ابن قتيبة الدينوري ومشاهد الانفتاح على الآخر

ابن قتيبة الدينوري ومشاهد الانفتاح على الآخر

حين نتأمل كتاب «عيون الأخبار» لابن قتيبة الدينوري (المتوفى عام 276 هـ) نجد فيه مشاهد متنوعة وصادقة لعصور وعتها ذاكرته، تتجلى فيها ذاكرة أمة، وملامح شخصيتها، مما أتاح لنا فرصة التعرّف على انفتاحها على الآخر! خاصة أنه أراد في كتابه هذا أن يكمّل دور الجاحظ في الدفاع عن العرب والرد على الشعوبية، على حد رأي المحقق والناقد د. إحسان عباس!

وبما أن أكثر الشعوبييـــن من الكتّاب، فقد ألّف 
ابن قتيبة لهم كتبا، منها «الشعر والشعراء» و«أدب الكاتب» و«عيون الأخبار» و«المعارف» حاول فيها أن يقرّب إليهم المعرفة ويسهّل عليهم تناولها، ويجنبهم صعوبة الكتب المتخصصة، فجمع فيها شيئاً من حكمة الفرس والعرب، لأن ذلك أدعى إلى تآلفهم، وأقوى أثراً في صرف المثقفين الشعوبيين عن الكتب الفارسية الخالصة، كي يجعل المعرفة أساس الحوار والتقارب بينهم! 

مشاهد الانفتاح على اليهودي
ظفرنا في كتاب «عيون الأخبار» بمشاهد كثيرة تبيّن لنا كيف أسست الحياة الاجتماعية بين المسلمين واليهود على المودة والمؤازرة في الشدائد، لهذا وجدنا شيب بن شيبة وهو مسلم، يعزّي صديقاً له من اليهود قائلاً: «أعطاك الله على مصيبتك أفضل ما أعطى أحداً من أهل ملتك».
تتوجه صيغة الدعاء إلى الله تعالى، وبذلك تنطلق مما هو مشترك بين الأديان السماوية، إذ يجمع تعالى كل البشر تحت وارف رحمته، فيتوجهون إليه في المحن، لكن الجار المسلم يخص صديقه اليهودي بالدعاء عبر صيغة التفضيل «أعطاك أفضل ما أعطى أحداً من أهل ملتك»، فيتمنى أن يمنحه الله صبراً لم يهبه أحدا من أبناء دينه! 
نلمس واقعية الخطاب حين أشار إلى انتماء اليهودي «أهل ملتك»،  إذ نجد المسلم يقيد صيغة الدعاء، ويحصرها بصديقه دون غيره! لعل مثل هذا الحرص دليل على أن ثمة إقراراً لاشعورياً بوجود نوع من الاختلاف بين أبناء الملة الواحدة! فبعضهم يستحق الدعاء (ومنهم صديق شيب) وبعضهم لا يستحقه!
وقد عايشنا في مشهد آخر في «عيون الأخبار» لحظة انفتاح مدهشة، وذلك حين نزل يهودي على أعرابي فمات عنده، فقام الأعرابي يصلي عليه، فقال: «اللهم إنه ضيف وحق الضيف ما قد علمت، فأمهلنا إلى أن نقضي ذمامه...».
نلاحظ أن العربي محكوم بعادات وتقاليد تلزمه القيام بواجب الضيافة، دون النظر لاختلاف الضيف في العقيدة، والمدهش أننا وجدنا البدوي راغباً في القيام بواجب الضيافة حتى بعد وفاة الضيف، حتى إنه يرى أن الصلاة على الميت اليهودي من واجبات الضيافة، ونفهم هنا أن المقصود بالصلاة المعنى اللغوي لها، أي الدعاء له. 
وبذلك تقتضي الضيافة أن يحسن مثوى اليهودي، فلا يدفنه من دون دعاء له بالرحمة، أما حسابه فهو شأن إلهي يترك للآخرة! المهم أن يقوم البدوي بواجبه نحو ضيفه في هذه الدنيا، والمدهش في هذا المشهد أن واجب الضيافة قد شمل الموتى!
