عندما تكون القصيدة دَفـْعاً مُضادّاً للكهولة جاسم الصِّـحَـيِّـح... أنموذجاً

عندما تكون القصيدة دَفـْعاً مُضادّاً للكهولة جاسم الصِّـحَـيِّـح... أنموذجاً

جذوة‭ ‬الشعر‭ ‬لها‭ ‬اتقاد‭ ‬وانطفاء،‭ ‬وأكثر‭ ‬ما‭ ‬يخشاه‭ ‬الشاعر‭ ‬هو‭ ‬لحظات‭ ‬خفوت‭ ‬جذوته،‭ ‬وهذا‭ ‬ما‭ ‬يجعله‭ ‬ينفخ‭ ‬فيها‭ ‬ويشعل‭ ‬أوارها‭ ‬ما‭ ‬استطاع،‭ ‬لتستعر‭ ‬من‭ ‬جديد،‭ ‬مقرّباً‭ ‬لها‭ ‬كل‭ ‬ما‭ ‬أُوتي‭ ‬من‭ ‬تجارب،‭ ‬فتعاود‭ ‬توهجها‭ ‬بقدر‭ ‬ما‭ ‬ينوّع‭ ‬من‭ ‬مشارب‭.‬

إن‭ ‬الشاعر‭ ‬يَزدادُ‭ ‬قلقاً‭ ‬عقب‭ ‬توهجه،‭ ‬لأنه‭ ‬يخشى‭ ‬عاقبة‭ ‬التوهج،‭ ‬ولا‭ ‬يقض‭ ‬مضجعه‭ ‬سوى‭ ‬سماع‭ ‬صوت‭ ‬سير‭ ‬عقارب‭ ‬الساعة؛‭ ‬لأنها‭ ‬تشير‭ ‬إلى‭ ‬تقدم‭ ‬عمره‭ ‬بسريع‭ ‬خطوها،‭ ‬ولا‭ ‬سبيل‭ ‬له‭ ‬سوى‭ ‬السير‭ ‬معها‭ ‬وجلاً‭ ‬خشية‭ ‬التكرار،‭ ‬لأنه‭ ‬يشغله‭ ‬كثيراً‭ ‬الوصول‭ ‬إلى‭ ‬مرحلة‭ ‬االتقاعد‭ ‬الأدبيب،‭ ‬التي‭ ‬نادى‭ ‬بها‭ ‬الأديب‭ ‬الناقد‭ ‬د‭. ‬محمد‭ ‬ياسر‭ ‬شرف‭ ‬ذات‭ ‬يوم،‭ ‬مُنَمْذِجاً‭ ‬بنزار‭ ‬قباني‭.‬

 

‭ ‬الشعر‭ ‬وتقدم‭ ‬العمر

يتابع‭ ‬الشاعر‭ ‬سنين‭ ‬عمره‭ ‬ويعدها،‭ ‬ولذلك‭ ‬تجده‭ ‬فور‭ ‬دخوله‭ ‬أي‭ ‬عشرية‭ ‬جديدة‭ ‬في‭ ‬عمره‭ - ‬وخاصة‭ ‬الأربعين‭ ‬وما‭ ‬بعدها‭ - ‬يحاورها‭ ‬ويساجلها‭ ‬بوصفها‭ ‬مرحلة‭ ‬عمرية‭ ‬مرعبة،‭ ‬ومنعطفاً‭ ‬جديداً‭ ‬في‭ ‬حياته،‭ ‬لاسيما‭ ‬أن‭ ‬هذه‭ ‬المرحلة‭ ‬تدخله‭ ‬سن‭ ‬الحكمة،‭ ‬السن‭ ‬التي‭ ‬يصارع‭ ‬فيها‭ ‬الشباب‭ ‬الكهولة‭ ‬ليدفعها،‭ ‬ولأن‭ ‬الشاعر‭ ‬لا‭ ‬يملك‭ ‬سوى‭ ‬الشعر،‭ ‬فلا‭ ‬سبيل‭ ‬له‭ ‬سوى‭ ‬ما‭ ‬يسجله،‭ ‬فالشعراء‭ ‬لا‭ ‬يُدَوّنون‭ ‬يومياتهم‭ ‬كغيرهم،‭ ‬لذلك‭ ‬يحلّ‭ ‬شعرهم‭ ‬أحياناً‭ ‬محل‭ ‬يومياتهم،‭ ‬أو‭ ‬كما‭ ‬يقول‭ ‬أوكتافيو‭ ‬باث‭: ‬اليس‭ ‬للشعراء‭ ‬بيوغرافيات‭... ‬أشعارهم‭ ‬بيوغرافياتهمب‭.‬

