رمضان... أقلام المؤرخين وعيون الرحالة

رمضان... أقلام المؤرخين وعيون الرحالة
        

عدسة: يحيى علي دسوقي - مصر

          شهر رمضان المبارك لحظة فريدة ومتكررة في حساب الأيام والشهور. وبقدر ما تحمله هذه العبارة من تناقض ظاهري، بقدر ما تنطوي على قدر كبير من الحقيقة. إذ إن الشهر المبارك لحظة زمنية فريدة، لأنه شهر لا مثيل له في أي تقويم لأية أمة من أمم الأرض عامة، ولأنه لا يشبه، ولا يشبهه شهر من أشهر التقويم الهجري، بصفة خاصة. ومن ناحية أخرى، هو لحظة متكررة لأنه يجيء كل سنة في موعد مختلف عن الموعد السابق والموعد اللاحق، ولكنه يجيء دائما. وشهر رمضان شهر مدهش حقًا: فقد يأتي في قيظ الصيف، أو في برد الشتاء، أو في أيام الربيع والخريف.

          في كل الأحوال يفرح الناس به ويحتفلون بأيامه ولياليه، فهو شهر الصوم وصلاة التراويح والعبادة والخير والبركة على المستوى الديني. فالصوم ركن من أركان الإسلام، وفي رمضان يخرج المسلمون الزكاة للتيسير على الفقراء. ولكن الناس عادة ما يجعلون شهر رمضان شهر المودة والفرحة والاحتفالات والزيارات على المستوى الاجتماعي.

          كان المشهد الديني والاجتماعي في رمضان على مر التاريخ الإسلامي غنيا يموج بالحيوية والتفاعل الذي يعكس طبيعة كل مجتمع من مجتمعات عالم الإسلام: في المدن والريف والبادية. فهو مشهد يجمع بين الصوم والصلاة، وقراءة القرآن، وحلقات الدرس والذكر، وفيه يتفرغ أبناء النخبة للدرس والكتابة. ومن ناحية أخرى ارتبط الشهر الكريم عند الكثير من شعوب العالم الإسلامي بموائد الطعام الفاخرة المتنوعة التي لفتت انتباه من خالطوهم، أو جاوروهم، من الأمم الأخرى (فاليونانيون حتى الآن يطلقون على المآدب الفاخرة اسم رمضان)، كما يرتبط بأهازيج الأطفال ومواكبهم البديعة بالشموع والفوانيس، يدقون أبواب جيرانهم وهم يهنئونهم بأغنيات تذكرهم بالشهر، والفرحة التي تغمرهم وهم يتسابقون للحصول على هدايا الجيران من حلويات رمضان. وهو أيضا شهر الازدهار التجاري في أسواق الطعام والحلوى الرمضانية والياميش وغيرها. رمضان شهر فريد لأنه يجمع بين كل هذه الخصائص والسمات التي لا يشاركه فيها شهر آخر، ورمضان شهر متكرر لأنه يحضر كل سنة بطبيعة الحال، وإن كان حضوره بمذاق مختلف عن غيره.

          لهذه الأسباب، ولأسباب أخرى غيرها، لفت الشهر الفريد المتكرر انتباه المؤرخين بقدر بهر عيون الرحالة والزائرين. ولأن أقلام المؤرخين اهتمت في الغالب الأعم باحتفالات الخلفاء والسلاطين، لم يتحدثوا كثيرا عن مظاهر الحياة الاجتماعية في رمضان داخل مجتمعاتهم على اعتبار أنها كانت من الأمور الحياتية اليومية لمألوف لديهم، فإن كتاباتهم لم تستطع، غالبا، أن تنقل لنا الصورة الحيوية للمجتمع في رمضان. ولكن الرحالة الذين كتبوا عن رمضان بعيون الغرباء المندهشين، كتبوا ورصدوا وصوروا ما رأوه غريبا ومدهشا بالنسبة لهم. ويلفت النظر في هذا المقام أن الرحالة الذين شدتهم الدهشة لم يكونوا كلهم من غير المسلمين، بل كان بعضهم من المسلمين القادمين من بلاد إسلامية حقا، لكن حياتها الاجتماعية كانت مختلفة. ولأن حجم ما كتبه المؤرخون من ناحية، وما سجله الرحالة وحكوا عنه من ناحية أخرى، كبير وهائل، فإنني سوف أكتفي هنا برصد بعض الكتابات التي تكشف عن رؤية الداخل والصورة من الخارج في فترات تاريخية متفاوتة.

