رسائل قاضي إشبيلية... حيرة السؤال بين العدل والقانون

رسائل قاضي إشبيلية...   حيرة السؤال بين العدل والقانون

لا يمكن أن يغيب عن الضمائر الحية ذلك الموقف المتميز بين غاندي والقاضي الإنجليزي عندما مَثُل أمامه غاندي متهماً بالتحريض. وقف غاندي في القفص ليقول كلمة حفظتها الأجيال التالية: «.. أنا أقف هنا لأتقبل، ليس أخف عقوبة تفرضونها، بل أقساها؛ إنني لا أطلب الرحمة، ولا أتوسل لتخفيف العقاب عني، إنني هنا أرحِّب وأتقبل راضياً أقسى عقوبة يمكن معاقبتي بها على ما يعدّه القانون جريمة مقصودة، وما يبدو لي أنه أسمى ما يجب على المواطن أداؤه». 

كان غاندي محامياً، يعرف الفرق بين العدل والقانون، لذا سجَّل للتاريخ رأي العارف الخبير. 
وجاء دور القاضي الإنجليزي فنطق بالحكم عليه بالسجن، ثم وقف احتراماً له، مبدياً أسفه لاضطراره للحكم بسجن رجل وطني وقائد عظيم لشعبه، رجل قديس بمُثله وحياته الشريفة، وتوجَّه إليه قائلاً: «اغفر لي سيد غاندي، أنا أحكم بالقانون وليس بالعدل». وأضاف: «إذا هدأت الخواطر، وقررت الحكومة تخفيض العقوبة عنك أو إلغاءها، فلن يكون هناك من هو أسعد مني». 
موقف يرسل إلينا رسالة واضحة المعالم من جهة، ويجسِّد، في الوقت نفسه، قضية إشكاليــــــة تشير إلى أن العدل فكرة مستقرة في العقل والضمير، بينما القانون نصوص ووقائع، والفرق بين العدل والقانون هو فــــرق بين الواقع والمثال: فالقاضي يحكم بالقانون الذي قد لا يتطابق مع العدل والقــــــــــــوة التي يملكها من يكون بيده الأمر، بينما العدل معصوب العين لا يميز بين قوة المصلحة ومصلحة القوة.
في معالجة ذكية محكمة فنياً عرض ألفريد فرج لهذه القضايا في مسرحيته: «رسائل قاضي إشبيلية».

توظيف التغريب
المسرحية غنية، محكمة، واضحة المنطلق، تنطلق من أرضية فكرية وتجربة فنية، انتماؤها يتجاوز تلك القسمة التقليدية التي تنطلق من ثلاثية المقدمة والعقدة والحل، وصولاً إلى المناقشة، على الطريقة الإبسنية، فالفكرة ومناقشتها جزء من نسيج العمل الفني منذ كلمته الأولى، مستحضرين التغريب والملحمية المسرحية البريختية، ولكنها بنكهة خاصة تميز بها مسرح ألفريد فرج، الذي تفرَّد بوعي مبكر لذلك البعد الدرامي الذي وظف المخيلة التاريخية العربية، وأجواء ألف ليلة منذ حلاق بغداد وما تلاها. تطرح المسرحية ذلك التمازج بين إثارة الانفعال والدهشة والفكرة الحاضرة التي توقظ عقل المتفرج كي يناقشها، فالخطاب فيها يتضمن سؤالاً ينتظر ويتوقع جواباً من المتلقي. 
اجتمعت ثلاثة عناصر لتحقق التغريب الباعث على التفكير المتأمِّل: اللغة الفصحى التي تحقق المسافة المطلوبة للتفكير، فنأت عن العامية اللصيقة بالمتلقي من دون أن تفقد حيويتها وروحها. وجاء جو التاريخ القديم المتخيل وغير المحدد في شخصياته وعصوره المختلفة، لكل حكاية من الحكايات الثلاث مكان وعصر مختلفان، وتم تجريد الشخصيات من واقعيتها المباشرة من دون أن تفقد ملامحها الإنسانية، كما سنرى.
أمامنا فعل مُغرب بامتياز؛ حتى يكون التمعن صافياً والتفكير سيداً للموقف، فاختياره لهذا الإطار الذي دارت فيه هذه الحكايات يسمح باتساع وتجرُّد المناقشة بإزالة التأثير أو الإنحياز العاطفي المباشر.
