عندما تكون القصيدة دَفـْعاً مُضادّاً للكهولة جاسم الصِّـحَـيِّـح... أنموذجاً

جذوة الشعر لها اتقاد وانطفاء، وأكثر ما يخشاه الشاعر هو لحظات خفوت جذوته، وهذا ما يجعله ينفخ فيها ويشعل أوارها ما استطاع، لتستعر من جديد، مقرّباً لها كل ما أُوتي من تجارب، فتعاود توهجها بقدر ما ينوّع من مشارب.
إن الشاعر يَزدادُ قلقاً عقب توهجه، لأنه يخشى عاقبة التوهج، ولا يقض مضجعه سوى سماع صوت سير عقارب الساعة؛ لأنها تشير إلى تقدم عمره بسريع خطوها، ولا سبيل له سوى السير معها وجلاً خشية التكرار، لأنه يشغله كثيراً الوصول إلى مرحلة االتقاعد الأدبيب، التي نادى بها الأديب الناقد د. محمد ياسر شرف ذات يوم، مُنَمْذِجاً بنزار قباني.
الشعر وتقدم العمر
يتابع الشاعر سنين عمره ويعدها، ولذلك تجده فور دخوله أي عشرية جديدة في عمره - وخاصة الأربعين وما بعدها - يحاورها ويساجلها بوصفها مرحلة عمرية مرعبة، ومنعطفاً جديداً في حياته، لاسيما أن هذه المرحلة تدخله سن الحكمة، السن التي يصارع فيها الشباب الكهولة ليدفعها، ولأن الشاعر لا يملك سوى الشعر، فلا سبيل له سوى ما يسجله، فالشعراء لا يُدَوّنون يومياتهم كغيرهم، لذلك يحلّ شعرهم أحياناً محل يومياتهم، أو كما يقول أوكتافيو باث: اليس للشعراء بيوغرافيات... أشعارهم بيوغرافياتهمب.
لذلك لا غرابة حين وقف شوقي بزيع على شاهق؛ ليبصر الأربعين من أعلى قمة أمسك بها، فكتب يومها مدونته، وجسَّد ما أبصره من صراع بقوله:
«أن يتقاسم تركة روحك ضدان:
طفل وكهل
وصعود وسهل
ووقار وجهل...
تلك هي الأربعون»
الأربعون المرحلة التي صاحَبَها جاسم الصّـحَـيِّـح مُتَسَكِّعاً، فكتَبَ مدوّناً في سيرته ذات قصيدة عنونها بـ اخيمة من الهواجس على رابية الأربعينب، وابتدأها بـ:
العُمْرُ كلُّ العُمْرِ موسمُ هجرةٍ...
وأنا برغم «الأربعينَ»
من التَّشَرُّدِ
ما اتَّفقتُ مع الطريقْ!
تلامس الوقفات عند سني العمر مفاصل في السير الذاتية، ولذلك تحمل لمحات أكثر تعبيراً، وخاصة حين تتزين السيرة الذاتية في بردة شعرية، ولا غرابة في أن تكون كذلك، فالسيرة الذاتية ليست حكراً على السرد، فـ افابيروب يذكر أن االسيرة الذاتية عمل أدبي، وهذا العمل قد يكون رواية، أو قصيدة، أو مقالة فلسفية، يعرض فيها المؤلف أفكاره، ويصور أحاسيسه، بشكل ضمني أو صريحب.
إن الأربعين مُحَفـّزة للتدوين، ولذلك كانت مفترق الطرق الذي توقف عنده شوقي بزيع الآنف الذكـْـر، فوصفها كما هي، كواقف على الناصية يرى الطريقين وتناقضهما، بينما لم يقف جاسم الصّـحَـيِّـح إطلاقاً، فحين دعاه منعرج الأربعين إلى الطريق المختار، ما اتفق معه على الإطلاق، وأعلنها لحظة تشرد لا تعني له الكثير، فالعمر كما يراه موسم هجرة، لذا لا وقت فيه على الإطلاق، حتى ليمنحه برهة توقف يقتسمها بين الطفل والكهل فيه، مع أن تلك اللحظة تُلحُّ عليه كثيراً، ومع تأبّيه الخضوع لها، إلا أنها تحاول فتَغلب تارة، وتنقاد لتشرده وصعلكته تارة أخرى، فلا مفر من مناداته للأربعين وتسميتها بهاتف الأنقاض:
يا هاتفَ الأنقاضِ
يا طيرَ الهديل
على جبال الأمس...
زرني...
