الاحتفال بأمل دنقل
عندما فارقنا أمل دنقل في الحادي والعشرين من مايو 1983 أصابتني إثــر فقده صدمة هائلة أخرستني عن الكلام أو الكتابة عنه.
فلم أستطع أن أكتب أو حتى أن أرتجل شيئاً عنه لخمسة أعوام على الأقل؛ فقد كانت الصدمة قاسية، وكان ألم الفقد موجعاً، وكنت أشعر بغياب نصفي عن نصفي، أو بغياب عقلي عن جسدي، فقد كان أمل هو المرآة التي أتوجه إليها كي أقف مجرداً من كل شيء إلا الشعور بالآمال، وأنا في حضرة أخ لم يجُد عليّ الزمان بمثله، ولاأزال أفتقده إلى اليوم، ولذلك كانت وطأة الفقد قاسية، وهي التي عاقتني بقدر ما أخرستني عن الكتابة عنه أو الكلام في رثائه؛ فمر التأبين الذي أقامه «التجمع»، وأنا مكتفٍ بالجلوس منصتاً لكلمات المشاركين، وكانت أبلغ الكلمات وأشدها إثارة للشجون كلمة المرحوم يوسف إدريس الذي كان يُكِنُّ لأمل دنقل محبة خالصة ووفاء صادقاً.
توالت الأعوام، وشيئاً فشيئاً خفَّت آلام الجرح ولم تَعُدْ بالقسوة التي كانت عليها، وبدأ الزمن في معالجة الجراح القاتلة، ولكني لم أستطع أن أمسك بالقلم لأكتب أول مقال عن أمل إلا بعد موته بخمس سنوات، حين عاودتني ذكراه التي فاجأتني بها النتيجة الموضوعة على مكتبي، فكتبت على إثرها مقالا عن ذكرى أمل دنقل في جريدة الحياة التي كنت أكتب فيها مقالاتي لسنوات عديدة.
حائط الصمت
منذ ذلك الوقت انكسر حائط الصمت، وصرت أكتب عن أمل وأتحدث عنه بلا جراح موجعة تعيق الكتابة.
ولكني كنت قد عاهدت نفسي بما هو أكثر من الكتابة عنه في مقالات أو الاشتراك في أحاديث أو ندوات؛ فقد قررت أن أكتب عنه كتاباً كاملاً يُنصِف شعره، ويركز على القضية الأساسية لهذا الشاعر.
وصار هذا قرارا بيني وبين نفسي كنوع من الوعي المضمر الذي ظللت أنطوي عليه لسنوات طوال، ولم أنس خلال هذه السنوات ذكرى أمل دنقل قط.
وعندما جاء عام 1993، وقبلت منصب الأمين العام للمجلس الأعلى للثقافة؛ بناء على طلب من الوزير الأسبق الفنان فاروق حسني الذي قدم لي كل عون ممكن في أداء مهام هذه الوظيفة الجليلة، لم أنس أمل دنقل، وانتبهت إلى أن مايو 2003 سيوافق مرور عشرين عاماً على وفاته، فقررت أن يقيم المجلس احتفالاً بهذه المناسبة، ولم يعترض الوزير على هذا الأمر، بل رحب به كل الترحيب، وقرر دعم الاحتفال بكل إمكانات وزارة الثقافة. وبدأنا في توجيه الدعوة إلى أبرز شعراء الوطن العربي وباحثيه من مغربه إلى مشرقه، ليأتوا إلى القاهرة، ويسترجعوا ذكرى أمل دنقل في أبحاث وقصائد، تكون بمنزلة إحياء لذكراه، أو استعادة لحضوره الإبداعي.
