من المكتبة العربية: الأندلس العربية إسلام الحضارة وثقافة التسامح

 من المكتبة العربية: الأندلس العربية إسلام الحضارة وثقافة التسامح
        

ترجمة: عبدالمجيد جحفة - مصطفى جباري**
عرض: ميلود حميدة***

          تعتبر الأندلس التسمية التي تعطى لما يسمى اليوم شبه الجزيرة الأيبيرية، جزيرة الأندلس، في الفترة ما بين 711 و1492م، التي حكمها العرب. تختلف الأندلس عن أندلسيا التي تضم حاليا ثمانية أقاليم في جنوب إسبانيا، وقد تأسست في البداية كإمارة في ظل الدولة الأموية في الشام، التي بدأت بنجاح من قبل الوليد بن عبدالملك (711-750)، بعدها تولتها دولة بني أمية في الأندلس «عبدالرحمن الداخل»، وبعد سقوط دولة بني أمية تولت الأندلس ممالك غير موحدة عرفوا بملوك الطوائف، ثم وحدها المرابطون والموحدون قبل أن تنقسم إلى ملوك طوائف مرة أخرى وزالت بصورة نهائية بدخول فرناندو الثاني ملك الإسبان مملكة غرناطة، وقد افتتن المسلمون بها شأنهم شأن الرومان، منذ أمد بعيد، وشأن القبائل الجرمانية لاحقًا، بشبه الجزيرة الممتلئة والمستديرة تقريبًا والمعلقة في أقصى غرب البحر الأبيض المتوسط.

          في البدء كانت إسبانيا ناضجة، جاهزة للقطف. لقد كانت لمملكة القوط التي كان يشتهيها المسلمون الجدد بإفريقيا الشمالية والتي اكتسحوها واستعمروها بسهولة، صورة بلاد عاشت مائة عام من التقلبات والفتن الاجتماعية، كما تبين ذلك صاحبة الكتاب من أنها منطقة غير مستقرة سياسيا، ومنقسمة دينيا وإثنيا وواهنة ثقافيا. حتى الميثولوجيا المسيحية التي تعالج أحداث سنة 711 وهي عبارة عن مجموعة من المحكيات المكتوبة بعد عدة قرون، وتتحدث عن سقوط إسبانيا المسيحية القديمة في يد المسلمين، حتى هذه الميثولوجيا تبين مناخ الاضطراب السياسي والفساد الأخلاقي والانحطاط، الذي ميز حكم آخر ملوك القوط. حين وصل عبدالرحمن، بعد أقل من خمسين سنة على الغارات الأولى لجنود المسلمين في ما وراء مضيق البوسفور، كانت كل أقاليم القوط تقريبا، وحتى تلك الموجودة في مناطق أبعد في الشمال، مثل ناربون وأكيتانيا، قد خضعت للمسلمين. تأمل الأمير الأموي المكان الذي سيصير منفى حياته، عارفا من دون شك أنه لن يرى بعد ذلك أبدا أراضي وطنه. لقد وجد نفسه على هذه الأرض التي لم يبق له سوى أن يستفيد بأكبر قدر منها، ورغم ذلك فقد كان متفائلا إذ على يديه سيتحول هذا المشهد المقفر والجاف من دون شك إلى مشهد ازدهار ورخاء.

