القصيدة الهويّة في تجربة جاسم الصِّحَـيِّح

القصيدة الهويّة في تجربة جاسم الصِّحَـيِّح

كيف‭ ‬يكون‭ ‬الشعر؟‭ ‬كيف‭ ‬تكون‭ ‬الحياة؟‭ ‬هذان‭ ‬السؤالان‭ ‬طرحهما‭ ‬الناقد‭ ‬محمد‭ ‬بنيس‭ ‬في‭ ‬سياق‭ ‬خاص،‭ ‬لكن‭ ‬حضورهما‭ ‬يستمر‭ ‬مع‭ ‬كل‭ ‬قصيدة‭ ‬تأخذ‭ ‬بلبّ‭ ‬قارئها،‭ ‬ومع‭ ‬كل‭ ‬دهشة‭ ‬تتحوّل‭ ‬إلى‭ ‬مطر‭ ‬نتتبع‭ ‬مساقطه،‭ ‬ومع‭ ‬شاعرٍ‭ ‬يستنبت‭ ‬الاستقامة‭ ‬في‭ ‬أرض‭ ‬الغواية،‭ ‬فكيفية‭ ‬الشّعر‭ ‬كيفية‭ ‬حياة‭ ‬يعيدها‭ ‬الشاعر‭ ‬بتكثيفٍ‭ ‬مركّز،‭ ‬وتوق‭ ‬إلى‭ ‬استشراف‭ ‬رؤى‭ ‬جديدة‭. ‬

ولعلّ‭ ‬جاسم‭ ‬الصّحَـيِّح‭ ‬من‭ ‬أولئك‭ ‬الذين‭ ‬يجبرونك‭ ‬على‭ ‬الوقوف‭ ‬لاستجلاء‭ ‬الحياة‭ ‬بعيدًا‭ ‬عن‭ ‬مناويل‭ ‬جامدة،‭ ‬وهموم‭ ‬شعريّة‭ ‬معادة،‭ ‬إذ‭ ‬ما‭ ‬تلبث‭ ‬قصيدته‭ ‬أن‭ ‬تجلو‭ ‬مرآة‭ ‬روحك‭ ‬لتتفقّدَ‭ ‬صورَك‭ ‬الأولى،‭ ‬وتجارِبَك‭ ‬البكر،‭ ‬ولحظاتِ‭ ‬شغفك؛‭ ‬فالزمان‭ ‬الذي‭ ‬تتغافل‭ ‬عنه‭ ‬بهواجسك‭ ‬اليوميّة‭ ‬تجده‭ ‬منفلت‭ ‬العقال‭ ‬في‭ ‬كل‭ ‬ديوان‭ ‬للصّحَـيِّح،‭ ‬يؤرخك‭ ‬مجددًا،‭ ‬ويراجع‭ ‬معك‭ ‬ترتيب‭ ‬أوراق‭ ‬تقويمك؛‭ ‬فاللحظات‭ - ‬كما‭ ‬يقول‭ ‬حسن‭ ‬مُطلك‭ - ‬التي‭ ‬تمضي‭ ‬دون‭ ‬أن‭ ‬يرصدها‭ ‬الأدب،‭ ‬هي‭ ‬لحظات‭ ‬ميّتة،‭ ‬ستمضي‭ ‬نحو‭ ‬العدم،‭ ‬حاملة‭ ‬معها‭ ‬حالة‭ ‬توتر‭ ‬حسّاس‭ ‬لمصلحة‭ ‬الوعي،‭ ‬وهو‭ ‬ما‭ ‬أدركه‭ ‬الصّحَـيِّح،‭ ‬إذ‭ ‬تبدو‭ ‬قصيدته‭ ‬هويّة‭ ‬راهنة‭ ‬ومستعادة‭ ‬للحظاته‭ ‬البعيدة‭ ‬والآنية،‭ ‬يغذّيها‭ ‬ذلك‭ ‬الاسترجاع‭ ‬الحيّ‭ ‬للتفاصيل‭ ‬المهمّشة‭ ‬في‭ ‬حياة‭ ‬كثير‭ ‬منّا،‭ ‬والحدس‭ ‬الشعري‭ ‬بقيمة‭ ‬مثل‭ ‬تلك‭ ‬الانعطافات‭ ‬في‭ ‬إغناء‭ ‬قصيدة‭:‬