إذاً، يمكننا القول إن العربي يهتم في علاقته مع الآخر بشؤون الدنيا والآخرة، فيلتزم بقيم نابعة من التربية التي تربّى عليها، تجعل ذكره عطراً بين الناس جميعاً! ومثل هذا الالتزام الاجتماعي سمة أساسية في حياة العربي، استطاع أن يؤسس لعلاقات منفتحة على الآخر، ولذلك بدا لنا نسيج الحضارة الإسلامية ثمرة لهذا الانفتاح، فالمسلم الحقيقي معني بالبحث عما يجمع، والابتعاد عما يفرق، لهذا لم يكن الخلاف الديني في هذه الحضارة شأناً دنيويّاً بل سماويّاً، وعليه  لا يمكن أن تفسد العلاقة بين الناس إذا اختلفت انتماءاتهم!

مشاهد الانفتاح على المسيحي
رسم التراث الإسلامي للسيد المسيح عليه السلام صورة رائعة، إنها صورة الزاهد في الدنيا الذي يهتم بخلاص روحه، إذ نسمعه يخاطب بني إسرائيل بقوله: «أنا الذي أنزلت الدنيا منـزلتها بإذن الله، ولا عجب ولا فخر، أتدرون أين بيتي؟ قالوا أين بيتك يا روح الله؟ قال: بيتي المساجد، وطيبي الماء، وإدامي الجوع، ودابتي رجلي، وسراجي بالليل القمر، وصلاتي في الشتاء مشارق الشمس، وطعامي ما تيسر، وفاكهتي ورَيْحاني بقول الأرض، ولباسي الصوف، وشعاري خوف رب العزة، وجلسائي الزمنى والمساكين، أصبح وليس لي شيء، وأمسي وليس لي شيء، وأنا طيب النفس غني مكثر، فمن أغنى مني وأربح؟!» (عيون الأخبار، المجلد الثاني، 268).
نلمح هنا رغبة لدى الراوي المسلم في أن يرسم ملامح شخصية للزاهد الحقيقي (المسيح) وكي يجعل كلامه مؤثراً نجده يجسد لنا سيرة حياته عبر صيغة الأنا، مما يجعله قريباً من روح المتلقي، خاصة أنه يسرد تفاصيل حياته اليومية (الأكل، الشرب، الملابس، الأصدقاء أو الجلساء...).
تبدو لنا الغاية التعليمية واضحة هنا، فمن أراد طريق الصلاح فعليه أن يسلك طريق الزهد الذي سبقه إليه السيد المسيح عليه السلام، فيبدأ بتنقية نفسه من المفاسد (التكبر والفخر) فلا يلهث وراء متاع الدنيا، همه كل ما يرتقي بروحه (الصلاة، الصوم، الطهارة...) لهذا كانت إقامته في أماكن العبادة، ويلفت نظرنا هنا قوله «بيتي المساجد» إذ أسقط الراوي المسلم لغته الدينية على لغة المسيح، فجعل المسجد نيابة عن الكنيسة، مما يؤكد الغاية التعليمية، كأنه يريد أن يبيّن أن بيت الله واحد مهما اختلفت التسمية، وبما أن الخطاب موجه للمسلمين، فقد أباح الراوي لنفسه تغيير اسم مكان العبادة، لأن الله يسكن في قلب المؤمن بغض النظر عن دينه، أو اسم المكان الذي يتعبد فيه!
كما يلفت نظرنا توحد المسيح عليه السلام الرائع مع الطبيعة، فكان يلوذ بالشمس ملتمساً الدفء في أحضانها شتاء، ويستنير بالقمر ليلاً... كأنه بذلك يؤكد أن الإنسان كلما التصق بها ازداد قرباً من الله تعالى! 
ينفتح السيد المسيح عليه السلام على الإنسان الضعيف، فنجده يعاشر الفقراء والمرضى، كي يقف إلى جانبهم في محنة الحياة! وبذلك يعلم البشر جميعاً كيف يرتقون بأنفسهم، فلا يلهثون وراء الأقوياء؛ ليفوزوا ببعض المكتسبات، فراحة النفوس أن تسلك طريق العطاء، وتبتعد عن المطامع والشهوات، عندئذ تعيش أماناً داخليّاً وتحس بغنى روحي، كما أحس السيد المسيح عليه السلام، لهذا يعرفنا بحقيقة أنه لا يوجد من هو أغنى وأربح منه، فقد استطاع كبح جماح نفسه وعوّدها الإحساس بالآخر، فعاش حياته سعيداً بفضل عطاء لا يعرف أنانية أو تمييزاً عرقياً أو دينيّاً.  