محمود درويش
لم أنس أن أهاتف الشاعر الفلسطيني الأكبر محمود درويش، وأن أدعوه بنفسي لحضور الاحتفالية، إذ لم أنس قط أن أمل دنقل هو الذي عرفني عليه وقدمني إليه، ومن ثم كان السبب في الصداقة الحميمة التي ربطتني بدرويش إلى يوم وفاته. ولم يُخيب درويش ظني، فقد وعدني بالحضور، وحضر بالفعل مع غيره من كبار الشعراء العرب الذين لم يتخلفوا فيما عدا صديقي الحبيب عبدالعزيز المقالح - مد الله في عمره - الذي لم يعد إلى مصر، منذ أن تركها مغضوباً عليه من سلطات السادات البوليسية التي كانت معادية للقوميين من الأدباء والمثقفين العرب الذين كانوا يملأون شوارع القاهرة وأحياءها؛ فرحل المقالح إلى صنعاء التي لم يفارقها إلى اليوم، كما رحل غالب هلسا إلى العراق قبل أن يغادرها عائدا إلى وطنه الأردن، حيث ترك صِدام الثقافة والسلطة وصراع المثقفين إلى عالم بلا صدام ولا صراع.
واستمرت احتفالية أمل ثلاثة أيام مقسمة بين أمسيات شعرية وأبحاث، ولاأزال أذكر أن المجلس الأعلى للثقافة قام بطباعة ثلاثة كتب بالغة الأهمية لكل من يريد دراسة أمل دنقل... حياته وشعره بشكل عام أو خاص، وأول هذه الكتب هو الكتاب الذي أعدته أرملة أمل؛ الصديقة عبلة الرويني، وهو كتاب صغير الحجم يحتوي على مجموعة من مقالات أمل دنقل النثرية، وعلى ببلوجرافيا بأهم الأعمال والكتابات التي صدرت عنه في العشرين عاماً السابقة على الاحتفالية.
الصقر المجنح
قام المرحوم حلمي سالم بإعداد كتاب بعنوان اعم صباحا أيها الصقر المجنحب، والكتاب عبارة عن قصائد إلى أمل دنقل، ويحمل أهم القصائد التي كتبها الشعراء العرب في الاحتفالية أو حتى قبلها.
وقد بذل حلمي سالم، عليه رحمة الله، جهداً صادقاً في جمع هذه القصائد وفي التمهيد لها بدراسة مطولة عن شعر أمل. وكانت هذه الدراسة بمنزلة نوع من تصفية الغبار الذي كان يعكر صفو العلاقة بين أمل دنقل - بكل ما يمثله من التزام قومي- وشعراء السبعينيات الذين انقسموا شيعاً وأحزاباً، وظل فريق منهم على تباعدهم عن النزعة القومية، وعن بلاغة الالتزام الوطني التي كان يتمسك بها أمل حتى النهاية، فظلوا أقرب إلى الفن الخالص وأقرب إلى النزعة الأدونيسية في كتابة الشعر.
أما الكتاب الثالث والأخير، فقد كان كتاب االنشيد الأبديب، وهو سيرة شعرية ثقافية عن أمل، أعدها الصديق حسن الغرفي، ولهذا الكتاب قصة تستحق أن تروى، فقد كان الغرفي قد أرسل لي, مشكورا، مع صديقه د. حسن حنفي، مجموعة من الأسئلة إلى أمل كي يجيب عنها، غير أن ظروف أمل الصحية كانت قد ساءت في هذه المرحلة بما حال دون تحقيق الوعد بالإجابة عنها، فأراد الغرفي أن يعوض ما فاته، فأخذ يجمع كل أحاديث أمل وما قاله في ندواته أو حتى مقالاته النثرية، ورتبها ترتيباً خاصّاً جعلها في النهاية أشبه برحلة في عقل أمل دنقل، متتبعاً رحلة وعي الشاعر منذ البداية إلى النهاية، وختمها بعنوان اكيف تلقى أمل دنقل ديوان كائنات مملكة الليل لحجازي؟ب، وهو مقال كتبه أمل تعليقاً على ديوان حجازي اكائنات مملكة الليلب، الذي كتب أغلبه في منفاه الاختياري بمدينة باريس التي رحل إليها في الهجرة الكبيرة التي اضطر إليها كثير من المثقفين المصريين هرباً من الضغوط التي عانوها في زمن السادات، ولم يعودوا إلى مصر إلا في أواخر الزمن الساداتي أو بعد موت السادات.
