الظـّاهِرة... جاسم الصِّحَيِّح

بـَشـّـرَ الشاعر الدكتور غازي القصيبي - رحمه الله - ذات مقال في االمجلة العربيةب السعودية في صحيفته اصوت من الخليجب قبل أكثر من 20 عاماً... أقول: بـَشـّـرَ الأحسائيين وقراء المجلة بانطلاق اصاروخ شعري نفاث سيعبر كل الحدود العربيةب، ويعني به الشاعر جاسم الصّـحَـيِّـح، وذلك بعد أن قرأ أول مجموعة شعرية صدرت له، التي تحمل عنوان اظلي خليفتي عليكمب.
وصدقت نبوءة وتوقعات وبشرى الدكتور الراحل، فقد واصل جاسم الصّـحَـيِّـح - منذئذ وحتى اللحظة - انطلاقاته، وإبداعاته، عابراً المجرات والقارات والآفاق والأبعاد والآماد، يقفز في ذلك قفزات لا خطوات في شعره وعبقريته، ونبوغه وعنفوانه وفكره، وعمق طرحه وسمو لغته وسحر بيانه، فيعني تشبيه الدكتور غازي له بالصاروخ والسرعة والتأثير، حتى طفح التسابق عليه للمشاركة في كل نشاط ومناسبة ومهرجان وملتقى ومسابقة وتجمّع وهيئة ونادٍ من داخل الأحساء وخارجها، بل أصبحت دعوته إلى المشاركة تقاس بالسنتيمتر.
وراح كل من ينوي إقامة حفل أو مناسبة أو ملتقى أو حتى اعزيمة عشاء خاصةب يدعوه، ولو كان لا يعرفه شخصياً، فالاحتفال لا يكتمل إلا إذا وقف الشاعر الكبير جاسم الصّـحَـيِّـح يصدح في منبره، وكل ذلك لأنه - ببساطة - شاعر عملاق، في اللغة والفكر والمعنى والتوظيف الفني والنبوغ وجمال القصيد، مثلما هو عملاق في التواضع، وعالي الخـُـلـُق وبسيط جداً، ولطيف التعامل والمعشر.
ولا أخفي على القراء أن أغلب الشعراء المعاصرين والمصاحبين له في الأحساء وخارجها راحوا يغارون منه - وأنا منهم - وإن لم يبدوا ذلك أو يصرحوا به.
إنك لا تتصل به إلا ويقول لك إنه الآن في البلد الفلاني بدعوة من إحدى جهاتها الرسمية أو الأهلية، أو إنه قادم للتو من أمسية هو فارسها من إحدى البقاع القريبة أو البعيدة.
وقد يتمنى كثير من زملائه أن ينالوا ربع ما ناله من دعوات ومشاركات في الداخل والخارج، وكل ذلك لأن الناس مجبولون على حب الإبداع والمبدعين والبارزين والمتميزين، وأصحاب الفن الرائع والشعر المُحَـلـّق الجزل، والبيان المسبوك، والفكرة العميقة والصورة المدهشة وغيرها، وهذه كلها موجودة ومجتمعة في جاسم وشعره وإبداعه.
ولعلَ المقالات الأخرى المصاحبة في هذا الملف تسلط الضوء على بعض الجوانب الإنسانية والفنية في شخصية جاسم وشعره وإبداعه وعبقريته وفلسفته، وعليه فلا عجب أن يُطلق عليه الشاعر الأحسائي الكبير مبارك بوبشيت االظاهرة جاسم الصّـحَـيِّـحب أو اظاهرة جاسم الصحيحب.
نعم، لقد أصبح جاسم في أقل من عشرين عاماً من تجربته ظاهرة بحق، وأصبح أبرز وأشهر وأجمل وأعمق شاعر أحسائي سعودي بين أقرانه ومُجايليه.
واقتراباً من قصائده التي تشتعل وتنضح بالضجيج اللغوي والوهج والأفكار القريبة البعيدة في كل كلمة ومفردة، يشغل بالي شيء، وسؤال أردده دائماً منذ أول مقال كتبته عنه في جريدة الرياض قبل 20 عاماً أيضاً، هو: من أين يأتي جاسم بهذه الفـِـكـَـر والصور المتجددة في قصائده؟ بل كيف يقتنص البعيد ليجعله قريباً، وكيف يمسك بالقريب ليجعله أقرب؟
سأستعرض من تلك الفكر بعض عناوين دواوينه وقصائده، ففي ديوانه ارقصة عرفانيةب نجد قصيدة عنوانها االأحساء في محشر الحبرب واقَدَري... بمِـشـْطِـكِ تكتبينهب واعنترة في الأسرب القصيدة الفائزة في مسابقة جائزة البابطين في دورتها السادسة عام 1998م، ونجد عنوان ديوانه اأعشاش الملائكةب، واما وراء حنجرة المـُغـَتـّيب، وكذلك القصيدة التي حاكى فيها الشاعر العربي عمرو بن كلثوم وجاراه بقصيدته في البحر والقافية والرويّ، التي عنوانها اخرجنا منك من لغة التحديب، وغيرها كثير.