لذلك‭ ‬لا‭ ‬غرابة‭ ‬حين‭ ‬وقف‭ ‬شوقي‭ ‬بزيع‭ ‬على‭ ‬شاهق؛‭ ‬ليبصر‭ ‬الأربعين‭ ‬من‭ ‬أعلى‭ ‬قمة‭ ‬أمسك‭ ‬بها،‭ ‬فكتب‭ ‬يومها‭ ‬مدونته،‭ ‬وجسَّد‭ ‬ما‭ ‬أبصره‭ ‬من‭ ‬صراع‭ ‬بقوله‭:‬

 

‮«‬أن‭ ‬يتقاسم‭ ‬تركة‭ ‬روحك‭ ‬ضدان‭:‬

طفل‭ ‬وكهل

وصعود‭ ‬وسهل‭ ‬

ووقار‭ ‬وجهل‭...‬

تلك‭ ‬هي‭ ‬الأربعون‮»‬

 

الأربعون‭ ‬المرحلة‭ ‬التي‭ ‬صاحَبَها‭ ‬جاسم‭ ‬الصّـحَـيِّـح‭ ‬مُتَسَكِّعاً،‭ ‬فكتَبَ‭ ‬مدوّناً‭ ‬في‭ ‬سيرته‭ ‬ذات‭ ‬قصيدة‭ ‬عنونها‭ ‬بـ‭ ‬اخيمة‭ ‬من‭ ‬الهواجس‭ ‬على‭ ‬رابية‭ ‬الأربعينب،‭ ‬وابتدأها‭ ‬بـ‭:‬

 

العُمْرُ‭ ‬كلُّ‭ ‬العُمْرِ‭ ‬موسمُ‭ ‬هجرةٍ‭... ‬

وأنا‭ ‬برغم‭ ‬‮«‬الأربعينَ‮»‬‭ ‬

من‭ ‬التَّشَرُّدِ

ما‭ ‬اتَّفقتُ‭ ‬مع‭ ‬الطريقْ‭! ‬

 

تلامس‭ ‬الوقفات‭ ‬عند‭ ‬سني‭ ‬العمر‭ ‬مفاصل‭ ‬في‭ ‬السير‭ ‬الذاتية،‭ ‬ولذلك‭ ‬تحمل‭ ‬لمحات‭ ‬أكثر‭ ‬تعبيراً،‭ ‬وخاصة‭ ‬حين‭ ‬تتزين‭ ‬السيرة‭ ‬الذاتية‭ ‬في‭ ‬بردة‭ ‬شعرية،‭ ‬ولا‭ ‬غرابة‭ ‬في‭ ‬أن‭ ‬تكون‭ ‬كذلك،‭ ‬فالسيرة‭ ‬الذاتية‭ ‬ليست‭ ‬حكراً‭ ‬على‭ ‬السرد،‭ ‬فـ‭ ‬افابيروب‭ ‬يذكر‭ ‬أن‭ ‬االسيرة‭ ‬الذاتية‭ ‬عمل‭ ‬أدبي،‭ ‬وهذا‭ ‬العمل‭ ‬قد‭ ‬يكون‭ ‬رواية،‭ ‬أو‭ ‬قصيدة،‭ ‬أو‭ ‬مقالة‭ ‬فلسفية،‭ ‬يعرض‭ ‬فيها‭ ‬المؤلف‭ ‬أفكاره،‭ ‬ويصور‭ ‬أحاسيسه،‭ ‬بشكل‭ ‬ضمني‭ ‬أو‭ ‬صريحب‭. ‬