 

لَمْلَمْتُني‭ ‬ودعوتُ‭ ‬طفلاً‭ ‬كُنـْـتُهُ

ثم‭ ‬اجتمعنا‭ ‬في‭ ‬المُنى‭:‬

أنا‭ ‬مَعْ‭ ‬أنا

وسرى‭ ‬الخيالُ‭ ‬بنا‭ ‬وئيدًا

في‭ ‬زقاق‭ ‬الذكريات

وكلّما‭ ‬طُفْنا‭ ‬هناكَ‭ ‬

على‭ ‬جدارٍ‭ ‬خِلتُهُ‭ ‬قلبي

فقلبي‭ ‬والجدارُ‭ ‬كلاهما‭ ‬

متصدِّعٌ‭ ‬

من‭ ‬خشية‭ ‬الأيام‭...‬

قلبيَ‭ ‬والجدارُ‭ ‬كلاهما‭ ‬

ما‭ ‬زال‭ ‬يحفظُ‭ ‬صوتَ‭ ‬أمّيَ

وهي‭ ‬تدعو‭ ‬أن‭ ‬أقلّدها‭ ‬

بمسبحة‭ ‬من‭ ‬الأطفال

 

وإن‭ ‬كان‭ ‬للشعر‭ ‬مزية‭ ‬قراءة‭ ‬الجمال‭ ‬والقبح‭ ‬معًا،‭ ‬بتبطيء‭ ‬اللحظات‭ ‬العجلى،‭ ‬والركض‭ ‬اليومي‭ ‬نحو‭ ‬الأشياء‭ ‬العيانية،‭ ‬فإنّ‭ ‬قصيدة‭ ‬الصحيّح‭ ‬كلٌّ‭ ‬مكتنز‭ ‬بالومضات‭ ‬الحياتية‭ ‬الخارجة‭ ‬عن‭ ‬أُطُر‭ ‬الزمان‭ ‬بالإغراق‭ ‬الكلّي‭ ‬فيه،‭ ‬ذلك‭ ‬الزمان‭ ‬المحجوب‭ ‬عن‭ ‬النظر‭ ‬الحسّي‭ ‬يبدو‭ ‬ماثلاً‭ ‬بذاكرته،‭ ‬حيًّا‭ ‬يستفزُّه‭ ‬الشعور‭ ‬كلَّما‭ ‬عنّت‭ ‬له‭ ‬القصيدة،‭ ‬وبدت‭ ‬لشاعرها‭ ‬لجوءاً‭ ‬قسريًّا‭ ‬يهرب‭ ‬منه‭ ‬إليه،‭ ‬يستعيذ‭ ‬من‭ ‬الاستعارات‭ ‬ليعيش‭ ‬في‭ ‬قصيدة،‭ ‬ويستجير‭ ‬بالحلم‭ ‬ليفرّ‭ ‬من‭ ‬الأغنية،‭ ‬تذبذباً‭ ‬لا‭ ‬يمكن‭ ‬أن‭ ‬يسوّغ‭ ‬إلا‭ ‬في‭ ‬ردهة‭ ‬مجاز‭: ‬

 

حسبُنا‭ ‬ما‭ ‬بقينا

نؤرخ‭ ‬ميلادنا‭ ‬بالحروبِ

ونكبر‭ ‬حتفًا‭ ‬حتفًا

هلمُّوا

نعيش‭ ‬القصيدةَ‭ ‬عاريةً‭ ‬

مثل‭ ‬راحةِ‭ ‬كفّ

وننحازُ‭ ‬في‭ ‬حلمنا‭ ‬

للحياةِ‭ ‬قُبالة‭ ‬وهم‭ ‬استعارتها

غير‭ ‬أنّي‭ ‬أحلّفكم‭ ‬

بهديل‭ ‬الحمامةِ

ألاّ‭ ‬تقيسوا‭ ‬جمال‭ ‬الحياةِ‭ ‬

على‭ ‬صوت‭ ‬‮«‬فيروز‮»‬‭...‬

إن‭ ‬الأغاني‭ ‬مخادعةٌ

والمواويل‭ ‬تنصب‭ ‬

فخًّا‭ ‬لأحلامنا‭ ‬في‭ ‬النغمْ

 