إن ما ينقص البشر هو تجسيد المثل الأعلى على الأرض، من هنا بدا ذلك حلماً يسعى إليه الإنسان عبر الأنبياء والقديسين، وعبر الفن، وقد حاول ابن قتيبة في «عيون الأخبار» تجسيد هذا المثل عبر شخصية المسيح عليه السلام التي ألقت أنوار روحها وسلوكها على الجميع، فمثل أمامنا أحد أحلام الإنسانية الكبرى، وهو اجتماع المثل العليا التي تجسدها كلمة «الطيبة» بالفاعلية، وقد التحم بالواقع، فبدا السيد المسيح، الذي يُدعى بـ«الطيب الفعّال» منقذاً لأرواحنا بنقائه، كما بدا منقذاً لحياتنا بفاعليته،  وهذا ما  يحلم به الإنسان في كل زمان ومكان.
وقد تعمّد ابن قتيبة في  كتاب «عيون الأخبار» أن يتيح للمتلقي معايشة المثل الأعلى متجسداً على الأرض عبر السيد المسيح عليه السلام في مشاهد عدة منها أنه «مرّ بقوم شتموه، فقال خيراً، ومرّ بآخرين شتموه، فقال خيراً، فقال رجل من الحواريين: كلما زادوك شرّاً زدت خيراً، كأنك تغريهم بنفسك! فقال: كل إنسان يعطي مما عنده» (عيون الأخبار، المجلد الثاني، ص 269).
لم نجد السيد المسيح عليه السلام يتصرف بصفته إنساناً عاديّاً، فيردّ على الإساءة بمثلها، لذلك استغرب أحد حواريي السيد المسيح أن يقابل الإساءة بالإحسان، كأنه حين لا يردّ الإساءة بمثلها يشجع الآخرين عليها، لكن للنبي المعلم رأياً مختلفاً، فالمعاملة مع الآخر رسالة تنبئ عن السريرة، فهي محك لما تخبئه الأعماق من جمال أو قبح،  إذ كل إناء ينضح بما فيه!
كما قدّم في «عيون الأخبار» صورة مشرقة لأتباعه عليه السلام خاصة من الرهبان، ففي مشهد «دير حرملة» يلتقي أحد المسلمين براهب يبكي فيسأله: «ما يبكيك؟ فقال: يا مسلم أبكي على ما فرطت من عمري، وعلى يوم مضى من أجلي لم يحسن فيه عملي...، (عيون الأخبار، المجلد الثاني، ص370).
نستطيع أن نلمح هنا تواصلا إنسانيّاً يقوم على المودة والإحساس بآلام الآخر، فقد بدا لنا المسلم العادي متعاطفاً مع رجل الدين المسيحي، يهمه أن يعرف سبب بكائه، كي يخفف عنه، فيكتشف أنه يبكي على ضياع بعض أيام حياته دون أن يتمكن فيها من عمل الخير! أو دون أن يتمكن من تهذيب نفسه والارتقاء بها نحو المثل الأعلى الذي جسّده المسيح عليه السلام! فالزمن لا معنى له إن لم ينبض بالخير للناس جميعاً.   
تكررت المشاهد الحوارية بين المسلم ورجل الدين المسيحي في «عيون الأخبار»، مما يشي برغبة المسلم ليس فقط في التواصل مع الآخر بل فهمه أيضاً، والتعلم منه!
