بَشْكيرستان

بَشْكيرستان

يلف الغموض البلاد التي لايزال اسمها يحمل مقطعًا من الماضي، بعضها استهلكته الأحداث، فبات يردده كل لسان وتألفه الآذان، وأسماء أخرى تنتظر على وسادة التاريخ أحلامها. وإذا كانت الخطوات قد اعتادت تتارستان، إحدى جمهوريات روسيا الاتحادية، فإن جارتها وشريكتها في الاتحاد «بشكيرستان» جديرة بأن تكون محطة مهمة على طريق الحرير، وهي أرض الخيل والسهل، وفيها أهل من تتارستان، وكم من مرة تسمع عمن ولد ونشأ في أوفا عاصمتها ودرس وعمل في قازان؛ عاصمة جارتها، وهكذا أنت بين المدينتين كما بين القاهرة والإسكندرية، وبين أنهار الجمهوريتين، كما بين دجلة والفرات. وإذا كان عليك أن تقطع مسافة 800 كيلومتر من موسكو كي تصل إلى قازان، فإن أكثر من 300 كيلومتر أخرى ستصل بك إلى أوفا، التي تبعد عن موسكو بنحو 1169 كيلومتراً. 

ليست الحدود السياسية هي وحدها التي تربط بين تتارستان وبشكيرستان، فالاثنتان ضمن حزام ما يسمى بـ«جمهوريات حوض نهر الفولجا»، أطول أنهار أوربا، ويمتد من شمال القارة العجوز، حتى يصب في بحر قزوين. وهناك تقطن القبائل التاريخية التي عرفت إمارات إسلامية قدمت قبائلها من شرق ووسط آسيا قبل أن تصبح جزءا من الإمبراطورية الروسية، وكيانا في الاتحاد السوفييتي لاحقا (أُسست الجمهورية في 20 مارس 1919م كجزء من الجمهوريات الفيدرالية الاشتراكية السوفييتية)، وسبع جمهوريات 
تمثل الآن أقاليم لها حكم ذاتي محدود، وأكبرها بشكيرستان (وفي الأدبيات العربية التاريخية يرد اسمها باشكوريا، أو بشقورستان). 

في حوض نهر الفولجا 
مع بشكيرستان وتتارستان، وفي حوض نهر الفولجا، هناك جمهوريات الجوفاش، وموردوف، وأدمورت، ومري، وأورنبورغ، وتبلغ مساحة بشكيرستان 143500 كيلومتر مربع، ما يجعلها أكبر شقيقاتها. ونحن نعرف كيف أسلمت قبائل المغول بعد انتصارها على الخلافة الإسلامية خلال القرن الرابع عشر الميلادي، حين أعلن ملكهم بركة خان إسلامه واتخذ اسم الملك السعيد، وقد منح ذلك الدين الإسلامي طريقا إلى ما وراء وسط آسيا، فوصل شبه جزيرة القرم وتغلغل في سهوب روسيا الجنوبية شمال البحر الأسود وبحر الخرز وحتى سيبيريا الغربية. وإذا كانت رحلة ابن فضلان، رسول الخليفة العباسي في بغداد، تؤرخ لدخول الإسلام إلى تتارستان قبل 11 قرنا، فإن انتشاره حول بلغار الفولجا، في حوض الجمهوريات السبع هذه، يوثق كذلك للإسلام في بشكيرستان. 
تقيم جمهورية بشكيرستان كل عام معرضاً لصور التقطها أكبر فناني روسيا والعالم، ولعل أبرز المناسبات التي تجمع هؤلاء أعياد السابانتوي، وهي أعياد تقام كل موسم حصاد، وتمثل قمة لم الشمل العائلي، وتتويج جهد عام، ليس فقط في الزراعة، ولكن في المجالات جميعها، وتقام فيها مسابقات تاريخية ونادرة بمشاركة كل الأجيال. لكن المصورين، وفيهم من يزور البلاد للمرة الأولى، تستقطبهم الطبيعة التي تفتح ذراعيها ببراءة وفطرية، وتستهويهم الرحلة مع الابتسامات الودودات خارج حدود المدينة والاحتفالات، فيهبطون القرى، ويطاردون أحلامهم في السهول، ولا يصطادون الخيول البرية إلا بالعدسات، التي تخلد اللحظات الكثيرة التي عاشوها.
في مجموعة اللوحات والمشاهد الموزعة هنا بين السطور، استطاع كل مصور أن يستجيب للحنه الخاص، وأن يغرف من الألوان التي تمثله، وتجسد رؤيته، ليعيد تشكيل المكان والإنسان، والزمان أيضا. إنها ليست عدسات محلية وحسب، ولكنها عيون من تركيا وإيطاليا وإيران وليتوانيا، وأبصار من بشكيريا وموسكو وتتارستان وتشيبيابنسك، بالمثل. لهذا جاءت المعزوفة بما يشبه أوبرا لونية تتعدد فيها الأصوات، الفردية والجماعية، وهو الأمر الذي أجده مهماً كمشروع تتبناه منطقتنا العربية، لنرى أنفسنا في عيون جيراننا والعالم. 
بشكيرستان، كما يقول المصور البشكيري راميل كيلماماتوف، هي قلب منطقة أوراسيا، ولهذا فإن تعدد أعراقها يعد مرآة لصدر يحتضن العالم: «نحن نحب أرضنا، بكل ما فيها من غنى وجمال ورقة، وفخورون بها، والصور هي إعادة اكتشاف لكنوز هذا العالم البشكيري». يعمل كيلماماتوف رئيساً لقسم التصوير في اتحاد روسيا للفوتوغرافيين، وقد كُرِّم بجائزة وطنية تقديراً لأعماله، باسم سالافات يولاييف، التي تتابع روح الإنسان، في لحظات الجد واللهو، ومشاعر التأمل والخوف واللهفة.

