حضارات سادت ثم بادت ...«ثمـود» الذيـن جابـوا الصخــر بالــواد

حضارات سادت ثم بادت ...«ثمـود»  الذيـن جابـوا الصخــر بالــواد

قوم ثمود، عرب أقحاح من العرب البائدة، ويُرجع معظم المؤرخين والإخباريين العرب نسبهم إلى ثمود بن جائر بن إرَم بن سام بن نوح . وكانوا من ذوي قربى قوم عاد، في النسب والسُّكنى، فهم من العرب البائدة الذين نزحوا إلى شمالي غرب الجزيرة العربية واستوطنوا هناك، بالقرب من تبوك حالياً، واتخذوا «الحِجْر» عاصمة لهم.

 

رغم اختلاف الآراء حول موطن قوم ثمود، حيث تشير بعض الاستكشافات الأثرية الحديثة إلى أنّ هناك دلائل كثيرة ترجح أنّ موقع ديار قوم ثمود في منطقة جيزان بالمملكة العربية السعودية، فإننا لا نعترض على أي من النظريتين، فكلاهما يقدم أدلته، وكلاهما مقترب إلى الحقيقة من طريق، طريق تواتر الخبر أو طريق البحث العلمي والتنقيب الأثري. ويبدو أنّ سلطان قوم ثمود قد امتدت سيطرته على أراض شاسعة من جنوب شبه الجزيرة العربية إلى غربيها، حتى وصل ملكهم إلى جنوبي الشام. ووفق ما تم تحقيقه من خلال بعض الأحافير والتنقيبات الأثرية التي تناثرت في جنوبي وغربي الجزيرة العربية، فإنّ إدارة تلك البلاد، عسكريا واقتصادياً، كانت تحت سيطرة تسع أسر، تعاهد رؤساؤها على ميثاق بينهم يؤهلهم لأن يحظوا بالثروة والسلطة معاً. وكان نتيجة ذلك أن تجزأ المجتمع الثمودي إلى طبقات، حازت به الأسر التسع المرتبة المرموقة، بينما ظل الآخرون يعانون الظلم والهوان كطبقة مسحوقة. عملت الطبقة المسحوقة بالبناء والرعي وأعمال أخرى أقرب إلى السخرة منها إلى الكسب. وبينما كانت الأسر التسع تزداد مالا وجاها، كان الباقون يزدادون فقراً وهواناً. عبد قوم ثمود الأصنام والأوثان، والوثن مصنوع من الحجارة، أما الصنم فمن غير ذلك؛ من الحجر الكريم أو المعدن النفيس. وكانت لهم أصنام يعبدونها، وكان أشهرَ تلك الأصنام صنم مشهور يُدعى «سَلِم»، فأرسل الله سبحانه وتعالى نبيه صالحاً  يدعوهم إلى عبادة الله الواحد الأحد، ويهديهم سواء السبيل. كان ذلك بعدما طغوا في البلاد، وتجبروا وظلَموا وعتوا وأكثروا في الأرض الفساد. وكان نبي الله صالح من هؤلاء القوم، ووفق رواية ابن الأثير في «الكامل في التاريخ»، فهو صالح بن عبيد، وقيل كانوه أو كانو، ابن أسِف بن ماشج بن عبيد بن جادر، وقيل كاثر، ابن ثمود. يقول الله عزّ وجلّ: {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا إِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحًا أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ فَإِذَا هُمْ فَرِيقَانِ يَخْتَصِمُونَ (45) قَالَ يَا قَوْمِ لِمَ تَسْتَعْجِلُونَ بِالسَّيِّئَةِ قَبْلَ الْحَسَنَةِ لَوْلَا تَسْتَغْفِرُونَ اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (46) قَالُوا اطَّيَّرْنَا بِكَ وَبِمَنْ مَعَكَ قَالَ طَائِرُكُمْ عِنْدَ اللَّهِ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ تُفْتَنُونَ (47) وَكَانَ فِي الْمَدِينَةِ تِسْعَةُ رَهْطٍ يُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ وَلَا يُصْلِحُونَ (48) قَالُوا تَقَاسَمُوا بِاللَّهِ لَنُبَيِّتَنَّهُ وَأَهْلَهُ ثُمَّ لَنَقُولَنَّ لِوَلِيِّهِ مَا شَهِدْنَا مَهْلِكَ أَهْلِهِ وَإِنَّا لَصَادِقُونَ (49) وَمَكَرُوا مَكْرًا وَمَكَرْنَا مَكْرًا وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ (50) فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ مَكْرِهِمْ أَنَّا دَمَّرْنَاهُمْ وَقَوْمَهُمْ أَجْمَعِينَ (51) فَتِلْكَ بُيُوتُهُمْ خَاوِيَةً بِمَا ظَلَمُوا  إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (52)وَأَنْجَيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ (53) } (سورة النمل: الآيات من 45-53). كانت معجزة البناء والهندسة العمرانية الميزة التي تميز بها قوم ثمود، وكانوا يتفاخرون بها، إنّهم ينحتون لهم بيوتاً في صخور الوديان {وَثَمُودَ الَّذِينَ جَابُوا الصَّخْرَ بِالْوَادِ (9)} (سورة الفجر: الآية 9). يقول ابن خلدون: «يقال: لأنّ أعمارهم كانت تطول، فيأتي البلاء والخراب على بيوتهم، فنحتوها لذلك في الصخر، وهي لهذا العهد». وورد في الصحيح أنّ رسول الله  قد مرّ بتلك الديار في غزوة تبوك، ونهى المسلمين عن دخولها. ويزيد الطبري في تاريخه أنّ النبي  نهى عن استعمال مياههم، وقال: «لا تدخلوا مساكن الذين ظلموا أنفسهم إلا وأنتم باكون أن يصيبكم ما أصابهم».
وإذا نظرت إلى تلك المنازل من بعيد لا ترى إلا صخوراً. وكانت تلك البيوت قد صُممت من الداخل بطريقة صحية، يتداور في أرجائها الهواء، وتدخل إليها أشعة الشمس من الأعلى ومن الجنب. وحيث تشير جميع المصادر إلى شحّ الماء بواديهم، تفيدنا الاستكشافات الأثرية بأنّ القوم كانوا يحصرون مياه الأمطار بطريقة تحفظ لهم تلك المياه لاستخدامها في شربهم وشرب أنعامهم، وكانوا يحفرون من أجل ذلك حُفراً كبيرة يلوطونها بالطين من الداخل لكي لا تتسرب مياه الأمطار إلى باطن الأرض، تلك الحفر التي يسميها أهل اليمن «المصانع». 
كان الحوار العقلي بين الوحدانية والوثنية، بين صالح  وقومه، قد وصل إلى ذروته دون استطاعة أحد من الطرفين إقناع الطرف الآخر، ولم يزدد قوم ثمود من الإيمان إلا بُعداً. ولما غلب المنطق العقلي في حجة صالح ، طلب قومه منه أن يأتيهم بمعجزة من جنس أموالهم، وكان القوم أصحاب إبل. ظهرت معجزة الله في يوم عيد لقوم ثمود، وكانوا في هذا العيد يظهرون آلهتهم خارج المدينة، فجاءهم نبيهم ناصحاً أميناً، فطلبوا منه أن يُظهر لهم ناقة حية من صخرة كانت في ذاك المكان. 
وزادوا في طلبهم، بأن تكون تلك الناقة «وبراء سوداء عشراء نتوجاً حالكة صافية اللون...». ذُهل القوم عندما دعا صالح  ربه فتحركت الصخرة وانصدعت، وسمعوا أنيناً حتى ظهرت لهم ناقة بمثل ما كانوا يصفون، وكان معها سَقَبٌ («لسان العرب»: المولود الذكر للناقة) على نحو الوصف. وعندما يقف مفسرو القرآن الكريم عند شرح قصة قوم ثمود بالتفصيل، يمدنا الإخباريون وبعض المؤرخين بروايات أقرب إلى الأسطورة منها إلى الحقيقة التاريخية، وعلى الرغم من تشابه السرد التاريخي بين تلك الروايات، فإنها جميعاً لا تخالف ما أتى في آي القرآن الكريم من ذكر لقوم ثمود وكفرهم وطغيانهم وظلمهم لأنفسهم. ولعل المسعودي في الجزء الثاني من «مروج الذهب ومعادن الجوهر» أكثر تفصيلاً للقصة التي تسرد ما جرى لقوم ثمود، حيث يروي أنّ الناقة قد شاركت القوم ماءهم الذي يشربون، فلهم يوم ولها يوم، {قَالَ هَذِهِ نَاقَةٌ لَهَا شِرْبٌ وَلَكُمْ شِرْبُ يَوْمٍ مَعْلُومٍ}(سورة الشعراء: الآية 155). كما شاركت الناقة كلأ الإبل التي كان يملكها قوم ثمود، الذين ضايقتهم تلك المشاركة، فتآمروا عليها فعقروها. 