إن‭ ‬الأربعين‭ ‬مُحَفـّزة‭ ‬للتدوين،‭ ‬ولذلك‭ ‬كانت‭ ‬مفترق‭ ‬الطرق‭ ‬الذي‭ ‬توقف‭ ‬عنده‭ ‬شوقي‭ ‬بزيع‭ ‬الآنف‭ ‬الذكـْـر،‭ ‬فوصفها‭ ‬كما‭ ‬هي،‭ ‬كواقف‭ ‬على‭ ‬الناصية‭ ‬يرى‭ ‬الطريقين‭ ‬وتناقضهما،‭ ‬بينما‭ ‬لم‭ ‬يقف‭ ‬جاسم‭ ‬الصّـحَـيِّـح‭ ‬إطلاقاً،‭ ‬فحين‭ ‬دعاه‭ ‬منعرج‭ ‬الأربعين‭ ‬إلى‭ ‬الطريق‭ ‬المختار،‭ ‬ما‭ ‬اتفق‭ ‬معه‭ ‬على‭ ‬الإطلاق،‭ ‬وأعلنها‭ ‬لحظة‭ ‬تشرد‭ ‬لا‭ ‬تعني‭ ‬له‭ ‬الكثير،‭ ‬فالعمر‭ ‬كما‭ ‬يراه‭ ‬موسم‭ ‬هجرة،‭ ‬لذا‭ ‬لا‭ ‬وقت‭ ‬فيه‭ ‬على‭ ‬الإطلاق،‭ ‬حتى‭ ‬ليمنحه‭ ‬برهة‭ ‬توقف‭ ‬يقتسمها‭ ‬بين‭ ‬الطفل‭ ‬والكهل‭ ‬فيه،‭ ‬مع‭ ‬أن‭ ‬تلك‭ ‬اللحظة‭ ‬تُلحُّ‭ ‬عليه‭ ‬كثيراً،‭ ‬ومع‭ ‬تأبّيه‭ ‬الخضوع‭ ‬لها،‭ ‬إلا‭ ‬أنها‭ ‬تحاول‭ ‬فتَغلب‭ ‬تارة،‭ ‬وتنقاد‭ ‬لتشرده‭ ‬وصعلكته‭ ‬تارة‭ ‬أخرى،‭ ‬فلا‭ ‬مفر‭ ‬من‭ ‬مناداته‭ ‬للأربعين‭ ‬وتسميتها‭ ‬بهاتف‭ ‬الأنقاض‭:‬

 

يا‭ ‬هاتفَ‭ ‬الأنقاضِ

يا‭ ‬طيرَ‭ ‬الهديل‭ ‬

على‭ ‬جبال‭ ‬الأمس‭...‬

زرني‭...‬

ها‭ ‬هنا‭ ‬بيتي‭ ‬بمنطقة‭ ‬الكهولةِ

حيث‭ ‬عنواني‭ ‬سعالي

والغواية‭ ‬جارتي

وإقامتي‭ ‬

في‭ ‬العمق‭ ‬

من‭ ‬‮«‬حيّ‮»‬‭ ‬النعيق

 

يتجاذب‭ ‬الشاعرَ‭ ‬في‭ ‬تلك‭ ‬المحطة‭ ‬من‭ ‬رحلة‭ ‬العمر‭ ‬المتمثلة‭ ‬في‭ ‬الأربعين‭ ‬طرفان،‭ ‬يتمثل‭ ‬أولهما‭ ‬في‭ ‬محاولة‭ ‬الأربعين‭ ‬لاستسلامه‭ ‬لمنطقة‭ ‬الكهولة،‭ ‬ولكن‭ ‬جارته‭ ‬الغواية‭ ‬تعيده‭ ‬إلى‭ ‬الطفل‭ ‬المتمثل‭ ‬في‭ ‬الطرف‭ ‬الثاني‭ ‬الذي‭ ‬يعيد‭ ‬خلقه‭ ‬من‭ ‬جديد،‭ ‬ولذلك‭ ‬سرعان‭ ‬ما‭ ‬تتم‭ ‬لملمته،‭ ‬وإعادة‭ ‬القصيدة‭ ‬إلى‭ ‬تكوينه‭ ‬تارة‭ ‬أخرى‭:‬

 

لملمتني‭... ‬ودعوتُ‭ ‬طفلاً‭ ‬كُنتُهُ

ثم‭ ‬اجتمعنا‭ ‬في‭ ‬المُنى‭: ‬أنا‭ ‬مع‭ ‬أنا‭ ‬

 

