بلاغة التكرار

بلاغة التكرار

يذهب علماء البلاغة القدامى إلى أن التكرار هو أن يكرر المتكلم الكلمة الواحدة باللفظ والمعنى. والمراد بذلك تأكيد الوصف أو المدح أو الذم أو التهويل أو الوعيد أو الإنكار أو التوبيخ أو الاستبعاد، أو غرض من الأغراض.


فأما ما جاء منه للذم فكقول المهلهل بن ربيعة أخي كليب:
يا لبكر انشروا لي كليباً  
يا لبكر أين أين الفرار؟
وأما ما جاء منه للمدح فكقول كثير في عمر بن عبدالعزيز:
فأربح بها من صفقة لمبايع  
وأعظم بها، أعظم بها، ثم أعظم
وأما ما جاء منه للتهويل فكقوله تعالى: {الْقَارِعَةُ (1) مَا الْقَارِعَةُ (2) وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْقَارِعَةُ (3)} (سورة القارعة: الآيات 3:1)، وكقوله تعالى: {الْحَاقَّةُ (1) مَا الْحَاقَّةُ (2)} (سورة الحاقة: الآيات 2:1). أما ما جاء منه للإنكار والتوبيخ فهو تكرار قوله تعالى في سورة الرحمن: {فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (13)} فإن الرحمن جل جلاله ما عدد آلاءه هنا إلا ليُبكت من أنكرها على سبيل التقريع والتوبيخ، كما يُبكت منكر أيادي المنعم عليه من الناس بتعديدها له. وأما ما جاء منه للاستبعاد فكقوله تعالى: {هَيْهَاتَ هَيْهَاتَ لِمَا تُوعَدُونَ (36)} (سورة المؤمنون: الآية 36). هذا ما جاء عن التكرار في كتب البلاغة القديمة، لكنه لا يغطي كل شيء عن التكرار، فالتكرار قانون من قوانين الوجود الذي نعيش فيه، ونتقلب معه كمحيط الدائرة بين نقيضين دائماً: حياة وموت، ذبول ونضارة، ربيع وخريف، شتاء وصيف، طفولة وكهولة، والتكرار كان مبدأ من مبادئ حياة العرب في البادية قديماً، يرونه في حركة الناقة، دوران الأفلاك، دوران الأرض حول الشمس، ولذلك كان التكرار أحد المبادئ الجمالية في الفن العربي الأصيل، «الأرابيسك»، حيث الوحدات الزخرفية، تتكرر إلى ما لا نهاية، صانعة نوعاً خاصاً ومتفرداً من الجماليات التي هي عربية متفردة نراها في العمارة، وفنون الزخرفة في مجالاتها المختلفة، خصوصاً المصنوعات الخشبية من مشربيات وما أشبه. 
والتكرار مبدأ أصيل في علم الجمال والفنون وبخاصة الموسيقى، ولكنه يلازم نقيضه، كما يقال عن الإيقاع من حيث هو تكرار منتظم يجمع بين إشباع التوقع وإحباطه. وإشباع التوقع المستمر نراه في دقات الساعة المتكررة على وتيرة ثابتة، والتي يمكن أن ترهق الجهاز العصبي إذا واصل الاستماع إليه طويلاً، ولذلك فهي لا تصنع إيقاعاً، فهناك دائماً إشباع التوقع وإحباطه الذي يصنع التنويع بينهما حيوية اللحن. 
وقل الشيء نفسه على كل مظاهر الجمال، حيث نجد التكرار مصحوباً دائماً بما لا يفضي إلى خلق الإحساس بالملل، فالجمع المبتدع بين إشباع التوقع الذي يصنعه التكرار القائم على الائتلاف النغمي، وإحباط التوقع الذي يصنعه تنويع الوحدات المتغايرة إلى جانب المتشابهة هو سر من أسرار الفن والجمال.