الاحتفالات الرمضانية الفاطمية

          كان الاحتفال برمضان من أهم دلائل التواصل بين الحكام والناس في عصور السيادة الإسلامية. ولدينا نصوص تفصيلية في كتب المؤرخين عن هذه الاحتفالات الرمضانية الرسمية في عدد من بلاد العالم الإسلامي.

          ففي الدولة الفاطمية، مثلا، كانت الاحتفالات من أهم دعائم سياسة الدولة تجاه المصريين، وبما كان القصد منها المبالغة في إظهار عظمة الدولة الشيعية الإسماعيلية في عيون رعاياها السنة. وربما كانت الدولة الفاطمية تتصرف بمنطق «حكومات الأقلية» على حد تعبيرنا المعاصر. ومما يثير الدهشة في هذا الصدد أن المصريين لم ينبهروا باحتفالات الفاطميين وإنما «مصروها» فقد تركوا للفاطميين احتفالاتهم الرسمية وحولوا رمضان إلى مناسبة دينية / اجتماعية زاهية أريجها التقوى والتدين والفرح معا، وهو التراث الذي تراكم مع الزمن حتى بات من سمات مصر في رمضان على مر العصور. ولم ينس المصريون أن أول ما فعله جوهر الصقلي كان لإلغاء موكب استطلاع هلال رمضان الذي بقي مناسبة مهمة لديهم. وزاد من حنقهم أنهم ظلوا طوال الفترة الفاطمية لا يحتفلون بالرؤية لأن الفاطميين كانوا يعتمدون على حساب شهر رمضان ثلاثين يوما.

          كان الخليفة الفاطمي يركب في عدة مواكب دينية، منها «ركوب شهر رمضان، وهو الموكب الثاني، حسب ما ذكره القلقشندي والمقريزي وغيرهما نقلا عن المصادر الفاطمية»... وهو قائم عند الشيعة مقام رؤية الهلال... «وهو موكب عظيم له ترتيبات معقدة (بروتوكول) وفيه يخرج الخليفة»... في ثيابه المختصة بذلك اليوم وعلى رأسه التاج الشريف، والدرة اليتيمة على جبهته... متقلدًا بالسيف العربي وقضيب الملك في يده...» ومعه الوزير وكبار رجال حاشيته وجيشه ودولته «... وفي أوائل العسكر ومتقدميه والي القاهرة ذاهبا وعائدا لفسح الطريق، وتسيير من يقف...» ويسير الموكب تصحبه الموسيقى من باب القصر، ويدور حول جزء من سور القاهرة من باب النصر حتى باب الفتوح، ليعود إلى القصر ويوزع هداياه وعطاياه المعتادة على رجال الدولة. هذا موكب رسمي لا علاقة له بالناس سوى المشاهدة والفرجة. ولهذا السبب، وأسباب أخرى، كان الناس يحتفلون برمضان على طريقتهم التي توارثتها الأجيال، والتي سوف نتحدث عنها بعد قليل.

          وكان من عادة الخلفاء الفاطميين الخروج في مواكب لإمامة الصلاة الجامعة في الجمع الثانية والثالثة والرابعة من شهر رمضان: كانت الجمعة الثانية في الجامع الأنور داخل القاهرة التي كانت مدينة للخلفاء وحواشيهم وحاميتهم، والثالثة في الجامع الأزهر بالقاهرة أيضا، على حين كانت الجمعة الرابعة في الفسطاط، التي لم يكن أهلها يحبون الفاطميين والتي كانت عاصمة مصر الاقتصادية والاجتماعية والثقافية في ذلك الزمان.

