من «بديع» أبي تمام

من «بديع» أبي تمام

«البديع» عند أبي تمام معناه «الـمُبدَع»، أي الجديد الذي لا سابقة له ولا تقليد فيه للسابقين، والمصطلح هنا يتجاوز المعنى الضيق القديم للكلمة، الذي يقف بها عند حدود الجناس والطباق والكناية والتورية وغيرها من الفنون البديعية التي يعنى بها عالم البلاغة في الدرس المدرسي.
ولأن البديع عند أبي تمام عنوان ومدخل لحركة تجديد كبرى في تاريخ الشعر العربي على مر العصور، أشعلت الصراع بين أنصار التجديد من جهة والخارجين على النظام الشعري الموروث من جهة أخرى، فإن انقسام الرأي حول شعر أبي تمام بين أنصاره وخصومه كان أمراً طبيعيًّا ومتوقعاً.

فكان هناك من يعتبرونه رأس مدرسة في الشعر، ومن لم يعترفوا به ولم يعدّوه شعراً أصلاً، كابن الأعرابي العالم اللغوي الذي أُنشد شعراً لأبي تمام فقال: إن كان هذا شعراً فما قالته العرب باطل.
 وفي المقدمة الضافية التي كتبها د.محمد مصطفى أبو شوارب أستاذ الدراسات الأدبية بجامعة الإسكندرية محقق الديوان وصانعه في طبعته الجديدة التي أصدرتها مؤسسة جائزة عبدالعزيز سعود البابطين للإبداع الشعري وحملت عنوان: «المستوفى من شعر أبي تمام» في مناسبة انعقاد دورتها الرابعة عشرة التي أطلقت عليها دورة أبي تمام الطائي- تزامنت مع احتفال المؤسسة بيوبيلها الفضي - في هذه المقدمة تناول جاد لمصطلح البديع في شعر أبي تمام، وموقف النقاد العرب القدامى منه، تلخصه كلماته في هذه السطور: «الخصومة حول شعر أبي تمام (في أكثر من عشرين مرجعاً من المراجع المعتمدة) صادرة لا ريب عن موقف فني يتعلق في أصله بقضية الخصومة بين القدماء والمحدثين. ومن جهة أخرى مثلت تجربة أبي تمام الفنية خروجاً سافراً على الموروث الشعري، وتهديداً عنيفاً للشعرية العربية الموروثة بكل طاقاتها الجمالية وطرائقها اللغوية، على نحو لم يقدم عليه شاعر من قبل، بمن فيهم الشعراء الذين انضووا تحت لواء التجديد ورفعوا رايته. ومن ثمّ فقد واجه شعر أبي تمام موجات متعاقبة من الانتقادات الحادة التي وجهها إليه النقاد المحافظون على سمات البنية الشعري العربية الموروثة، بصورة قاسية، لم يتعرض لها غيره من الشعراء المجددين من أمثال بشار ومسلم وأبي نواس: الذي جاهر بالخروج على تقاليد القصيدة العربية ورفضها في كثير من السخرية والتهكم». 
 ثم يضيف د. أبوشوارب موضحاً: «أما أبوتمام، فهو وإن التزم بهذا الإطار الخارجي الموروث أحياناً، فإنه سعى إلى تحويل بنية اللغة الشعرية ذاتها وتغيير مسارها، نتيجة نزوعه الكثيف إلى الانحراف، والتجاوز، وكسر المواضعات المألوفة، وسبك تراكيب جديدة، تدخل المفردات اللغوية من خلالها في علاقات تتسم بالتغيير وانفتاح أفق الدلالة على مستويات مختلفة». 
وصولاً إلى قوله: إن قيمة شعر البديع لا تكمن في بروز الأنواع البلاغية التي تتضمن (فقط) طاقات التقابل والتماثل والتوازن والتشابه والتداعي والانزياح، وإنما تكمن في تميُّزه بالقدرة على تمثيل (تمثُّل) الثقافة العربية من خلال عصر سيادة الاعتزال. 
وعلى هامش هذا الكلام كله، عن أبي تمام وبديعه، تجيء الحكاية الطريفة التي تتمثل في ما نطق به أحدهم لأبي تمام بعد أن استمع إلى قوله: 
لا تسقني ماء الملام، فإنني
صبٌّ قد استعذبت ماء بكائي
قال له -على سبيل السخرية: «أعطني قطرة من ماء الملام». 
فردّ أبوتمام على الفور: «إذا أعطيتني أنت أولاً ريشة من جناح الذل، مشيراً إلى قوله تعالى: {وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ} (سورة الإسراء، الآية 24). 