 
الحكاية من أولها 
قاضٍ يعتزل فيُكلِّفه الوالي برواية أعجب القضايا التي مرت عليه، فاختار البدء بالتساؤل عن الحد الفاصل بين مثالية العدل الذي ينشده، وواقعية القانون الذي يطبقه، من نقطة التناقض بين هذين المتلازمين يختار ثلاثاً من الحكايات، كل واحدة منها تمسك جانباً من جوانب التنازع بين العدل والقانون، فتُجلّي جوانبه الشائكة. وتَصَدَّر كل واحدة منها عنوان دال عليها: «الأرض»، «العقاب»، «السوق»، وهذه العناوين متسقة في ما بينها، كل واحد منها يسلم بحكايته إلى التالية لها حتى نحط في المحطة الأخيرة. 
يطرح القاضي في البداية حدود هذه القضية، كاشفاً الحيرة بين العدل والقانون، ويضرب مثالاً: «أن تعرف الفرق بين النهضة (الثورة والتغيير والإصلاح) والفتنة. الأنبياء خرجوا فأحدثوا النهضة، والأشرار خرجوا ليحدثوا الفتنة. القاضي لا يفحص نية الخروج، بل ينظر إلى الخروج نفسه، باعتباره خرقاً للقانون». 
يختفي وراء أحداث كل حكاية سؤال محوري. في الأولى: من أحق بالأرض، مالكها أم معمِّرها؟ وفي الثانية: هل طرق التملك حق مطلق، يتساوى فيه طريقا الخير والشر، اعتماداً على قانون التعاقد؟ والثالثة: ما المعتمد في عملية البيع والشراء، الثمن أم القيمة؟ هل السلعة بتكلفتها وربحها للبائع، أم قيمتها وحاجة المشتري إليها؟

الحكاية الأولى: الأرض
الأرض محل العيش والصراع، تنقلنا الحكاية إلى عالم البدائية الأولى، وتقدم أولى المعادلات: الأرض المعطاء والإنسان العالة عليها، فالحطابان علي وحسن، يأخذان من الأرض ما تجود به ابتداء، أولهما، علي، يشكو من وضعهما البائس، ويريد أن يحتطب بأرض الأمير محمود الذي جعلها للصيد، يحذِّره صاحبه، فيرد عليه: إن الطيور تطير كما تشاء، يضرب علي فرع شجرة، يُسمَع رنين، يبرز باب أرضي ينزل في فجوة. قاعة فيها صبية تستقبله، يشكو جوعه فتصفق بيديها فيأتي من التراب كباب، إنه التراب (الأرض) التي تنبت كل خير. للجارية قصة، أحبت ابن عمها، نافسه العفريت قلاع الذي خطفها واعتقلها في هذا المكان. يشكو لها علي عمله في الحطابة وظروفها، تدعوه لأن يكون فلاحاً، فأرض الله واسعة. 
يفيق من هذا الحلم، أو التجربة، ويدرك من خلال الحكاية الأسطورية أن الأرض فيها خير كثير لمن يعمرها ويزرعها. وتبرز معادلة أساسها أن الأرض خُلقت حرة، ولكن هناك من جاء واعتقلها، تماماً، مثل الصبية التي خطفها العفريت واعتقلها، فاصطدم بحقيقة الاغتصاب؛ وكما اعتقل العفريت الصبية لمتعته، اعتقل هؤلاء الأمراء الأرض لمتعتهم: الصيد، وفي هذه معادلة بين اغتصابين. 
ويندفع علي لزراعة الأرض، ليصطدم مباشرة مع قانون الملكية، وتتفجر القضية الكبرى وهي: هل هذه الأرض لهذا المالك المسيطر الذي سوَّرها، أم ذاك الذي عشقها وزرعها؟ 
 الإجابة الأولى أن الأرض لمن يحرثها، والمرأة لمن أحبها ووهبها نفسه بالزواج، وكما الجارية تريد الفكاك من خاطفها العفريت، فالأرض، أيضا، تريد الطلاق من معتقلها.