          وفي عصر سلاطين المماليك كان اهتمام الحكام بشهر رمضان يأخذ شكلا مختلفا لأن سلاطين المماليك، منذ عهد السلطان الظاهر بيبرس، حرصوا على الواجهة الدينية للحكم كسبا للشرعية التي حازوها شكلا بعد إحياء الخلافة العباسية في القاهرة. كان الاحتفال برؤية هلال شهر رمضان، الذي وصفه الرحالة ابن بطوطة وغيره من أهم مظاهر الاحتفال برمضان، بيد أنه لم يكن احتفالا حكوميا خالصا مثل احتفالات الفاطميين وإنما كان احتفالا شعبيا تحت رعاية الدولة. فقد كان قاضي القضاة الشافعية المسئول رسميا عن الرؤية وموكب الرؤية. وفي بعض الأحيان كان ينشب خلاف بين شهود الرؤية مما يجلب على القاضي غضب الناس والحكام. ومن الطريف أنه حدث سنة 902 هجرية / 1497م (أي قبل سقوط الدولة بخمس عشرة سنة) أن أراد السلطان الطفل محمد بن قايتباي من قاضي القضاة أن يعلن نهاية شهر رمضان وأن عيد الفطر في اليوم التالي، وعندما رد القاضي بأن هذا لا يمكن إلا برؤية الهلال، غضب السلطان (الطفل) وأراد عزل القاضي.

رمضان المماليك

          وقد جرت عادة سلاطين المماليك على استدعاء القضاة والفقهاء والعلماء إلى قلعة الجبل (مقر الحكم في مصر منذ عهد السلطان الكامل الأيوبي) لقراءة صحيح البخاري طوال شهر رمضان من كل عام. وفي فترة لاحقة انضم إليهم عدد آخر من الطلاب والموظفين. وفي هذا الحشد كانت تجرى مناقشة المسائل الفقهية. وكان النقاش يحتدم أحيانا في حضور السلطان بحيث يتجاوز بعض الفقهاء حدود أدب النقاش كما حدث سنة 838 هجرية / 1434م في حضور السلطان الأشرف برسباي الذي أمر بإحضار «الفلقة والعصا» في المجلس لتأديب المتجاوزين. وبعدها بسنوات قليلة منع السلطان جقمق الحاضرين في مجلس قراءة صحيح البخاري من المناقشة.

          تلك كانت صورا من الاحتفال الرسمي برمضان: ويضيق بنا المقام عن طرح المزيد من الأمثلة الدالة على أن الناس كانوا بعيدين هنا تماما. بيد أن الناس كانت لهم طريقتهم في الاحتفال في المدن والريف والصحراء. وسوف نقدم ثلاث صور للاحتفالات الرمضانية الشعبية في، القدس، والقاهرة وصحراء شبه الجزيرة العربية.

          في القدس، قبل عصر الحروب الصليبية، وبعدها، كان شهر رمضان مناسبة جميلة ومهمة بالنسبة للمقدسيين على المستوى الديني والاجتماعي على السواء. كان الاحتفال بشهر رمضان يبدأ قبل قدوم الشهر نفسه بتجديد طلاء الجوامع والمساجد وزيادة أعداد القناديل لتحسين الإضاءة بالمساجد. وفي التاسع والعشرين من شهر شعبان يتم استطلاع الهلال بطريقة تشبه ما كان يجري في مصر.