وإذا عدنا إلى التكرار في الشعر وجدنا وظيفته الأولى التي تتفرع منها كل الوظائف هي التأكيد، مثلما نقرأ في شعر صلاح عبدالصبور:
كان يا ما كان أن زُفّت لزهران جميلة
كان يا ما كان أن أنجب زهران غلاماً... وغلاماً
كان يا ما كان أن مرت لياليه الطويلة
فالتكرار مقصود به في هذه الأسطر الشعرية - من قصيدة شنق زهران- التأكيد، وهذا صحيح، ولكن وظيفته البلاغية في القصيدة، خصوصاً في هذا الموضع تتجاوز التأكيد إلى الإيحاء بتتابع السنوات التي تتنقل من شباب زهران وزواجه، إلى إنجابه غلاماً ثم غلاماً آخر، ثم تمر الليالي الطويلة لتكتمل رجولة زهران ونضجه، في كل ما يمكن أن يثيره النضج من إحساس بالفتوة الكاملة التي ليست مظهراً جسدياً فحسب، وإنما بنية أخلاق وقيم، ترهص بالصدام القادم مع قوى الشر. وهي هنا الاحتلال البريطاني. ونرى نوعاً آخر من التكرار في شعر صلاح عبدالصبور حين نقرأ:
وجه حبيبي خيمة من نور
شعر حبيبي حقل حنطة
خدا حبيبي فلقتا رمان
جيد حبيبي مقلع من الرخام ...
إن كلمة حبيبي تتكرر في المقطع كاملاً سبع مرات. والرقم سبعة له دلالاته الأسطورية والدينية، فهناك السموات السبع، والأرضين السبع، وأيام الأسبوع السبعة، وعجائب الدنيا السبع، وعدد ألوان الطيف السبعة، وعدد العلامات الموسيقية والجمرات السبع، فالرقم سبعة يوحي باكتمال الجمال الذي يردنا إلى اكتمال جمال الحبيبة التي يجاوز جمالها كل جمال معتاد. والتكرار يرتبط في الأبيات – فضلاً عن ذلك - بنوع من التناص مع «نشيد الإنشاد»، مما يضفي على الحبيب هالة خاصة، تذكرنا بما جاء في نشيد الإنشاد: «طاقة فاغية حبيبي لي في كروم عين جدي... جميلة أنت يا خليلتي... وعيناك كحمامتين من وراء نقابك، وشعرك كقطيع ماعز... خداك كفلقتي رمان...»، والمؤكد أن التكرار في المقطع السابق يجاوز وظيفة التأكيد إلى تعديد الصفات وتنوعها بما يفضي إلى كمال الجمال، وتحويل وجه الحبيبة إلى هالة من النور الذي لن يضل معه المسافر في طريق الحقيقة بمعناها الصوفي، وهو ما يؤكده السطر:
وجه حبيبي بيرقي المنشور
ويمتزج البعد الروحي للتصوف بالبعد المادي للحب في التكرار الذي نراه في المقطع الأخير من قصيدة صلاح عبدالصبور «أغنية حب» من ديوانه الأول:
جُبت الليالي باحثاً في جوفها عن لؤلوة
وعدت في الجراب بضعة من المحار
وكومة من الحصى وقبضة من الجمار
وما وجدت اللؤلؤة!
سيدتي، إليك قلبي، واغفر لي. ... أبيض كاللؤلؤة
وطيب كاللؤلؤة
ولامع كاللؤلؤة
هدية الفقير
وقد ترينه يزين عشك الصغير
وبلاغة التكرار متعددة الأبعاد في هذه الأسطر تعدد دلالات اللؤلؤة التي هي دال متعدد المدلولات، يشير إلى البراءة والنقاء والصفاء من ناحية، كما يشير إلى الحقيقة الحدسية التي تشبه وردة الصقيع في قصيدة متأخرة من قصائد الشاعر، وهو ازدواج يكشف عن مجاورة الجانب الروحي والجانب الحسي في شعر صلاح عبدالصبور، وائتلافهما معاً في غير حالة، خصوصاً حين تتعدد الدلالات، ويبعدنا السياق الشعري عن الدلالات المألوفة، مثل دلالة الفقير في هذا المقطع، حيث الدلالة تجاوز الغرام بالمال إلى الزهد فيه، والتعالي الذي يسمو بالروح عن مطالب الرغبة الحسية، فتتجاوب دلالات الصفاء في اللؤلؤة والنقاء الروحي مع دلالات «الفقير» الذي هو مستغنٍ عن مغريات الدنيا، غني بزهده فيها. وعلى النقيض من دلالات هذه الأبعاد الروحية المقطع الذي يضعنا في قلب الدنيا المادية والتمرد على مصاحباتها الميتافيزيقية، حيث نقرأ في قصيدة «الملك لك»:
وقالت لي الأرض «الملك لك»
تموت الظلال، ويحيا الوهج
الملك لك
الملك لك
الملك لك
 والمقطع من قصيدة «الملك لك» في ديوان صلاح عبدالصبور الأول، وهي قصيدة تمضي في تمجيد الإنسان إلى الدرجة التي تجعله سيد الكون وفاعله الأول. والتكرار يؤدي دور التأكيد في الدلالة، وينصرف إلى الإنسان الذي جعلته رؤية الشاعر في هذه المرحلة هو مالك كل شيء، وذلك على نقيض النظرة المسيحية الدينية التي بثها الشاعر ت. إس. إليوت (الذي تأثر به صلاح عبدالصبور إلى حد كبير) في قصيدته «الرجال الجوف», حيث يقول إليوت:
بين الفكرة
والواقع
بين الحركة
والفعل
يسقط الظل
لأن لك الملك
***
بين الرغبة
والتشنج
بين الإمكان
والوجود
بين الجوهر
والعرض
يسقط الظل
لأن لك الملك
والفارق بين قصيدة إليوت وقصيدة صلاح عبدالصبور أن الثاني يقلب معنى الأول وينقضه مستبدلاً بالمعنى المسيحي لحضور الألوهة في الكون معنى متمرداً يضع الإنسان في مركز الكون. وهو تصور سرعان ما تخلى عنه عبدالصبور في دواوينه اللاحقة عندما هجر النظرة الماركسية إلى العالم.
ونرى وجهاً آخر من التكرار في قصيدة عبدالصبور «الحزن» حيث نقرأ:
في غرفتي دلف المساء
والحزن يولد في المساء لأنه حزن ضرير
حزن طويل كالطريق من الجحيم إلى الجحيم
حزن صموت 
والصمت لا يعني الرضاء بأن أمنية تموت
***
حزن تمدد في المدينة
كاللص في جوف السكينة
كالأفعوان بلا فحيح
الحزن قد قهر القلاع وسبى الكنوز
وأقام حكاماً طغاة
الحزن قد سمل العيون
الحزن قد عقد الجباه
ليقيم حكاماً طغاة
ومن الطبيعي أن تكرار كلمة «الحزن» في قصيدة، هو نوع من الاستبطان الذاتي الشعري لحضور الزمن الذي يفرض نفسه على ذات الشاعر إلى الدرجة التي تجعل منه حزناً كونياً، لكن بما يبرز بعض مسبباته في الطبيعة الإنسانية، حيث الحكام الطغاة، وما بعد الطبيعة، حين نواجه صمت الوجود عن الأسئلة التي تطرحها عن ما بعد الوجود. والمؤكد أن مفردة «الحزن» هي واحدة من أهم المفردات في شعر صلاح عبدالصبور، ولذلك فهي واحدة من أهم المفاتيح التي تفتح أبواب شعر الشاعر الذي وصف نفسه في كتاب «حياتي في الشعر» بأنه ليس شاعراً حزيناً فحسب، وإنما شاعر متألم تتضاعف طبقات الحزن في نفسه لتضافر طبقات الأسباب الاجتماعية والسياسية والميتافيزيقية، وهي طبقات تزداد وطأتها حين يكون الشاعر منطوياً على شهوة إصلاح العالم. لكن هذا العالم الذي يريد الشاعر إصلاحه يتأبى على الإصلاح، ويتزايد فيه الشر بما يدفع الشاعر إلى القول:
هذا زمن الحق الضائع
 لا يعرف فيه مقتول
من قاتله؟ ومتى قتله؟
ورؤوس الناس على جثث الحيوانات
ورؤوس الحيوانات على جثث الناس
فتحسس رأسك!
تحسس رأسك!
وهي أبيات تقودنا إلى الديوان الثاني لصلاح عبدالصبور «أقول لكم» الذي يظهر فيه جلياً تأثره بالفلسفة الوجودية، وهو أمر بالغ الوضوح في قصيدة «الظل والصليب» التي تواجهنا بالصورة الأولى من صور التكرار:
هذا زمان السأم
نفخ الأراجيل سأم
... إلى بقية القصيدة.
