سحّ الرّمل *

سحّ الرّمل *

في‭ ‬يومياته‭ ‬المعنونة‭ ‬ﺑ‭ ‬‮«‬مساءات‭ ‬غير‭ ‬عاديّة‭ ‬بعيداً‭ ‬عن‭ ‬بوينس‭ ‬آيرس‮»‬،‭ ‬يخبرنا‭ ‬لويس،‭ ‬الملّقب‭ ‬في‭ ‬كلّ‭ ‬أرجاء‭ ‬المعمور‭ ‬ﺑـ‭ ‬‮«‬الحكيم‭ ‬الشاعر‭ ‬على‭ ‬نهج‭ ‬أبي‭ ‬العلاء‭ ‬المعري‮»‬،‭ ‬أنه‭ ‬حل‭ ‬بمدينة‭ ‬مراكش‭ ‬سنة‭ ‬1952‭ ‬حلول‭ ‬العارف‭ ‬الذي‭ ‬أبصرها‭ ‬قبل‭ ‬أن‭ ‬يرتحل‭ ‬إليها،‭ ‬حينما‭ ‬كتب،‭ ‬بإيحاء‭ ‬من‭ ‬محيي‭ ‬الدين‭ ‬
بن‭ ‬عربي،‭ ‬عن‭ ‬محنة‭ ‬ابن‭ ‬رشد‭ ‬في‭ ‬‮«‬كتاب‭ ‬الألف‮»‬‭.‬

  ‬أمّا‭ ‬وصوله‭ ‬الحقيقيّ‭ ‬إلى‭ ‬الحاضرة‭ ‬الحمراء،‭ ‬فكان‭ ‬بعد‭ ‬عقدين‭ ‬من‭ ‬ذلك‭ ‬التاريخ‭ ‬الأوّل،‭ ‬وتحديداً‭ ‬منتصف‭ ‬شهر‭ ‬مارس‭ ‬من‭ ‬العام1975‭ .‬

كانت‭ ‬زيارة‭ ‬خاطفة،‭ ‬لم‭ ‬تستغرق‭ ‬سوى‭ ‬يوم‭ ‬واحد،‭ ‬قضّى‭ ‬لويس‭ ‬سحابته‭ ‬برفقة‭ ‬دليله‭ ‬السياحيّ‭ ‬السّي‭ ‬الأمين،‭ ‬الذي‭ ‬تفضّل‭ ‬بقيادته‭ ‬وسط‭ ‬حشود‭ ‬ساحة‭ ‬اجامع‭ ‬الفناب،‭ ‬قصد‭ ‬الاستماع‭ ‬إلى‭ ‬رواة‭ ‬الحلقة‭ ‬وهم‭ ‬يسردون‭ ‬حكايات‭ ‬األف‭ ‬ليلة‭ ‬وليلةب،‭ ‬كما‭ ‬توقّفا‭ ‬عند‭ ‬امرأة‭ ‬تقرﺃ‭ ‬الفأل‭ ‬في‭ ‬خطوط‭ ‬اليد‭ ‬وتجاذبا‭ ‬معها‭ ‬لبعض‭ ‬الوقت‭ ‬أطراف‭ ‬الحديث‭ ‬وطوالع‭ ‬النجوم‭.‬