وفي هذه الطرفة - إذا صحّت - أمران جديران بالالتفات: أولهما أن كثيراً من شعر أبي تمام كان يصيب متلقيه بالدهشة أو الصدمة أو كليهما، وأن هذا التساؤل الذي بدأت به الحكاية صورة للمفاجأة الشعرية التي أحدثها بديع أبي تمام. 
وثانيهما - وهو الأهم - أن ذكاء أبي تمام في رده السريع كان من شأنه أن يعيد الأمر إلى مرجعية لا تقبل المناقشة. ذلك أن التعبير القرآني في صيغته المحكمة وتعبيره «بجناح الذل» قد أعطى لأبي تمام ونظرائه شرعية التجديد في اللغة والتعبير والتصوير، أي شرعية «البديع».
وهو الأمر الذي سنقف عند بعض تجلياته في قصيدة بديعة لأبي تمام جاء في عنوانها أنها في مدح الحسن بن رجاء وطلب فرس منه، وجاء في «النظام» أنها في الحسن بن وهب نفسه. وهو أمر يفسح المجال لقراءة النص من منطلق أنه تعبير عن أبي تمام نفسه، وتصوير خارجي وداخلي له، وأن الممدوح والفرس ليسا إلا مناسبتين لانطلاق الشعر، أما المعنيّ بالكلام كله فهو أبوتمام، وهو أمر نجد تكراراً له في مواضع كثيرة من شعر المتنبي، دونما حاجة منه إلى إلغاز أو تورية.
يقول أبوتمام بعد أبيات يتساءل فيها عن آثار الديار وعن الأجراع (أي كثبان الرمل) والأرض الرملية، وكأنه يوهمنا بأننا مقبلون على قصيدة تقليدية تحاكي شعر القدماء: 
هُذّب في جنْسهِ، ونال المدى
بنفسه، فهو وحده جِنْسُ
أحرز آباؤه الفضيلة، مُذْ
تفرّست في عروقها الفرسُ
ليس بديعاً منه، ولا عجباً
أن يطرقَ الماءَ ورْدهُ خِمْسُ
يتركُ ما مرَّ مُذْ قُبيْلُ به
كأنَّ أدنى عهدٍ به الأمسُ
وهو إذا ما ناجاهُ فارسهُ
يفهمُ عنه ما يفهمُ الإنسُ
وهو - ولمَّا تهبطْ ثنيتهُ -
لا الرُّبعُ في جرْيِه ولا السُّدْسُ
ضُمّخ من لونه، فجاء كأن
قد كسفت في أديمه الشمسُ
كلُّ ثمينٍ من الثوابِ به
غير ثنائي فإنه بَخْسُ
شذّب همي به صقيلٌ من الــ
ـفتيانِ، أقطارُ عِرْضهِ مُلْسُ
سامي القذاليْنِ، والجبين إذا
نكّس من لؤمِ فِعْلهِ النّكْسُ
ثم يقول أبوتمام وكأنه ينتقل إلى مجال التصريح بأن المقصود هو الممدوح الحسن بن وهب: 
أبو عليٍّ أخلاقهُ زَهرٌ
غِبَّ سماءِ، وروحهُ قُدْسُ
أبيضُ قُدَّتْ قدَّ الشراكِ شرا
كِ السِّبْتِ بيني وبينه النَّفسُ
للمجد مستشرفٌ وللأدب الـ
ـمجفو تِرْبٌ وللندى حِلْسُ
وحومةٍ للخطابِ فرّجها
والقوم عُجْمٌ في مثلها خُرْسُ
شكَّ حشاها بخطبةٍ عَنَنٍ
كأنها منه طعنةٌ خَلْسُ
أروعُ، لا من رياحهِ الحرحف الـ
ـصِرُّ، ولا من نجومه النَّحْسُ
يشتاقهُ من كمالهِ غدهُ
وفي رواية ثانية:
يشتاقهُ من نهارهِ غدهُ
ويُكثرُ الوجْدَ نحوهُ الأمسُ
ردّي لطرْفي عن وجههِ زمنٌ
وساعتي عن فراقهِ حَرْسُ
(والحرسُ هو الدهر).