رحلة وعي
لم يدرِ الغرفي أنه بما فعله كان يقدم شيئاً بالغ الأهمية للباحثين في شعر أمل دنقل، وهو ما أسماه بحق اسيرة شعرية ثقافيةب أو ما أسميه أنا ارحلة وعي من البداية إلى النهايةب، وهي رحلة تتيح للباحثين أو الدراسين معرفة تلافيف وعي أمل دنقل ومواقفه إزاء الأحداث والوقائع التي مر بها وأثرت فيه. وكانت هذه الكتب أهم ما تركه المؤتمر في تقديري، فضلا عن الأبحاث التي جمعناها بعد ذلك وأصدرناها في مجلد خاص من منشورات المجلس الأعلى للثقافة.
ولا أنسى في هذا المجال أن كتاب حلمي سالم لم يتضمن القصيدة التي صحبها درويش معه في رثاء أمل، ويبدو أن دعوتي قد فاجأت درويش وذكرته بأنه لم يكتب قصيدة في رثاء أمل لسبب من الأسباب، فقرر أن يكتب قصيدة يلقيها في أمسية من أمسيات الاحتفالية. وعندما جاء الدور على درويش لإلقاء قصيدته في الأمسية الخاصة به ذ وكانت في المسرح الصغير بدار الأوبر المصرية- أخرج من جيبه مجموعة من الأوراق قرأ منها القصيدة، وكانت قصيدة تأملية، حاول أن يتحدث فيها مع روح أمل، وأن يواصل الحوارات الفلسفية التي اعتاد أن ينطلق معه فيها حين كان حيّاً. وقد لفتت القصيدة انتباهي بنزوعها الفلسفي.
وعندما انتهى الحفل، طلبت من صديقي درويش أن يعطيني القصيدة كي ننشرها مع بقية القصائد، ولكنه اعتذر لي بأدب قائلا اإنها ليست تامة، وسأعاود النظر فيها حتى أرضى عنها، فما كتبته لا أرضى عنه تماماًب.
ومضى الوقت وتركنا محمود عائداً إلى الأردن التي كان يقيم فيها حينذاك، ومرت الأعوام، ونسي كلانا القصيدة التي كتبها في أمل، ولم ألتفت إلى القصيدة إلا أخيراً، فبحثت عنها في الأعمال الكاملة لدرويش فلم أجدها، وانتهى بي المطاف والبحث إلى أن وجدتها على الإنترنت ضمن القصائد التي تقدمها مؤسسة درويش. ويبدو أن درويش لم يتذكر معاودة النظر في هذه القصيدة، فتركها كما كانت، وانشغل بمرضه، فظلت القصيدة كما هي إلى أن توفاه الله، فعثر عليها من عثر وضمها إلى أوراقه التي نشرتها مؤسسة درويش على الموقع الشعري الخاص به على الإنترنت.
وها أنذا أذكرها تقديراً لعشاق أمل ودرويش على السواء. وتمضي القصيدة على النحو التالي:
واقفاً مَعَهُ تحت نافذةٍ،
أتأمَّلُ وَشْمَ الظلال على
ضِفَّة الأَبديَّةِ؛ قُلتُ له:
قد تغيَّرتَ يا صاحبي... وَانْفَطَرْتَ
فها هِيَ درّاجةُ الموت تدنو
ولكنها لا تحرِّكُ صرختك الخاطفهْ
قال لي: عِشْتُ قرب حياتي
كما هِيَ،
لا شيءَ يُثْبِتُ أَنِّيَ حيٌّ
ولا شيءَ يثبتُ أَنيَ مَيْتٌ
ولم أَتدخّل بما تفعلُ الطيرُ بي
وبما يحمِلُ الليل مِنْ
مَرَضِ العاطفةْ
...
الغيابُ يرفّ كزوجَيْ حمامٍ على النيل...
يُنْبِئُنا باختلاف الخُطَى حول فعل المُضارعِ....
كُنّا معاً، وعلى حِدَةٍ، نَسْتَحِثُّ غداً
غامضاً... لا نريدُ من الشيء إلَّا
شفافيَّةَ الشيء: حدِّقْ تَرَ الوردَ
أسوَد في الضوء. واحلُمْ تَرَ الضوءَ
في العتمة الوارفةْ...
... ... ....