          كذلك كان أصحاب حوانيت الشماعين ( أي بائعي الشموع ) يوفرون أعدادا هائلة من الشموع بأحجامها المختلفة نظرا لازدياد الحاجة إليها في شهر رمضان: من الشموع الصغيرة إلى الشموع الضخمة التي كان وزن الواحدة منها يصل إلى القنطار. وكانت هذه الشموع التي عرفت باسم الشموع الموكبية، تجر على عجلات في مواكب صلاة التراويح التي كانت تطوف شوارع القدس وطرقاتها، وقد أحاط بها الصبيان وهم ينشدون أغانيهم التي اعتادوا أن يتغنوا بها في رمضان من كل عام. فقد كانت الشوارع تسبح في أضواء المشاعل والقناديل المعلقة بين المآذن والشموع الضخمة. وكذلك كان الأطفال يحملون فوانيسهم الصغيرة وهم يدقون أبواب جيرانهم ليعطوهم الحلوى والياميش.

          وكانت موائد البيوت الفلسطينية ساعة الإفطار تحفل بشتى أنواع الطعام، لاسيما المرطبات والحلوى التي كانت الكنافة والقطايف في مقدمتها. وبعد الإفطار تنتشي البيوت المقدسية بحركة الزوار الذين كانوا يتبادلون زيارة منازل الأهل والأصدقاء؛ وفي هذه الزيارات يقدمون الياميش وأصناف الحلوى الفلسطينية الشهيرة، وكان البعض يخصصون سهراتهم الرمضانية لقراءة القرآن الكريم، وإنشاد المدائح والأذكار.

          ويلفت النظر هنا أن الصورة الاجتماعية في فلسطين إبان شهر رمضان لم تكن لتختلف كثيرا عنها في مصر، ومن المرجح أن علاقات القرب الجغرافي والقربى الثقافية والسكانية كانت، ولاتزال، من أهم أسباب ذلك التشابه. وربما كانت الحقيقة القائلة إن مصر وفلسطين كانتا على امتداد معظم فترات تاريخهما كيانا سياسيا واحدا وراء تفسير هذه الظاهرة الاجتماعية التاريخية.

          ويقودنا هذا بالضرورة إلى عرض بعض صور الاحتفال الشعبي بشهر رمضان في مصر، وهي صور من عصور تاريخية مختلفة سجلتها كتابات المؤرخين من جانب، كما رصدتها عيون الرحالة من جانب آخر. ومع الأسف أننا لا نجد في المصادر التاريخية التي في متناولنا المعلومات الكافية عن الاحتفالات الشعبية قبل عصر سلاطين المماليك.

          كان عصر سلاطين المماليك هو العصر الذي شهد نضج البيئة الاجتماعية المصرية ورسخت فيه معظم العادات والتقاليد. فقد كان ليل المدن المصرية، والقاهرة في مقدمتها، يتحول إلى نهار بفعل تلك المئات من المشاعل والفوانيس والشموع المقادة في الأسواق والحوانيت، وعلى الحبال الممتدة بين مآذن المساجد عبر الشوارع، وفي أيدى الناس السائرين بالطرقات. وقد لفت انتباه الرحالة الأجانب الذين تصادفت زياراتهم للقاهرة مع قدوم شهر رمضان أنها مدينة لا تنام من كثرة الأضواء وبقاء الأسواق والحوانيت مفتوحة حتى بزوغ الفجر. وقد لاحظ الرحالة المسلمون والأجانب أن مطاعم القاهرة كانت تظل مفتوحة يوميا من الغروب حتى تقدم الطعام لزبائنها وقت الإفطار ووقت السحور، ولاتغلق سوى قبل صلاة الفجر. ومن الطبيعي أن هذه المطاعم كانت تغلق طوال النهار حتى قبيل أذان المغرب. وكان من عادة القاهريين من أبناء الطبقة الوسطى والفقيرة أن يتناولوا طعامهم جاهزا في المطاعم، ومن ثم كان طبيعيا أن يعتمدوا عليها في وجبتي الإفطار والسحور. ولاحظ ابن الحاج الذي أقام بالقاهرة في بدايات القرن الثامن الهجري / الرابع عشر الميلادي أن أضواء الفوانيس المعلقة على الحبال الممدودة بين المآذن في ليالي رمضان، كانت علامة على استمرار فترة السماح بالأكل والشرب وغيرهما من محظورات رمضان، فإن أطفئت الفوانيس بدأ الصيام.