ولئن‭ ‬كانت‭ ‬الذاكرة‭ ‬والهويّة‭ ‬الشخصيّة‭ ‬مرتبطتين‭ ‬بعرى‭ ‬لا‭ ‬تنفصم،‭ ‬والإحساس‭ ‬بالهوية‭ ‬الشخصية‭ ‬الذي‭ ‬يمتلكه‭ ‬كل‭ ‬واحد‭ ‬منا‭ ‬هو‭ ‬إحساس‭ ‬بالاستمرارية‭ ‬عبر‭ ‬الزمن،‭ ‬وهو‭ ‬ما‭ ‬لا‭ ‬يمكن‭ ‬امتلاكه‭ ‬دون‭ ‬الذاكرة‭ - ‬على‭ ‬حدّ‭ ‬تعبير‭ ‬ميري‭ ‬ورنوك‭ - ‬فإن‭ ‬ثمّة‭ ‬تلازماً‭ ‬ما‭ ‬بين‭ ‬هذين‭ ‬العنصرين‭ ‬يؤطر‭ ‬تجربة‭ ‬جاسم،‭ ‬فالتذكّر‭ ‬لديه‭ ‬صنو‭ ‬الهويّة،‭ ‬بل‭ ‬إنه‭ ‬قد‭ ‬يتجرّد‭ ‬من‭ ‬أول‭ ‬مستلزمات‭ ‬الهويّة‭ ‬الحقيقية‭ ‬حال‭ ‬مغادرة‭ ‬الماضي‭ ‬المرموز‭ ‬له‭ ‬بالطّفولة،‭ ‬فيبدو‭ ‬الواقع‭ ‬منفياً‭ ‬لا‭ ‬حدود‭ ‬له‭:‬

 

جُزنا‭ ‬الثلاثين‭... ‬يمتدّ‭ ‬الهروبُ‭ ‬بنا‭ ‬

عنّا،‭ ‬إلى‭ ‬أن‭ ‬سقطنا‭ ‬من‭ ‬أسامينا

لم‭ ‬نتخذ‭ ‬وطناً‭ ‬إلاّ‭ ‬طفولتنا

ها‭ ‬نحن‭ ‬من‭ ‬بعدها‭ ‬أسرى‭ ‬منافينا

 

االشّعر‭ ‬على‭ ‬الشّعرب‭ ‬ظاهرة‭ ‬يمكن‭ ‬استشفافها‭ ‬لدى‭ ‬الصحيّح‭ ‬منذ‭ ‬أول‭ ‬ديوان،‭ ‬فلديه‭ ‬مع‭ ‬القصيدة‭ ‬صلات‭ ‬أقوى‭ ‬من‭ ‬اعتبار‭ ‬القصيدة‭ ‬وسيلة‭ ‬لغاية‭ ‬تعبيرية،‭ ‬فسيلمح‭ ‬القارئ‭ ‬أنه‭ ‬يفرغ‭ ‬لها‭ ‬مساحة‭ ‬تمتزج‭ ‬فيها‭ ‬البواعث‭ ‬والآلام‭ ‬ضمن‭ ‬التباسٍ‭ ‬يدخل‭ ‬في‭ ‬دائرة‭ ‬الحلول،‭ ‬ففي‭ ‬هذه‭ ‬الأبيات‭ - ‬على‭ ‬سبيل‭ ‬المثال‭ - ‬أجده‭ ‬الحائر،‭ ‬المتصل‭ ‬بسببٍ‭ ‬إلى‭ ‬البحر‭ ‬والشّعر،‭ ‬بل‭ ‬المتوحد‭ ‬معهما‭ ‬ثورة،‭ ‬والنادّ‭ ‬عنهما‭ ‬حيرة‭ ‬وغربة‭ ‬وخوفًا‭: ‬

