكة حديد الحجاز الواصلة إلى مكة المكرمة لها محطات هنا، وقناة جر المياه التي تسقي بيروت، كانت عثمانية أقيمت بالقرب من انهر الكلبب، وبلدية جزين في جنوب لبنان هي كذلك، وخان الإفرنج في صيدا أيضاًب، لينهي حديثه بوجود ثقافة مشتركة بين العرب والأتراك أطول من عمر تاريخ الولايات المتحدة الأمريكية.
فتاريخ لبنان سيبقى ناقصاً من دون الوثائق العثمانية، على حد تعبيره.
العلاقة التاريخية ابين الغربب والأتراك لاتزال تلقي بظلالها على ما يحدث من حولنا، فهذا الغرب ساهم في تحريض العرب عليهم، كما يشير أروغلو، ومع ذلك فخلال الخمسين سنة الماضية حفلت الجامعات التركية بـ 500 شخص تخرجوا فيها يحملون الجنسية اللبنانية، وإن كانت الشكوى بعدم الرغبة في تعلّم اللغة التركية تؤرقه، بالرغم من تخصيص الدولة التركية 25 منحة سنوية للطلبة اللبنانيين.
وجهة نظر
تلك المقارنة كانت محط لقاء مع د. خالد زيادة، الدبلوماسي اللبناني، الرئيس الجديد للمركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات التابع لدولة قطر، وصاحب كتاب اسجلات المحكمة الشرعية - الحقبة العثمانيةب الذي خصصه عن مدينة طرابلس، إذ يقول إن الأثر العثماني لا ينحصر بما تركوه من عمران ولغة، بل بالنظم الاجتماعية وإصدار الصحف وملكية الأراضي والبلديات وبعادات الطعام.
والعرب لم ينخرطوا في النظام التعليمي والمدرسي العثماني، وعموم الناس لا يتحدثون اللغة التركية، فهي غير شعبية، ولم تفرض عليهم في أثناء الحكم العثماني، أما االتتريكب فقد حصل أواخر هذا العهد، أي بعد عام 1860 م، وبالتالي كانت اللغة التركية سائدة على مستوى النخبة والإدارات العليا.
ويستشهد على ذلك بالقول: افي عام 1876 وضعوا دستوراً وأرادوا تمثيل طرابلس، ولم يجدوا إلا واحداً من أسرة آل نوفل (أرثوذكسي)، ليمثل مجلس المبعوثين، والكتّاب في الإدارة العليا كانوا من الأرثوذكس واليهود والكاثوليك.
ويضيف د. زيادة أن الفرنسيين كانوا متقدمين حضارياً عن الأتراك، وعندهم جملة أهداف، من بينها نشر اللغة والثقافة الفرنسية أينما حلوا، ولهذا بقيت امرجعيتنا فرنسيةب، في حين أن من كان في السلطة العثمانية هم من كان مهتماً باللغة والثقافة، ولم تنزل إلى عامة الشعب.
بين القلعة والخان
للوصول إلى مدينة صيدا (40 كلم من بيروت) سلكنا طريقاً سارت عليه الحملات الصليبية من قبل، وكان الشاطئ البحري مدخلاً لمعظم الغزوات التي استهدفتها، فما إن تصل إلى جوار القلعة الرابضة على حدود المدينة حتى يطالعك اخان الإفرنجب الذي جدده رئيس الوزراء اللبناني الراحل الشهيد رفيق الحريري في أوائل تسعينيات القرن الماضي، وبالتعاون مع امؤسسة عودةب، ليعيد إلى هذا المعلم، صورته العثمانية والمملوكية، وبمساعدة المركز الثقافي الفرنسي في لبنان.
كانت البيوت تبنى داخل أسوار المدينة، فأينما وجد االخانب وجدت معه البيوت والحارات والأسواق، فهذا االثغرب الصيداوي حافظ على بقاء عدد من االخاناتب، منها خان الرز وخان الشاكرية وخان القيصرية وخان السراي.
وقد أحياه الأمير فخرالدين المعني الثاني، واستخدمه مقراً شتوياً ومركزاً لحكمه، ثم أهداه إلى الفرنسيين، بعد أن نفاه العثمانيون إلى إيطاليا، وعاش هناك مدة خمسة عشر عاماً.