لكل وجه مكان ومكانة 
أما زميله رائف باديكوف، وهو مصور صحفي من بشكيرستان، ونال جائزة شاجد خودايبردين الحكومية في التصوير، فيقول إن أفضل موضوعاته البورتريهات، سواء كانت وجوه العامة أو القادة، والجميع يمثلون موضوعاً جميلاً، فلكل شخص مكان ومكانة خاصان به، أو بها، في خريطة الفأل الحسن. الوجوه هذه تساهم في نماء الجمهورية، لذلك فهي وجوه مماثلة للأرض نفسها، بجمالها وثرائها، وانفتاحها على الجديد والقديم معاً. يقتنص رائف باديكوف لحظات من المتع البصرية، في ضحكة الأطفال لصورة خلفيتها السماء، أو لعازف على ناي كأنه نقش ملون فوق بساط أخضر.
فايل آبساتاروف هو ثالث فناني بشكيرستان المشاركين في المعرض، وقد فاز عامي 2009 و2010 بجائزة أفضل مصوري روسيا، ولا ينسى أن يشكر زملاءه المشاركين في هذا المشروع التوثيقي لبلاده. تجسد أعمال آبساتاروف مرآة للفصول، فقد استطاع أن يوجز في رحلته بين الثنائيات البشرية حوارات داخلية ومعلنة، لها حميميتها وصفاؤها، وفي عدسته ذلك السعي وراء أنفاس الإنسان التي تعمر الطبيعة البديعة، خاصة حين يتشاركها البشر مع الخيل. وسيتفق معهم مواطنهم راديك كيلماماتوف، وهو مصور ومخرج سينمائي بالمثل، انشغل بمتابعة المصورين بعدسته، وكيف نسوا راحتهم، وطعامهم، وانغمسوا في التقاط الصور، التي يراها الوسيلة الوحيدة لتوثيق الحاضر في حواره مع الماضي والمستقبل في بشــكــــــيرستان. وهذا الحوار بين الأجيال، والتوثيق للحاضر، نجده كذلك في أعمال المصور البشكيري فاديم مادياروف، فهو يوثق وطنه وأرض أجداده، وحياته، ومستقبل أطفاله. هذه المشاهد التوثيقية تتجلى بألوان بشكيرية ناصعة تزهر في صور الفنان المحلي راميل نافيكوف، الذي يستهويه الضوء، سواء الشمسي الباهر، أو ذلك الكرنفالي خلال الاحتفالات الرسمية. أما زميله أوليج ياروفيكوف، فقد انشغل بتسجيل لحظات نادرة من زوايا صعبة، وأسعدتني بوجه خاص مجموعته عن عمل النساء، بين الشغل في مصنع حديث، والانشغال بلحظات آسرة في مخبز تقليدي.