 

يا‭ ‬بحر‭... ‬كان‭ ‬الشّعرُ‭ ‬بوصلةَ‭ ‬الهوى‭ ‬

في‭ ‬القلبِ‭ ‬يقفوها‭ ‬بدورته‭ ‬الدمُ

الشّعرُ‭ ‬صنوكَ‭ ‬في‭ ‬الخلود،‭ ‬كلاكما‭ ‬

قِدم‭ ‬على‭ ‬الدّنيا‭... ‬فمن‭ ‬هوَ‭ ‬أقدمُ؟

الشّعرُ‭ ‬صنوكَ‭ ‬في‭ ‬الجلال،‭ ‬كلاكما‭ ‬

عِظمٌ‭ ‬على‭ ‬الدّنيا‭... ‬فمن‭ ‬هو‭ ‬أعظمُ؟

والشّعرُ‭ ‬صنوك‭ ‬في‭ ‬السّخاءِ،‭ ‬كلاكما‭ ‬

كرمٌ‭ ‬على‭ ‬الدّنيا‭... ‬فمن‭ ‬هو‭ ‬أكرمُ؟

وأنا‭ ‬امتدادكما‭ ‬معًا‭ ‬في‭ ‬شاعرٍ‭ ‬

يهتزُّ‭ ‬ملءَ‭ ‬جوارحي‭ ‬ويحمحمُ

هذا‭ ‬الغريبُ‭ ‬يعيش‭ ‬داخل‭ ‬جثّتي‭ ‬

قلقاً‭ ‬يثورُ‭ ‬وحيرةً‭ ‬تتأزمُ

فأنا‭ ‬التباسٌ‭ ‬بالمِدادِ،‭ ‬يخيفني‭ ‬

ورقٌ‭ ‬بهاوية‭ ‬البياضِ‭ ‬محزّمُ

 

وفي‭ ‬قصيدته‭ ‬المهداة‭ ‬إلى‭ ‬الشاعر‭ ‬محمد‭ ‬العلي،‭ ‬والمعنونة‭ ‬بـ‭ ‬ااستقالة‭ ‬الظّلب،‭ ‬يستدعي‭ ‬خياله‭ ‬الطفولي‭ ‬في‭ ‬حلولية‭ ‬تكرّس‭ ‬النموذج‭ ‬السابق‭ ‬بالتماهي‭ ‬مع‭ ‬البحر‭ ‬والشّاعر‭ ‬على‭ ‬حدّ‭ ‬سواء،‭ ‬في‭ ‬مشهد‭ ‬عجائبي‭ ‬مكتمل،‭ ‬قائم‭ ‬على‭ ‬المفهوم‭ ‬التقابلي‭: ‬قبل‭/ ‬بعد،‭ ‬فالذات‭ ‬في‭ ‬النص‭ ‬كانت‭ ‬مقيّدة‭ ‬بالوصايا‭ ‬والمواريث،‭ ‬وأسيرةً‭ ‬للذاكرة‭ ‬والرموز‭ ‬القديمة،‭ ‬بيد‭ ‬أنها‭ ‬تحررت‭ ‬من‭ ‬كل‭ ‬ذلك‭ ‬حال‭ ‬رؤية‭ ‬البحر‭:‬

 

هويّتي‭ ‬الماء‭ ‬فيما‭ ‬أظّن

وقدْ‭ ‬طالَ‭ ‬منفاي‭ ‬خلفَ‭ ‬البحارْ

وقفت‭ ‬على‭ ‬ذاتي‭ ‬المسخِ

أفتح‭ ‬عبر‭ ‬اليباس‭ ‬ممرّا‭ ‬

يقود‭ ‬إلى‭ ‬الماءِ‭/ ‬اسمي‭ ‬القديمِ

 