تقترب من المكان، فتشعر برهبة التاريخ الذي ربض في زواياه، تتجول فيه بصحبة موظف مقيم بداخله في الساعات الأولى من الصباح، تسكنه أجواء هدوء يقطعها بضعة سياح فرنسيين يتهامسون بين بعضهم، وسط كلام ناعم من دليل سياحي أتقن فن الشرح والتعريف.
صيدا القديمة
تتقدم خطوات، تسترخي ذاكرتك على حقبات تاريخية كانت فيها صيدا منعزلة في أسوارها المبنية من الحجر الرملي حتى نهاية القرن التاسع عشر، وكانت حدود المدينة القديمة سوراً يصل القلعة البحرية شمالاً بالقلعة المبنية في الوسطى جنوباً، يفصلها اليوم عن الأحياء الجديدة شارع المطران.
على بعد أمتار قليلة من االخانب، حيث الأسواق المفتوحة على بعضها لا يفصلها سوى إضاءات تهبط عليك من زوايا العمران قادمة إليك من السماء، لتضيف نوراً ورونقاً على مساحات اكتست بألوان الطبيعة الزاهية بربيعها، وكأنك في مهرجان فولكلوري أخَّاذ.
تخطو باتجاه الأزقة، وحركة البيع والشراء تختلط مع حركة الأطفال وأهالي تلك الأحياء الساكنين فيها، ومن أعلى وبمداخل ضيقة جداً تسمع أصوات الباعة والتجار والزبائن، بصورة عفوية تنم عن تقاليد عرفتها هذه الأسواق التي كانت مغلقة على العالم الخارجي في عهد رئيس الوزراء اللبناني الراحل رياض الصلح، وهو أحد أبناء المدينة، عام 1943، فصيدا الحالية كانت تعيش داخل هذه الأسواق، يحدها خان الإفرنج ويسيجها عدد من البساتين المنتشرة في أرجائها.
دكاكين ومحلات مرصوصة ومتلاصقة في سوق عمره حوالي 600 سنة، وهي ممرات تضيق بالعابرين إليها، هنا كانت حارات لليهود والنصارى ومنازل أثرية أشبه بالقصور، منها ابيت عكراب وابيت عجرمب وابيت الزعتريب واقصر رياض الصلحب واحارة عودةب.
التعايش بين المسلمين والمسيحيين واليهود هو ما يميز تلك المدن، ففيها الكنائس والجوامع والكُنس، وقد بقيت دور العبادة هذه صامدة إلى أيامنا هذه، يرتادها زوارها من كل الطوائف.
استوقفنا محل أقدم الخياطين في السوق، ويدعى أبو إبراهيم القبرصلي، الذي لايزال يمارس مهنته على ماكينة خياطة أثرية تعلوها صورة رفيق الحريري، يصفه جيرانه بأنه الراوي الحي لتاريخ هذا السوق.
الأثر العثماني والمملوكي حاضر في الزوايا والبنيان وفي الأمكنة التي شاخت، لكنها لم تنته وسط سوق البازركان اوحارة طل وارجعب ومطرانية الروم الكاثوليك.
صيدا التي شاهدتها في عام 2007 لم تكن مطلع القرن التاسع عشر سوى قلعة على البحر وخان وأسواق محيطة به تغلق أبوابها من مداخلها التاريخية الأربعة وقت العصر، تحيط بها عشرات البساتين المزروعة بالفواكه والخضراوات، إلى أن جاء رياض الصلح ليفتتح هذه الأسواق على منطقة البساتين وتتوسع وتتحول إلى مدينة عامرة وحيوية.
فندق الشرق
اأوتيل الشرقب، هو أيضاً شاهد على العصر التركي، وكان يسمى أيامهم بـ انُزلب افتتح قبل أكثر من مائة عام وفي منطقة الشاكرية، وهو من أقدم الأسواق التجارية، حيث يفوق عمر هذا الشارع 120 عاماً، وكلمة اشاكريةب تركية، وتعني بالعربية االسكينب.
يحدثنا الحاج محمد بلال السوسي، أحد أبناء الفندق، أنه بني عام 1880 وقصده الفرنسيون والإنجليز والعرب للإقامة فيه، ولم يبق في تلك الأسواق غيره يفتح أبوابه للزوار، بعد أن أقفلت بقية الفنادق القديمة.