          وكانت أسواق المدن المصرية تزدهر بشكل كبير في أثناء شهر رمضان: إذ كانت القاهرة بمنزلة معرض كبير لكل منتجات العالم المعروف آنذاك، وكان طبيعيا أن يتم الاستعداد لشهر رمضان واستيراد أصناف الياميش والتوابل من بلاد الشام والهند، وكانت الأسواق تموج بروادها، وتزهو بأضوائها. ومن ناحية أخرى، كانت حلقات المداحين والمنشدين، ومجالس قراءة القرآن الكريم، ومواكب صلاة التراويح من الملامح الرئيسية للمدن المصرية في شهر رمضان، وتموج الخلفية بضجيج الأصوات الصادرة عن ألعاب الأطفال وأغانيهم لترسم صورة جميلة لمدينة عالمية انبهر بها كل من زارها في تلك العصور.

رمضان في مصر العثمانية

          وفي العصر العثماني التقطت عين الرحالة التركي «أوليا جلبي» الذي زار مصر في القرن السابع عشر الميلادي، صورة احتفالات رؤية هلال شهر رمضان، فقال: «...وإذا كانت ليلة الرؤية، أي ليلة الشك في ظهور الهلال ورؤيته أم لا، اجتمع البك المحتسب والصوباشي (أي رئيس الشرطة) ومع كل منهما خمسمائة رجل من أتباعه، فيذهبون إلى القلعة بعظمة ووقار واحتشام، وهم يدقون طبولهم،... «ويقابل المحتسب الباشا الذي يمنحه حزاما من القصب وعمامة، ويطلب منه أن يسأل»... أرباب الشرع الرسولي المبين ومشايخ المذاهب الأربعة وسماحة قاضي العسكر.... «عن رؤية هلال رمضان المبارك، ثم يتم استعراض جنود الباشا في ميدان السراي بالقلعة، وبعدها تنزل المواكب في نظام محدد حتى تصل جامع محمود باشا وقت الغروب فتقف المواكب وتكف موسيقاهم عن العزف. ويصلي البك المحتسب وبعض الضباط صلاة المغرب ويتأخرون قليلا بالمسجد حتى يسدل الليل ستار الظلام. ويتم تجمع المواكب التي يديرها البك المحتسب، وإذا خرج المحتسب من الجامع وركب جواده، أطلقت الفرق العسكرية طلقة نارية دفعة واحدة، وكبرت تكبيرة واحدة مدوية وترددت أصداء عبارة «الله أكبر» في جميع أرجاء القاهرة. ثم سار الصوباشي ومعه سبعمائة من رجاله المسلحين بالنبابيت ونحو ألف من فرسان العربان وثلاثمائة مشعل. ويخرج مئات العازفين والمطربين والرقاصين والمشعوذين في موكبهم الصاخب.

          تظل القاهرة في تلك الليلة ساطعة الأنوار حتى الفجر. ويطوف بها الموكب الذي يضم عدة طوائف. وقد عدد «أوليا جلبي» الطوائف التي كانت تشترك بمواكبها في تلك الليلة بتسع وعشرين طائفة، ثم يأتي موكب الجيش ختاما لمواكب ليلة الرؤية. وينتهي هذا الموكب عند سراي قاضي مصر، وبعد عدة ترتيبات بروتوكولية تطلق مدافع القلعة أربعين، أو خمسين، طلقة مدفع. وتنار منارات ثمانمائة وستين جامعا بالقناديل «... ويذهب الناس إلى المساجد لإقامة صلاة التراويح وينوون الصيام صباحا...» وبعد ذلك ينصرف الموكب الكبير حتى قصر المحتسب، ثم يتفرق أهل كل طائفة إلى حالهم وتبقى القاهرة ساهرة حتى الفجر.