ويقول‭ ‬في‭ ‬مقدّمة‭ ‬ديوانه‭ ‬اما‭ ‬وراء‭ ‬حنجرة‭ ‬المُغـنّيب‭: ‬افآثرتُ‭ ‬أن‭ ‬أظلَّ‭ ‬في‭ ‬غابتي‭ ‬الأولى؛‭ ‬حيث‭ ‬القصيدة‭ ‬توقد‭ ‬بين‭ ‬حجرين،‭ ‬وحيث‭ ‬البدائيُّ‭ ‬يحمل‭ ‬التفاعيلَ،‭ ‬ويتبعُني‭ ‬إلى‭ ‬آخر‭ ‬القافيةب؛‭ ‬هذا‭ ‬الخروج‭ ‬المنفعل‭ ‬والفاعل‭ ‬في‭ ‬آن،‭ ‬والمفتون‭ ‬بأصول‭ ‬الأشياء،‭ ‬والمُشاكل‭ ‬بين‭ ‬القصيدة‭ ‬والنّار‭ ‬ليوطّنها‭ ‬كي‭ ‬تبقى‭ ‬مركزًا‭ ‬لا‭ ‬هامشًا،‭ ‬وأصلاً‭ ‬لا‭ ‬فرعًا،‭ ‬واحتياجاً‭ ‬حقيقيًّا‭ ‬لبني‭ ‬البشر،‭ ‬بل‭ ‬أبويًّا‭ ‬يؤصل‭ ‬الهُويّة‭:‬

 

أنا‭ ‬المتن‭ ‬من‭ ‬نصي‭ ‬وإن‭ ‬كان‭ ‬لي‭ ‬أب‭ ‬

أبي‭ ‬من‭ ‬حواشي‭ ‬النص،‭ ‬والأم‭ ‬والجد‭ ‬

وبيني‭ ‬وبين‭ ‬الله‭ ‬شهد‭ ‬مقطر

من‭ ‬الخاطر‭ ‬الأصفى،‭ ‬وهل‭ ‬يتلف‭ ‬الشهد؟‭ ‬

ومن‭ ‬منطقة‭ ‬التخيّل‭ ‬قد‭ ‬تُنزع‭ ‬الحقائق‭ ‬التي‭ ‬يتظاهر‭ ‬البشر‭ ‬بالقدرة‭ ‬على‭ ‬إخفائها،‭ ‬ذلك‭ ‬هو‭ ‬سياق‭ ‬اللحظة‭ ‬الموقدة‭ ‬لضوء‭ ‬القصيدة،‭ ‬وبه‭ ‬تترقى‭ ‬في‭ ‬معارج‭ ‬الشعور‭ ‬مُغادرة‭ ‬مواطن‭ ‬نظمها،‭ ‬وهذا‭ ‬ما‭ ‬بدت‭ ‬فيه‭ ‬قصيدة‭ ‬اما‭ ‬أمطره‭ ‬غيم‭ ‬النهاياتب،‭ ‬التي‭ ‬كتبها‭ ‬الصّحَـيِّح‭ ‬في‭ ‬حضرة‭ ‬الفقد‭ ‬الأبدي‭ ‬وفاجعة‭ ‬الموت‭ ‬حين‭ ‬رحل‭ ‬والده‭: ‬

 

أبي‭: ‬تعالَ‭... ‬ويجري‭ ‬من‭ ‬‮«‬تعال‮»‬‭ ‬دَمٌ‭ ‬

كأنما‭ ‬الجرحُ‭ ‬في‭ ‬قلبِ‭ ‬الحروفِ‭ ‬طَرِي

‭ ‬بيني‭ ‬وبينك‭ ‬جسرٌ‭ ‬من‭ ‬مكابدةٍ‭ ‬

تعالَ‭ ‬نحسبُ‭ ‬كَمْ‭ ‬في‭ ‬الجسرِ‭ ‬من‭ ‬حَجَرِ

كم‭ ‬انحنيتَ‭ ‬على‭ ‬مهدي‭ ‬تمسّده‭ ‬

مثل‭ ‬انحناءةِ‭ ‬عزّافٍ‭ ‬على‭ ‬وترِ‭!‬

وكَمْ‭ ‬رَدَدْتَ‭ ‬غطائي‭ ‬حين‭ ‬قَرْفَصَني‭ ‬

رعْبُ‭ ‬الكوابيسِ‭ ‬في‭ ‬إغفاءة‭ ‬السّحر‭!‬

 