 هذه المعادلة بين الاغتصابين تتجسَّد في الخلط الكلامي عند علي عندما تحدَّث عن الأرض، فينتقل الى الجارية المعتقلة موحداً بينهما، يقول: إني أعلم أن المرأة تختار من تحب من الرجال، وتقول له وهبتك نفسي فيكون الزواج صحيحاً. ويتحدد هذا الخلط الكلامي في قوله أيضاً: اعتقلها فعطَّشها وجوَّعها وأفقرها وعذَّبها وقبَّحها وساطها.
كلماته تذهب إلى الاثنتين: الأرض والصبية. ولكن القانون ينحاز للملكية، فيحكم القاضي لها، فيتم قلع الزرع، ويظل عشق علي ثابتاً، يعود إلى الأرض فيطرد ويقتلع ما زُرع. ويستشعر القاضي العدل في تعليقه الأخير: «... ومهما كانت الناس تصدق ما يروى عن قوة عشق الرجال للنساء، فإن أكثرهم يهزون الرؤوس ويبتسمون الابتسامات الغامضة وينظرون النظرات المستريبة المسترخية إذا جرى الحديث عن عشق الرجل للأوطان أو الأرض أو الحرفة والصنعة والفكرة والخاطر أو للسعادة أو للحق! فهل يأتي زمان غير الزمان.. لا يرى الناس غرابة في هذه المسألة؟».
تُبرز هذه المسألة بُعدين أساسيين أولهما مفهوم الملكية، «ومحلها» الأرض، وكما قيل: إن أول «سارق» هو من سوَّر أرضاً وقال هذه لي. 
والبعد الآخر: العمل هو المدخل الوحيد للملكية، فالأرض لمن يحرثها ويزرعها، لا لمن يملكها. 

الحكاية الثانية: العقاب
ترتكز الحكاية الثانية على ما حدث في الحكاية الأولى من فرض لقانون القوة المؤدي إلى سطوة قانون التملك، الذي سيرتفع إيقاعه إلى حالة التوحش في الاستغلال. استحضرت واستمدت هذه الحكاية أحداثها من «المقامة المضيرية» لبديع الزمان الهمداني. نلتقي بأبي صخر، التاجر الانتهازي، ونتعرف على مظالمه، فاستغل العلم وسخره له في شخصية معلمه أبي الفضل واستغل جهالة غلام، ابن جاره المتوفى، فاستولى على بيته، وتصيد حاجة المرأة فسلبها عقدها بأبخس الأثمان. 
هذا التاجر هو تجسيم لما وصل إليه عالم السوق انطلاقاً من توجهات التملك؛ يستغل الحاجات ويرتب لها لتتنامى ثروته على حساب العلم الذي استغله وأهانه، وحق التبادل العادل والأخوة الإنسانية والشفقة الحق. لقد استباح العقل والاقتصاد والجهد الإنساني. عاش على استثمار النكبات: استنبط الربح من الحريق، وانتفع من الطاعون، وتسقَّط مال المسلمين بالثمن البخس أيام النكبات والغزوات. تسبب في موت ابن صاحبه، وفي تعذيب أم الولد، وتحقير أستاذه واستغلال ضيفه. انتفع بنكبات الخلق، بل يتمناها لهم، ويساعد على إحداثها وافتعالها؛ فهو من أهل الفتنة ومن أهل الشماتة، معوج الشعور، فاسد العقل، خبيث الطويَّة... فأين القانون؟ أما أبوصخر، فيرى الأمر من زاويته، فمعاملاته بيع وشراء، فهل حرَّم الله البيع والشراء؟
القاضي يعلق: «انظر - عافاك الله - في غرابة البيع والشراء، وحكم القانون فيهما بسيط وقاطع.. التراضي والعقد، فأين في القانون ما يثيره البيع والشراء أحياناً من مشاعر السخط أو الجوع أو الخوف أو المرارة؟ البيع والشراء يطرحان المسائل المعقدة على النفس، على الأخلاق، على المنطق، وكما أن الواقع دائماً أقوى من النظر، فالحركة أقوى من قانون السوق».