يخالجك شعور خاص وأنت تتجول في أرجاء هذه الأسواق كأنك تعيش داخل متحف شعبي، البيوت فيها جنباً إلى جنب تسمع أحاديثهم من النوافذ الخشبية المفتوحة على بعضها والمقابلة لبعضها.
ونحن نكمل الطريق في أحد الأزقة المملوكية، كان علينا أخذ قسط من الراحة وتناول صحن فول في مطعم اأبوعلي آغاب، الذي يحمل اسم عائلة أصلها تركي، وتعني االقبضايب.
متحف الصابون
نقطة النهاية أخذتنا إلى قصر اعودةب ومتحف الصابون المبني عام 1700 على يد اعلي حمود آغاب، أحد الولاة العثمانيين القادمين من المغرب العربي، اشترته عائلة ريمون عودة عام 1880، وهو وزير سابق وصاحب بنك عودة.
في هذه الحارة توجد ثلاثة كيانات مترابطة وإن اختلفت هندسياً، معمل صابون، أقواس من حجارة, بيت عائلي عمره يزيد على الـ 200 سنة يرقى إلى القرن السابع عشر، تم توسيعه في القرن التاسع عشر.
أما متحف الصابون، فيروي حكاية الصابون في المنطقة الممتدة من حلب إلى نابلس، كما يبرز المراحل التي تمر بها عملية التصنيع، فضلاً عن تنوع أشكال الصابون، وغالباً ما تقع معامل الصابون قرب مناطق زراعة الزيتون.
لقد كان الصابون والحمام التركي مترابطين ترابطاً وثيقاً، فالأول ضروري للآخر، من هنا أضيفت إلى المتحف واجهة زجاجية مكملة، خصصت للحمام يتم الدخول إليه من باب ضخم نقش عليه اسم المؤسسة وتاريخ البناء، ففي صيدا لايزال هناك حمام واحد يعمل، هو حمام الورد المشيد عام 1730 وعلى الطراز العثماني.
صحبة البحر إلى طرابلس
طريق الساحل من بيروت باتجاه طرابلس يلازمك فيه صحبة البحر والمدن المنبسطة على أطرافه، حيث إن مياهه تغسل عينيك كما الناظر إليه من بعيد.
بعد أن قطعنا في يوم مشمس مسافة 80 كيلومتراً من العاصمة إلى حيث بقعة تعاقبت عليها أمم وإمبراطوريات، لاسيما الأثر المملوكي الذي حظيت به، وكانت الثانية بعد القاهرة وإن كان الدارسون يشيرون إلى احتضانها لأكثر من 136 معلماً تراثياً تتوزع على القلاع والمساجد والخانات والحمامات والأسواق القديمة، تدخل المدينة من ساحة االتلب لتواجهك الساعة العثمانية ذات الطبقات الخمس والمهداة من السلطان عبدالحميد الثاني، وبجوارها حديقة المنشية وسط حركة دؤوبة من البشر والسيارات تخطف انتباهك، لتقف إلى لحظات في مواجهة مبان وفنادق لن تخذلك ذاكرتك للتعرف عليها وبأنها عثمانية.
وأنت تسير على قدميك بصحبة المصور نبيل إسماعيل وأحد أبناء طرابلس المخضرمين ويدعى سمير قحيجان، يطالعك الجامع المنصوري الكبير الذي أسسه السلطان الأشرف خليل بن قلاوون، وهو من أقدم الجوامع المملوكية في طرابلس ولبنان.
شارع الكنائس
من بوابة االتربيعةب في الأسواق القديمة، وبجوار جامع اشرف الدينب الذي أسسه حاكم طرابلس العثماني، علي بك أسعد المرعبي، عام 1824، ندخل شارع الكنائس، حيث أقدم كنيسة للروم الأرثوذكس امار نقولاب التي كانت وصية لأسرة مسلمة تنازلت عنها وحولت إلى كنيسة عرفت باسم اكنيسة السبعةب، وبجوارها أقيمت كنيسة امار جاورجيوسب وكنيسة امار مخايلب للموارنة تقابلها كنيسة لطائفة اللاتين ملحقة بمدرسة الطليان، وأنت تسير في الشارع نفسه تجد كنيسة امار يوسفب للسريان الكاثوليك، وبالقرب من هذا التجمع، يقوم ناحية الغرب، جامع االحميديب نسبة إلى السلطان العثماني عبدالحميد الثاني، وقد تم تجديده في عهده عام 1882م.
