محاولة لاعتقال جاسم الصِّـحَـيِّـح
ليس الطولُ الفارعُ الذي تجسّده قامته الممتدة كرمح مضيء حين يطل منطلقاً نحو أحبابه، ولا المحيّا الطلْق الذي يتّسم به دائماً وهو يستقبل عشاقه ومريديه، هما فقط ما يُمَيّز أسرار شخصيته الإنسانية الرائعة.
بل هناك عشرات المزايا تأخذك عنوةً لتقع أسيراً بين يدي هذا الـ اجاسمب... وليس الشعرُ أيضاً أولها.
فبقدر ما هو يُنـَقـِّحُ صورة شعرية في القصيدة، يُـشَـذّب عملاً إنسانياً ظاهراً في السلوك، وبقدر ما يُطَرّز كلمة جميلة على الورقة، يطرز فعلاً أكثر جمالاً علـى الأرض، حتى انتابه النصيب الأوفر من تعذيب عاشقيه.
كان يعلم بأن الشعر احتجاجٌ صريح على حياة البؤس، وإعلان ضمني لانتصار الفرح، وطموح لا حدود له بأن تصبح الحياة جنة عدن لكل المحرومين والمقهورين على مر العصور، فراح يطلق طيور المحبة المسجونة في قفصه الصدري إلى أفق أكثر اتساعاً ورحابة.
ليست مقالتي هذه بمنزلة زنزانة من الحبر اعتُقل فيها مجد شاعر أصبح أكبر من أن يمرق إلى المعنى الذي أريد عبر فرجة في الكلمات، وإن جاهَـدَ الحبر ودبّر خطة لاستدراجه إلى مصيَدة.
امتزج الشعر بالقيمة الإنسانية الرفيعة، الصدق، فكان جاسم الصّحَـيِّـح، الذي أدلى بتصريح مثل هذا، ذات قصيدة:
لا شيء إلا الصدق أحمله معي
فإذا نطقتُ فمعجمي أحشائي
وما ذاك إلا لأن جاسماً هو فعـل حـبٍّ مضارع غير خاضعٍ للجازمة والناصبة، وفعل مستمر لا يدخل متاهة الماضي، حيث كتب على جميع البحور ما عدا بحر الكراهية.
ولطالما كان يذهب وحده إلى القصيدة ثم يعود حاملاً معه بشائر الربيع على أكف الماء ليزفها إلى شفة السنابل والحقول.
أهدى دفاتر وجدانه الخضراء إلى طوابير البلابل الذاهبة إلى مدارسها في الصباح، فسال الغناء مطراً طروباً على كل منقار يرش المسالك والدروب التي تتورّق بالحب وتزهر بالنماء.
اشماغه... دماغهب كما صدح وأفصح في أحد أبيات قصيدته اما وراء حنجرة المـُـغـَنـّيب، وهذا أيضا هو عنوان الديوان الذي فيه هذه القصيدة فيعزف:
بلى «شِماغي»... دِماغي لست أنزعه
من فرط ما اتحدت رأسي و«أشمغتي»
فهو لا ينزعه إلا في ابساطٍ أحمديب لتكون العفوية هي من تتولّى زمام الدقائق والثواني وتستدرجنا معه إلى مؤامرة السهر اللذيذ، فيما يظل دماغه مكشوفاً كزهرة ياسمين، يعبق بعطر الحديث المؤنس، وينشر أريج الحكمة الذي يفوح من مواقفه وتجاربه، وإذا دهمه الشعر نزع االشماغ والدماغب معاً وعاش وحدة القصيدة.
لا يمثّل غير عاطفته حين يوقع اتفاقيةَ تعاونٍ مشتركٍ مع الحب، أو حينَ يعقدُ صفقـةً تجارية مع الجمال حتّى وإن كان هو الطرفَ الخاسرَ فيها، وعادةً ما يكون.
ولهذا تصلُ به النوبةُ كثيراً إلى حدّ تذمّرٍ شاعريّ من أشياء لا يراها، وغضبٍ لا يخرجُه من حدود الأدب، فهو يكتب سيرة قلبه الذاتية بإتقان.
يكره المبالغةَ إلاّ في الثناءِ على الآخرينَ حبّاً وأدباً، ويبغضُ التطرفَ إلاّ هياماً حينَ يكون معرّضاً للهلاكِ على رمشِ امرأةٍ فاتنة.
إحساسه العميق بالحرمان أحياناً، يجعل منه بطلاً جريحاً في مشهدٍ دراميٍّ يُكثِـرُ فيــه من العتاب على الظروف، ومن الشكوى إلى الغيب، ممتلئاً بالفجيعة حتّى يحاورَ شاكياً ما لا يرى، وما لا يجيب.