وفي تكرار كلمة «سأم» إشارة إلى نوع من الوعي الوجودي الذي شاع في عقدي الخمسينيات والستينيات من القرن الماضي. ولم يكن صلاح عبدالصبور متأثرا في قصيدته برواية الكاتب الإيطالي الشهير ألبرتو مورافيا (1907-1990) «السأم» بطابعها الوجودي الذي تجلى في الفيلمين المأخوذين عن الرواية، وإنما كان متأثراً بالفلسفة الوجودية التي أشاعتها كتابات چان بول سارتر وألبرت كامي في فرنسا، ومن ثم في العالم كله حتى في كتابات ألبرتو مورافيا الإيطالي الذي أظهر تأثره بالوجودية في روايته «السأم» التي حازت أكبر جائزة أدبية في إيطاليا (جائزة فيارچيو). أما عن تكرار كلمة «السأم» في قصيدة عبدالصبور فهو مرتبط بالنظر إلى الحياة التي يحياها الكائن البشري في العصر الحديث على أنها حياة خالية من المعنى، سطحية بقدر ما تنطوي عليه من غياب للمعنى الذي يفضي إلى الشعور بالعبث. ولذلك يأتي تكرار كلمة «السأم» مقترناً بمصاحبات دلالية تؤكد الوعي الوجودي لإنسان العصر الحديث الذي يعاني «السأم» الذي يفضي به إلى القول في القصيدة نفسها:
«أنا الذي أحيا بلا أبعاد
أنا الذي أحيا بلا آماد
أنا الذي أحيا بلا ظل... بلا صليب».
هذا الوعي الوجودي هو بعض ما يفرض صفة «الحزن» (الذي تحدثنا عن تكرار دالِّه من قبل) على وعي الشاعر في صلاح عبدالصبور، خصوصاً حين نقرأ في قصيدته «أغنية إلى الله» - في ديوان أحلام الفارس القديم:
حزني ثقيل فادح هذا المساء
كأنه عذاب مصفدين في السعير
حزني غريب الأبوين
لأنه تكوّن ابن لحظة مفاجئة
ما مخضته بطن
أراه فجأة إذ يمتد وسط ضحكتي
مكتمل الخلقة، موفور البدن
كأنه استيقظ من تحت الركام
بعد سبات الدهور
***
لقد بلوت الحزن حين يزحم الهواء كالدخان
فيوقظ الحنين هل نرى صحابنا المسافرين؟
***
ثم بلوت الحزن حين يلتوي كأفعوان
فيعصر الفؤاد ثم يخنقه
***
ثم بلوت الحزن حينما يفيض جدولاً من اللهيب
نملأ منه كأسنا، ونحن نمضي في حدائق التذكّرات
ثم يمر ليلنا الكئيب
ويشرق النهار باعثاً من الممات
جذور فرحنا الجديب
لكن هذا الحزن مسخ غامض، مستوحش، غريب
فقل له يا رب أن يفارق الديار
لقد أطلت في الاستشهاد متعمداً، لأني أريد لدال الحزن أن يتعمق في وعي القارئ لشعر صلاح عبدالصبور، وذلك إلى الدرجة التي جعلتني أحلم بكتابة دراسة معمقة عن حزن صلاح عبدالصبور، بوصفه حزناً لا يفارق تأملات، ابتلته حياته الشخصية بالحزن، وأغرقته حيرته الميتافيزيقية إلى قرارة القرار من الحزن، ولم تنته به تأملاته في الواقع السياسي الاجتماعي إلا إلى مزيد من الحزن، ولهذا وصفه نقاد زمنه بأنه شاعر حزين، وأضاف إلى حزنه اتهامات رفاقه القدامى الذين لم يعرفوا، ولم يؤمنوا قط، بحق الاختلاف. ولعله كان يشير إلى ذلك حين كتب قائلاً: «يصفني نقّادي بأني حزين، ويدينني بعضهم بحزني، طالباً إبعادي عن مدينة المستقبل السعيدة، بدعوى أنني أفسد أحلامها وأمانيها، بما أبذره من بذور الشك في قدرتها على تجاوز واقعها المزهر (في رأيه) إلى مستقبل أزهر. وقد ينسى هذا الكاتب أن الفنانين والفئران هم أكثر الناس استشعاراً للخطر. ولكن الفئران حين تستشعر الخطر تعدو لتلقي بنفسها في البحر هرباً من السفينة الغارقة. أما الفنانون فإنهم يظلون يقرعون الأجراس، ويصرخون بملء الفم، حتى ينقذوا السفينة، أو يغرقوا معها».