وكما هي الحال في الأسواق القديمة المماثلة، فقد كانت تلك المدن محاطة بشبكة من الأسوار تحميها من الغزوات الخارجية، على أن االخانب كان أشبه بالعلامة الفارقة أيام الحكم العثماني، وهو أقرب إلى أن يكون فندقاً في عصرنا الحالي، ففيه تنزل الخيول والضباط والجنود، حيث خصص لهم الطابق الأرضي وفوقه غرف للنوم ومكاتب للضباط، وهو مقسم بطريقة هندسية ومعمارية تجدها في معظم بلاد الشام وحينما تجد الخان هناك أسواق محيطة به.
واخان العسكرب الذي رممته ودشنته الجهات الدولية المانحة، بحضور مدير المركز الثقافي التركي في بيروت جنكيز أروغلو وممثل عن السفارة الفرنسية ومسؤولين محليين بقي من الآثار العثمانية، وهو كما يقول أهل طرابلس، كان عبارة عن ثكنة عسكرية فيها مربط للخيول، وفي المصادر المكتوبة كما يروي أحد أبناء المدينة، الدليل السياحي المعتمد سامر عبدالحي، أن االخانب تواصل بناؤه على مدى عصور عدة، فهو مملوكي وعثماني من القرن الرابع عشر، أعاد العثمانيون بناءه عام 1825م، يظهر من ختم االطغراءب على مدخله المنقوش على حجر رملي، يطالعك من البوابة الواسعة التي دخلناها بصحبة الدليل السياحي، وهو مؤلف من ثلاثة أقسام، تكاد تكون معظم معالم طرابلس مملوكية، فبجوار االخانب هناك جامع االتوبةب، الذي بناه السلطان االناصر محمد بن قلاوونب حوالي عام 1315 م، وجدد في عهد ابني سيفاب أحد أمراء طرابلس في العصر العثماني.
التكية المولوية
يتحدث بعض الأهالي عن التعايش بين المسيحيين والمسلمين، مدللين على ذلك باللوحة الزيتية المعلقة في إحدى صالات الفاتيكان، التي تبين مجموعة من الرهبان يقدمون الأغنام إلى الصحابي معاوية بن أبي سفيان عندما فتح المدينة.
بعد المرفأ وخارج المدينة القديمة، بنيت القلعة الحربية المشهورة بأسوارها العالية من أيام الإفرنج لصد الحملات القادمة إليها، حيث توالى عليها الصليبيون والعرب، وتعرضت للهدم، وتمت إعادة البناء والتجديد، إلى أن أضاف إليها السلطان العثماني سليمان بن سليم الأول البرج الشمالي وفيه الباب الرئيس، تقع تلك القلعة فوق تلة صخرية وترتفع أسوارها بين 15 و20 متراً, ويمكن رؤية المدينة مع الميناء وجزرها من البحر وكذلك الطريق إلى بيروت وحمص.
ومن القلعة يمكن مشاهدة اتكية الدراويش المولويةب, المكان الذي تقام فيه الأناشيد الدينية وحلقات الذكر المصاحبة للرقص الصوفي، واستعمله المولويون ملجأ للدراويش، أي المريدين، وأنشأها العثمانيون في الأساس لرعاية من لا عائل لهم وعابري السبيل، وعلى مسافة 200 متر جنوباً بنيت في العصر العثماني عام 1619، وهي أكبر اتكيةب بعد اكونياب.
دخلنا اسوق الحراجب، وهو سوق أثري مملوكي، حيث تقام الأعمدة الجرانيتية المرتفعة التي تتوسط الساحة، وهنا كانت تتم علميات البيع والشراء للصناعات الحرفية.
وأنت تتجول في اخان الصابونب تسمع من أصحاب الدكاكين أن فيه 40 غرفة، بناه ايوسف باشا سيفب، وهو الآن يتبع بلدية طرابلس، ومن يتجول بأرجائه تطارده رائحة الصابون وهو يتنقل من دكان إلى آخر. وفي العهد العثماني كانت طرابلس مركزاً مهماً لصناعة الصابون، وذلك بفضل وجود أربعة معامل فيها.
المعالم العثمانية والمملوكية حاضرة في أحشاء هذه المدينة القديمة، ومنها الحمامات التاريخية والمساجد وسبيل المياه، فما إن تتحرك مائة متر من المكان الذي تقف فيه، حتى ترى آخر أمامك.