ألجنوبيُّ يحفظ درب الصعاليك عن
ظهر قلبٍ.. ويُشْبهُهُم في سليقتهم
وارتجالِ المدى. لا «هناك» له،
لا «هنا»، لا عناوينَ للفوضويّ
ولا مِشْجَبٌ للكلام . يقول: النظامُ
احتكامُ الصدى للصدى.. وأَنا صوتُ
نفسي المشاع: أَنا هُوَ أنتَ ونحنُ أَنا..
وينامُ على دَرَج الفجر: هذا هو
البيتُ، بيتٌ من الشعر، بيتُ الجنوبيّ..
لكنَّهُ صارمٌ في نظام قصيدته.. صانعٌ
بارعٌ يُنِقذُ الوَزْنَ من صَخَب العاصفهْ
... ... ...
الغيابُ على حاله.. قَمَرٌ عابرٌ فوق
خُوفُو يُذهِّبُ سَقْفَ النخيل .. وسائحةٌ
تملأ الكاميرا بالغياب، وتسأل: ما
الساعةُ الآن؟ قال لها: الساعةُ
الآن عَشْرُ دقائقَ ما بعد سبعةِ
آلاف عامٍ من الأبجديَّة، ثم تنهّد:
مِصْرُ الشهيّةُ، مِصْرُ البهيَّةُ مشغولةٌ
بالخلود. وأَمَّا أَنا ... فمريضٌ بها، لا
أفكِّرُ إلا بصحّتها، وبِكسْرَة خبزِ
غدي الناشفهْ
... ... ...
شاعرٌ شاعرٌ من سُلاَلَة أَهل
الخسارة، وابنٌ وفيٌّ لريف المساكينِ..
قرآنُهُ عربيٌّ، ومزمورُهُ عربيٌّ، وقُرْبَانُهُ
عربيٌّ …وفي قلبه زَمَنانِ غريبان،
يبتعدان ويقتربان: غدٌ لا يكفُّ
عن الاعتذار: «نَسِيتُكَ، لا تنتظرني»
وأَمس يجرُّ مراكبَ فرعونَ نحو الشمال:
«انتظرتُكَ، لكنْ تأخرتَ»… قُلْتُ لَهُ:
أَين كُنْتَ إذاً؟ قال لي: كُنْتُ
أَبحث عن حاضري في جَنَاحَيْ سُنُونُوّةٍ
خائفهْ...
... ... ...
ألجنوبيُّ يحملُ تاريخَهُ بيَدَيْهِ، كحفنة قمحٍ،
ويمشي على نفسه واثقاً من يسوع
السنابل ..إنَّ الحياةَ بديهيَّةٌ …فلماذا
نفسّرها بالأساطير؟ إنَّ الحياة حقيقيّةٌ
والصفات هِيَ الزائفهْ
قال لي في الطريق إلى ليله:
كُلَّما قُلْتُ: كلّ … تجلّى لِيَ اللهُ
حريَّةٌ. وبلغتُ الرضا الباطنيَّ عن
النفس. قلتُ: وهل يُصْلِحُ الشعرُ
ما أفسد الدهرُ فينا وجنكيز خان
وأحفادُهُ العائدون إلى النهرِ؟
قال: على قَدْر حُلْمكَ تَتَسع الأرضُ.
والأرضُ أمّ المخيّلة النازفهْ
... ... ...
قال في آخر الليل: خذني إلى البيتِ،
بيتِ المجاز الأخيرِ..
فإني غريبٌ هنا يا غريبُ،
ولا شيءَ يُفْرحُني قرب بيتِ الحبيب
ولا شيءَ يجرحني في «طريق الحبيب» البعيدةِ
قلت: وماذا عن الروحِ؟
قال: سَتَجْلسُ قُرْبَ حياتي
فلا شيءَ يُثْبِتُ أنّيَ ميتٌ
ولا شي يثبتُ أنّيَ حيٌّ
ستحيا، كما هِي
حائرة آسفهْ!