 
مشهد مدهش للانفتاح 
يعايش المتلقي في «عيون الأخبار» مشهداً مدهشاً يحاور فيه الخليفة المأمون مرتداً إلى النصرانية، فنجده يسأله: «خبّرنا عن الشيء الذي أوحشك من ديننا بعد أُنسك به واستيحاشك مما كنت عليه...قال المرتد: أوحشني ما رأيت من كثرة الاختلاف فيكم، قال المأمون: لنا اختلافان: أحدهما كالاختلاف في الأذان، والتكبير في الجنائز، والتشهد... وهذا ليس باختلاف، إنما هو تخير وسعة وتخفيف... والاختلاف الآخر كنحو اختلافنا في تأويل الآية من كتابنا، وتأويل الحديث مع اجتماعنا على أصل التنـزيل، واتفاقنا على عين الخبر، فإن كان الذي أوحشك هذا حتى أنكرت هذا الكتاب، فقد ينبغي أن يكون اللفظ بجميع التوراة والإنجيل متَّفقاً على تأويله، كما يكون متَّفقاً على تنـزيله، ولا يكون بين جميع اليهود والنصارى اختلاف في شيء من التأويلات، وينبغي ألا ترجع إلا إلى لغة لا اختلاف في تأويل ألفاظها، ولو شاء الله أن ينـزّل كتبه، ويجعل كلام أنبيائه وورثة رسله، لا يحتاج إلى تفسير لفعل، ولكنا لم نرَ شيئا من الدين والدنيا دفع إلينا على الكفاية، ولو كان الأمر كذلك لسقطت البلوى والمحنة، وذهبت المسابقة والمنافسة، ولم يكن هناك تفاضل، وليس على هذا بنى الله الدنيا، قال المرتد: أشهد أن لا إله إلا الله وأن المسيح عبد، وأن محمداً صادق، وأنك أمير المؤمنين حقّاً» (عيون الأخبار المجلد الثاني، ص154).
تعدّ فترة الخليفة المأمون إحدى الصفحات المشرقة في تاريخنا، فهو نمــــوذج للحاكم المثقف الذي أدرك أن الحضارة لن تكـــــون إلا بالانفتاح على ثقافة الأمم الأخرى، لهذا قدّر دور الترجمة من اللغات الأخرى إلى العربية، فكان يعطي المترجم وزن الكتاب المترجم ذهباً! كما أدرك أن الحضارة لا يمكن تأسيسها على القمع، وإنما على الحوار بين الحاكم والمحكوم، الذي يتجلى فيه انفتاح معرفي يسهم في توسع آفاق العقل، ويدل على ثقة بالنفس، تتبدى في محاولة تفهُّم تصرفات الآخر (أحد المرتدين) عن طريق الحوار، مع أنه ترك دين الدولة الرسمي، وقرر العودة إلى دينه الأصلي (النصرانية) فلا يلجأ إلى سيف الإرهاب مع أنه يمثل أعلى سلطة روحية وزمنية في الدولة (أمير المؤمنين) بل يلجأ إلى الحوار بلسان بالغ الرقي، فنسمعه يستفهم بكل تهذيب ممن ارتد عن الإسلام  «خبّرنا عن الشيء الذي أوحشك من ديننا بعد أنسك به واستيحاشك مما كنت عليه...».
تدهشنا في هذا المشهد اللغة الراقية للخليفة المسلم «خبّرنا عن...» إذ يسأل المرتد عن أسباب الوحشة والنفور من الدين الإسلامي بعد الأنس به! أليس من المفيد أن نتأمل كيف يحاور الحاكم الآخر مع أنه يرفض دين الدولة الرسمي؟ 
هنا نلمس نموذجاً رائعاً للحاكم المثقف الواثق بدينه وعلمه، لهذا يصغي للآخر المخالف لرأيه رغبة في فهمه، يدفعه إلى ذلك إحساس بالعدل، واحترام إنسانية الآخر، التي تتجسد باحترام فكره، وهنا علينا ألا ننسى أن المأمون شجع دعاة العقل (المعتزلة) بل قرّب أحد رموزها (الجاحظ)، إذ عيّنه كاتباً له، لهذا لم ينظر للآخر بصفته كائناً تابعاً لجبروته، يشهر في وجهه سيف الموت حين يخالفه الرأي أو المعتقد، وعلى هذا الأساس لن نستغرب أن يحاور النصراني، ويصغي إلى نقده لأحوال المسلمين، ويردّ عليه بكل صراحة ودون خوف، فيبيّن أسباب ارتداده «أوحشني ما رأيت من كثرة الاختلاف فيكم»، فيجيبه الخليفة موظفاً ثقافته الدنيوية والدينية، كي يوضح له ما أشكل عليه ونفّره من الإسلام «لنا اختلافان: أحدهما كالاختلاف في الأذان، والتكبير في الجنائز، والتشهد... وهذا ليس باختلاف إنما هو تخير وسعة وتخفيف...».