احمام العبدب تراه من بعيد، وتصله عبر زقاق بالكاد يتسع لمرور شخصين وسط أسوار مبنية من الحجر الرملي عمره يتجاوز الـ 400 سنة، ولاتزال أبوابه مشرعة.
جلسنا واأبوعادلب القادم من دمشق، والذي اكتسب خبراته على مدى 51 عاماً، يقول إن هذا الحمام الوحيد التركي القديم لايزال يفتح أبوابه للزبائن، وإذا ما جاء وزير أو وجيه نُلبسه ثوب الحرير بعد أن يستريح، وإن كانت هناك حمامات تركية في بيروت وصيدا، كما تنامى إلى مسامعنا من كبار السن.
االخاناتب منتشرة في البقعة، مثل خان االخياطينب اوخان الصاغةب واخان المصريينب، وكل خان يعرف باسم مهنة أو جهة تمثله وتأخذ اسمه.
عباءة المدينة
أطلق على طرابلس اسم االفيحاءب، كما يحلو لأهلها وكتب التاريخ تسميتها، كما أطلقوا عليها اسم امدينة العلم والفنونب، وفي تلك المسميات لم تخرج من عباءة التاريخ ومن الأثر المملوكي والعثماني تحديداً، وهو ما تراه عيناك وأنت تتجوّل في أرجائها، فمن جامع االبرطاسيب، وهو من أجمل الجوامع المملوكية والهندسة المغربية الأندلسية في مئذنته المدهشة إلى جامع اطينالب الذي يضاهي أجمل جوامع القاهرة ودمشق يكاد يكون تحفة فنية بالألوان والزخارف. وهو مبني عام 1336 على يد الأمير اسيف الدين طينال الأشرفي الحاجبب.
على مدى أكثر من 400 سنة، امتدت الحقبة العثمانية (1506 - 1918) بعد أن حررها المماليك من الإفرنج عام 1289 ليتحول هذا االثغرب، أي طرابلس، ويضرب جذوره في التاريخ، فالسلطان عبدالحميد الثاني له فيها محطات، فقد أهداها شعرة من لحية الرسول [، لاتزال في الجامع المنصوري الكبير، وساعة االتلب العثمانية، أقامها بمناسبة مرور 25 عاماً على تسلمه الحكم، أي في عام 1502م.
قائمة طويلة من الأثر العثماني الباقي في طرابلس، الذي يتجاوز الـ 136 أثراً، يمكنك أن تطالع عدداً منها في الكتيب الذي اشترك في تأليفه كل من د. عمر عبدالسلام تدمري وابنه خالد.
فهناك مبنى البلدية والساعة الحميدية، نسبة إلى عبدالحميد، وحديقة المنشية ومقهى التل العليا وسكة الحديد في الميناء والبرج الشمالي في القلعة والتكية المولوية وجامع البرطاسي وجامع محمود بك والحمام الجديد، وغيرها كثير. عندما تقترب من الجامع المنصوري الكبير، تقف متأملاً لترى أسماء المدارس الدينية التي تحمل الأثر المملوكي والعثماني ومنها المدرسة القرطامرته والنورية والطواشيته والشمسية، وأمام ناظريك بيوت مازالت تتزين بالمنظرة الخشبية (بلكون خارجي) والمشربيات والشعرية، وهي أشكال هندسية اشتهرت في مدن بلاد الشام والمغرب العربي. كل ذلك يعد متحفاً في مدينة، أو مدينة في متحف، يتعايشان برغم الظروف الصعبة التي مرت بها، كما وصفها د. محمد علي ضناوي في كتابه اعودة الذاكرةب .
أبنية في العهد العثماني وسط مدينة بيروت أعيد ترميمها في عهد رئيس وزراء لبنان الأسبق رفيق الحريري
مبنى أثري قديم عمره أكثر من مائة سنة وفيه «أوتيل الشرق» في صيدا
قصر «السراي» تم تشييده سنة 1849 في عهد السلطان العثماني عبدالحميد الأول، وأضيفت الطبقة الأولى سنة 1877 في عهد الخليفة السلطان عبدالحميد الثاني
الساحة المركزية لطرابلس «التل» حيث تنتصب الساعة العثمانية ذات الطبقات الخمس والمهداة من السلطان
عبد الحميد الثاني وبجوارها حديقة المنشية
الكنائس والمساجد جنباً إلى جنب في بيروت