أيامنا في ظلالهِ أبداً
فصلُ ربيعِ ودهرُنا عُرْسُ
لا كأناسٍ قد أصبحوا صدأ العيْـ
ـشِ، كأنَّ الدنيا بهم حبْسُ
القُربُ منهم بُعْدٌ من الرُّوح والـ
ـوحشةُ من مثلهم هي الأُنسُ
تلك خلالٌ وقْفٌ عليك ابن وهـ
ـب بن سعيدٍ، عِتاقُها حُبْسُ
آبرُ حمدٍ يرى الرجال همو
سرُّ الثرى والعلا هي الغرْسُ
نستطيع الآن بعد استعراض معظم أبيات هذه القصيدة أن نستخلص منها نصًّا مختصراً من أربعة أبيات أو خمسة، وأن نتأمله في ضوء اكتشافنا لحقيقة أن أبا تمام يفرض صورته ومثاله على قصيدته، وكأنه المعنيُّ الأول بكل ما جاء فيها. يقول النصّ المختصر: 
هُذّب في جنسه، ونال المدى
بنفسه فهو وحده جِنْسُ
ضُمّخ من لونه فجاء كأن قد
كُسفت في أديمه الشمسُ
يشتاقهُ من نهاره غدهُ
ويْكثر الوجْدَ نحوه الأمسُ
أيامنا في ظلاله أبداً
فصل ربيع، ودهرُنا عُرسُ
لا كأناس قد أصبحوا صدأ العيْـ
ـش كأنّ الدنيا بهم حبْسُ
خمسة أبيات لا غير، تتوهج بتجليات هذا البديع الذي انفرد به أبوتمام، وأصبح يمثل مشروعه الشعري التجديدي الذي - كما تقول مقدمة ديوانه-: «أكسبه عداوة اللغويين ونقاد الأدب المحافظين، الذين أُشربت نفوسهم طاقات المشروع الشعري الموروث، وتشكلت أذواقهم من جمالياته، وهو المشروع الذي لم ينسب لغير أبي تمام فأصبح يقال عنه مذهب الطائي، في مواجهة الشعرية المحافظة التي اصطلح على تسميتها بمذهب الأوائل، الذي تجسدت ملامحه الفنية في جملة الخصائص الشعرية التي ينتظمها مفهوم عمود الشعر». 
لم لا نبتعد - قليلاً - عن كلام النقاد والباحثين والمحققين، مقتربين أكثر من شعر أبي تمام وبديعه حين يقوله: 
لا تسْقني ماء الملام، فإنني
صبٌّ قد استعذبتَ ماء بكائي
ومُعرّسٍ للغيث، تخفقُ بينه
رايات كلّ دُجنّةٍ وطفاءِ
نُشرت حدائقهُ فصرْنَ مآلفاً
لطرائف الأنواءِ والأنداءِ
فسقاه مسكُ الطلِّ كافور الصَّبا
وانحلَّ فيه خيط كلَّ سماءِ
(انحلال الخيط: كناية عن سقوط المطر الغزير).
عُنيَ الربيع بروضه، فكأنما
أهدى إليه الوشْيَ من صنعاءِ
صبَّحتهُ بسلافةٍ، صبّحْتُها
بسلافة الخلطاءِ والنُّدماءِ
بمدامةٍ تغدو المنى لكؤوسها
خَوَلا على السّراء والضراء
(الخَول: أصل ما يمتلكه الإنسان، وما خوّله الله من الإبل والخدم). 
راحٌ إذا ما الراح كُنَّ مطيَّها
كانت مطايا الشوق في الأحشاءِ
عنبيةً ذهبيةً سَكبتْ لها
ذهبَ المعاني صاغةُ الشعراءِ
أكل الزمان لطول مُكْثِ بقائها
ما كان خامرَها من الأقذاءِ
صعُبت وراض المزْجُ سيئ خُلْقها
فتعلّمت من حُسْنِ خُلْقِ الماءِ 
خرقاءُ يلعب بالعقول حبابُها
كتلعُّب الأفعال بالأسماءِ
وضعيفةٌ فإذا أصابت فرصةً
قتلتْ، كذلك قدرةُ الضعفاءِ
جهميّةُ الأوصافِ إلا أنهم
قد لقّبوها جوهرَ الأشياءِ
وكأنّ بهجتها وبهجة كأسها
نارٌ ونورٌ قُيّدا بوعاءِ
أو درةٌ بيضاء بكْرٌ أُطبقت
حمْلاً على ياقوتةٍ حمراءِ
ومسافة كمسافة الهجرِ ارتقى
في صدر باقي الحُبِّ والبُرحاءِ
بِيدٌ لنسْل العيد في أُملودها
ما ارتيد من عيدٍ ومن عُدَواءِ
(البيد: الصحاري المهلكة، العيد: فحل تُنسب إليه النياق، العُدَواء: الأرض التي لا يطمئن القائمُ فيها).
