مدينــةُ الــدَّم*

مدينــةُ الــدَّم*

حلمتُ‭ ‬أني‭ ‬كنت‭ ‬أتجول‭ ‬في‭ ‬شارع‭ ‬ضيق‭ ‬طويل‭ ‬جداً،‭ ‬على‭ ‬جانبيه‭ ‬تمتد‭ ‬منازل‭ ‬فارعة‭ ‬في‭ ‬خط‭ ‬غير‭ ‬مقطوع،‭ ‬تشبه‭ ‬جدرانها‭ ‬جدران‭ ‬السجن‭ ‬وتشبه‭ ‬أبوابها‭ ‬أبوابه‭.‬

كان‭ ‬الجو‭ ‬كثيفاً‭ ‬مظلماً،‭ ‬فبدا‭ ‬الوقت‭ ‬كأنه‭ ‬الغسق،‭ ‬في‭ ‬خط‭ ‬رفيع‭ ‬من‭ ‬السماء‭ ‬يظهر‭ ‬بعيداً‭ ‬في‭ ‬الأفق‭ - ‬بين‭ ‬صفي‭ ‬سطوح‭ ‬المنازل‭ - ‬لم‭ ‬أستطع‭ ‬أن‭ ‬أتبيّن‭ ‬شمساً‭ ‬ولا‭ ‬قمراً‭ ‬ولا‭ ‬نجوماً‭ ‬ولا‭ ‬أيّ‭ ‬لون،‭ ‬وبدا‭ ‬كلّ‭ ‬شيء‭ ‬رمادياً‭ ‬معتماً‭ ‬لا‭ ‬يبين‭.‬

وتحت‭ ‬قدماي‭ ‬كانت‭ ‬تنبت‭ ‬بعض‭ ‬الحشائش‭ ‬بين‭ ‬أحجار‭ ‬الرصيف،‭ ‬ولم‭ ‬تكن‭ ‬ثمة‭ ‬علامة‭ ‬حياة،‭ ‬فبدا‭ ‬المكان‭ ‬بأكمله‭ ‬قفراً‭ ‬بلقعاً‭.‬

وقفت‭ ‬وحيدة‭ ‬وسط‭ ‬هذا‭ ‬الصمت‭ ‬المطبق‭ ‬والقفر‭ ‬الموحش‭. ‬اصمتٌ؟‭ ‬لا‭!‬ب،‭ ‬فبينما‭ ‬أنا‭ ‬أتسمّع،‭ ‬أتى
‭- ‬خافتاً‭ - ‬إلى‭ ‬مسامعي‭  ‬من‭ ‬جميع‭ ‬الجهات‭ ‬صوتٌ‭ ‬خفيض‭ ‬لا‭ ‬يكاد‭ ‬يُدرك،‭ ‬يزحف‭ ‬كصوت‭ ‬أنين‭ ‬مكظوم،‭ ‬صوت‭ ‬لم‭ ‬يتوقف‭ ‬قطّ‭. ‬

كان‭ ‬هذا‭ ‬الصوت‭ ‬مألوفاً‭ ‬في‭ ‬هذا‭ ‬المكان،‭ ‬إلا‭ ‬أنّي‭ ‬في‭ ‬البدء‭ ‬لم‭ ‬أعيه‭. ‬أما‭ ‬الآن‭ ‬فقد‭ ‬تبيّنتُه‭ ‬ووعيتُه‭ ‬معبّراً‭ ‬عن‭ ‬أشدّ‭ ‬آلام‭ ‬الجسد‭. ‬ركّزت‭ ‬بصري‭ ‬نحو‭ ‬أحد‭ ‬المنازل‭ ‬التي‭ ‬ينبعث‭ ‬منها‭ ‬أوضح‭ ‬هذه‭ ‬الأصوات،‭ ‬فرأيت‭ ‬مجرى‭ ‬دم‭ ‬ينضح‭ - ‬خارجاً‭ - ‬من‭ ‬أسفل‭ ‬الباب‭ ‬ويقطُر‭ ‬نحو‭ ‬الشارع،‭ ‬فيخضّب‭ ‬حزم‭ ‬الحشائش‭ - ‬هنا‭ ‬وهناك‭ - ‬بلون‭ ‬أحمر،‭ ‬شاقاً‭ ‬طريقه‭ ‬نحوي‭. ‬رنوتُ‭ ‬لأعلى‭ ‬فرأيتُ‭ ‬زجاج‭ ‬النوافذ‭ ‬الموصدة‭ ‬ملطّخاً‭ ‬بهذا‭ ‬الخضاب‭ ‬المريع،‭ ‬فصحت‭ ‬قائلة‭: ‬القد‭ ‬قُتل‭ ‬شخص‭ ‬في‭ ‬هذا‭ ‬المكان‭!‬ب،‭ ‬وفررت‭ ‬نحو‭ ‬الباب،‭ ‬ثم‭ ‬أدركت،‭ ‬للوهلة‭ ‬الأولى،‭ ‬أن‭ ‬الباب‭ ‬لم‭ ‬يكن‭ ‬عليه‭ ‬قفل‭ ‬ولا‭ ‬مقبض‭ ‬من‭ ‬الخارج،‭ ‬لكنه‭ ‬قد‭ ‬يفتح‭ ‬من‭ ‬الداخل‭.‬