إن‭ ‬شاعراً‭ ‬يبلغ‭ ‬من‭ ‬التوحد‭ ‬هذا‭ ‬المبلغ،‭ ‬لا‭ ‬خشية‭ ‬عليه‭ ‬من‭ ‬الأربعين،‭ ‬فمبلغه‭ ‬من‭ ‬المنى‭ ‬عصيّ‭ ‬على‭ ‬أي‭ ‬شرخ‭ ‬يحدثه‭ ‬معول‭ ‬الأربعين،‭ ‬فهو‭ ‬من‭ ‬يجعل‭ ‬من‭ ‬الغواية‭ ‬سبيلاً‭ ‬لا‭ ‬يتصالح‭ ‬فيه‭ ‬مع‭ ‬الطريق،‭ ‬ذلك‭ ‬الطريق‭ ‬الذي‭ ‬يريد‭ ‬الأربعون‭ ‬أن‭ ‬يسلكه،‭ ‬ولا‭ ‬ينقاد‭ ‬الشاعر‭ ‬إليه‭.‬

 

القصيدة‭ ‬‮«‬كبسولة‮»‬‭ ‬الشعراء‭ ‬

ما‭ ‬أقوى‭ ‬الشعر‭ ‬حين‭ ‬يكون‭ ‬مُضادّاً‭ ‬للهرَم،‭ ‬لذا‭ ‬بدت‭ ‬مواظبة‭ ‬جاسم‭ ‬الصّـحَـيِّـح‭ ‬على‭ ‬كبسولته‭ ‬المعتادة‭ ‬من‭ ‬الشعر‭ ‬سبيلاً‭ ‬لبقاء‭ ‬الطفل‭ ‬في‭ ‬داخله،‭ ‬فالأربعون‭ ‬مرعبة‭ ‬جداً،‭ ‬والإقبال‭ ‬على‭ ‬الخمسين‭ ‬مدعاة‭ ‬لموت‭ ‬الشادي‭ ‬في‭ ‬داخل‭ ‬الشاعر‭.‬

إن‭ ‬ذلك‭ ‬المشهد‭ ‬المرعب‭ ‬الذي‭ ‬لا‭ ‬يظهر‭ ‬في‭ ‬مسلسل‭ ‬الحياة‭ ‬إلا‭ ‬في‭ ‬الحلقة‭ ‬الأربعين،‭ ‬كفيل‭ ‬بإخراس‭ ‬البلبل،‭ ‬وتمزيق‭ ‬القصيدة‭.‬

وجاسم‭ ‬الصّـحَـيِّـح‭ ‬مازال‭ ‬المتشرد‭ ‬الذي‭ ‬فرَّ‭ ‬من‭ ‬وظيفته‭ ‬مهندساً،‭ ‬وكسر‭ ‬قيدها،‭ ‬فتقاعد‭ ‬مبكراً‭ ‬عند‭ ‬الأربعين،‭ ‬لأنه‭ ‬مؤمن‭ ‬بأن‭ ‬القصيدة‭ ‬ملاذه‭ ‬حين‭ ‬يعظم‭ ‬الخطب،‭ ‬ويتسارع‭ ‬العمر‭:‬

 

سقطَ‭ ‬الزمانُ‭ ‬عليَّ

أثقلَ‭ ‬من‭ ‬سقوط‭ ‬الشاحنات‭... ‬

وكلّما‭ ‬عمّرتُ‭ ‬أكثر

صرت‭ ‬أحتاج‭ ‬القصيدة

كي‭ ‬أُطبّب‭ ‬

بعض‭ ‬أوجاع‭ ‬الحقيقة‭ ‬

تحت‭ ‬تخدير‭ ‬المجاز

 

إن‭ ‬القصيدة‭ ‬هي‭ ‬ملاذ‭ ‬الشاعر‭ ‬حين‭ ‬يتقدم‭ ‬به‭ ‬العمر،‭ ‬فهو‭ ‬أحوج‭ ‬ما‭ ‬يكون‭ ‬فيها‭ ‬إلى‭ ‬المجاز‭ ‬من‭ ‬حقيقة‭ ‬تقدم‭ ‬العمر،‭ ‬للعودة‭ ‬إلى‭ ‬بدايته‭ ‬ويفاعته‭.‬