ها هنا بيتي بمنطقة الكهولةِ
حيث عنواني سعالي
والغواية جارتي
وإقامتي
في العمق
من «حيّ» النعيق
يتجاذب الشاعرَ في تلك المحطة من رحلة العمر المتمثلة في الأربعين طرفان، يتمثل أولهما في محاولة الأربعين لاستسلامه لمنطقة الكهولة، ولكن جارته الغواية تعيده إلى الطفل المتمثل في الطرف الثاني الذي يعيد خلقه من جديد، ولذلك سرعان ما تتم لملمته، وإعادة القصيدة إلى تكوينه تارة أخرى:
لملمتني... ودعوتُ طفلاً كُنتُهُ
ثم اجتمعنا في المُنى: أنا مع أنا
إن شاعراً يبلغ من التوحد هذا المبلغ، لا خشية عليه من الأربعين، فمبلغه من المنى عصيّ على أي شرخ يحدثه معول الأربعين، فهو من يجعل من الغواية سبيلاً لا يتصالح فيه مع الطريق، ذلك الطريق الذي يريد الأربعون أن يسلكه، ولا ينقاد الشاعر إليه.
القصيدة «كبسولة» الشعراء
ما أقوى الشعر حين يكون مُضادّاً للهرَم، لذا بدت مواظبة جاسم الصّـحَـيِّـح على كبسولته المعتادة من الشعر سبيلاً لبقاء الطفل في داخله، فالأربعون مرعبة جداً، والإقبال على الخمسين مدعاة لموت الشادي في داخل الشاعر.
إن ذلك المشهد المرعب الذي لا يظهر في مسلسل الحياة إلا في الحلقة الأربعين، كفيل بإخراس البلبل، وتمزيق القصيدة.
وجاسم الصّـحَـيِّـح مازال المتشرد الذي فرَّ من وظيفته مهندساً، وكسر قيدها، فتقاعد مبكراً عند الأربعين، لأنه مؤمن بأن القصيدة ملاذه حين يعظم الخطب، ويتسارع العمر:
سقطَ الزمانُ عليَّ
أثقلَ من سقوط الشاحنات...
وكلّما عمّرتُ أكثر
صرت أحتاج القصيدة
كي أُطبّب
بعض أوجاع الحقيقة
تحت تخدير المجاز
إن القصيدة هي ملاذ الشاعر حين يتقدم به العمر، فهو أحوج ما يكون فيها إلى المجاز من حقيقة تقدم العمر، للعودة إلى بدايته ويفاعته.
وهذه العودة للحياة، هي العودة ذاتها التي لم يفوّتها الصّـحَـيِّـح في موفور نتاجه الشعري، حيث وقف عند الخمسين أسوة بالأربعين، وأطال الوقوف وكرره، فتارة يختم به قصيدته اجرحٌ مفتوح على نهر الكلامب بـ:
ولكني وإن ثقلت سنيني
عليّ، وصار هذا الطينُ كهلاً
ذبحتُ العمر بالآمالِ حتى
عبرت بسكة (الخمسين) طفلاً
فالطفل فيه ينتصر بما يمتلك الشاعر من أمل يتمَلـّكه، بل وتنامي حس الاختلاف مع الطريق في رحلة عمره، فلا أهون عليه من ذبح السنين بالآمال، والعبور نحو الأعلى كما يبدو في قصيدته التي مطلعها:
صعدتُ الطابقَ «الخمسينَ» مِنِّي
كما صَعَدَتْ معارجَـها، الصلاةُ
طوابقُ ما بـها إلاّ ذواتي
مبعثرةٌ، وأسمائي شتاتُ
هنا كينونتي انتثرتْ، وطاشتْ
تفاصيلـي... هنا العُمرُ الفُتاتُ
يتجلى شتات الشاعر العلوي بالتعبير عن الرحلة بالصعود والتسامي، وتشبيه مسيره بالعروج للسماء في رحلة الشتات والتبعثر، والتوكيد على ذلك بندائه لإكسيره الذي أبقاه شاباً في قصيدته التي مطلعها:
ما وراء «الخمسين» إلا رُفاتُ
فتعالي لكيْ تَجيءَ الحياةُ
يدرك الصّـحَـيِّـح أن بقاء شبابه بالحب، مؤمناً بأن القصيدة سبيله إلى ذلك، فهو في هذه القصيدة بدَّل الأزمنة كافراً بالمعجزات، مؤمناً بأن الحب هو القادر على أن يكون بديلاً ناجحاً:
زمنُ المعجزاتِ ولَّى، ولكنْ
زمنُ الحبِّ كلُّهُ معجزاتُ
وهل أبلغ من قدرة الحب على منح حياة جديدة يراها هبة من محبوبته في قوله:
وامنحيني «أَناً» جديداً لأحيا