ثم يقول أبوتمام مفصحاً عن الثناء على ممدوحه: 
مزّقتُ ثوب عُكوبها بركوبها
والنار تنبُع من حصى المعَزْاءِ
وإلى ابن حسّانَ اعْتَدتْ بي همةٌ
وقَفتْ عليه خُلّتي وإخائي
لما رأيتُك قد غَذوْتَ مودتي
بالبشرِ، واستحسنْتَ وجْهَ ثنائي
أنبطْتُ في قلبي لوأْيكَ مشْرعاً
ظلّت تحومُ عليه طيرُ رجائي
(أنبطتُ: استخرجتُ، الوأي: الوعد، الـمَشْرَع: الذي يُشرع فيه الورود للسُّقيا، المعزاء: الأرض الصخرية).
فثويْتُ جاراً للحضيض، وهمّتي
قد طُوِّقت بكواكبِ الجوزاءِ
إيهٍ فدتْكَ مغارسي ومنابتي
اطرحْ عناءَك في بُحور عنائي
يسِّرْ لقولك مهْرَ فِعلكَ، إنه
ينوي افتضاض صنيعةٍ عذراءِ
وإلى محمدٍ ابتعثْتُ قصائدي
ورفعتُ للمستنشدين لوائي
وإذا تشاجرت الخطوبُ قريْتها
جدلاً يفُلُّ مضاربَ الأعداءِ
رأياً لو استسقيْتَ ماء نصيحةٍ
لجعلْتَهُ أَرْياً من الآراءِ
(الأرْي: العسل).
يا غاية الأدباءِ والظرفاءِ بلْ
يا سيد الشعراءِ والخطباءِ
عُرفتْ بك الآدابُ مُجملةً كما
عُرفتْ قريشُ الله بالبطحاءِ
ساويْتهم أدباً وجودُكَ شاهدٌ
بل حالفٌ أن لسْتمو بسواءِ
بخلائقٍ أسكنْتَها خَلَد الثرى
فجهدْتَ منها جهْدَ كلِّ بلاءِ
يحيى بن ثابتٍ الذي سنَّ الندى
وحوى المكارم من حياً وحياءِ
لقد كان لشعر أبي تمام وبديعه في عصره، ما يشبه الزلزال - في وقْعه وعنفوانه- على كثير من شعراء زمانه، وامتلأت بأخباره وما رُوي عنه صفحات عديد من أمهات الكتب لابن المعتز، وأبي بكر الصولي، وقدامة ابن جعفر، والحسن الآمدي، والمرزباني، والحاتمي، والمرزوقي، وابن الأثير، والأصفهاني، وغيرهم ممن تناولوا محاسنه ومثالبه، في حركة تأليف واسعة المدى منذ القرن الثالث الهجري. إذن فقد شغل أبوتمام النقاد والباحثين والرواة، في حياته وبعد وفاته، شأنه شأن المتنبي، وإن كان يجيء بعده من حيث الصدارة، حين يتصل الأمر بحركة التأليف عن دورهما وشعر كلٍّ منهما، وتأثيرهما في مسيرة الشعر العربي على مدار عشرة قرون حتى اليوم. 
ولقد بدأنا حديثنا عن أبي تمام بأبيات من قصيدته البديعة في مدح الحسن بن وهب، وها نحن نختتمه بأبيات من قصيدة ثانية يمدحه فيها، وكأنما كانت شاعرية أبي تمام طيّعة كلما اقترب من «الحسن»، فهي تنساب وتفيض وتغدق عليه من المعاني والصور الشعرية والفكر والحكمة والتأمل. ويتألق بديعُه وتنكشف عجائبه، وهو يقول:
ضربت به أفقَ الثناءِ ضرائبٌ
كالمسكِ يُفتق بالندى ويُطيّبُ
يستنبط الروح اللطيف نسيمُها
أَرجاً وتؤكلُ بالضمير وتُشربُ
ولنتأمل هذا التعبير الفذ (تؤكل بالضمير) في جماله وجلاله، ولكأن شاعر لبنان الأكبر سعيد عقل استوحاه لا شعوريًّا وهو يقول عن مصر: 
من لم يزن مصر وزْنَ الحقِّ سال دمٌ
على الضمير، ويبقى أن يسيل دمُ
ثم يقول أبوتمام:
ذهبت بمذهبه السماحة، فالتوتْ
فيه الظنونُ أمذهبٌ أم مُذهبُ
ورأيت غُرّته صبيحة نكبةِ
جَللٍ، فقلتُ: أبارقٌ أم كوكبُ؟
متَعْت كما متعَ الضحى في حادثٍ
(متعت: أي ارتفعت)
داجٍ، كأن الصبح فيه مغربٌ
يفديه قومٌ أحضرت أغراضُهم
سوء المعايب، والنَّوالُ مُغيّبُ
من كلّ مهراق الحياءِ، كأنما
غطى غديريْ وَجنيتْهِ الطُّحلُبُ
متنسّمُ الثوبين ينظرُ زادهُ
نظرٌ يُحدّقه وخدٌّ صُلّبُ
فإذا طلبْتُ لديهمو ما لم أَنلْ
أدركتُ من جدواهُ ما لا أطلبُ
ضمَّ الفتاءَ إلى الفتوةِ بُرْدهُ
وسقاهُ وسميُّ الشبابِ الصَّيّبُ
(الفتاء: حداثة السنّ، الفتوة: الحماسة والاندفاع، الوسميّ: المطر الذي يسم الأرض أي يصيبها، الصيّب: المنهمر).