وهذه‭ ‬العودة‭ ‬للحياة،‭ ‬هي‭ ‬العودة‭ ‬ذاتها‭ ‬التي‭ ‬لم‭ ‬يفوّتها‭ ‬الصّـحَـيِّـح‭ ‬في‭ ‬موفور‭ ‬نتاجه‭ ‬الشعري،‭ ‬حيث‭ ‬وقف‭ ‬عند‭ ‬الخمسين‭ ‬أسوة‭ ‬بالأربعين،‭ ‬وأطال‭ ‬الوقوف‭ ‬وكرره،‭ ‬فتارة‭ ‬يختم‭ ‬به‭ ‬قصيدته‭ ‬اجرحٌ‭ ‬مفتوح‭ ‬على‭ ‬نهر‭ ‬الكلامب‭ ‬بـ‭:‬

 

ولكني‭ ‬وإن‭ ‬ثقلت‭ ‬سنيني

‭ ‬عليّ،‭ ‬وصار‭ ‬هذا‭ ‬الطينُ‭ ‬كهلاً

ذبحتُ‭ ‬العمر‭ ‬بالآمالِ‭ ‬حتى

‭ ‬عبرت‭ ‬بسكة‭ (‬الخمسين‭) ‬طفلاً

 

فالطفل‭ ‬فيه‭ ‬ينتصر‭ ‬بما‭ ‬يمتلك‭ ‬الشاعر‭ ‬من‭ ‬أمل‭ ‬يتمَلـّكه،‭ ‬بل‭ ‬وتنامي‭ ‬حس‭ ‬الاختلاف‭ ‬مع‭ ‬الطريق‭ ‬في‭ ‬رحلة‭ ‬عمره،‭ ‬فلا‭ ‬أهون‭ ‬عليه‭ ‬من‭ ‬ذبح‭ ‬السنين‭ ‬بالآمال،‭ ‬والعبور‭ ‬نحو‭ ‬الأعلى‭ ‬كما‭ ‬يبدو‭ ‬في‭ ‬قصيدته‭ ‬التي‭ ‬مطلعها‭:‬

 

صعدتُ‭ ‬الطابقَ‭ ‬‮«‬الخمسينَ‮»‬‭ ‬مِنِّي‭ ‬

كما‭ ‬صَعَدَتْ‭ ‬معارجَـها،‭ ‬الصلاةُ

طوابقُ‭ ‬ما‭ ‬بـها‭ ‬إلاّ‭ ‬ذواتي

مبعثرةٌ،‭ ‬وأسمائي‭ ‬شتاتُ

هنا‭ ‬كينونتي‭ ‬انتثرتْ،‭ ‬وطاشتْ‭ 

تفاصيلـي‭... ‬هنا‭ ‬العُمرُ‭ ‬الفُتاتُ

 

يتجلى‭ ‬شتات‭ ‬الشاعر‭ ‬العلوي‭ ‬بالتعبير‭ ‬عن‭ ‬الرحلة‭ ‬بالصعود‭ ‬والتسامي،‭ ‬وتشبيه‭ ‬مسيره‭ ‬بالعروج‭ ‬للسماء‭ ‬في‭ ‬رحلة‭ ‬الشتات‭ ‬والتبعثر،‭ ‬والتوكيد‭ ‬على‭ ‬ذلك‭ ‬بندائه‭ ‬لإكسيره‭ ‬الذي‭ ‬أبقاه‭ ‬شاباً‭ ‬في‭ ‬قصيدته‭ ‬التي‭ ‬مطلعها‭:‬

 

ما‭ ‬وراء‭ ‬‮«‬الخمسين‮»‬‭ ‬إلا‭ ‬رُفاتُ‭ 

فتعالي‭ ‬لكيْ‭ ‬تَجيءَ‭ ‬الحياةُ

 