حيثُ لم تبقَ في «أنايَ» حياةُ
يولدُ الكونُ من ولادةِ حُبٍّ
وتُعِيدُ اكتشافَها الكائناتُ
رُهاب التكرار
إن أخشى ما يخشاه الشعراء في هذا العمر هو تكرار الذات، ولذا لا أصدق من القول بأن رهاب التكرار مرض جدير بدراسته وتتبعه عند الشعراء خاصة، والمبدعين عامة، لاسيما عندما يتقدم بهم العمر، فذلك الأمر جدير بالدرس، ويقابله تتبع من يكرر بذكاء مقصود يضيف للقصيدة ذاتها، أو يعيد الفكرة في إهاب جديد يقبله المتلقي، ولذا نجد في قصيدة جاسم اما وراء الخمسينب تكراراً ذكياً مقصوداً، لجأ إليه الشاعر، ونوّع في وسائله ليكون في ثلاث وسائل، أولاها:
كرر الشاعر الصدر الأول من القصيدة مبدّلاً في الكلمة الأخيرة التي يقفل بها الصدر، واضعاً خطاً تحت اما وراء االخمسينب إلا مزاجٌب ليجعل الأولى ارفاتب، لأنه يريد بعودة محبوبته عودة للحياة، فإن كان يؤمن أن الخمسين لا يعقبها إلا رفات، فهو بقدر من الإيمان أنه لن يدرك ذاك الرفات، ما دام محافظاً على قصيدته/ كبسولته التي يقاوم بها الهرم، ومفتشاً عن ملاذه الشعري المتمثل في من يناديها لتكون الحياة.
وجعل الثانية من كلمات التكرار:
ما وراءَ «الخمسينَ» إلا مزاجٌ
لا تُصَفِّيهِ ها هُنا الأغنياتُ
رُبَّما الفطرةُ القديمةُ نامتْ
وخَلَتْ من هوائِها، الناياتُ
فتعالي أَعْزِفْكِ في الروحِ ناياً
كي يُفيقَ المرعَى ويصحو الرُّعاةُ
ولا أدَلَّ من تبدل مزاج من يتقدم به العمر، ليبدل أدواته ويتعايش معها، وها هنا الصّـحَـيِّـح يقدم وصفة شعرية محسِّنة للمزاج، متعالية على التكرار، حين يكون تكراراً واعياً، مؤكداً ذلك بالقفلة الأخيرة التي يثبت فيها التيه والتشرد والعودة من جديد:
ما وراءَ «الخمسينَ» إلا انتماءٌ
للمنافي، فـليسَ ثَمَّةَ ذاتُ
أما التكراران الثاني والثالث، فجاءا صيغة مختلفة، وذلك حين ردد بيتين مرتين، فالبيت الأول:
أنتِ يا مَنْ فتحتِ أزرارَ عُمري
فـهَوَتْ من قميصِهِ، السنواتُ
وهو أقرب ما يكون لتكرار مقطع في حوار محب لمحبوبته، للتدليل على أن الشعر كلام يسقط من حديث الناس، يلتقطه الشاعر بذكاء، فيعيد صياغته من جديد؛ ليقبل عليه الناس لأنهم يلمحون جميل ما ألبسه من مجاز، فالشاعر كبير الموهبة، كبير الثقافة، يحتاج إلى مضاعفة مقدار العفوية والفطرية في شعره، لأنه يراه مضطراً دائماً إلى تذويب هذه الكتل المعرفية بكثير من العفوية والخروج الدائم عليها.
وجاسم الصّـحَـيِّـح حين يكرر البيت ذاته يلّح على ذلك من جانب، ويدلّل من جانب آخر على مكانة محبوبته، وقدرتها على بعث الحياة فيه من جديد بهذه الصورة المجازية التي يُسقطُ فيها سني عمره، وكأنها أزرار تهوي من قميص.
أما التكراران الثاني والأخير، فهما توكيد لمعجزة الحب، محاولاً زيادة عدد العاشقين، فتلك الوسيلة في رأيه أنجع الوسائل لمقاومة الطغيان.
وإذا زادَ عاشقٌ قَلَّ طاغٍ
فاعشقيني لكي يقلَّ الطغاةُ
يثبت جاسم أن دولاب العمر لا يزيد التجربة إلا نضجاً، وأن المكتنز لا يخشى أبداً تقدم العمر والسقوط في التكرار، فمن يمتلك عجينة المفردات؛ يستطع تبديل مصنوعاته بما أوتي من قدرة على التشكيل والتبديل، ومن تشبث بتراب الأحساء؛ عرَف كيف يصنع من ذلك الطين أكوازاً يسقي بها الناس، فترتوي من عذب حرفه وبديع صور >