لا بأس أن نعرض بعض أبيات قصيدة المشط الطريفة العاطفية الرائعة، التي أشرنا إليها في السطور السابقة التي هي من خواتم ديوانه ارقصة عرفانيةب:
قولي لشعركِ أن يحدّ
مداه حين تمشطينه
فوراءه عمري يتابع
رحلة العمر الحزينة
وترفقي بالمشط صبّي
فيه غاشية السكينة
ما ذاك شعرك... ذلك
السر الذي لا تفهمينه
تتبعثر الأشياء في
عينيّ حين تبعثرينه
وتعــــــــــــــــــــــــود نـــــــحـــــــــــــــــو نـــــــظــــــامها
الأشــــــــــــــيـــــــــــــاء حـــــــــــــــيــن تلــــــملمينه
أرأيت كيف يُهندس جاسم القصيد كما كان يهندس سريان النفط في أنابيبه حينما كان يعمل في شركة أرامكو السعودية مهندساً؟
فأنت لا تكاد تقرأ له نصاً إلا وتجد فيه صوراً متحركة، وأفكاراً تـَمور، قد يراها كثيرون أنها بَدَهية، لكنها تنمو لتكون برجاً عالياً في لجة السماء، فتجد في نصوصه الأولى وبداياته أسلوب االسهل الممتنعب، مثلما تجد الآن في نصوصه الحالية االصعب الصعب/ الممتنعب بعد أن دخل - إلى حد بعيد - في موجة من الحالة الصوفية والفلسفية، خذه في هذا البيت مثلاً من قصيدته السينية الشهيرة احديث لابن عباسب:
أميلُ نحوَكِ... و«التنصيصُ» يجذبُني
حتَّى أَشُدَّ على التنصيصِ «أقواسـي»
والعجيب في شعر الصّـحَـيِّـح أن الجزالة والعنفوان لا يبهتان لديه مع طول القصيدة وكثرة الأبيات، ولا تجد فيها ذلك التكرار القاتل الذي يضعفها، بل تجدها أبداً متقدة، وتجد في كل بيت صورة جديدة، وفكرة جديدة.
بل حتى إذا وُجد شيء من التكرار، فهو تكرار جديد في صورة الا تكرارب، فها هو يعزف في رائعته التي عنوانها ايا بحر... يا شيخ الرواةب:
يا بحر... كان الشّعرُ بوصلةَ الهوى
في القلبِ يقفوها بدورته الدمُ
الشّعرُ صنوكَ في الخلود، كلاكما
قِدم على الدّنيا... فمن هوَ أقدمُ؟
الشّعرُ صنوكَ في الجلال، كلاكما
عِظمٌ على الدّنيا... فمن هو أعظمُ؟
والشّعرُ صنوك في السّخاءِ، كلاكما
كرمٌ على الدّنيا... فمن هو أكرمُ؟
إن جاسم طويل النفـَس في أغلب قصائده، وقد صرح ذات مرة بأن أقصر قصيدة كتبها بلغت 38 بيتاً، وإلاّ فجلّ قصائده تدخل في بحر المائة والعشرين بيتاً.
وبرغم ذلك، فإن عدداً من محبيه ومعجبيه راحوا يهمسون له بألاّ يقرأ القصائد الطويلة في المحافل والمنابر، لئلا يثقل على الجمهور والحضور، وأن يقتصر فيها على أبيات معينة، بحيث يكون طولها معقولاً وملائماً للوقت والحضور، وتفادياً للملل، وإن كان شعره يجعلك - وأنت تصغي إليه - تنسى الوقت ولا تشعر بالملل، بل تجد أن الأعناق تشرئب، والآذان تتفرع إلى آذان أخرى، والقلوب مشدودة إليه حين يتلو شعره، بما يسند الموقف الدال على دوام عافية الشعر العربي ووهجه وحيويته وريادته للإبداع، وبقائه ااالفن الأولب للعرب.
إن الأحساء، التي أنجبت الشعراء العماليق منذ ما قبل طرفة بن العبد، مروراً بصعصعة صوحان العبدي، وعلي بن المقرب العيوني، هي نفسها الأحساء التي أنجبت مئات الشعراء الكبار الذين لا يقلون إبداعاً ووهجاً عمن سبقهم عبر العصور، ويحضرني منهم اثنان هما:
يوسف بوسعد الجميعة (بحتري الأحساء)، رحمه الله، وشاعرنا الذي نكتب عنه، الظاهرة جاسم الصحيح، أطال الله عمره.
إننا حين نقول إنه اظاهرةب، فهذا يعني أنه نسيج وحده، فريد خطه، سواء في صورته المعاصرة عبر نصوصه التفعيلية المبثوثة في دواوينه، أو في هيئته الكلاسيكية التي يتكئ عليها في معظم قصائده العريقة، حتى لكأنك تنتقل معه إلى الفيافي لتقرأ الشعر على أقرانك، وكأنه ينادي أقاصي الأزمان العربية الغابرة السالفة، ممسكاً بناي القافية لمناداة الحبيبة التي تتمنع.
ويطول الحديث عن جاسم الصحيح كطول قصائده وتجربته وغزارة فكره، ونكتفي بذلك مما ذكر، ولو أنه يستحق أكثر .