يدرك‭ ‬الصّـحَـيِّـح‭ ‬أن‭ ‬بقاء‭ ‬شبابه‭ ‬بالحب،‭ ‬مؤمناً‭ ‬بأن‭ ‬القصيدة‭ ‬سبيله‭ ‬إلى‭ ‬ذلك،‭ ‬فهو‭ ‬في‭ ‬هذه‭ ‬القصيدة‭ ‬بدَّل‭ ‬الأزمنة‭ ‬كافراً‭ ‬بالمعجزات،‭ ‬مؤمناً‭ ‬بأن‭ ‬الحب‭ ‬هو‭ ‬القادر‭ ‬على‭ ‬أن‭ ‬يكون‭ ‬بديلاً‭ ‬ناجحاً‭:‬

 

زمنُ‭ ‬المعجزاتِ‭ ‬ولَّى،‭ ‬ولكنْ‭ 

زمنُ‭ ‬الحبِّ‭ ‬كلُّهُ‭ ‬معجزاتُ‭ ‬

 

وهل‭ ‬أبلغ‭ ‬من‭ ‬قدرة‭ ‬الحب‭ ‬على‭ ‬منح‭ ‬حياة‭ ‬جديدة‭ ‬يراها‭ ‬هبة‭ ‬من‭ ‬محبوبته‭ ‬في‭ ‬قوله‭:‬

 

وامنحيني‭ ‬‮«‬أَناً‮»‬‭ ‬جديداً‭ ‬لأحيا‭ ‬

حيثُ‭ ‬لم‭ ‬تبقَ‭ ‬في‭ ‬‮«‬أنايَ‮»‬‭ ‬حياةُ

يولدُ‭ ‬الكونُ‭ ‬من‭ ‬ولادةِ‭ ‬حُبٍّ‭ ‬

‭ ‬وتُعِيدُ‭ ‬اكتشافَها‭ ‬الكائناتُ

 

رُهاب‭ ‬التكرار

إن‭ ‬أخشى‭ ‬ما‭ ‬يخشاه‭ ‬الشعراء‭ ‬في‭ ‬هذا‭ ‬العمر‭ ‬هو‭ ‬تكرار‭ ‬الذات،‭ ‬ولذا‭ ‬لا‭ ‬أصدق‭ ‬من‭ ‬القول‭ ‬بأن‭ ‬رهاب‭ ‬التكرار‭ ‬مرض‭ ‬جدير‭ ‬بدراسته‭ ‬وتتبعه‭ ‬عند‭ ‬الشعراء‭ ‬خاصة،‭ ‬والمبدعين‭ ‬عامة،‭ ‬لاسيما‭ ‬عندما‭ ‬يتقدم‭ ‬بهم‭ ‬العمر،‭ ‬فذلك‭ ‬الأمر‭ ‬جدير‭ ‬بالدرس،‭ ‬ويقابله‭ ‬تتبع‭ ‬من‭ ‬يكرر‭ ‬بذكاء‭ ‬مقصود‭ ‬يضيف‭ ‬للقصيدة‭ ‬ذاتها،‭ ‬أو‭ ‬يعيد‭ ‬الفكرة‭ ‬في‭ ‬إهاب‭ ‬جديد‭ ‬يقبله‭ ‬المتلقي،‭ ‬ولذا‭ ‬نجد‭ ‬في‭ ‬قصيدة‭ ‬جاسم‭ ‬اما‭ ‬وراء‭ ‬الخمسينب‭ ‬تكراراً‭ ‬ذكياً‭ ‬مقصوداً،‭ ‬لجأ‭ ‬إليه‭ ‬الشاعر،‭ ‬ونوّع‭ ‬في‭ ‬وسائله‭ ‬ليكون‭ ‬في‭ ‬ثلاث‭ ‬وسائل،‭ ‬أولاها‭:‬