وأعتقد أنه ليس هناك أوضح من هذه العبارات في التعبير عن الأبعاد الاجتماعية السياسية لحزن صلاح عبدالصبور، وعندما نضيف الأبعاد الوجودية الميتافيزيقية، فضلاً عن الأبعاد الذاتية المرتبطة بملابسات حياة عبدالصبور الشخصية والعائلية، ندرك أهمية دال الحزن بوصفه عنصراً تكوينياً في رؤيا صلاح، ومن ثم ندرك السبب في تكرار دال «الحزن» ومصاحباته ولوازمه في شعر هذا الشاعر العظيم إلى الدرجة التي أكاد أجزم فيها بأنه يندر أن نجد قصيدة له خالية من دلالة الحزن أو لوازمه ومصاحباته.
ولكن التكرار يتخذ شكلاً آخر في شعر عبدالصبور، وهو تكرار المقاطع التي تحمل الدلالة نفسها في تنويعاتها. وقد سبق أن أشرت إلى ذلك في قصيدة «رسالة إلى سيدة طيبة». ويمكن أن أشير إلى نموذج يوازيها، وهو قصيدة «أحلام الفارس القديم»- ولو استبدلت لفظ الحزين بالقديم ما تغيَّر معنى عنوان الديوان في دلالته على شعر صاحب الديوان كله. وأحلام الفارس القديم قصيدة عن الحزن الذي يتولد عن الشعور بالانكسار في مواجهة حياة مآسيها أقسى من احتمال صاحب الصوت الذي نسمعه في القصيدة التي هي قصيدة حب لا تخلو من الأمل، وتنبني على معنى، مؤداه أن الخلاص من مآسي الوجود طريقه الحب. ولذلك تبدأ القصيدة بالتكرار:
لو أننا كنا كغصني شجرة
لو أننا كنا بشط البحر موجتين
لو أننا كنا بخيمتين جارتين
لو أننا كنا جناحي نورس رقيق
ويمتد كل تشبيه من التشبيهات الأربعة التي تتحول إلى ما يشبه الأحلام الجميلة، والرقم أربعة يذكرنا بعدد الفصول في عام رمزي يمتد بقوة التشبيه واصلاً بين أربعة أحلام بهيجة. لكن الأحلام فعل من أفعال التمني في صيغة «لو أننا كنا» التي تبدأ بمعنى الامتناع النحوي والدلالي، ومن ثم ينتهي تكرارها إلى الإحباط والخيبة... وهكذا تتجمع افتتاحات الأمنيات المحبطة لتتكثف دلالة التكرار:
لو أننا
لو أننا
لو أننا، وآه من قسوة «لو»
يا فتنتي إذا افتتحنا بالمنى كلامنا
لكننا
وآه من قسوتها «لكننا»
لأنها تقول في حروفها الملفوفة المشتبكة
بأننا ننكر ما خلفت الأيام في نفوسنا
نود لو نخلعه
نود لو ننساه
نود لو نعيده لرحم الحياة
كل هذا التكرار يؤكد صعوبة تحقق الأماني البهيجة في عالم يموج بالتخليط والقمامة، في كون خلا من الوسامة، لا يورث من يحيا فيه سوى تعتيم الحزن وجهامته. ولكن ما الذي يعيد الفارس القديم إلى براءته، ويرد إليه فرحة بكارته؟ الإجابة هي حب امرأة استثنائية، إذا وُجدت يمكن أن تحقق المعجزة. ويجد الفارس القديم، الفارس الحزين، نصفه الذي يخلِّصه من براثن الحزن. 
وعندئذ فحسب يتحقق الخلاص للفارس الذي يختم غنائيته بقوله إن مثل هذا الحب سوف يعيده إلى الطهارة، عند اتصاله بالحبيبة اتصال الفرع بأصله:
فنعرف الحب كغصني شجرة
كنجمتين جارتين
كموجتين توأمين
مثل جناحي نورس رقيق 
عندئذ لا نفترق
يضمنا معاً طريق ■