أطياف أولى

          ويجيء هذا الكتاب: «الأندلس العربية، إسلام الحضارة وثقافة التسامح» للكاتبة الكوبية ماريا روزا مينوكال وبترجمة رائعة للباحث اللغوي والقاص عبد المجيد جحفة وزميله الكاتب والباحث والقاص المغربي مصطفى جباري، والواقع في 224 صفحة من القطع المتوسط، الصادر عن «دار توبقال للنشر» بالمغرب، كترجمة عربية بعد الكتابة الأصلية باللغة الإنجليزية والتي ظهرت لأول مرة في الولايات المتحدة الأمريكية سنة 2002، تحت عنوان «توشيح العالم: كيف أنشأ المسلمون واليهود والنصارى ثقافة التسامح في إسبانيا الوسيطة» وترجم أيضا سنة 2003 إلى اللغة الفرنسية بباريس تحت عنوان «الأندلس العربية: ثقافة التسامح (القرن الثامن القرن الخامس عشر)»، وتأتي هذه الترجمة العربية لتلقي أيضا نظرة ثاقبة فيما يكتبه الغرب عن معالم الحضارة الإسلامية بمنهجية مختلفة مسترسلة، فهو كما جاء في تقديم المترجمين «ليس كتاب تاريخ فحسب، بل يحاول رسم المسارات الثقافية للأندلس منذ دخول العرب إليها، عبر تصوير شخصيات فاعلة، شخصيات أسست لثقافة الحوار والتسامح وبناء المعنى الاجتماعي للثقافة وللإنسان، وعبر تتبع تواريخ بعض المآثر». وتنطلق الكاتبة من لغة ثرية تتداخل بين ضفافها رمزية القص الذي يستقطب الأحداث فيلقي بها في سياق منهجي مختلف. تتحدث في القسم الأول من الكتاب عن مكان استثنائي أنشأ فيه النبي المصطفى [ أمة تحمل بذور دولة عسكرية وسياسية، ونشرَ داخل هذا الكيان القيم الاجتماعية والمدنية والأخلاقية المرتبطة بالتوجهات الروحية التي كان يدعو إليها، وبعد اتساع حدود الإمبراطورية الإسلامية كما وصفتها الكاتبة أخذ التحول الإسلامي على عاتقه إعادة تشكيل الشرق الأوسط كله، بما في ذلك فارس، وكانت الحضارة العربية الإسلامية تتمتع تحديدا بخاصية هضم وإحياء عصر غنى الثقافات السابقة والثقافات الأصلية المنهكة والمخربة مع أنها نفسها كانت تجتاز مرحلة تطورها وتشكلها.

          ونجد في القسم الثاني والذي عنونت تفاصيله بـ «قصور الذاكرة» وانطلقت من المسجد والنخلة، قرطبة سنة 786، حيث استقت من اللغة القصصية نفحاتها لتحكي عن عبدالرحمن ومنفاه الأندلسي، تحكي عن ذكرى الأمويين وذكرى دمشق في عوالم عبدالرحمن الذي تمكن خلال ثلاثين سنة من وضع أسس ولاية أموية جديدة وواعدة.

قال الراوي

          كانت شبه الجزيرة الأيبيرية شأنها شأن باقي أوربا بعد الرومان في القرن الثامن، في حالة من الخراب الثقافي والمادي. لقد حكمتها روما لما يقارب ستمائة سنة، منذ حوالي 200 سنة ق.م، عقب سلسلة من المحتلين ومن الثقافات المتوسطية: الفينيقيين، والقرطاجنيين، والإغريقيين. وقد استفادت إسبانيا، في ظل الجمهورية ثم في ظل الإمبراطورية، من الإسهامات المادية والثقافية للرومان، وبذلك دمجت بعض أبنائها في المراكز الإدارية وفي حوليات الأدب اللاتيني، غير أن هذا الرفاه لم يكن إذاك سوى ذكرى، ذكرى لم تكن قد نسيت تماما، خلال تلك الفترة الطويلة التي تطلق عليها أوربا اسما لا يخلو من براغماتية العصر «البربري» أو المتوحش. وقد أحدثت كوارث وهجرات القبائل الجرمانية عبر أوربا، في القرنين الثالث والرابع، الانحطاط، وإن لم تؤد إلى سقوط الإمبراطورية الرومانية، فإنها أدت على الأقل إلى انحلال النظام المدني والقطيعة مع سلسلة طويلة كانت تُرجع بصورة جوهرية الإرث - الكلاسيكي إلى اليونان، لقد عوضتها روما من خلال ابتلاع تاريخها وثقافتها بصورة واضحة مباشرة، في البدء، ثم من خلال بناء حضارتها الخاصة على أسس الحضارات السابقة، التي كان لها بها اتصال مزدوج فيه المنافسة والإعجاب.

