القصيدة الهويّة في تجربة جاسم الصِّحَـيِّح

كيف يكون الشعر؟ كيف تكون الحياة؟ هذان السؤالان طرحهما الناقد محمد بنيس في سياق خاص، لكن حضورهما يستمر مع كل قصيدة تأخذ بلبّ قارئها، ومع كل دهشة تتحوّل إلى مطر نتتبع مساقطه، ومع شاعرٍ يستنبت الاستقامة في أرض الغواية، فكيفية الشّعر كيفية حياة يعيدها الشاعر بتكثيفٍ مركّز، وتوق إلى استشراف رؤى جديدة.
ولعلّ جاسم الصّحَـيِّح من أولئك الذين يجبرونك على الوقوف لاستجلاء الحياة بعيدًا عن مناويل جامدة، وهموم شعريّة معادة، إذ ما تلبث قصيدته أن تجلو مرآة روحك لتتفقّدَ صورَك الأولى، وتجارِبَك البكر، ولحظاتِ شغفك؛ فالزمان الذي تتغافل عنه بهواجسك اليوميّة تجده منفلت العقال في كل ديوان للصّحَـيِّح، يؤرخك مجددًا، ويراجع معك ترتيب أوراق تقويمك؛ فاللحظات - كما يقول حسن مُطلك - التي تمضي دون أن يرصدها الأدب، هي لحظات ميّتة، ستمضي نحو العدم، حاملة معها حالة توتر حسّاس لمصلحة الوعي، وهو ما أدركه الصّحَـيِّح، إذ تبدو قصيدته هويّة راهنة ومستعادة للحظاته البعيدة والآنية، يغذّيها ذلك الاسترجاع الحيّ للتفاصيل المهمّشة في حياة كثير منّا، والحدس الشعري بقيمة مثل تلك الانعطافات في إغناء قصيدة:
لَمْلَمْتُني ودعوتُ طفلاً كُنـْـتُهُ
ثم اجتمعنا في المُنى:
أنا مَعْ أنا
وسرى الخيالُ بنا وئيدًا
في زقاق الذكريات
وكلّما طُفْنا هناكَ
على جدارٍ خِلتُهُ قلبي
فقلبي والجدارُ كلاهما
متصدِّعٌ
من خشية الأيام...
قلبيَ والجدارُ كلاهما
ما زال يحفظُ صوتَ أمّيَ
وهي تدعو أن أقلّدها
بمسبحة من الأطفال
وإن كان للشعر مزية قراءة الجمال والقبح معًا، بتبطيء اللحظات العجلى، والركض اليومي نحو الأشياء العيانية، فإنّ قصيدة الصحيّح كلٌّ مكتنز بالومضات الحياتية الخارجة عن أُطُر الزمان بالإغراق الكلّي فيه، ذلك الزمان المحجوب عن النظر الحسّي يبدو ماثلاً بذاكرته، حيًّا يستفزُّه الشعور كلَّما عنّت له القصيدة، وبدت لشاعرها لجوءاً قسريًّا يهرب منه إليه، يستعيذ من الاستعارات ليعيش في قصيدة، ويستجير بالحلم ليفرّ من الأغنية، تذبذباً لا يمكن أن يسوّغ إلا في ردهة مجاز:
حسبُنا ما بقينا
نؤرخ ميلادنا بالحروبِ
ونكبر حتفًا حتفًا
هلمُّوا
نعيش القصيدةَ عاريةً
مثل راحةِ كفّ
وننحازُ في حلمنا
للحياةِ قُبالة وهم استعارتها
غير أنّي أحلّفكم
بهديل الحمامةِ
ألاّ تقيسوا جمال الحياةِ
على صوت «فيروز»...