لقد خرجت بنا هذه الحكاية، الثانية، من البدائية إلى بدء زمن التحضر الأولي، وهو زمن لم تستو فيه بعدُ القيم العليا، فكان اختيار عنوان «العقاب» لها دالاً على مسار الملكية، وتأتي الأحداث محققة لدلالة هذا العنوان، كما أنه جسَّد المعنى العام المستكنّ فيه، وتندسُّ في سطور الحوارات مؤشرات دالة على هذا العنوان. ورد اسم العقاب في الرسالة الأولى، تقول الشحاذة التي واجهت عليّاً بقناع العجوز: 
«ألا تعرفني يا ضال؟ أنا جارية العقاب. وحش الطير اختطفني ليلة عرسي وحبسني فوق جبل البركان، أغضبته فقلبني شحاذة، مهما قدموا لي من طعام أعافه وأتضور من الجوع، ومهما وضعوا على جسدي من ثياب تتهرأ حتى تسقط عني، فأنا عارية.. فهل تعرفني؟». ويُكَرر الوصف، على لسان «أبوالفضل»، المعلم الذي سخره أبوصخر، يقول: «كنت أقرأ للدجاجات، أحذِّرها من العقاب... العقاب طير من وحوش السماء، يشم رائحة الموت ويتبعه، ويرصد القوافل، الإنسان والحيوان. ويعلم قبلهما أنهما ضلا وأنهما سيقضيان. ينتظر القضاء ويعقبه، يسقط على الجثث أو على من به الرمق الأخير، فيجهز عليه وينهش لحمه».
هذا الوحش الكاسر هو الاسم المعادل للتاجر الانتهازي، أبي صخر، وننتبه هنا إلى لعبة الأسماء، قسوة العقاب = اسم أبي صخر، وطريقة العقاب = طريقة أبي صخر في الاستحواذ الذي تذرع بالقانون، ليشيع في السوق الاستغلال، بل الاحتيال والاغتصاب من الطرق القانونية للتملك، وانسجمت الأحداث وتطوراتها مع هذا المسار السلبي، فالحكم الذي صدر ضد علي في الحكاية الأولى، كرس شكل الملكية لا روحها، فسيطر أمثال أبي صخر، فدخلت البشرية نفق التوحش بتغطية قانونية.
 
الحكاية الثالثة: السوق
لتحدثنا الحكاية الثالثة عن هذا الأخير، ليس عن قانون السوق المنفلت، ولكنها لتضيف إليه: مرض السوق. ويبرز السؤال المحوري: ما الحكم في تقييم السلعة: تكلفتها، بائعها أم مشتريها؟
ويتولد سؤال جوهري من هذه المعادلة: هل السلعة بثمنها أم بقيمتها؟
بهذا السؤال العريض تبدأ الحكاية الثالثة: السوق. 
في السوق قانون للبيع والشراء، هو قانون التعاقد، ولكن أين موقع العدل منه؟ في التعاقد نفسه أم في التبادل العادل؟ 
التاجر نور الدين، تاجر الجواهر، يفتتح دكانه صباحاً، يقبل عليه الدلال ليأخذ ما يُدلل عليه، يعرض عليه التاجر عقداً متميزاً، الدلال يهمه معرفة الثمن، بينما التاجر مهتم بقيمة هذا العقد، ليتدارك أنه لا يصح في السوق إلا السؤال عن الثمن. ويعرض في ما يعرض جوهرة مربعة الشكل مما يتزين بها الأطفال، عليها نقوش، وجدها التاجر في تركة والده. يريد التخلص منها حتى بعشرة دنانير، ويرفض الدلال أخذها إلا بعد أن يبيع العقد. 
يذهب الدلال ويدخل المشتري الأول، يحرص على أن يقلب صندوق الجواهر بنفسه، ما أدى إلى حنق نور الدين. وفي هذه اللحظة يلتقط المشتري الجوهرة الكاسدة، ويفاجئ بعرضه التاجر نورالدين حين يعرض مائة دينار، ويظن أنه يسخر منه، فيرد المشتري بمضاعفة الثمن عارضاً خمسمائة دينار في بضاعة قيمتها لا تتجاوز العشرين. ويظن التاجر أنه لايزال يسخر منه، يرتفع الجدل، يتجمع الناس، ويطرح المشتري كيس نقوده ويدعوه إلى أن يوثق البيع، بينما كان التاجر يُشهد الحاضرين على البيع حتى لا يتراجع المشتري. وفي هذه اللحظة يدخل الدلال مصطحباً مشترياً ثانياً للجوهرة. ويلتقي المشتريان، ويحسم الثاني عرضه بأنه سيشتري الجوهرة بألف ألف دينار، وأن البيع السابق لم يتم لأنه لم يوثَّق، ولأن التاجر لا يعرف «قيمة» هذا العقد. ويزداد الصخب، ويذهبان إلى القاضي ليحكم بينهما.