يروي الطبري في تفسيره أن سبب قتل الناقة بدأ بمؤامرة كان على رأسها رجلان: قدار بن سالف ومصدع بن المحيا (مفرج)، وامرأتان: عنيزة بنت غنم وصدوف (صدقة) بنت المحيا. وهنا يزيد المسعودي في حبكة القصة ليروي لنا أنّ المرأتين كانتا في غاية الجمال، وأنّ الرجلين زاراهما في مسكن إحداهن، «فقالت صدوف: لو كان لنا في هذا اليوم ماء لأسقيناكما خمراً، وهذا يوم الناقة وورودها إلى الماء... فقالت عنيزة: بلى والله لو أنّ لنا رجالاً لكفونا إياها، وهل هي إلا بعير من الإبل؟! فقال قدار: يا صدوف، إن أنا كفيتك أمر الناقة فما لي عندك؟ فقالت: نفسي... فأجابت الأخرى صاحبها بنحو ذلك...». 
وتتابع فصول القصة التي يتفق على روايتها المؤرخون والمفسرون، فيخرج الرجلان طالبين قتل الناقة، وما إن شاهداها حتى ضرب قدار عرقوبها بالسيف، فأتبعه مصدع فضرب عرقوبها الآخر، فخرت الناقة على وجهها، فعقروها، وتتبعوا سقبها فعقروه أيضاً. لم يتألم القوم من ذلك، بل وزعوا لحم الناقة ووليدها، وكانوا يأكلون اللحم وهم يتضاحكون، ويقولون لصالح  مستهزئين: متى يأتينا عذاب ربك إن كنت من الصادقين؟! وما هي إلا ثلاثة أيام حتى تيقن القوم صدق الوعيد. لم يكْتَفِ القوم بذلك، بل تآمروا على قتل نبي الله صالح . هنالك، خرج  ومن آمن معه قاصدين أرض فلسطين، وقيل «الرملة»، فجاءتهم صيحة من السماء اصفرّت على أثرها أجسامهم، ثم احمرت في اليوم الثاني، وفي اليوم الثالث اسودَّت وجوههم وأجسادهم، فجاءتهم صرخة من السماء صرعتهم أجمعين. وفي ذلك يرد على لسان بعض من آمن 
بصالح :
أراكم يا رجال بني عتيد
كأنّ وجوهكم طُلِيَت بورسِ
ويوم عروبة احمرت وجوه
مُصفرّة، ونادوا يال مرسِ
ويوم شيار فاسودّت وجوه
من الحيين قبل طلوع شمسِ
فلما كان أول في ضحاه
أتتهم صيحة عمّت بتعْسِ 
ولاتزال إلى يومنا هذا آثارهم باقية، ومنازلهم خاوية. تلك ثمود، الحضارة العربية التي حباها الله بكل مقومات الدولة: الأمن والاستقرار، المال والجاه، السكن والسكينة، الماء والمرعى، صحة الأبدان والعقول. ولم يكونوا بكل هذا الفضل من الشاكرين، بل طغوا وتكبَّروا، ففسدوا وأفسدوا، فحق عليهم عذاب الله، وحاق بهم ما كانوا يفعلون... {أَلَا إِنَّ ثَمُودَ كَفَرُوا رَبَّهُمْ أَلَا بُعْدًا لِثَمُودَ (68)} (سورة هود: الآية 68) ■