وعندما‭ ‬اقتعدا‭ ‬كرسيين‭ ‬لشرب‭ ‬الشّاي‭ ‬الأخضر‭ ‬المنعنع‭ ‬على‭ ‬ناصية‭ ‬مقهى‭ ‬اماطيشب،‭ ‬أخذ‭ ‬السّي‭ ‬الأمين‭ ‬يحدث‭ ‬لويس‭ ‬مطوّلا‭ ‬عن‭ ‬فنان‭ ‬مقعد‭ ‬وغريب‭ ‬الأطوار،‭ ‬سليل‭ ‬المدينة‭ ‬القديمة،‭ ‬يدعى‭ ‬مولاي‭ ‬الحسن،‭ ‬الذي‭ ‬كان‭ ‬يعاني‭ ‬
‭- ‬فضلا‭ ‬عن‭ ‬شّلل‭ ‬ساقيه‭ ‬منذ‭ ‬الولادة‭ - ‬صداعا‭ ‬غير‭ ‬طبيعيّ‭ ‬يشبه‭ ‬طرقاً‭ ‬لا‭ ‬يتوقّف‭ ‬على‭ ‬قحفة‭ ‬الجمجمة،‭ ‬لدرجة‭ ‬أضحى‭ ‬معها‭ ‬مرصّعا‭ ‬بوهم‭ ‬أن‭ ‬ثمّة‭ ‬شيئاً‭ ‬ما‭ ‬داخل‭ ‬رأسه‭ ‬يشبه‭ ‬الديدان،‭ ‬أسراب‭ ‬من‭ ‬تلك‭ ‬الديدان‭ ‬كانت‭ ‬تخترق‭ ‬طبلة‭ ‬أذنه‭ ‬وهو‭ ‬نائم،‭ ‬وتبيض‭ ‬هناك‭ ‬طوال‭ ‬الوقت‭ ‬بأعداد‭ ‬غزيرة‭ ‬لها‭ ‬صوت‭ ‬كسحّ‭ ‬الرمل،‭ ‬لكنه‭ ‬لا‭ ‬يدري‭ ‬لم‭ ‬لا‭ ‬تخرج‭ ‬تلك‭ ‬المخلوقات‭ ‬المائعة‭ ‬القذرة‭ ‬من‭ ‬الجهة‭ ‬الأخرى،‭ ‬وترفض‭ ‬بإصرار‭ ‬أن‭ ‬تغادر‭ ‬المياه‭ ‬الإقليميّة‭ ‬لدماغه‭. ‬الأدهى‭ ‬من‭ ‬هذا،‭ ‬كما‭ ‬روى‭ ‬السّي‭ ‬الأمين،‭ ‬أنّ‭ ‬مولاي‭ ‬الحسن‭ ‬أصبح‭ ‬مقتنعاً‭ ‬بأنّ‭ ‬الهسيس‭ ‬الذي‭ ‬تُحْدِثه‭ ‬يده‭ ‬وهي‭ ‬توقّع‭ ‬ضربات‭ ‬الفرشاة‭ ‬في‭ ‬أثناء‭ ‬الرسم،‭ ‬هو‭ ‬السبب‭ ‬في‭ ‬نموّ‭ ‬ذلك‭ ‬الشيء‭ ‬بأذنه‭. ‬فعلى‭ ‬نحو‭ ‬غير‭ ‬معقول،‭ ‬ساوره‭ ‬الشعور‭ ‬بأنّ‭ ‬الموجات‭ ‬الصوتيّة‭ ‬الناجمة‭ ‬عن‭ ‬الحركة‭ ‬النشيطة‭ ‬لأصابعه،‭ ‬كانت‭ ‬تذكي‭ ‬وتسعّر‭ ‬دورة‭ ‬التناسل‭ ‬في‭ ‬الديدان‭ ‬بشكل‭ ‬لا‭ ‬حدّ‭ ‬له،‭ ‬وتجعلها‭ ‬تتمادى‭ ‬في‭ ‬النقّر‭ ‬داخل‭ ‬رأسه‭.‬

إلى‭ ‬أن‭ ‬أتى‭ ‬يوم،‭ ‬لم‭ ‬يعد‭ ‬فيه‭ ‬مولاي‭ ‬الحسن‭ ‬قادرا‭ ‬على‭ ‬الاحتمال‭ ‬أكثر،‭ ‬فرسم‭ ‬لوحة‭ ‬رائعة‭ ‬كما‭ ‬لم‭ ‬يرسم‭ ‬في‭ ‬حياته‭ ‬مثلها‭ ‬قط،‭ ‬لوحة‭ ‬بثّ‭ ‬فيها‭ ‬كلّ‭ ‬مكابداته‭ ‬وعبقريته‭ ‬التي‭ ‬تستوجب‭ ‬أن‭ ‬يموت‭ ‬المرء‭ ‬قبل‭ ‬هذا‭ ‬مرّات‭ ‬عدّة‭ ‬حتّى‭ ‬يرسم‭ ‬بمثل‭ ‬تلك‭ ‬البراعة‭ ‬المعجزة،‭ ‬ثم‭ ‬أقدم‭ ‬على‭ ‬بتر‭ ‬مصدر‭ ‬الموجات‭ ‬الصوتية‭ ‬إلى‭ ‬الأبد‭... ‬بتر‭ ‬يده‭ ‬اليمنى‭ ‬بشّفرة‭ ‬ساطور‭.‬