رمضان القرن التاسع عشر

          ومن الأجانب الذين سجلوا الاحتفال برمضان في قاهرة القرن التاسع عشر الإنجليزي «إدوارد وليم لين» الذي بدأ زيارته الأولى لمصر سنة 1825م، وعاش في مصر وتعلم اللغة العربية ثم عاد إلى بريطانيا سنة 1828م، واستمرت زيارته الثانية لمصر على مدى الفترة ما بين عامي 1833- 1835م. وقد أتاحت له هذه الفترة الطويلة التي عاشها بمصر، في أثناء حكم محمد علي باشا، الفرصة لأن يرى ويفهم أفضل من الرحالة العابرين.وقد وصف لين ليلة الرؤية حين يتوجه العديد من الأفراد إلى الصحراء بعد الظهر حيث الجو الصافي الذي يساعد على رؤية الهلال، وينطلق المحتسب وشيوخ بعض الحرف ولفيف من أتباعهم، وفرق الموسيقى، والصوفية بقيادة بعض العسكر في موكب من القلعة إلى دار القاضي في انتظار شهادة رؤية الهلال. ويصف لين الموكب بعد ثبوت الرؤية بعبارات تدل على أن الأمر لم يختلف كثيرا عما وصفه أوليا جلبي قبل قرن من الزمان تقريبا.

          «... ويمضي المصريون شطرا كبيرا من تلك الليلة يأكلون ويشربون ويدخنون، وترتسم البهجة على وجوههم إذا ما أعلن أن الصيام في اليوم التالي...».

          وفي نهار رمضان تكاد الشوارع والطرقات تخلو من روادها، وتغلق المحال أبوابها «... ويكون المسلمون طوال صيامهم نهارا نكديي المزاج، ثم يتحولون ليلا بعد الإفطار إلى أشخاص ودودين ومحبين بشكل غير عادي... ومن الشائع في رمضان رؤية التجار في متاجرهم يتلون آيات القرآن الكريم، أو يؤدون الصلوات، أو يوزعون الخبز على الفقراء». «وقد وصف لين موائد الإفطار وعادة المصريين في كسر صيامهم بعد أذان المغرب بكأس من الخشاف (عادة من التمر والتين والزبيب الجاف المنقوع في الماء عدة ساعات)، وبعدها يؤدون صلاة المغرب».. وبعد ذلك يتناولون الفطور الدسم من اللحم وغيره من أطايب الطعام، ثم يؤدون صلاة العشاء وبعدها صلاة التراويح...».

          أما ليل القاهرة في رمضان فكان يتدفق بالحيوية والتنوع: فبعد الصلاة كان البعض يمضون إلى منازل الأصدقاء، أو يرتادون المقاهي «... حيث تتم اللقاءات الاجتماعية، أو يستمعون إلى رواة السير والحكايات الشعبية، أو عزف الموسيقى من الموسيقيين الذين يسلونهم في كل ليلة من ليالي رمضان. وتمتلئ الشوارع بالناس طوال شطر كبير من الليل وتظل محلات بيع المشروبات والمأكولات مفتوحة...» وكان بعض علماء القاهرة يقيمون حلقات الذكر في منازلهم كل ليلة طوال الشهر.

          كان المسحراتي من ملامح شهر رمضان، وكان لكل حي من أحياء القاهرة المسحراتي الخاص به حسبما ذكر لين، ويطوف شوارعها وأزقتها يحمل الباز (طبلة المسحراتي) وفي يده اليمنى عصا صغيرة أو قطعة من الجلد يدق بها على طبلته... ويتجول قبل الإمساك بساعة ونصف الساعة تقريبا ليوقظ الناس لتناول السحور وهو ينشد بعض الأغاني الخاصة برمضان.