إن الأغاني مخادعةٌ
والمواويل تنصب
فخًّا لأحلامنا في النغمْ
ولئن كانت الذاكرة والهويّة الشخصيّة مرتبطتين بعرى لا تنفصم، والإحساس بالهوية الشخصية الذي يمتلكه كل واحد منا هو إحساس بالاستمرارية عبر الزمن، وهو ما لا يمكن امتلاكه دون الذاكرة - على حدّ تعبير ميري ورنوك - فإن ثمّة تلازماً ما بين هذين العنصرين يؤطر تجربة جاسم، فالتذكّر لديه صنو الهويّة، بل إنه قد يتجرّد من أول مستلزمات الهويّة الحقيقية حال مغادرة الماضي المرموز له بالطّفولة، فيبدو الواقع منفياً لا حدود له:
جُزنا الثلاثين... يمتدّ الهروبُ بنا
عنّا، إلى أن سقطنا من أسامينا
لم نتخذ وطناً إلاّ طفولتنا
ها نحن من بعدها أسرى منافينا
االشّعر على الشّعرب ظاهرة يمكن استشفافها لدى الصحيّح منذ أول ديوان، فلديه مع القصيدة صلات أقوى من اعتبار القصيدة وسيلة لغاية تعبيرية، فسيلمح القارئ أنه يفرغ لها مساحة تمتزج فيها البواعث والآلام ضمن التباسٍ يدخل في دائرة الحلول، ففي هذه الأبيات - على سبيل المثال - أجده الحائر، المتصل بسببٍ إلى البحر والشّعر، بل المتوحد معهما ثورة، والنادّ عنهما حيرة وغربة وخوفًا:
يا بحر... كان الشّعرُ بوصلةَ الهوى
في القلبِ يقفوها بدورته الدمُ
الشّعرُ صنوكَ في الخلود، كلاكما
قِدم على الدّنيا... فمن هوَ أقدمُ؟
الشّعرُ صنوكَ في الجلال، كلاكما
عِظمٌ على الدّنيا... فمن هو أعظمُ؟
والشّعرُ صنوك في السّخاءِ، كلاكما
كرمٌ على الدّنيا... فمن هو أكرمُ؟
وأنا امتدادكما معًا في شاعرٍ
يهتزُّ ملءَ جوارحي ويحمحمُ
هذا الغريبُ يعيش داخل جثّتي
قلقاً يثورُ وحيرةً تتأزمُ
فأنا التباسٌ بالمِدادِ، يخيفني
ورقٌ بهاوية البياضِ محزّمُ
وفي قصيدته المهداة إلى الشاعر محمد العلي، والمعنونة بـ ااستقالة الظّلب، يستدعي خياله الطفولي في حلولية تكرّس النموذج السابق بالتماهي مع البحر والشّاعر على حدّ سواء، في مشهد عجائبي مكتمل، قائم على المفهوم التقابلي: قبل/ بعد، فالذات في النص كانت مقيّدة بالوصايا والمواريث، وأسيرةً للذاكرة والرموز القديمة، بيد أنها تحررت من كل ذلك حال رؤية البحر:
هويّتي الماء فيما أظّن
وقدْ طالَ منفاي خلفَ البحارْ
وقفت على ذاتي المسخِ
أفتح عبر اليباس ممرّا
يقود إلى الماءِ/ اسمي القديمِ
ويقول في مقدّمة ديوانه اما وراء حنجرة المُغـنّيب: افآثرتُ أن أظلَّ في غابتي الأولى؛ حيث القصيدة توقد بين حجرين، وحيث البدائيُّ يحمل التفاعيلَ، ويتبعُني إلى آخر القافيةب؛ هذا الخروج المنفعل والفاعل في آن، والمفتون بأصول الأشياء، والمُشاكل بين القصيدة والنّار ليوطّنها كي تبقى مركزًا لا هامشًا، وأصلاً لا فرعًا، واحتياجاً حقيقيًّا لبني البشر، بل أبويًّا يؤصل الهُويّة:
أنا المتن من نصي وإن كان لي أب
أبي من حواشي النص، والأم والجد
وبيني وبين الله شهد مقطر
من الخاطر الأصفى، وهل يتلف الشهد؟
ومن منطقة التخيّل قد تُنزع الحقائق التي يتظاهر البشر بالقدرة على إخفائها، ذلك هو سياق اللحظة الموقدة لضوء القصيدة، وبه تترقى في معارج الشعور مُغادرة مواطن نظمها، وهذا ما بدت فيه قصيدة اما أمطره غيم النهاياتب، التي كتبها الصّحَـيِّح في حضرة الفقد الأبدي وفاجعة الموت حين رحل والده:
أبي: تعالَ... ويجري من «تعال» دَمٌ
كأنما الجرحُ في قلبِ الحروفِ طَرِي
بيني وبينك جسرٌ من مكابدةٍ
تعالَ نحسبُ كَمْ في الجسرِ من حَجَرِ
كم انحنيتَ على مهدي تمسّده
مثل انحناءةِ عزّافٍ على وترِ!
وكَمْ رَدَدْتَ غطائي حين قَرْفَصَني
رعْبُ الكوابيسِ في إغفاءة السّحر!