لينزع‭ ‬بعد‭ ‬هذه‭ ‬اللحظات‭ ‬المتتابعة‭ ‬من‭ ‬التذكر‭ ‬منزعًا‭ ‬وجوديًّا‭ ‬حيث‭ ‬القصيدة‭/ ‬اللجوء،‭ ‬والهويّة،‭ ‬وآخر‭ ‬معاقل‭ ‬الجمال،‭ ‬وخاتمة‭ ‬الحزن‭:‬

 

هذا‭ ‬أنا‭ ‬يا‭ ‬أبي‭ ‬في‭ ‬كلِّ‭ ‬قافيةٍ

أحيا‭ ‬بـ‭ ‬‮«‬يوسفَ‮»‬‭ ‬معنى‭ ‬الحُسنِ‭ ‬والخَفَرِ

هذا‭ ‬أنا‭ ‬في‭ ‬قميصٍ‭ ‬من‭ ‬ظُلامتِهِ

ما‭ ‬زلتُ‭ ‬أبحثُ‭ ‬عن‭ ‬‮«‬قمصانِهِ‮»‬‭ ‬الأُخَرِ

 

ولا‭ ‬ريب‭ ‬في‭ ‬أنّ‭ ‬الألم‭ ‬الذي‭ ‬يتحوّل‭ ‬إلى‭ ‬خَلْقٍ‭ ‬أدبي‭ ‬رفيع‭ ‬تتلاشى‭ ‬فيه‭ ‬الفردية‭ ‬بتلقي‭ ‬المجموع‭ ‬المنتظِر،‭ ‬وقوده‭ ‬الحدس‭ ‬والحسّ‭ ‬المشترك؛‭ ‬وبذا‭ ‬يصبح‭ ‬كل‭ ‬متلقٍّ‭ ‬مشاركاً‭ ‬بتلبّسه‭ ‬التجربة‭ ‬وانغماسه‭ ‬فيها،‭ ‬وهذا‭ ‬ما‭ ‬استطاع‭ ‬جاسم‭ ‬الصّحَـيِّح‭ ‬إتقانه‭ ‬هاجساً‭ ‬وشعرًا‭ ‬تحمله‭ ‬ثقة‭ ‬الشّاعر،‭ ‬وإنصاف‭ ‬الذات،‭ ‬والانتساب‭ ‬للشعر؛‭ ‬بل‭ ‬امتلاكه‭ ‬في‭ ‬لحظة‭ ‬غرورٍ‭ ‬شعري؛‭ ‬ولا‭ ‬عجب‭ ‬األيس‭ ‬الشعراء‭ ‬أمراء‭ ‬الكلام؟‭!‬ب‭: ‬

 

لو‭ ‬يكبرُ‭ ‬النّاس‭ ‬في‭ ‬حبري‭ ‬وفي‭ ‬قلمي‭ ‬

ضاعفتُ‭ ‬أعمارَهُمْ‭ ‬بالجمْعِ‭ ‬والضّربِ

عندي‭ ‬من‭ ‬الحُبِّ‭ ‬ما‭ ‬يكفي‭ ‬ليَمْنَحَني‭ ‬

حصانة‭ ‬النَّفْسِ‭ ‬ضدَّ‭ ‬الزّهوِ‭ ‬والعُجْبِ

معي‭ ‬مفاتيحُ‭ ‬بيتِ‭ ‬الشِّعْرِ‭ ‬أحملُها

كي‭ ‬أفتحَ‭ ‬الكونَ‭ ‬من‭ ‬قُطْبٍ‭ ‬إلى‭ ‬قُطْبِ

 