القرآن وأكسفورد

          توغلت الجيوش الإسلامية الأولى نحو الحدود الشمالية لأيبيريا، فيما وراء الجبال الثلجية التي كانوا يسمونها البرانس، حتى تلك المنطقة المسماة الغول، تمت الحملات الأكثر بعدا في السنوات التي لم يكن قد حلم فيها عبدالرحمن بالأندلس حين كان الأمويون يحكمون دمشق، وصلت الجيوش إلى وادي الرون، ودخلت منطقة بورغون، وبدأ التوسع الإسلامي، لمدة سنوات، يبلغ مناطق في أقصى شمال هذه الجبال القاحلة، غير أن عدوا أعتى كان ينتظر في الظل، حين وصلت الجيوش المسلمة سنة 732 إلى المعسكر القصي المسمى تور، لم يكن لملك الإفرنج الاختيار، كان عليه الدفاع عن أراضيه، في نواحي مدينة تور الحالية، في السهول الجنوبية التي تقود إلى بواتيي واجه شارل مارتيل الجيوش المسلمة وصارت المعركة التي تواجه فيها الطرفان معركة شهيرة، عند هذا الطرف وذاك. هزم الإفرنج المسلمين، وقتلوا القائد الذي كان يقود جيشهم، وعددا من الجنود، إلى درجة أن المسلمين أطلقوا على موقع القتال «بلاط الشهداء». وتمثل معركة تور التي سميت أيضا معركة بواتيي، في أعين مؤرخي أوربا، من الناحية الرمزية نهاية الغارات الإسلامية في أوربا الشمالية. وقد أوحى هذا المنعطف الحاسم الذي اتخذه تاريخ أوربا لإدوار جيبتون، في كتابه «تاريخ الانحطاط وسقوط الإمبراطورية الرومانية» بهذه الملاحظة المثيرة: «لو كانت المعركة قد انتهت نهاية أخرى، «فلربما كانت كليات أكسفورد تدرس الآن تفاسير القرآن، ولربما كان أساتذتها المبرزون يبيّنون لجمهور من المختونين قداسة الوحي المحمدي وحقيقته».

اللغات الأم

          «يعشق المسيحيون قراءة الأشعار والقصائد العربية، يدرسون الفقهاء والفلاسفة العرب، لا من أجل الرد عليهم أو مجادلتهم، وإنما من أجل اكتساب عربية جيدة وأنيقة. هل يوجد من بين غير المتدينين من لايزال يستطيع قراءة الحواشي على الكتابات المقدسة باللاتينية، أو يعكف على دراسة الأناجيل أو الأنبياء والدعاة والمبشرين؟ مع الأسف فبحماس يقرأ الشبان المسيحيون ويدرسون الكتب العربية، إنهم يصرفون أموالا طائلة في جمع مكتبات هائلة، يحتقرون الأدب المسيحي، ويعتبرونه غير جدير بالاهتمام. ومن فرط ذلك نسوا لغتهم مقابل كل رجل قادر على كتابة رسالة إلى صديق باللاتينية، هناك ألف يتحدثون العربية بأناقة، وينظمون بهذه اللغة أشعارا تتفوق على أشعار العرب أنفسهم». الذي يتكلم كما تقول الكاتبة هنا هو بول ألفار، القرطبي المسيحي الذي اشتهر في أواسط القرن التاسع، وعُرف بالجرأة والصراحة.

          مضى ما يناهز مائة عام على دخول عبدالرحمن مدينة القوط القديمة، التي تغيرت هيئتها وتحول مجتمعها الآن، كانت قرطبة كلها في حالة فوران وجيشان، مدينة مزدهرة ومنطلقة، ترصعها بنايات جديدة، وثقافاتها تتطور على إيقاع التحولات. لقد اعتبرت الكاتبة خلال تماوجها بين فواصل الثقافة العربية لتقدم بول ألفار على أنه أحسن شاهد على كل هذه التحولات، واعتبرته انطلاقا من نظرة تاريخية نقدية أنه المناصر الجريء الذي يعطينا كتابه السجالي «الدليل المنير» والذي اقتبست منه الكاتبة تلك الفقرة التي يبين فيها أثر اللغة العربية على الشباب المسيحي الذي انبهر بها واقترب منها أكثر ليبدع في فضاءاتها الحية المتنامية، تلك اللغة التي أعطت لتلك الأجيال القوة والبصيرة والرأي السديد، وهي التي فتحت قلوب الجاهلية إبان البعث المحمدي، وهي التي انبجس منها نور القرآن الكريم وهداه، إنها تحمل أسرارها وتمضي إلى التنوع والخلق والإبداع، لذلك حين توغلت أكثر داخل عقول وقلوب محبيها أعطتهم الأندلس وهم بدورهم ضمن نفحاتها تحولت تلك المناطق إلى جنان، إن هناك علاقة مهمة بين اللغة ومعانيها حين تترسب في العقل لتعطي القلب البصيرة، ورغم أن بول ألفار لم يكن رجل دين، فإنه كان يشترك مع مجموعة قليلة ولكنها متحمسة وحامية من المسيحيين المحافظين، كما وصفته الكاتبة في الإحساس بهول هذا العالم المتحول.