كرر‭ ‬الشاعر‭ ‬الصدر‭ ‬الأول‭ ‬من‭ ‬القصيدة‭ ‬مبدّلاً‭ ‬في‭ ‬الكلمة‭ ‬الأخيرة‭ ‬التي‭ ‬يقفل‭ ‬بها‭ ‬الصدر،‭ ‬واضعاً‭ ‬خطاً‭ ‬تحت‭ ‬اما‭ ‬وراء‭ ‬االخمسينب‭ ‬إلا‭ ‬مزاجٌب‭ ‬ليجعل‭ ‬الأولى‭ ‬ارفاتب،‭ ‬لأنه‭ ‬يريد‭ ‬بعودة‭ ‬محبوبته‭ ‬عودة‭ ‬للحياة،‭ ‬فإن‭ ‬كان‭ ‬يؤمن‭ ‬أن‭ ‬الخمسين‭ ‬لا‭ ‬يعقبها‭ ‬إلا‭ ‬رفات،‭ ‬فهو‭ ‬بقدر‭ ‬من‭ ‬الإيمان‭ ‬أنه‭ ‬لن‭ ‬يدرك‭ ‬ذاك‭ ‬الرفات،‭ ‬ما‭ ‬دام‭ ‬محافظاً‭ ‬على‭ ‬قصيدته‭/ ‬كبسولته‭ ‬التي‭ ‬يقاوم‭ ‬بها‭ ‬الهرم،‭ ‬ومفتشاً‭ ‬عن‭ ‬ملاذه‭ ‬الشعري‭ ‬المتمثل‭ ‬في‭ ‬من‭ ‬يناديها‭ ‬لتكون‭ ‬الحياة‭.‬

وجعل‭ ‬الثانية‭ ‬من‭ ‬كلمات‭ ‬التكرار‭:‬

 

ما‭ ‬وراءَ‭ ‬‮«‬الخمسينَ‮»‬‭ ‬إلا‭ ‬مزاجٌ‭  

لا‭ ‬تُصَفِّيهِ‭ ‬ها‭ ‬هُنا‭ ‬الأغنياتُ

رُبَّما‭ ‬الفطرةُ‭ ‬القديمةُ‭ ‬نامتْ‭ 

وخَلَتْ‭ ‬من‭ ‬هوائِها،‭ ‬الناياتُ

فتعالي‭ ‬أَعْزِفْكِ‭ ‬في‭ ‬الروحِ‭ ‬ناياً

كي‭ ‬يُفيقَ‭ ‬المرعَى‭ ‬ويصحو‭ ‬الرُّعاةُ

 

ولا‭ ‬أدَلَّ‭ ‬من‭ ‬تبدل‭ ‬مزاج‭ ‬من‭ ‬يتقدم‭ ‬به‭ ‬العمر،‭ ‬ليبدل‭ ‬أدواته‭ ‬ويتعايش‭ ‬معها،‭ ‬وها‭ ‬هنا‭ ‬الصّـحَـيِّـح‭ ‬يقدم‭ ‬وصفة‭ ‬شعرية‭ ‬محسِّنة‭ ‬للمزاج،‭ ‬متعالية‭ ‬على‭ ‬التكرار،‭ ‬حين‭ ‬يكون‭ ‬تكراراً‭ ‬واعياً،‭ ‬مؤكداً‭ ‬ذلك‭ ‬بالقفلة‭ ‬الأخيرة‭ ‬التي‭ ‬يثبت‭ ‬فيها‭ ‬التيه‭ ‬والتشرد‭ ‬والعودة‭ ‬من‭ ‬جديد‭:‬

 

ما‭ ‬وراءَ‭ ‬‮«‬الخمسينَ‮»‬‭ ‬إلا‭ ‬انتماءٌ‭ ‬

للمنافي،‭ ‬فـليسَ‭ ‬ثَمَّةَ‭ ‬ذاتُ

 

أما‭ ‬التكراران‭ ‬الثاني‭ ‬والثالث،‭ ‬فجاءا‭ ‬صيغة‭ ‬مختلفة،‭ ‬وذلك‭ ‬حين‭ ‬ردد‭ ‬بيتين‭ ‬مرتين،‭ ‬فالبيت‭ ‬الأول‭:‬

 

أنتِ‭ ‬يا‭ ‬مَنْ‭ ‬فتحتِ‭ ‬أزرارَ‭ ‬عُمري‭ ‬

فـهَوَتْ‭ ‬من‭ ‬قميصِهِ،‭ ‬السنواتُ‭ ‬

 