          وقد كانت صوفيا بول، أخت إدوارد وليم لين، قد أقامت فترة في القاهرة من 1842 إلى 1846م، وكتبت عدة رسائل ظهرت في كتاب بعنوان «المرأة الإنجليزية في مصر: خطابات من القاهرة». وفي خطاب من هذه قالت: «اليوم هو الثاني من رمضان، شهر الصيام. إنني أشفق من كل قلبي على كل صائم. فالجو عاد ثانية للحرارة، ومن المدهش أن يحافظ المرء على هذا الفرض ويحرم نفسه من الطعام من مطلع الفجر إلى غروب الشمس، ولو جرعة ماء...».

          ووصفت «صوفيا بول» شوارع القاهرة التي اعتبرتها تعكس صورة مسلية لتصرفات الأهالي، فبعضهم يجلس عاطلا ممسكا بعصا مزركشة أو مسبحة في يده، على حين ترى أولادا يصومون للمرة الأولى، بل بعض الرجال أيضا، وهم يحاولون الترفيه عن أنفسهم وتسلية صيامهم بألعاب صبيانية. أما علية القوم من المسلمين، فغالبا ما كانوا يحولون الليل نهارا خلال شهر رمضان، ولهذا لم يكونوا يظهرون في الطرقات لأن معظمهم كانوا ينامون من الفجر حتى العصر، ومنهم من يفطرون في الخفاء وقد أدهشتها صيحات الفرح التي كانت تعلو وتملأ أصداؤها أرجاء المدينة حينما ينطلق مدفع القلعة وقت المغرب معلنا نهاية الصيام «... ولا يوجد صوت يضاهي روعة صوت أذان العشاء وهو ينطلق من المآذن العديدة في القاهرة... حينما تكون الريح مواتية يمكننا سماع ما يقرب من مائة صوت رخيم في وفاق تام وقور، يقف المؤذن بين السماء والأرض ينادي البشر لعبادة رب الكون...».

          ثم وصفت صوفيا الإفطار وموائد الطعام والمسحراتي، وإن أبدت ضيقها من الجلبة و«... تنوع الأصوات التي تزعج ليالي هذا الشهر المتعب...» ولم يختلف كلامها عن المسحراتي وأذان الفجر عن كلام أخيها «إدوارد وليم لين».

          ولدينا عين رحالة من النساء، هي «وينفريد بلاكمان» وسجلت شهادتها في كتابها «الفلاحون في مصر العليا». عاشت هذه السيدة حوالي ست سنوات بين الفلاحين في الصعيد أوائل القرن العشرين وقد كتبت: «رمضان هو شهر الصيام عند المسلمين. ويجب على المؤمن أن يمتنع عن الطعام من قبل طلوع الشمس إلى ما بعد الغروب. والحرمان الأشد هو أنه في جو مصر الحار الجاف يجب ألا تمر نقطة ماء من بين شفتيه.

          ودائما ما يتملكني الإعجاب بالطريقة الشجاعة المرحة التي يتحمل بها الفلاحون المساكين هذا الاختبار الصعب..». وعلى الرغم من أن هذا التعليق يكشف عن أن السيدة بلاكمان لم تستوعب فكرة أن الفلاحين يؤدون فريضة دينية طلبا لرضاء الله، فإنها اعتبرت الصيام سببا إضافيا لإعجابها بالفلاحين في الصعيد «... وهم يقومون بأعمالهم بالخفة نفسها التي يظهرونها في جميع الأحوال. إنه اختبار لقوة كل من عليهم أن يعملوا. كما أنه اختبار لقوة المسئولين الذين يحرصون على الصوم مع قيامهم بجولات التفتيش أو التحقيق في الجرائم...».