وتنكشف حقيقة هذا العقد، فهو لبنت ملك الهند التي عانت منذ صغرها من صداع حار الأطباء فيه، واستطاع شيخٌ عرافٌ أن يصنع تعويذة على هيئة جوهرة، تلبسها فلا يأتيها الصداع. وبعد زمن، وبعد نزهة في بستان القصر، تفقدت الجوهرة فلم تجدها. بُحث عنها فلم يُعثر عليها، وعاودها ألم الصداع وانفطر قلب الملك، فأعلن أنه: من يشفي ابنته فهي له، ومملكة الهند من بعده. فانطلق الشباب يبحثون عن هذه الجوهرة الشافية التي «ثمنها» بنت ملك الهند ومملكته. 
ويكون السؤال الذي على نورالدين أن يجيب القاضي عنه: هل قلت للمشتري الأول أنك تبيع له.. أم أنك بعت له؟ إن قال إنه يبيع فيعني أن من حقه التراجع، فيظفر بألف ألف دينار، وإن قال: بعت، فالبيع يتم للمشتري الأول بخمسمائة دينار فقط! في هذا الموقف تتجلى العلاقة بين الثمن والقيمة؛ الثمن عشرون والقيمة غير محددة = زواج بنت ملك الهند ومعها مُلك الهند كلها؛ السؤال الكبير: هل يملك التاجر الأشياء (السلعة) أو ما تعنيه؟ إذا كانت ما تعنيه فهذا هو الهلاك. كان أمام التاجر اختياران: ما يجب أن يكون، أي السلعة بثمنها، وما هو كائن، موجود في الواقع، بإدخال أهميتها وقيمتها للمشتري، مدخلاً للاستغلال والمبالغة في السعر. 
هذا الاختيار الذي وضع بين يدي التاجر، ووقف الواقفون على أمل أن يشكك في البيع الأول. ويأتي الاختيار مفاجئاً للواقفين. قال: بعت. وسقط على الأرض ليقضي بقية أيامه مريضاً، دكانه مغلق، بينما السوق مزدهر بسبب شهادة الصدق التي شهد بها نورالدين وخسر ألف ألف دينار إلا خمسمائة. لقد سادت الثقة في السوق بسبب تضحية هذا التاجر، الذي لزم بيته، وقد حار الأطباء بمرضه، أما الناس فتقول إنه خسر رطلاً من دمه بسبب صفقة خاسرة. 
ويتدخل أمير المؤمنين، الذي أسعده ازدهار السوق، بفضل صدق نورالدين، الذي يرقد مريضاً فيدعوه إلى الحضور ليعوضه عن خسارته بأكثر مما خسر. ولكن القضية لم تكن خسارة مال، بل هي أمر آخر يكشفه نورالدين للأمير, قائلاً:
- أما الجوهرة فقد أوفت لي بربحها أضعافاً... ولكن الذي فاتني من ثمنها وراح مني بلا بيع، فهو حب ملك الهند لابنته، وفاتني أن أبيع شفاء البنت من صداعها... كان هذا وذاك عندي وتحت حيازتي، وفاتني بيعهما لأني لم أكن أعلم أنهما عندي وفي حيازتي.. ولهذا أحسست أني سرقت وخسرت خسارة جف لها دمي في عروقي... حب الملك وشفاء البنت كانا عندي.ولكن هل كنت حقاً أملكهما ويحق لي بيعهما؟ أهما شيء يُحسب في رصيد التاجر وما يملكه ويحق له؟ أيملك التاجر مجرد الأشياء التي عنده، أم يملك أيضاً كل ما تعنيه هذه الأشياء وما تنطوي عليه؟ وإذا كان أهل السوق يملكون الأشياء بكل ما تعنيه هذه الأشياء وما تنطوي عليه... فالويل للناس إذا شحت السلعة أو نقص ماء الزرع, أو ألمَّ بالمدينة وباء أو مجاعة، فيبيع التاجر مع السلعة ندرتها أيضاً، ويبيع شدة الاحتياج إليها... ولا يصبح السوق بعدُ مرفقا مدنياً، بل يصبح فخاً نصبه الشياطين وهم في ثياب التجار. إنني أسمع الناس من حولي يقولون: «مسكين نور الدين... كم خسر؟!» فيصيبني الهلع مما بي ومما بهم... هل أصابهم مثلما أصابني مرض السوق باختلال الظن والعمى عن حدود ما نملك وما لا نملكه؟ هل تلبَّستهم مثلما تلبستني شيطنة السوق بجنونها الخطر؟
ويهجر نورالدين المدينة داعياً لها بالنجاة من ويلات مرض السوق وروحه الخطرة. 