المقطع الأول في القصيدة وقفة تحملنا إلى ضفة النهر الذي يصل بين عالم الأحياء والأموات قبل أن يتركه المتكلم (محمود درويش) عابراً إلى حيث يوجد صديقه في عالم الموت، لكنه بدلاً من أن يعبر إليه في المركب (الذي تحدثت عنه الأساطير والذي يقوده خيرون) يتكلم عن دراجة للموت تدنو من عالم الصديق الذي يقف على آخر مكان في الحياة قبيل نهر الموت مباشرة. وعندما يسأل صاحبه قائلا: لقد تغيرت بعد أن مررت بالتجربة الكبرى، تأتيه الإجابة أن أمل لم يعش في الحياة نفسها، وإنما عاش على هامشها، ما بين الحياة والموت، نائيا عن العواطف البشرية. ثم ينتقل الشاعر إلى المقطع الثاني حيث الغياب الذي يصاحب الموت، والذي يحيط بالمشهد ويرف حوله رفيف زوجي حمام على النيل، لكي ينبئنا باختلاف الخطى حول فعل المضارع. ويتذكر الشاعر أنه كان مع أمل على درب الشعر، وكانا معا يستحثان المستقبل الذي ظل غامضا يتأبى على المجيء أو الحضور، لا يريدان من الدنيا سوى شفافية الأشياء وجوهرها الحق.
وينتهي التأمل، ويبدأ الحديث عن أمل أو الجنوبي الذي هو صعلوك يحفظ درب الصعاليك عن ظهر قلب، ويشبههم في عدم البقاء في مكان، أو امتلاك ثروة أو الوقوع في عبودية رغبة، فليس في حياته هنا أو هناك، سوى عناوين للفوضى. أما النظام فهو نظمه الشعري الذي يحتكم فيه الصدى للصدى، ويتناغم فيه الإيقاع مع الوزن والقافية، فلا نبو أو زحاف أو شذوذ أو خروج غير مبرر على القاعدة، فكل شيء محكم، موضوع في مكانه في نسق فريد، لا يعرف الفوضى التي يعيشها الشاعر، أو عاشها بالفعل في حياته، وتنام الأبيات على درج الفجر. فبيت الشعر هو بيت الجنوبي الذي يتميز بالصرامة في نظم القصيدة والبراعة في إنقاذ الوزن من صخب العاصفة الفوضوية.
ويأتي المقطع التالي عن الغياب الذي يستمر على حاله بعد موت أمل، فلا شيء فيه سوى قمر يعبر فوق هرم خوفو ماضيا فوق سقف النخيل، فلا شيء في المكان سوى سائحة تملأ الكاميرا بالغياب، وتسأل عن الساعة الآن، فتأتي الإجابة أنها ما بعد الألف السابعة من أعوام الأبجدية. وإذا كانت السائحة مهووسة بمصر البهية، فالشاعر كان مريضا بها، لا يفكر إلا بصحتها وبكسرة خبز غده الناشفة. فهو شاعر من سلالة أهل خسارة، وابن وفي لريف المساكين، قرآنه عربي وفي قلبه زمنان غريبان يبتعدان ويقتربان: غد لا يكف عن الاعتذار وحاضر لا يكف عن الانكسار، وماض يجر مراكب فرعون نحو الشمال، لكن المراكب لا تصل في أوقاتها، فلا يوجد - بعد- موعد للوصول، بل توجد سنونوة خائفة.
ويمضي درويش في وصفه الشعري لأمل، فهو جنوبي يحمل تاريخه بيديه كحفنة قمح، ويمشي على نفسه واثقا من يسوع السنابل، مؤمنا بأن الحياة بديهية لا تفسرها الأساطير، وأن الحياة حقيقية جوهرها الخالص يزيف كل ما يلصق بها من صفات. ويعبر الشاعر نهر الحياة لكي يقول لصاحبه عن رحلة العبور، إنه عبر إلى الضفة الأخرى، فتجلى له الله حرية، وبلغ الرضا الباطنية عن النفس، ولكنه أدرك أن الشعر لن يصلح ما أفسده الدهر أو الطغاة في القديم أو الحديث إلا بالحلم المستمر بالغد الذي يتسع اتساع الحلم والأرض الموعودة التي تصنعها المخيلة النازفة.هكذا يفارق الشاعر صاحبه في آخر الليل كي يذهب إلى بيته الأخير، وهو بيت المجاز كي يظل غريبا كصاحبه الذي ظل - بدوره - في الحياة غريبا، لا شيء يفرحه ولا شيء يجرحه، فحياتهما عبور مستمر على البرزخ، وحياتهما خروج مستمر على قواعد القبيلة، ومفارقة لها، فلا شيء يثبت أنهما أحياء ولا شيء يثبت أنهما موتى، فحياتهما كالرغبة غير محققة، أو كالحلم الذي يظل حائرا وآسفا!