قصيدته بيانٌ رسميٌّ يصدرُ عن خلجات روحهِ، وتفاعيلُهُ هي انفعالاتهُ التي له بالمرصادِ تنصبُ الأفخاخَ أمامَهُ في حقول التجربة.
يسير ممسكاً بتلابيب القصيدة جيداً كي لا تقع منه على طريق متعرج، متمسّكاً بجدائل الأرض كي لا يتيه عن هدفه في إسعاد الإنسان، تلقائيُّ الطلةِ والإقبالِ، فهُو حبيبُ من عرفَه، له بسمة النادل في المقهى، بالرغم من شُعب الحزن في بحيرات أعماقه حيال ما يجري في هذا الكوكبِ من كراهيةٍ ظاهرةٍ، وما يدورُ في فلك الغيب من ضمائرَ مستترة.
وإصداراته تمد يدها إلى العامة، فضلاً عن النخبة، لِمَا تختزله من كثافة معرفية وشاعرية مجنحة، تتناول هموم الآخرين بأيدٍ خبيرة.
له حضورُهُ اللافتُ في محافل الأجسادِ، إلا أنّهُ مشردُ الذهن غريبُ الروح في منفىً ميتافيزيقيٍّ/صوفي، لا يعرفه الآخرونَ... اسمعه يقول:
لا يعرفُ الناسُ منّي غيرَ حنجرةٍ
يا ليتَهمْ عرفوا ما خلفَ حنجرتي
أنا الجمال الذي عيناه تنكره
هل بعد ذلك للنكران من سَعةِ؟!
لذلك، فإن المفردات حين يطلقها من أحشائه فهي تحط على شفاهه فراشات ملونة وعصافير تحترف الوشوشة والهمس، يتمشى فلاّحاً تفعيلياً كادحاً في بستان القصيدة بجد، ويحرث حقل الورقة باجتهاد.
تتلمذ على يد الينبوع والمجرى فعاد ثـَرّاً نقياً دفاقاً، بكل شيء جميل
وأما الأحساء:
قالوا وماذا عن الأحساء فاخـْتـَلـَجَـت
روح الصبابة في مكنون مكنوني
قصائدي هي أسرار النخيل فمن
لم يفهم النخل لم يفهم دواوينـي
أحسـاء حوريتي في الخلد سجلها
رضوانُ باسْـمِـيَ... في سِفـْر الميامين
وهذه الأحساء، لم تكن ستوسع رقعتها الجغرافية على خريطة الشعر العربي المعاصر لو لم يكن جاسم الصّـحَـيِّـح يستلّها مطمورة من تحت ركام السعف اليابس وأعذاق الرطب المتهدلة ليطير بها وينصبها راية مرفرفة على نواصي ناطحات السحاب في البلاد العربية الأخرى.
فبه ومعه، لم تعد الأحساء مجرد آبار نفط أو محاصيل تمر، أو كنوز كُـتـُب، وإنما أيضاً نافورة إبداع شعري مُقـَفى، حيث تلقّن جاسم إلهامه الأول من هذه الفاتنة، التي لطالما مرت عليها خيول الريح فأوجعتها وأوجعته:
النخل صلبي فما من نخلة سقطت
إلا سمعت أنين الجذع في نطفـي
ليستمر المخاض المكرر ما بين الأم وابنها الذي يفتش عن ذاته في ولاداته الكثيرة:
أحساء كم مرة أنجبتِـني فلقد
نسيت من كثرة الميلاد كم عددي
لــم تنعقد فيك أمشاج بمكرمة
إلا وناديت أمشاجي بها انعقـِدي
كأننـي منذ فجر الطلق في هَجَـر
أُدْعَى لأولـَدَ... إذْ تـُدْعَينَ كي تلـدي
خمسون شمعة أحرقها في شمعدان القافية والحرف، وتلك سجية كنا ندركها قديماً أنا ومجموعة من الأصدقاء اللحوحين، حين كنا نفتش عن خطاه في أروقة المحافل ونرقب لحظة مجيئه كطيف عابر، نتشبث بأطراف ثيابه في الأمسيات وقاعات المهرجانات... لطالما كان الناطق الرسمي باسْم أحاسيسنا والمترجم الحقيقي للغة العواطف على امتداد المنطقة حتى أصبح وجهاً أليفاً لا تنكره المناسبات ولا يضيع في زحمة الأكتاف، والركب... كنا نتلقف قصائده فتحرق أطراف أصابعنا كأرغفة ساخنة، ونحن ما نحن سوى جداول صغيرة تنسرب من بحوره الشعرية الوافرة والطويلة.