بالفعل‭ ‬كان‭ ‬شكله‭ ‬وظاهره‭ ‬يدلان‭ ‬على‭ ‬أنه‭ ‬باب،‭ ‬لكنه‭ ‬من‭ ‬ناحية‭ ‬أخرى‭ ‬كان‭ ‬صلباً‭ ‬لا‭ ‬يمكن‭ ‬ولوجه‭ ‬مثله‭ ‬مثل‭ ‬الجدران‭ ‬نفسها،‭ ‬وبحثت‭ - ‬دون‭ ‬جدوى‭ - ‬عن‭ ‬جرس‭ ‬أو‭ ‬مزلاج‭ ‬أو‭ ‬عن‭ ‬أي‭ ‬وسيلة‭ ‬لدخول‭ ‬المنزل،‭ ‬فوجدت‭ ‬لفافة‭ ‬مثبّتة‭ ‬بمسامير‭ ‬على‭ ‬لوح‭ ‬فوق‭ ‬الباب،‭ ‬مكتوباً‭ ‬فيها‭: ‬اهذا‭ ‬معمل‭ ‬لتشريح‭ ‬الحيواناتب‭.‬

وبينما‭ ‬أنا‭ ‬أقرأ،‭ ‬تضاعف‭ ‬صوت‭ ‬النحيب‭ ‬واشتدّ،‭ ‬وعلا‭ ‬صوت‭ ‬ضجيج‭ ‬بالداخل‭ ‬كأنه‭ ‬مقاومة،‭ ‬كما‭ ‬لو‭ ‬أن‭ ‬ضحية‭ ‬جديدة‭ ‬قد‭ ‬أضيفت‭ ‬إلى‭ ‬ضحية‭ ‬سابقة،‭ ‬طرقت‭ ‬الباب‭ ‬طرقاً‭ ‬جنونياً‭ ‬بكلتا‭ ‬يديّ‭ ‬وصحت‭ ‬أطلب‭ ‬العون‭ ‬فلم‭ ‬أجد‭ ‬معيناً‭.‬

لطّخ‭ ‬ردائي‭ ‬الدم‭ ‬الذي‭ ‬فوق‭ ‬الأعتاب،‭ ‬فنظرت‭ ‬إليه‭ ‬مذعورة‭ ‬ثم‭ ‬وليّتُ‭ ‬هاربة‭. ‬أثناء‭ ‬عبوري‭ ‬الشارع،‭ ‬علت‭ ‬الأصوات‭ ‬من‭ ‬حولي‭ ‬صانعةً‭ ‬صراخاً‭ ‬مدوياً‭ ‬ونشيجاً‭ ‬منفجراً‭. ‬وعلى‭ ‬باب‭ ‬كل‭ ‬منزل،‭ ‬كانت‭ ‬معلّقة‭ ‬لفّافة‭ ‬تشبه‭ ‬تلك‭ ‬التي‭ ‬قد‭ ‬رأيتُها‭ ‬من‭ ‬قبل،‭ ‬منقوش‭ ‬على‭ ‬واحدة‭ ‬منها‭: ‬اهنا‭ ‬زوجٌ‭ ‬يقتل‭ ‬زوجهب،‭ ‬وعلى‭ ‬أخرى‭: ‬اهنا‭ ‬أمٌّ‭ ‬تضرب‭ ‬طفلها‭ ‬حتى‭ ‬الموتب،‭ ‬وعلى‭ ‬ثالثة‭: ‬اهذا‭ ‬محل‭ ‬جزارةب‭.‬

كانت‭ ‬كل‭ ‬الأبواب‭ ‬مغلقة‭ ‬وكل‭ ‬النوافذ‭ ‬موصدة،‭ ‬لذا‭ ‬فمحاولة‭ ‬الولوج‭ - ‬من‭ ‬غير‭ ‬مدخل‭ - ‬غير‭ ‬مجدية‭. ‬

رفعت‭ ‬صوتي‭ ‬وصحت‭ ‬طلباً‭ ‬للعون،‭ ‬لكن‭ ‬ليس‭ ‬ثمة‭ ‬مجيب‭. ‬كان‭ ‬الشارع‭ ‬موحشاً‭ ‬كأنه‭ ‬مقبرة،‭ ‬والشيء‭ ‬الوحيد‭ ‬الذي‭ ‬كان‭ ‬يتحرك‭ ‬نحوي‭ ‬هو‭ ‬الدم‭ ‬المتلصص‭ ‬الذي‭ ‬يخرج‭ ‬زاحفاً‭ ‬من‭ ‬أسفل‭ ‬أبواب‭ ‬تلك‭ ‬المساكن‭ ‬البشعة‭. ‬أفقدني‭ ‬الفزع‭ ‬صوابي،‭ ‬ففررت‭ ‬إلى‭ ‬الشارع‭ ‬أبحث‭ ‬عن‭ ‬مخرج،‭ ‬تطاردني‭ ‬أصوات‭ ‬الصراخ‭ ‬والأنين‭ ‬أثناء‭ ‬جريي‭. ‬وبعد‭ ‬وقت‭ ‬طويل‭ ‬انتهى‭ ‬الشارع‭ ‬فجأة‭ ‬بحائط‭ ‬سد‭ ‬مرتفع،‭ ‬قمته‭ ‬لا‭ ‬تكاد‭ ‬تُرى،‭ ‬كما‭ ‬لو‭ ‬كان‭ ‬ارتفاعه‭ ‬غير‭ ‬محدود،‭ ‬مكتوب‭ ‬فوق‭ ‬هذا‭ ‬الجدار‭ ‬بحروف‭ ‬سوداء‭ ‬كبيرة‭ ‬اليس‭ ‬ثمّة‭ ‬مخرجب‭. ‬مقهورة‭ ‬باليأس‭ ‬والكرب،‭ ‬سقطت‭ ‬فوق‭ ‬أحجار‭ ‬الشارع،‭ ‬وأنا‭ ‬أصيح‭ - ‬مكرّرة‭ -: ‬اليس‭ ‬ثمّة‭ ‬مخرج‭!‬ب‭ .