لينزع بعد هذه اللحظات المتتابعة من التذكر منزعًا وجوديًّا حيث القصيدة/ اللجوء، والهويّة، وآخر معاقل الجمال، وخاتمة الحزن:
هذا أنا يا أبي في كلِّ قافيةٍ
أحيا بـ «يوسفَ» معنى الحُسنِ والخَفَرِ
هذا أنا في قميصٍ من ظُلامتِهِ
ما زلتُ أبحثُ عن «قمصانِهِ» الأُخَرِ
ولا ريب في أنّ الألم الذي يتحوّل إلى خَلْقٍ أدبي رفيع تتلاشى فيه الفردية بتلقي المجموع المنتظِر، وقوده الحدس والحسّ المشترك؛ وبذا يصبح كل متلقٍّ مشاركاً بتلبّسه التجربة وانغماسه فيها، وهذا ما استطاع جاسم الصّحَـيِّح إتقانه هاجساً وشعرًا تحمله ثقة الشّاعر، وإنصاف الذات، والانتساب للشعر؛ بل امتلاكه في لحظة غرورٍ شعري؛ ولا عجب األيس الشعراء أمراء الكلام؟!ب:
لو يكبرُ النّاس في حبري وفي قلمي
ضاعفتُ أعمارَهُمْ بالجمْعِ والضّربِ
عندي من الحُبِّ ما يكفي ليَمْنَحَني
حصانة النَّفْسِ ضدَّ الزّهوِ والعُجْبِ
معي مفاتيحُ بيتِ الشِّعْرِ أحملُها
كي أفتحَ الكونَ من قُطْبٍ إلى قُطْبِ
وحيال هذا البوح، نجد أن قصيدة الصحيّح قدّمت ألوانًا من المجاز تكسر عاديّة القول، وتصبّ في خلق الهويّة الدائرة في حدود القصيدة، والشّعر:
يأبىَ لي الفَنُّ أن آوي إلى حَجَرٍ
ما لم أُغادرْهُ مسكونًا بِلؤلؤةِ
لا أدَّعي الوحيَ عُلْوِيَّ المدى،
فأنا لم أنتسبْ لسماءٍ غير جمجمتي
طيرُ النبوءةِ لم يبرحْ يُشَبِّه لي
في الحُلْمِ أنِّيَ مخلوقٌ بأجنحةِ!
نوديتُ من فكرتي: اصعدْ صعدتُ بها
حتّى الخلودِ... وكانتْ تلك معجزتي!
وشاعرنا من القلّة الذين عنوا بكشف اللحظة الشعرية، إذ لم تضلّله نشوة الشّعر عمَّا قبل الشّعر، لتصبح القصيدة قيمة يتكثّف حولها الشّعر، بحيث لا تكون ناقلة للشعور فحسب، ممّا يعمّق الإيمان بجدوى لجوء الصّحَـيِّح الدائم لقصيدته، ووسمها بالهويّة في أكثر من موضع:
حتّى متى وأنا أشكو غيابَ «أنا»؟!
كُلِّي هُنَاكَ ولكنّي أقيمُ هنا!
وما القصيدةُ إلاّ لحظةٌ/ أَبَدٌ
تأتي لكي نلتقي فيها: أنا وأنا!
ويؤكد هذا المعنى في اغرابٌ على شجرةِ الميلادب، فالحياة ناقصة بلا قصيدة مبصرة تشقّ سجوف الظلام:
ألفى الحياةَ قميصاً... والثقوبُ بهِ
شتّى... فما زال بالمعنى يُرَقّعُهُ
لا شيء أكثر في ظلمائِهِ فَزَعًا
من فكرةٍ في ظلامِ الرأسِ تُفْزِعُهُ
إذا امتطَى قلمٌ إحدى أصابعِهِ
تألقتْ ببريقِ ألماسِ إصبِعُهُ
ولعلّ من المفارقات الحتميّة أن الاطمئنان نقيض الشّعر، إذ لا شيء أجدى لقصيدة الشّاعر من قلقه، وحيرته، ومغادرة سلامه الروحي، وهو ما يعنيه جاسم حين استوطن قصيدته هربًا من قلق اللحظة:
وما مَرّتْ بيَ اللحظاتُ إلا
وهُنَّ مُدَبَّباتٌ بالنِصالِ!
فما أنفكُّ أحفظُ ما تبقَّى
ببالِيَ من مسافةِ طولِ بالِ
وثَمَّةَ في القصيدةِ خيرُ مرعى
سرِّحُ فيهِ غزلانَ انفعالي
وكان الواهمونَ على طريقي
يبيعونَ القِسِيَّ بلا نبالِ
وقد أرجأت كثيراً مما يستحق القراءة في تجربة جاسم الصّحَـيِّح وشعره، حيث إنها تجربة حافلة، غنيّة تستهدي بها الأفكار النقديّة والدراسات الفاحصة، ولعلّ هذه التأملات العارضة الواقفة على حدّ الجمال تقيم بعض الصّلة بين ذات الشّاعر وموضوع الهويّة؛ وإن بدا لي اتساع هذا الموضوع لدى الصحيّح، وثرائه، فالشّاعر لديه فضاء رحبٌ جداً يستوعب تجربته الذاتيّة، وتجارب أخرى عقلية وعاطفيّة واجتماعية متباينة تشجّع على تتبعها .