يبيّن لمحاوره عبر لغة المنطق أن ثمة نوعين من الخلاف: الأول هو أقرب إلى حرية اختيار المرء لبعض التفاصيل الجزئية، أما الأمور الجوهرية في الدين فقد تمّ الاتفاق عليها، لذلك فإن الخلاف في بعض الجزئيات يجعل الدين أكثر يسراً وسعة، فيمنح المتدين فسحة اختيار ما يناسبه، مما يخفف عنه قهر الإلزام والإحساس بالجبر! وبناء على هذه المقدمة يصل إلى نتيجة منطقية هي أن مصطلح الخلاف هنا غير ملائم، وأن الأنسب استخدام مصطلح «التخير» أو «السعة» أو «التخفيف».   
ثم يبيّن له النوع الآخر من الخلاف الذي يتعلق بـ«اختلافنا في تأويل الآية من كتابنا، وتأويل الحديث مع اجتماعنا على أصل التنـزيل، واتفاقنا على عين الخبر».
ثمة اتفاق على أصل الدين والتشريع في الإسلام (القرآن الكريم) الذي هو كتاب رحمة وخير، لكن المسلمين قد يختلفون في تأويل بعض آياته، ومثل هذا الخلاف لن يضيرهم، فالرسول صلى الله عليه وسلم يقول: «اختلاف أمتي رحمة» إذ إن مثل هذا الخلاف يغني حياتهم، ويوّسع أفقهم.
ثم يذكّره بأن هذا الخلاف ليس حكراً على المسلمين، فقد اختلف كل من اليهود والنصارى في تأويل كتبهم المقدسة، إذ ليس هناك نص متفق على تأويله بالمطلق، وذلك يعود إلى طبيعة اللغة، التي تمتلك مفرداتها غنى دلاليّاً، وهي تتأثر بالحالة النفسية والثقافية للمتلقي، مما يؤدي إلى تعدد القراءات، التي تنتج دلالات عدة تغني تأويل النص الديني، وبذلك يجب ألا يؤدي تعدد قراءاته إلى السقوط في هاوية المعنى السلبي للخلاف، أي هاوية الصراع، إذ يلاحظ أن السقوط في هذه الهاوية يكون نتيجة عوامل تكمن خارج النص (السلطة السياسية) التي تركز على إحدى الدلالات، لتوظفها في خدمتها، لذلك تقمع كل دلالة مخالفة لوجهة نظرها! عندئذ يتحول الخلاف إلى نقمة، فيتجلى بشكل صراع فكري، تحاول السلطة فيه فرض قراءتها بالقوة، مما يحرض أولئك الذين يتبنون قراءة أخرى على الدفاع عنها، ويلجأون إلى حد السيف! 
إذاً, لم يكن الخلاف في التأويل يتعلق بأركان الدين الإسلامي، التي تؤسس وحدة المسلمين، وإنما في بعض التفاصيل التي تغني حياتهم وتيسرها!
كذلك يبيّن الخليفة أهمية تأويل النص الديني، إذ يعزز انفتاحه على الحياة المتجددة، ويبعده عن ضيـــــق الأفـــــق، لذلك يسعى المجتهدون في التنافس من أجل تأكيد حيويته وصلاحيته لكل زمان ومكان، كي يؤسس المؤمن حياته على ذلك التوازن، مما يجنبه المحن والخذلان في معيشته وموته، فيصلح دنياه وآخرته!
  يفضي حوار الخليفة مع المرتد إلى عودته للإسلام، بعد أن اقتنع أنه يقوم على مبادئ عظيمة، تفسح المجال لتعدد الرؤى وحرية الاختيار، فنظر إلى النص الديني بعيداً عن ممارسة كثير من المسلمين، الذين يشوهون الدين بالممارسة، والتفسير المغلق له! 
وهكذا استطاع ابن قتيبة في كتابه «عيون الأخبار» تجسيد مشاهد انفتاح التراث الإسلامي على الآخر؛ ليعايش المتلقي لحظات مضيئة فيه، تبرز دور الأدب في الحفاظ على روح الحضارة، بعيداً عن ثقافة القتل والحقد، فلم نجد في هذا الكتاب تعصباً أعمى،  إلا في ما ندر، كل ذلك يدفعنا للإعجاب بما قدّمه المؤلف، الذي حاول أن ينظر إلى التراث بعين العدل، التي دعا إليها  في مقدمة كتابه «الشعر والشعراء» .