  ‬تخبرنا‭ ‬اليوميّات‭ ‬نفسها،‭ ‬أنّ‭ ‬أصابع‭ ‬لويس،‭ ‬المشوّهة‭ ‬من‭ ‬كثرة‭ ‬الخلق،‭ ‬ارتعشت‭ ‬لحظتها‭ ‬على‭ ‬رأس‭ ‬قطته‭ ‬ابيبوب،‭ ‬وطفحت‭ ‬عيناه‭ ‬الكليلتان‭ ‬بماء‭ ‬الدهشة‭ ‬عند‭ ‬سماعه‭ ‬لهذه‭ ‬الواقعة،‭ ‬التي‭ ‬منّى‭ ‬النفس‭ ‬ووطّد‭ ‬الخيال‭ ‬لكتابتها‭ ‬عما‭ ‬قريب‭ ‬على‭ ‬شكل‭ ‬أمثولة‭ ‬أو‭ ‬قصة‭ ‬قصيرة،‭ ‬تحت‭ ‬عنوان‭: ‬االلّوحة‭ ‬الأخيرةب‭.‬

وعلى‭ ‬ما‭ ‬يبدو‭ ‬أنّ‭ ‬هذا‭ ‬العزم‭ ‬أكلته‭ ‬عجلة‭ ‬النسيان،‭ ‬لأنّ‭ ‬أيّ‭ ‬قارئ‭ ‬أو‭ ‬خبير‭ ‬لم‭ ‬يعثر‭ ‬على‭ ‬أدنى‭ ‬أثر‭ ‬يذكر‭ ‬لهذا‭ ‬التدوين،‭ ‬سواء‭ ‬في‭ ‬الأعمال‭ ‬الكاملة‭ ‬للويس‭ ‬التي‭ ‬صدرت‭ ‬بعد‭ ‬وفاته‭ ‬بجنيف‭ ‬في‭ ‬14‭ ‬يونيو‭ ‬1986،‭ ‬أو‭ ‬في‭ ‬مخطوطاته‭ ‬المحفوظة‭ ‬بأرشيف‭ ‬المكتبة‭ ‬الوطنيّة‭ ‬للعاصمة‭ ‬الأرجنتينيّة‭  ‬إلى‭ ‬يوم‭ ‬الناس‭ ‬هذا‭. ‬لكن،‭ ‬عند‭ ‬تصفّح‭ ‬مذكرات‭ ‬السّي‭ ‬الأمين،‭ ‬الموسومة‭ ‬ﺑـ‭ ‬اأريج‭ ‬البستان‭ ‬في‭ ‬تصاريف‭ ‬العميانب،‭ ‬تكشف‭ ‬لنا‭ ‬سطورها،‭ ‬أنّ‭ ‬لويس‭ ‬قام‭ ‬بزيارة‭ ‬ثانية‭ ‬بمعية‭ ‬زوجته‭ ‬ماريا‭ ‬إلى‭ ‬مراكش‭ ‬عام‭ ‬1985،‭ ‬وعبّر‭ ‬للسّي‭ ‬الأمين‭ ‬عن‭ ‬رغبته‭ ‬في‭ ‬التعرّف‭ ‬إلى‭ ‬الفنان‭ ‬صاحب‭ ‬اليد‭ ‬اليمنى‭ ‬المبتورة‭. ‬