وصفا كما يصفو الشهاب، وإنه
في ذاك من صِبغ الحياءِ لمُشْربُ
تلقى السعود بوجهه وتُحبُّه
وعليك مسحةُ بِغْضةٍ، فتُحبَّبُ
إن الإخاء ولادة وأنا امرؤٌ
ممّن أواخي حيث مِلْتُ فأُنجبُ
وإذا الرجال تساجلوا في مشهدٍ
فمُريحُ رأيٍ منهمو أو مُعْزبُ
(تساجلوا: تباروا، الـمُعزب: طالب الكلأ البعيد).
أحرزْتَ خَصْليهِ إليك، وأقبلتْ
آراء قومٍ خلف رأيك تُجْنَبُ
(الخصْل: ما يخرجه المتسابق عند الرهان ليأخذه المنتصر).
وإذا رأيتك والكلام لآلئ
تُؤمٌ، فبِكرٌ في النظامِ وثيّبُ
(التؤم: جمع تؤمة وهي الدُرَّة، والبكر يقصد به الرأي الجديد، أما الثيّب فالرأي الذي سُبق إليه).
فكأن قُسًّا في عكاظٍ يخطبُ
وكأنَّ ليلى الأخيلية تندبُ
وكثير عزّةَ يوم بيْنٍ ينسُبُ
وابْنَ المقفع في «اليتيمة» يُسهبُ
تكسو الوقارَ وتستخفُّ مُوقّراً
طوراً، وتُبكي سامعين وتُطربُ
قد جاءنا الرشأ الذي أهديْتهُ
خِرَقاً ولو شئنا لقلنا المركبُ
(الرشأ: ولد الظبية، يقصد به الغلام الذي أُهدي إليه، الخِرق: الضعيف المتكاسل من النعيم).
لدْنُ البنان، له لسانٌ أعجمٌ
خُرْسٌ معانيه، ووجهٌ مُعربُ
يرنو فيثلم في القلوب بطرْفهِ
ويعنُّ للنظر الحرون، فيُصحبُ
قد صرَّف الرّانون حُمرةَ خدِّهِ
وأظنُّها بالريق منه ستُقْطَبُ
(تُقطب: أي تمزج).
وأخيراً يقول أبوتمام: 
حمدٌ حُبيتَ به وأجرٌ حلّقت
من دونه عنقاء ليلٍ مُغربُ
(العنقاء الـمُغْرب: طائر خرافي تضرب به العرب مثلاً لكل ما لا ينال ويصبح ميئوساً منه).
خذهُ وإن لم يرتجع معروفُه
محضٌ إذا مُزج الرجال مُهذّبُ
وانفَح لنا من طيب خِيمكِ نفحةً
إن كانت الأخلاقُ منا تُوهبُ
(الخيم: السجية والطبع).
***
لقد جاء صدور الطبعة الجديدة المكتملة والمحققة من ديوان أبي تمام بعنوان «المستوفى من شعر أبي تمام» عن مؤسسة جائزة عبدالعزيز سعود البابطين للإبداع الشعري، صنعة د. محمد مصطفى أبوشوارب، مناسبة للحديث عن «بديع» أبي تمام، من خلال عدد من قصائده غير المشهورة أو الدائرة على الألسنة والأقلام، تجنباً للتكرار، والتفاتاً إلى تجليات الإبداع الشعري، لدى واحد من شعراء القمة، في ديوان الشعر العربي كله، قديمه وحديثه، وبين شعرائه الكبار قُدامى ومحدثين ■