وحيال‭ ‬هذا‭ ‬البوح،‭ ‬نجد‭ ‬أن‭ ‬قصيدة‭ ‬الصحيّح‭ ‬قدّمت‭ ‬ألوانًا‭ ‬من‭ ‬المجاز‭ ‬تكسر‭ ‬عاديّة‭ ‬القول،‭ ‬وتصبّ‭ ‬في‭ ‬خلق‭ ‬الهويّة‭ ‬الدائرة‭ ‬في‭ ‬حدود‭ ‬القصيدة،‭ ‬والشّعر‭: ‬

 

يأبىَ‭ ‬لي‭ ‬الفَنُّ‭ ‬أن‭ ‬آوي‭ ‬إلى‭ ‬حَجَرٍ‭ ‬

ما‭ ‬لم‭ ‬أُغادرْهُ‭ ‬مسكونًا‭ ‬بِلؤلؤةِ

لا‭ ‬أدَّعي‭ ‬الوحيَ‭ ‬عُلْوِيَّ‭ ‬المدى،‭ ‬

فأنا‭  ‬لم‭ ‬أنتسبْ‭ ‬لسماءٍ‭ ‬غير‭ ‬جمجمتي

طيرُ‭ ‬النبوءةِ‭ ‬لم‭ ‬يبرحْ‭ ‬يُشَبِّه‭ ‬لي

في‭ ‬الحُلْمِ‭ ‬أنِّيَ‭ ‬مخلوقٌ‭ ‬بأجنحةِ‭!‬

نوديتُ‭ ‬من‭ ‬فكرتي‭: ‬اصعدْ‭ ‬صعدتُ‭ ‬بها‭ ‬

حتّى‭ ‬الخلودِ‭... ‬وكانتْ‭ ‬تلك‭ ‬معجزتي‭!‬

 

‭ ‬وشاعرنا‭ ‬من‭ ‬القلّة‭ ‬الذين‭ ‬عنوا‭ ‬بكشف‭ ‬اللحظة‭ ‬الشعرية،‭ ‬إذ‭ ‬لم‭ ‬تضلّله‭ ‬نشوة‭ ‬الشّعر‭ ‬عمَّا‭ ‬قبل‭ ‬الشّعر،‭ ‬لتصبح‭ ‬القصيدة‭ ‬قيمة‭ ‬يتكثّف‭ ‬حولها‭ ‬الشّعر،‭ ‬بحيث‭ ‬لا‭ ‬تكون‭ ‬ناقلة‭ ‬للشعور‭ ‬فحسب،‭ ‬ممّا‭ ‬يعمّق‭ ‬الإيمان‭ ‬بجدوى‭ ‬لجوء‭ ‬الصّحَـيِّح‭ ‬الدائم‭ ‬لقصيدته،‭ ‬ووسمها‭ ‬بالهويّة‭ ‬في‭ ‬أكثر‭ ‬من‭ ‬موضع‭:‬

 

حتّى‭ ‬متى‭ ‬وأنا‭ ‬أشكو‭ ‬غيابَ‭ ‬‮«‬أنا»؟‭! ‬

كُلِّي‭ ‬هُنَاكَ‭ ‬ولكنّي‭ ‬أقيمُ‭ ‬هنا‭!‬

وما‭ ‬القصيدةُ‭ ‬إلاّ‭ ‬لحظةٌ‭/ ‬أَبَدٌ‭ ‬

تأتي‭ ‬لكي‭ ‬نلتقي‭ ‬فيها‭: ‬أنا‭ ‬وأنا‭!‬

 

ويؤكد‭ ‬هذا‭ ‬المعنى‭ ‬في‭ ‬اغرابٌ‭ ‬على‭ ‬شجرةِ‭ ‬الميلادب،‭ ‬فالحياة‭ ‬ناقصة‭ ‬بلا‭ ‬قصيدة‭ ‬مبصرة‭ ‬تشقّ‭ ‬سجوف‭ ‬الظلام‭:‬

 