مع أن الفارق واضح بين أبي صخر الذي استغل قانون السوق لتحقيق منافعه هو فقط، ونورالدين الذي اختار عدالة البيع: السلعة بثمنها. ولكنه، أيضاً، في داخله لايزال يسكن المرض نفسه، رافضاً هذا الاختيار الرفيع، ففي داخل الإنسان تكمن الصحة = نورالدين، ويكمن المرض، أبو صخر، ساكنا في النفس.

دلالات وإشارات
في بنية المسرحية تتجلى، بجانب أسطورية الحوادث وشمولها، دلالة الأسماء، والاتكاء على تجريدها، لإعطائها بُعداً شمولياً يتجلى في أرفع مستوى له في الحكاية الثالثة (السوق).
فالعنوان يستكمل السياق السابق، بعد الأرض  (محل النزاع)، والعقاب: السلوك المنطلق غير محدد أخلاقياً أو إنسانياً، المتوحش، ليأتي الثالث، السوق، ليقدم ما يفترض من حيادية وتوازن بين حق العمل وعدالة الثمن وأخلاقية التعامل. 
في هذا الموقف تأخذ الشخصيات هذا البعد التجريدي، وأبرز ملمح نشاهده لعبة الأسماء، فقد تم إغفال الاسم المحدد، واقتصر على تحديد صفة المهنة فقط: دلال، مشتر أول، مشتر ثانٍ، موثق، قاض، أمير، طبيب، جارية. فالسوق لا ملامح شخصية فيه، ولكن خصائص مهن. الوحيد الذي أعطي اسماً هو التاجر: نورالدين، وفي الاسم إشكالية نفي للتحديد أيضاً، فالتسمية صفة دلالية أكثر من كونها اسماً على شخصية، أو حالة من حالات التفكير تداخلت مع الشخصية البشرية وامتزجت بها. 
فنورالدين من شطرين: نور + الدين، فإذا فُكك الاسم اتجه الفهم، ليس إلى شخصية، ولكن إلى صفة تذهب بالفهم إلى منطقة ضمير القيم الدينية والأخلاقية المركوزة في الطبع الإنساني والمتصلة بالإنسان المتحضِّر الذي يخرج من حالة القوة في الحكاية الأولى، ومرحلة التوحش في الثانية، لتحين اللحظة التي يجب الخروج منها، مثالياً وعقلاً لا واقعاً. 
ومن المداخل الدالة هاتان الإشارتان اللتان قوستا الأحداث، فتفتتح الحكاية صباحاً على مشهد قط متوحش دخل دكان نورالدين، فافتتاح حكاية «السوق» يبدأ بمحاولة طرد هذا القط المتوحش إيحاء بتوحش السوق. وتحوله من الألفة إلى التوحش. 
ويُختم الفصل بصوت الببغاء الذي يردد من دون فهم أو تفكير، في مقابلة لشخصيات في السوق أبرزها شخصية الدلال. 
إن مرض السوق الذي تجرد لمواجهته روحياً التاجر نورالدين الذي انتبه إلى الخلط غير المحمود الذي لم يعالجه القانون أو يدخله في حسابه, لتسود، من دون ضوابط خلقية، مقولات من مثل: «العقد شريعة المتعاقدين» و«بين البائع والشاري يفتح الله» و«دعه يمضي... دعه يسير». وهذا ما يختم به القاضي حكاياته الثلاث، مشيراً إلى أن «البيع والشراء، وقانونه التراضي والعقد، ولا يطرح السوق في الظاهر أي مسألة... وأعلم أن انتهاك الرحمة، وسقوط العدل، وشيطنة السوق تطرح ما هو أعلى من القانون، وما هو أدنى من القانون، بينما القاضي ليس له شغل ما هو أعلى أو أدنى من القانون. فانظر معي غرابة هذه المسألة» ■