وهو‭ ‬الأمر‭ ‬الذي‭ ‬نفّذه‭ ‬الدليل‭ ‬السياحيّ‭ ‬الوفي‭ ‬دون‭ ‬تردّد‭ ‬وبكلّ‭ ‬الكرم‭ ‬المشهود‭ ‬للمغاربة،‭ ‬إذ‭ ‬يحكي‭ ‬أنّه‭ ‬قاده‭ ‬عبر‭ ‬سلسلة‭ ‬من‭ ‬الأزقة‭ ‬المظلّلة‭ ‬والدروب‭ ‬الملتوّية،‭ ‬التي‭ ‬يمكن‭ ‬أن‭ ‬تنشب‭ ‬وسطها‭ ‬في‭ ‬أي‭ ‬لحظة‭ ‬حرب‭ ‬أهليّة‭ ‬ضروس‭ ‬بين‭ ‬الوساوس‭ ‬والجنّ،‭ ‬إلى‭ ‬مقرّ‭ ‬سكناه‭ ‬بأحد‭ ‬المنازل‭ ‬المتداعيّة‭ ‬في‭ ‬االملاّح‭ ‬اليهوديّب،‭ ‬ثم‭ ‬قفل‭ ‬راجعا‭ ‬لاصطحاب‭ ‬ماريا‭ ‬إلى‭ ‬فندق‭ ‬االسعديب‭. ‬بعدها،‭ ‬اختفى‭ ‬لويس‭ ‬لمدة‭ ‬نهار‭ ‬وليلة‭ ‬بأتّمهما،‭ ‬ولما‭ ‬عاد‭ ‬السّي‭ ‬الأمين‭ ‬إلى‭ ‬الفندق‭ ‬للاستفسار،‭ ‬اكتشف‭ ‬أنّ‭ ‬الزوجين‭ ‬غادرا‭ ‬في‭ ‬صباح‭ ‬اليوم‭ ‬التالي‭ ‬إلى‭ ‬وجهة‭ ‬غير‭ ‬معلومة،‭ ‬لكن‭ ‬موظف‭ ‬الاستقبال‭ ‬سلّمه‭ ‬رسالة‭ ‬تحمل‭ ‬اسمه‭ ‬وممهورة‭ ‬بتوقيع‭ ‬لويس‭.‬

  ‬ففضّ‭ ‬السيّ‭ ‬الأمين‭ ‬الرسالة‭ ‬،‭ ‬وشرع‭ ‬في‭ ‬القراءة‭:‬

اانتابتني‭ ‬حمّى‭ ‬طارئة،‭ ‬فور‭ ‬دخولي‭ ‬إلى‭ ‬منزل‭ ‬مولاي‭ ‬الحسن،‭ ‬أكرم‭ ‬الرجل‭ ‬وفادتي‭ ‬واعتنى‭ ‬كما‭ ‬يجب‭ ‬بما‭ ‬ألّم‭ ‬بي،‭ ‬غير‭ ‬أنّ‭ ‬وعكتي‭ ‬واصلت‭ ‬اعتلالها،‭ ‬لدرجة‭ ‬أنني‭ ‬لم‭ ‬أعد‭  ‬أدري‭ ‬على‭ ‬وجه‭ ‬اليقين‭ ‬إن‭ ‬كنت‭ ‬متيقظا‭ ‬أم‭ ‬أني‭ ‬أحلم‭.‬

  ‬أردت‭ ‬أن‭ ‬أفيق‭ ‬بيد‭ ‬أني‭ ‬لم‭ ‬ﺃعثر‭ ‬على‭ ‬نفسي‭ ‬كي‭ ‬أصحو،‭ ‬ورغبت‭ ‬ألا‭ ‬ﺃنبثق‭ ‬من‭ ‬غمد‭ ‬الحلم‭ ‬غير‭ ‬أنّ‭ ‬حواسي‭ ‬ظلّت‭ ‬قيد‭ ‬العمل‭ ‬في‭ ‬الجهة‭ ‬الأخرى‭ ‬من‭ ‬جسدي‭.‬