تحت أكثر من علم 
أهل بشكيرستان هم موضوع المصور آلجيمانتاس آليكسندروفيتش (ليتوانيا)، الذين يجسدون له أفضل انطباع أحس به، بفضل ضيافتهم، وابتساماتهم الدائمة، وعشقهم أن يكونوا موضوع الصور التي يلتقطها، وفكاهتهم التي تنتشر في المكان كما تنتشر رائحة الخبز الساخن. أنظر إلى صورته لسيدة تحمل القرآن الكريم، وهي تقرأ سورة الفاتحة على أرواح شهداء بشكيرستان الذين سقطوا في معارك خاضتها البلاد، تحت أكثر من علم، ولكن يبقى الألم واحدا. 
لخمس سنوات ظل فيتالي فورونين (منطقة تشيبيابنسك، روسيا) يلتقط صوره في بشكيرستان، لذلك أصبح شغوفاً بالطبيعة فيها، مما تردد صداه في أعماله. إن متابعته العادات والتقاليد على مدار الفصول جعلته قناصاً للحظات نادرات، وأسيراً لجمال لانهائي. ومن منطقته تشيبيابنسك، أيضاً، يشاركه رفيقه فاليري زيروكوف، وهو في المقابل يرى أن حصيلة أربعة أيام من التصوير كانت خصبة بشكل استثنائي، أماكن مختلفة، ومشاهد طازجة، حتى إنه لم يضطر لحذف صورة واحدة! لم يلتقط زيروكوف صور شخصياته وحسب، بل طارد بعدسته زملاءه أيضاً. 
الفنان ألكسندر ريومين، القادم من موسكو، يعمل مصورا في وكالة الأنباء الروسية (إيتار تاس)، ولعل الصور البانورامية تستدعي مشاهد ملحمية، خاصة حين تشارك بها مجموعات، وهو يقول إنه سيعود، لا شك، فبشكيريا لاتزال تخفي في جعبتها الكثير بين سهولها. 
كثيراً ما شاهدت مصورين من جمهورية تركيا يشاركون في الأحداث الثقافية التترية، لذلك لم يكن مستغرباً أن ألتقي بزملائهم هنا، وكان أولهم إبراهيم ديميريل، الذي ألف بجانب التصوير كتباً فوتوغرافية تعليمية عدة، كما أنه يدرس التصوير في جامعة غازي، وله معرضه الخاص، وفاز في عام 1998 بجائزة جمعية الفن في أنقرة، وفي عام 2004 فاز بجائزة رابطة تروفا. لا يبالغ ديميريل حين يقول إنه زار أكثر من ستين بلداً حول العالم، وأقام معارض خاصة له في عدد منها، لكن زيارته الأولى لجمهورية بشكيرستان سحرته، بفضاءاتها الخضراء، وشعبها المضياف. تلخص إحدى الصور الجوية التي التقطها ديميريل جغرافيا بشكيرستان، حيث تعانق الأنهار الصغيرة والغدران مع البيوت وفضاءاتها الساكنة. لكن ولعه الخاص بالنوافذ في البيوت الخشبية، إحدى سمات الريف في بشكيرستان، جعله يوثق لمجموعة منها، حيث تمثل النافذة لوحة إطارها من الخشب، وشاشتها تعكس الستائر المطرزة في الداخل، والأصص المزهرة على أفاريزها الخارجية. 
وكان هناك زميله التركي سامي طوقاي، الذي شغف بتوثيق المهن المحلية في بشكيرستان، ويرى أن تلك البلاد لا يمكن تصورها من دون الخيول، والبيوت الخشبية ذات النحت المميز، والحقول الشاسعة والغابات الجميلة. ويتفق معه مواطنه صدقي فرات، الذي بدأ مشواره الاحترافي في التصوير الفوتوغرافي سنة 1949، ويدرس أيضا التصوير في معهد غازي، ونال أعلى أوسمة الفن في بلاده. الطقوس التي خبرها صدقي فرات رأى فيها ما يشبه تلك التي تعيش عليها شعوب الترك فوق هضبة الأناضول، ولمَ لا والجذور واحدة، وقد تحدثت عن ذلك على صفحات «العربي» في موضوع سابق. 
وقد اهتم المصور الإيراني هادي نافيد بالحركة، ولخصت صوره تجربته الطويلة، منذ بدأ أول معارضه الخاصة في 1977 بجامعة طهران، وقد شده ما أثر في الجميع، الشعب المضياف. أما مواطنهم نجيب إفليس، فقد غرق في مشاهد الحياة اليومية، الأسرية والرعوية، للصغار والكبار، حتى تحسب أنه ولد هناك. 
وقد نجح الإيطاليان فرنشيسكو جيورجيو وإدواردو راميلا في أن يقدما لمستيهما، فالأول رحَّالة أخذ على عاتقه نقل محبة البشكيريين إلى أهله في منطقة بيدمونت الإيطالية، والثاني، وهو مصمم على الإنترنت أيضا، قال إن شغفه بالقرى الصغيرة فاق كل حد، وهو انطباع سيلازمه للأبد. سجَّل جيورجيو الحياة اليومية للأطفال والكبار، في الجد واللهو، وفي أماكن العمل، وعاش راميلا مع المشاهد القروية حتى النخاع. 