أقسام أخرى

          تأتي أقسام متعددة في هذا الكتاب لتواصل الحكي عن الزمان والمكان الأندلسي، من قرطبة سنة 855، إلى وزير كبير ومدينة كبيرة كقرطبة سنة 949، إلى بساتين الذاكرة، مدينة الزهراء جنوب قرطبة سنة 1009، إلى منفى ظافر، ساحة معركة أرغون، بين قرطبة وغرناطة سنة 1041، ثم تنتقل إلى الحبّ وأغانيه، لبْلَة، شرق إشبيلية، على طريق ولْبَة غشت 1064. أين توفي ابن حزم عميد الآداب الأندلسية؟ بهذه المدينة الصغيرة الواقعة على الوادي الكبير في منتصف الطريق بين إشبيلية والبحر، وهو يتجرع وحشة المنفى ومرارته، ثم تتعلق ببربشتر في تلال البرانس، طريق سرقسطة، غشت 1064، حيث هناك المركز التجاري المزدهر والذي يقع في ملتقى طريق كثير الحركة ويؤدي إلى طائفة سرقسطة وهي الطائفة الكبيرة والقوية التي كانت تسيطر على المنطقة. وتتحدث الكاتبة أيضا عن كنيسة في قمة التل، «طليطلة» سنة 1085، كنيسة سان رومان التي بنيت عقب استرداد مدينة طليطلة.

          ابتداء من تلك السنة غدت طليطلة بقيادة ألفونس السادس وورثته العاصمة الثقافية لأوربا، وقد بقيت اللغة العربية في هذه المدينة المسيحية لغة التراسل والتعليم. وكانت مكاتبها العربية الشاسعة التي ترجع زمنيا إلى عصور المجد الأموي، قد ازداد غناها خلال حكم المأمون الذي كان يحلم بأن يكرر بطليطلة تجربة قرطبة. كما أغناها من جديد ملوك قشتالة المسيحيون، والعديد من الأحبار، ومن بينهم رايمون الذي كان رئيس أساقفة طليطلة من 1125 إلى 1151، إذ خول للمؤسسات التي كانت قد أزهرت بالقرب من المكتبات، تسمية شبه رسمية هي «مدينة المترجمين» وهو الاسم الذي حافظت عليه. فبواسطة طليطلة تمكنت أوربا (المسيحية اللاتينية) من الولوج إلى ذلك المتن الفلسفي والعلمي الرحب، المترجم من الإغريقية إلى العربية ببغداد، عاصمة العباسيين، خلال القرون السابقة، وقد يبدو لنا مفاجئا، بل لربما كان أمرا فيه مفارقة أن يتحتم لعبُ هذا الدور على مدينة مسيحية وليس على مدينة مسلمة. ولا شك لم تغادر الكاتبة أجواء علاقات التراب الأندلسي بالأفكار والشخصيات العربية والمسلمة المؤثرة بطريقة أو بأخرى في هذا الزخم الحضاري، فقد فتحت النوافذ في أقسام أخرى عن بيير ألفونس وكتابه «قصص القساوسة» الذي كشف وعمم شكلا للكتابة سيغدو دعامة للكتابة التخييلية بالنسبة للأجيال المتعاقبة، محملا بنزعة تبشيرية، منتبها لأدوات تذوق الحكمة الشعبية التي يزخر بها تقليد الحكايات التضمينية، وقد تحدثت الكاتبة أيضا عن الإسكندرية سنة 1140م وصلتها بأطياف الأندلس، وتحدثت عن صقلية سنة 1236م، وقرطبة سنة 1236م، وأرسطو الجديد كما لقب المفكر ابن رشد الذي اقترح خلافا لرؤية العالم المسيحية قراءتين لأرسطو متعارضتين بشكل صارم، وأهم من هذا أن الفكرة الرئيسية التي وجهت جهود ابن رشد هي إقامة رابط جدلي بين الفلسفة والفكر بصيغتيه التأملية والعقلانية العلمية من جهة، والثيولوجيا أو الفكر المتصل بالعقيدة من جهة أخرى. ولم تبتعد الكاتبة في أقسام كتابها الأخرى عن منهجها الاستنباطي التاريخي الذي يشكل حلقات عدة متناثرة، لا تكون بالضرورة عقدا متناسقا وإنما تعتمد في ذلك على لغة التقارب التاريخي بكل ما حفلت به الأندلس من أفكار وآراء وأديان وعوالم أدبية وفكرية ولغات وترجمات ومكاسب أخرى.
---------------------------------------
* أكاديمية من كوبا مقيمة في الولايات المتحدة.
** باحثان لغويان وقاصان من المغرب.
*** كاتب وشاعر من الجزائر.

 

 

تأليف: ماريا روزا مينوكال*