وهو‭ ‬أقرب‭ ‬ما‭ ‬يكون‭ ‬لتكرار‭ ‬مقطع‭ ‬في‭ ‬حوار‭ ‬محب‭ ‬لمحبوبته،‭ ‬للتدليل‭ ‬على‭ ‬أن‭ ‬الشعر‭ ‬كلام‭ ‬يسقط‭ ‬من‭ ‬حديث‭ ‬الناس،‭ ‬يلتقطه‭ ‬الشاعر‭ ‬بذكاء،‭ ‬فيعيد‭ ‬صياغته‭ ‬من‭ ‬جديد؛‭ ‬ليقبل‭ ‬عليه‭ ‬الناس‭ ‬لأنهم‭ ‬يلمحون‭ ‬جميل‭ ‬ما‭ ‬ألبسه‭ ‬من‭ ‬مجاز،‭ ‬فالشاعر‭ ‬كبير‭ ‬الموهبة،‭ ‬كبير‭ ‬الثقافة،‭ ‬يحتاج‭ ‬إلى‭ ‬مضاعفة‭ ‬مقدار‭ ‬العفوية‭ ‬والفطرية‭ ‬في‭ ‬شعره،‭ ‬لأنه‭ ‬يراه‭ ‬مضطراً‭ ‬دائماً‭ ‬إلى‭ ‬تذويب‭ ‬هذه‭ ‬الكتل‭ ‬المعرفية‭ ‬بكثير‭ ‬من‭ ‬العفوية‭ ‬والخروج‭ ‬الدائم‭ ‬عليها‭.‬

وجاسم‭ ‬الصّـحَـيِّـح‭ ‬حين‭ ‬يكرر‭ ‬البيت‭ ‬ذاته‭ ‬يلّح‭ ‬على‭ ‬ذلك‭ ‬من‭ ‬جانب،‭ ‬ويدلّل‭ ‬من‭ ‬جانب‭ ‬آخر‭ ‬على‭ ‬مكانة‭ ‬محبوبته،‭ ‬وقدرتها‭ ‬على‭ ‬بعث‭ ‬الحياة‭ ‬فيه‭ ‬من‭ ‬جديد‭ ‬بهذه‭ ‬الصورة‭ ‬المجازية‭ ‬التي‭ ‬يُسقطُ‭ ‬فيها‭ ‬سني‭ ‬عمره،‭ ‬وكأنها‭ ‬أزرار‭ ‬تهوي‭ ‬من‭ ‬قميص‭.‬

أما‭ ‬التكراران‭ ‬الثاني‭ ‬والأخير،‭ ‬فهما‭ ‬توكيد‭ ‬لمعجزة‭ ‬الحب،‭ ‬محاولاً‭ ‬زيادة‭ ‬عدد‭ ‬العاشقين،‭ ‬فتلك‭ ‬الوسيلة‭ ‬في‭ ‬رأيه‭ ‬أنجع‭ ‬الوسائل‭ ‬لمقاومة‭ ‬الطغيان‭.‬

 

وإذا‭ ‬زادَ‭ ‬عاشقٌ‭ ‬قَلَّ‭ ‬طاغٍ‭ ‬

فاعشقيني‭ ‬لكي‭ ‬يقلَّ‭ ‬الطغاةُ

 

يثبت‭ ‬جاسم‭ ‬أن‭ ‬دولاب‭ ‬العمر‭ ‬لا‭ ‬يزيد‭ ‬التجربة‭ ‬إلا‭ ‬نضجاً،‭ ‬وأن‭ ‬المكتنز‭ ‬لا‭ ‬يخشى‭ ‬أبداً‭ ‬تقدم‭ ‬العمر‭ ‬والسقوط‭ ‬في‭ ‬التكرار،‭ ‬فمن‭ ‬يمتلك‭ ‬عجينة‭ ‬المفردات؛‭ ‬يستطع‭ ‬تبديل‭ ‬مصنوعاته‭ ‬بما‭ ‬أوتي‭ ‬من‭ ‬قدرة‭ ‬على‭ ‬التشكيل‭ ‬والتبديل،‭ ‬ومن‭ ‬تشبث‭ ‬بتراب‭ ‬الأحساء؛‭ ‬عرَف‭ ‬كيف‭ ‬يصنع‭ ‬من‭ ‬ذلك‭ ‬الطين‭ ‬أكوازاً‭ ‬يسقي‭ ‬بها‭ ‬الناس،‭ ‬فترتوي‭ ‬من‭ ‬عذب‭ ‬حرفه‭ ‬وبديع‭ ‬صور‭ >‬