البحث عن الجذور 
التتري الأول الذي شارك في هذا الحدث التصويري الملحمي هو المصور الكبير رفعت يعقوبوف، وقد تعرف إليه جمهور ملتقى مجلة العربي «الثقافة العربية على طريق الحرير»، حيث شارك بألبومه «البحث عن الجذور... من سيبيريا إلى شبه جزيرة القرم». ويعقوبوف هو ابن الثقافة التترية، التي انتقلت على طريق الحرير حفيدة لقبائل الترك من شرق القارة الآسيوية إلى قلب القارة الأوربية. تجسد صور يعقوبوف خلاصة نصف قرن من عمل الفنان، يعني شحذ البصر والبصيرة لتأمل حياة هذا الشعب، الذي يحظى اليوم بكيان فيدرالي هو تتارستان، الجمهورية المسلمة في روسيا الاتحادية. وإذا كنا نبحث عن مواطن الالتقاء بين الثقافات، ففي هذه الصور ما يشي بذلك، وإذا أردنا شهادة التاريخ على مراحل التوطين والتهجير واستعادة الذاكرة للأرض والدين، ففي رحلة التتار الباحثين عن الجذور من سيبيريا إلى شبه جزيرة القرم خير دليل يقودنا عبر اللونين والأسود، لتتفجر ألوان من المشاعر تشهد ثراء تاريخ هذا الشعب والتصاقه بتقاليده في السراء والضراء. ولم تكن زيارة أوفا للمصور يعقوبوف هي الأولى، فقد أقام فيها معارض عدة، ووثق للتتار الذين يشكلون معظم قوميتها الساكنة فيها. يقول إن الطبيعة في بشكيرستان تمثل مفاجأة حقيقية، فهي قطعة من الفردوس على الأرض، بجبالها وأنهارها وبحيراتها ومراعيها العشبية وغاباتها، وعبر عن سعادته بأن طقوس الترك والتتار العريقة لاتزال حية. 
أما التتري الثاني، فهو سلطان إسكاكوف، وهو محرر مصور في مجلة تتارستان، ومُكرَّم من قبل وزارة الثقافة بالميدالية الذهبية في 2008 في المسابقة الأولى (مدينتي قازان)، فقد عبر عن امتنانه بالمشاركة في هذا الحشد البصري ليسجل لحظات لا ينساها، سواء للبشكيريين في حيواتهم اليومية، أو للأماكن التاريخية والأحداث الموسمية، كالسابانتوي. ولم ينس إسكاكوف أن يوثق للخيول في المراعي، وهي تسترق لحظات من الحوار المعبر بالضوء. والمثير في المجموعة كلها أن عيون المصورين جميعهم، محليين وأجانب، بحثت عن المشترك، والمؤتلف، إنها الطبيعة الإنسانية في المثقف، سواء كان مصوراً أو كاتباً، أن يتقصد عبور ذلك الجسر الرابط بين الثقافات والحضارات، وهو جسر آن له أن يتسع، لنراه حياً تحت أكثر من سماء .

وجوه باسمة في احتفالات أعياد الحصاد، (عدسة رائف بوديكوف)

الأجيال الشابة ترتدي الأزياء التقليدية، عدسة رفعت يعقوبوف

من ثنائيات المصور نجيب إفليس، الجواد والفارسة