لم يشغله الإعلام بقدر ما انشغل الإعلام به، إذ كلما حاولت ذاكرة الصحافة إسقاطَه منها، باغتها وسقط فيها.
حضوره كان بدعة حسنة في مشهد الشعر العربي الحديث، وإبداعاته المتميزة والفريدة كانت تفوز بتصفيق الجماهير قبل أن تفوز بكبريات الجوائز المحلية والعربية التي لطالما كان قنّاصَ الألقابِ فيها.
وما امتلاء مقاعد أمسياته بالحضور وشحّ الكراسي إلاّ بصمة تدل على كاريزما الشعر لديه وبوصلة تشير إلى فخامة حرفه.
هذا الفارع أدباً وحباً ولطافة وسماحة وبساطة وتواضعاً جماً، لم يثنه شيء عن أن يكون كذلك بكل تلقائية.
به ومعه اكتشفتُ أن كوكباً حط في قريتي فأشرقـَتْ على القرى والمدن الأخرى حتى أصبحَـتْ لا تعرف إلا به، وها أنا أعترف، كنت مأخوذاً به، فأصبحتُ مأخوذاً به حتى ندمت على زمنٍ لم يجمعني به، وحتماً لن أندم على لحظة أقضيها بصحبته.
كيف لا وقد أصبح جاسم الصّـحَـيِّـح الرّقـْيةَ الناجعة لكل نفس نزّاعة للهموم، وأقراصاً مهدئة للأمراض النفسية والهلوسات، وربما كان هو أحد مسببات كل ذلك? لا أعلم!
ولكنني أعلم يقيناً بأن أثمن ما جادت به عليّ أقداري هو اللحظة التي أكسبتني علاقة متينة بجاسم، لأنني استطعت أن أقع على الجوهر المفقود في كنز حياتي الإنسانية، وتعلمت منه كيف أعبر نهر القصيدة إلى ضفاف الجمال، ومازال في كل لحظة يهرق في حوض أيامي قارورة من النُبل حتى نبتت عينان في رأس إحساسي تريان ذلك يقينا.
فيا سادة يا كرام أقولها لكم ولا أبالي:
احتفوا واحتفلوا بجاسم، فلم يشغل بال مُحَدِّثُكُم إلا أن يحبه إنساناً وشاعراً وصديقاً، ما أنبله... وما أجمله!
وأجدني في غمرة هذه الموجة من البوح عنه، أكتب له بريشة المودة:
صافحْ أحبّتَك الذين أتوكَ
من «أقصى المدينةِ» ظامئينَ
لِلـْيلةٍ محجوزةٍ للسُكرِ شعراً
حين تسكبكَ القصيدةُ
ملءَ أكؤسهم مدامْ
صافحْ
ومعذرةً إذا اندلقتْ عليكَ قلوبُهمْ
شفةُ المحبةِ أقسمتْ:
لا عاصماً ينجيكَ من أمرِ الغرامْ
جاؤوا على توقيتِ قلبكَ
إذ ترنّ بأفقهِ أجراسُ قافيةٍ
تنبّهُ ناعسَ الأوقاتِ من خدَرٍ
فتصدحُ أغنياتُ الحبّ
تكتنفُ السنابلَ هدأةٌ
وتعودُ آمنةً إلى أعشاشها
كلُّ الحمامْ
جاءوا أنانيّينَ فيكَ
فهل على مطرٍ
إذا احتكرَ الحديقةَ
من ملامْ؟!
أو هل على مطرٍ عتابٌ
حينَ تسكبهُ الصبابةُ
من أباريقِ الغمامْ؟
دعْ ألفَ نورسةٍ تحلِّقُ من شعوركَ
في فضاءاتِ الهوى
واكشفْ خفاياكَ التي خبّأتَ
من ولعٍ ترقرقَ صافياً
وأعرْ شقوقَ الرملِ قلبَك
والتفتْ جهةَ النخيلِ
فربّما سمحتْ لها
ريحُ المتاعبِ أن تنامْ
من أين توقدكَ القصيدةُ شمعةً
يضوي بها لهبُ المحبةِ
في أساريرِ الظلامْ؟
من أين يمسككَ البياضُ
وكيف تكبرُ في دمائكَ
وردةُ الأشعارِ
تنعتقُ المعاني
من سجونِ الحبرِ
في كفيكَ
تعتنقُ الحروفَ خميلةٌ
تزهو على شفتيكَ
من أهـْدى إليكَ متيماً
هذي الأناقةَ في الكلامْ؟! .