وأذكر أن وقع الاحتفال بالذكرى العشرين لوفاة أمل دنقل الذي أقمناه في الفترة من 18 إلى 21 مايو سنة 2003 لم يكن يقل نجاحاً عن الاحتفال بمرور عشرين عاماً على وفاة صلاح عبدالصبور الذي أقامه المجلس الأعلى للثقافة في الفترة من 12 إلى 14 نوفمبر سنة 2001 قبل احتفالية أمل دنقل بعامين، ومرت الأيام وقد فرغت مما كان في صدري من دراسات عن عبدالصبور، وكنت قد عقدت العزم على أن أكتب كتباً ثلاثة عن تجربة الشعر المصري الحر؛ أكتب فيها عن عبدالصبور أولاً، ثم عن أحمد حجازي ثانياً، ثم عن أمل دنقل ثالثاً.
رؤى حكيم محزون
لقد شفيت نفسي مما أريد أن أكتب عن عبدالصبور وجمعت أهمه في كتاب بعنوان ارؤى حكيم محزونب وقد صدر عن الهيئة المصرية العامة للكتاب هذ العام.
أما أمل دنقل، فقد بدأت بالكتابة عنه لأنه كان أقرب الناس إلى نفسي وإلى عمري، كانت بواكير تلك الكتابات منذ حوالي عشرة أعوام، ولم أستطع أن أنهي العمل إلا منذ شهرين أو أكثر قليلاً، وكانت خطة كتابي عن أمل تتضمن دراسة موضوعية، ثم تأتي بعدها ملاحق تتضمن ذكريات شخصية أو ذاتية أولاً، ومراسلات بينه وبين أصدقائه ثانياً، وما احتفظ به من صور فوتوغرافية ثالثاً. ولكني بعد أن انتهيت من الدراسة الموضوعية وجدتها تصل إلى حوالي ستمائة صفحة، ومن ثَم كانت إضافة الملاحق عليها نوعاً من الإسراف في تضخم حجم الكتاب؛ ولذلك استقر رأيي بمشاورة مجموعة من الأصدقاء على تحويل الملاحق إلى كتاب، وتولى الصديق أحمد اللباد إعداد الغلاف للكتاب الأول بعنوان اقصيدة الرفض ة قراءة في شعر أمل دنقلب، أما القسم الثاني فتولته الأخت العزيزة ميسون القاسمي وهو بعنوان اأمل دنقل... ذكريات، وثائق، صورب. وبقدر ما أسجل شكري هنا إلى إبداع اللباد، فإني أسجل بالقدر نفسه شكري العميق للصديقة العزيزة القاسمي التي تدخلت في كل صفحة من صفحات الكتاب الثاني، فلها الشكر على ما فعلت وعلى ما سوف يلاحظه القارئ حين يقرأ الكتاب الثاني الذي سوف يصدر قريباً عن دار بتانة. لكن التحية الأكبر ينبغي أن تكون لأمل دنقل الذي ترك في نفسي أثراً لا يمحى، والذي لاأزال أذكره عندما أمر بموقف من المواقف التي تستلزم الرفض وما أكثرها في هذا الزمن الذي نعيشه. رحمه الله، فهو الذي علمنا أن نتسع بحدقات الأعين لنرى ما لا يُرى، ونسمع ما لا يسمع، ممتلئين بشعره الذي يخاطب دائماً الأذن التي تسمع والعين التي ترى والوجدان الذي يشعر، والعقل الذي يعي, ويزن الأحداث والمواقف التي يتخذها البشر الأحياء أو الأحياء الموتى .