  ‬وفي‭ ‬مهبّ‭ ‬ذلك‭ ‬السقم،‭ ‬كنت‭ ‬أرى‭ ‬مولاي‭ ‬الحسن‭ ‬على‭ ‬نفس‭ ‬حالتي‭ ‬بين‭ ‬اليقظة‭ ‬والحلم‭. ‬أغمض‭ ‬عيني‭ ‬الجامدتين‭ ‬كعيون‭ ‬التماثيل‭ ‬وﺃراه‭ ‬مغلولا‭ ‬على‭ ‬هيئة‭ ‬طائر‭ ‬ابازب‭ ‬له‭ ‬حجم‭ ‬إنسان،‭ ‬يخبط‭ ‬خبط‭ ‬عشواء‭ ‬بجناح‭ ‬واحد‭ ‬واهن‭ ‬لا‭ ‬يكفي‭ ‬للنهوض‭ ‬أو‭ ‬للتحليق‭. ‬عيناه‭ ‬فاغرتان‭ ‬على‭ ‬سعتهما‭ ‬وعتمة‭ ‬طاغية‭ ‬تمتدّ‭ ‬كالصراط‭ ‬أمام‭ ‬ناظره‭. ‬تغازله،‭ ‬فيقع‭ ‬في‭ ‬شرك‭ ‬المشاهدة‭. ‬يمعن‭ ‬التحديق‭ ‬إليها‭ ‬بإرادة‭ ‬مسلوبة،‭ ‬إلى‭ ‬أن‭ ‬تطلّ‭ ‬منها‭ ‬نقطة‭ ‬نور‭ ‬بعيدة‭ ‬تنوس‭ ‬بين‭ ‬الالتماع‭ ‬والانثمال،‭ ‬وتتحرك‭ ‬في‭ ‬اتجاهه‭ ‬مثل‭ ‬جرم‭ ‬صغير‭. ‬تكبر‭ ‬تدريجيّا،‭ ‬وتبزغ‭ ‬من‭ ‬قلبها‭ ‬فجأة‭ ‬يد‭ ‬تخرق‭ ‬السواد،‭ ‬ثم‭ ‬تنشب‭ ‬أصابعها‭ ‬في‭ ‬رقبته‭ ‬منعقدة‭ ‬كاﻷنشوطة‭. ‬تواصل‭ ‬إطباقتها‭ ‬حتّى‭ ‬يمتلئ‭ ‬حلقه‭ ‬بالبكاء‭ ‬وتفيض‭ ‬روحه‭. ‬آنئذ،‭ ‬يعود‭ ‬إلى‭ ‬صورته‭ ‬البشريّة‭ ‬ويقوم‭ ‬من‭ ‬سريره‭ ‬كما‭ ‬يقوم‭ ‬الميت‭ ‬على‭ ‬نفخة‭ ‬الصور‭.‬

  ‬أغمض‭ ‬عيني‭ ‬وﺃراه،‭ ‬فالعيون‭ ‬المغلقة‭ ‬ترى‭ ‬ولا‭ ‬تخون‭... ‬أراه‭ ‬يسحب‭ ‬أعضاءه‭ ‬ككرسيه‭ ‬المتحرّك‭ ‬الذي‭ ‬خلّفه‭ ‬وراءه‭... ‬أضناه‭ ‬تعب‭ ‬شديد‭ ‬هدم‭ ‬جسده‭ ‬كأنّما‭ ‬اصطدم‭ ‬في‭ ‬سباته‭ ‬بكتل‭ ‬وحواف‭ ‬لم‭ ‬يشعر‭ ‬بها‭ ‬في‭ ‬حينها،‭ ‬لكنّه‭ ‬يمشي‭ ‬واقفا‭ ‬في‭ ‬ما‭ ‬يشبه‭ ‬المعجزة‭... ‬أراه‭ ‬يدخل‭ ‬إلى‭ ‬مشغله‭ ‬ويوصد‭ ‬الباب‭. ‬ومن‭ ‬خلف‭ ‬خشب‭ ‬الباب‭ ‬أراه‭ ‬يقف‭ ‬أمام‭ ‬حامل‭ ‬خشبيّ‭ ‬كبير‭ ‬الحجم‭ ‬تغطيه‭ ‬ستارة‭ ‬بيضاء‭. ‬أغمض‭ ‬عيني‭ ‬وﺃراه‭ ‬يدسّ‭ ‬نفسه‭ ‬تحت‭ ‬الستارة،‭ ‬ثم‭ ‬يبدأ‭ ‬الرسم‭ ‬بيده‭ ‬اليسرى‭. ‬يغيب‭ ‬طويلا‭ ‬ويشرق‭ ‬لهنيهات‭ ‬كي‭ ‬يغيّر‭ ‬الأصباغ‭ ‬أو‭ ‬الفراشي،‭ ‬وسرعان‭ ‬ما‭ ‬يعود‭ ‬ليخفق‭ ‬تحت‭ ‬الخباء‭ ‬مثل‭ ‬قلب‭ ‬على‭ ‬وشك‭ ‬الانفجار‭.‬