في صحراء الجزيرة العربية

          وإذا كنا قد عرضنا لبعض ما كتبه المؤرخون، وسجلته عيون الرحالة، في المدن والريف، فإن لدينا صورة طريفة قد سجلها رحالة إنجليزي في صحراء شبه الجزيرة العربية في الربع الأخير من القرن التاسع عشر. الرحالة هو «تشرلز مونتاجو دوتي» الذي عاش في صحراء شبه الجزيرة العربية قرابة عامين 1876- 1878م وسجل رحلته في كتابه الموسوم «ترحال في صحراء بلاد العرب». وعلى الرغم من انحيازه وتقلبه في أحكامه ضد الإسلام (وهو ابن التعصب الأوربي المقيت في القرن التاسع عشر)، فإن الوصف الذي أمدنا به عن رمضان في صحراء تيماء يستحق التسجيل:

          «حول نيران الحراسة راح الناس يتساءلون فيما بينهم عما إذا كانوا جرحوا صيامهم في ذلك اليوم الذي حدده بعض شيوخ هؤلاء البدو على أنه اليوم الأول من شهر الصوم...». وغالبا ما تكون رؤية هلال رمضان في اليوم الثالث من الشهر، وبعدها يصوم الناس اعتبارا من ثبوت الرؤية. ورد بعض الحاضرين بأن الناس في المدن يعتمدون على الهندي (أي الحساب الهندي) في تحديد الشهر، وهم يقولون إن ذلك الحساب دقيق ولا يخطئ مطلقا.... «ثم استطعنا مشاهدة القمر عند الغروب وكان عمره ثلاثة أيام»... وراح البدو يحيون تلك العلامة السماوية بشيء من الأدعية الدينية. وخاصة أن تلك العلامة جلبت لهم شهر التدين والتقوى. سكان الصحراء يلتزمون الصيام بدقة بالغة في ذلك الشهر الفضيل... «وذكر دوتي أن رمضان عند البدو إرهاق غير عادي» ... إذ يصبح من الصعب على هؤلاء البدو الامتناع عن الشرب وعن تدخين التبغ لحين غروب شمس الصيف، بل إن المتزوجين يفترقون عن زوجاتهم طوال شهر الصوم، والبدو الرحل والقرويون يقولون إن شهر الصوم يتعين الحفاظ عليه نظيفا طاهرا.... والذين يراعون الصيام والصلاة خلال هذا الشهر من بين البدو لا يزيد عددهم على النصف بأي حال أما بقية البدو فمن الجهال بمعنى أنهم لا يعرفون كيف يؤدون الصلاة...».

***

          كانت هذه رحلة بين أقلام المؤرخين وعيون الرحالة الذين كتبوا عن رمضان في بعض مناطق العالم الإسلامي في أزمنة مختلفة. ومن الطبيعي ألا نستطيع تقديم تفاصيل ما رسمته كتاباتهم ومشاهداتهم في هذه الصفحات القليلة، ولكن الموضوع يستحق الدرس والتحليل على نطاق أوسع وبطريقة أشمل، وأرجو أن أستطيع يوما إنجاز مثل هذه الدراسة.
-------------------------
* أكاديمي من مصر.

----------------------------------

لعَمري لقد نُوديتَ لوْ كنتَ تسمَعُ؛
                              ألمْ ترَ أنَّ الموْتَ مَا ليْسَ يُدْفَعُ
ألمْ تَرَ أنَّ النَّاسِ فِي غَفَلاتِهِمْ
                              ألمْ تَرَ أسبابَ الأمُورِ تَقَطَّعُ
ألمْ تَرَ لَذّاتِ الجَديدِ إلى البِلى؛
                              ألمْ تَرَ أسْبابَ الحِمامِ تُشَيَّعُ
ألَمْ تَرَ أنَّ الفَقْرَ يعقِبُهُ الغِنَى
                              ألَمْ تَرَ أنَّ الضِّيْقَ قَدْ يَتَوَسَّعُ
ألَمْ تَرَ أنَّ الموتَ يهتِرُ شبيبة
                              وَأنّ رِماحَ المَوْتِ نحوَكَ تُشرَعُ

أبوالعتاهية

 

 

قاسم عبده قاسم*