ألفى‭ ‬الحياةَ‭ ‬قميصاً‭... ‬والثقوبُ‭ ‬بهِ‭ ‬

شتّى‭... ‬فما‭ ‬زال‭ ‬بالمعنى‭ ‬يُرَقّعُهُ

لا‭ ‬شيء‭ ‬أكثر‭ ‬في‭ ‬ظلمائِهِ‭ ‬فَزَعًا

من‭ ‬فكرةٍ‭ ‬في‭ ‬ظلامِ‭ ‬الرأسِ‭ ‬تُفْزِعُهُ

إذا‭ ‬امتطَى‭ ‬قلمٌ‭ ‬إحدى‭ ‬أصابعِهِ‭ ‬

 

تألقتْ‭ ‬ببريقِ‭ ‬ألماسِ‭ ‬إصبِعُهُ

ولعلّ‭ ‬من‭ ‬المفارقات‭ ‬الحتميّة‭ ‬أن‭ ‬الاطمئنان‭ ‬نقيض‭ ‬الشّعر،‭ ‬إذ‭ ‬لا‭ ‬شيء‭ ‬أجدى‭ ‬لقصيدة‭ ‬الشّاعر‭ ‬من‭ ‬قلقه،‭ ‬وحيرته،‭ ‬ومغادرة‭ ‬سلامه‭ ‬الروحي،‭ ‬وهو‭ ‬ما‭ ‬يعنيه‭ ‬جاسم‭ ‬حين‭ ‬استوطن‭ ‬قصيدته‭ ‬هربًا‭ ‬من‭ ‬قلق‭ ‬اللحظة‭:‬

 

وما‭ ‬مَرّتْ‭ ‬بيَ‭ ‬اللحظاتُ‭ ‬إلا‭ ‬

وهُنَّ‭ ‬مُدَبَّباتٌ‭ ‬بالنِصالِ‭!‬

فما‭ ‬أنفكُّ‭ ‬أحفظُ‭ ‬ما‭ ‬تبقَّى‭ ‬

ببالِيَ‭ ‬من‭ ‬مسافةِ‭ ‬طولِ‭ ‬بالِ

وثَمَّةَ‭ ‬في‭ ‬القصيدةِ‭ ‬خيرُ‭ ‬مرعى

سرِّحُ‭ ‬فيهِ‭ ‬غزلانَ‭ ‬انفعالي

وكان‭ ‬الواهمونَ‭ ‬على‭ ‬طريقي

يبيعونَ‭ ‬القِسِيَّ‭ ‬بلا‭ ‬نبالِ

 

وقد‭ ‬أرجأت‭ ‬كثيراً‭ ‬مما‭ ‬يستحق‭ ‬القراءة‭ ‬في‭ ‬تجربة‭ ‬جاسم‭ ‬الصّحَـيِّح‭ ‬وشعره،‭ ‬حيث‭ ‬إنها‭ ‬تجربة‭ ‬حافلة،‭ ‬غنيّة‭ ‬تستهدي‭ ‬بها‭ ‬الأفكار‭ ‬النقديّة‭ ‬والدراسات‭ ‬الفاحصة،‭ ‬ولعلّ‭ ‬هذه‭ ‬التأملات‭ ‬العارضة‭ ‬الواقفة‭ ‬على‭ ‬حدّ‭ ‬الجمال‭ ‬تقيم‭ ‬بعض‭ ‬الصّلة‭ ‬بين‭ ‬ذات‭ ‬الشّاعر‭ ‬وموضوع‭ ‬الهويّة؛‭ ‬وإن‭ ‬بدا‭ ‬لي‭ ‬اتساع‭ ‬هذا‭ ‬الموضوع‭ ‬لدى‭ ‬الصحيّح،‭ ‬وثرائه،‭ ‬فالشّاعر‭ ‬لديه‭ ‬فضاء‭ ‬رحبٌ‭ ‬جداً‭ ‬يستوعب‭ ‬تجربته‭ ‬الذاتيّة،‭ ‬وتجارب‭ ‬أخرى‭ ‬عقلية‭ ‬وعاطفيّة‭ ‬واجتماعية‭ ‬متباينة‭ ‬تشجّع‭ ‬على‭ ‬تتبعها‭ .