  ‬لا‭ ‬أرى‭ ‬ما‭ ‬الذي‭ ‬يرسمه،‭ ‬لكنني‭ ‬أرى‭ ‬مقدار‭ ‬ما‭ ‬يغدقه‭ ‬من‭ ‬حماسة‭ ‬وشغف‭. ‬أرى‭ ‬روحه‭ ‬التي‭ ‬ترفع‭ ‬بدنه‭ ‬عن‭ ‬الأرض‭ ‬بسنتيمترات‭ ‬عدة‭. ‬أرى‭ ‬مخلوقات‭ ‬الظلام‭ ‬التي‭ ‬تذرع‭ ‬القماشة‭ ‬جيئة‭ ‬وذهابا‭ ‬كي‭ ‬تمدّ‭ ‬له‭ ‬يد‭ ‬التفاصيل‭ ‬وجوهر‭ ‬الشكل‭ ‬الذي‭ ‬يقول‭ ‬له‭ ‬كن‭ ‬فيكون‭. ‬أرى‭ ‬البقع‭ ‬التي‭ ‬تنفد‭ ‬إلى‭ ‬مسام‭ ‬الستارة‭. ‬أرى‭ ‬لوحة‭ ‬ثانية‭ ‬تشكّلت‭ ‬في‭ ‬غفلة‭ ‬من‭ ‬الأولى،‭ ‬وﺃسمع‭ ‬سحّ‭ ‬الرمل‭ ‬الذي‭ ‬يعزف‭ ‬بينهما‭ ‬كالناي‭.‬

  ‬أغمض‭ ‬عيني‭ ‬وﺃرى‭ ‬مولاي‭ ‬الحسن‭ ‬يخرج‭ ‬أخيرا‭ ‬من‭ ‬تحت‭ ‬الستارة‭ ‬مضّرجا‭ ‬بالألوان‭ ‬التي‭ ‬تغطي‭ ‬ساعديه‭ ‬وتسيل‭ ‬على‭ ‬أطراف‭ ‬أصابعه‭. ‬أراه‭ ‬يتراجع‭ ‬قليلا‭ ‬عن‭ ‬الحامل‭ ‬الخشبي‭ ‬ليرى‭ ‬ما‭ ‬صنعت‭ ‬يده‭ ‬الفريدة‭ ‬المتبقّية‭. ‬أرى‭ ‬نصلا‭ ‬حادا‭ ‬كضربة‭ ‬نور‭ ‬يشقّ‭ ‬بغتة‭ ‬ما‭ ‬يحيط‭ ‬به‭ ‬من‭ ‬ليل‭ ‬فضفاض‭ ‬لا‭ ‬نهاية‭ ‬له‭. ‬وﺃرى‭ ‬رشاش‭ ‬دم‭ ‬يندفع‭ ‬من‭ ‬معصمه‭ ‬المقطوع،‭ ‬ويطمس‭ ‬بقع‭ ‬الستارة‭. ‬

تنكسر‭ ‬يقظتي،‭ ‬فأهبّ‭ ‬من‭ ‬سريري‭ ‬كالملدوغ‭ ‬لأنقذه‭. ‬

أقف‭ ‬دونما‭ ‬حيلة‭ ‬إلى‭ ‬جانبه‭ ‬بعد‭ ‬أن‭ ‬خرّ‭ ‬أرضا‭ ‬مغشيا‭ ‬عليه‭. ‬

ﺃنظر‭ ‬بجزع‭ ‬إلى‭ ‬اليد‭ ‬المبتورة‭ ‬التي‭ ‬مازالت‭ ‬تتحرك‭ ‬مثل‭ ‬ذيل‭ ‬قصير‭ ‬لواحدة‭ ‬من‭ ‬الزواحف‭ ‬المجنّحة،‭ ‬أتقدم‭ ‬وﺃنضّو‭ ‬عن‭ ‬اللّوحة‭ ‬ستارتها،‭ ‬كانت‭ ‬فارغة‭ ‬مثل‭ ‬وجه‭ ‬الظلام،‭ ‬ولم‭ ‬يشبها‭ ‬نزر‭ ‬شكل‭ ‬أو‭ ‬لون‭.‬

  ‬أفيق‭ ‬فعلاً‭ ‬من‭ ‬حلم‭ ‬،‭ ‬كان‭ ‬أسفل‭ ‬سريري‭ ‬طافحا‭ ‬بالديدان،‭ ‬ولما‭ ‬حانت‭ ‬مني‭ ‬نظرة‭ ‬إلى‭ ‬معصمي‭ ‬كانت‭ ‬يدي‭ ‬اليمنى‭ ‬قد‭ ‬طارت‭ ‬من‭ ‬مكانها،‭ ‬ولا‭ ‬ﺃثر‭ ‬لأيّ‭ ‬دماءب‭! .