قصة الديمقراطية

حديثنا لهذا الشهر ليس سردا تاريخيا لأحداث مضت نسقطها على الواقع، ولا جسّا لحتمية الواقع أو الاعتبار من الحدث التاريخي. إنّ الهدف من هذا الحديث هو استنطاق العقل لتحديد الفكرة، ومن ثم تحليلها من جميع زواياها لمعاينة الإشكالية التي نعيشها بواقع حجمها لا بشكل سطحها. وربما نفتح بذلك باباً لنقاش هادف نتشارك فيه للوصول إلى الحقيقة. وقد توخينا في حديثنا هذا التطرق لكل الجوانب المحتملة للنقاش، بأمل أن يدرك القارئ موضوعية العرض وحيادية الطرح.
قصة «أثينا»، عاصمة الحضارة الهيللينية ومركز الحوار الفكري والطرح الفلسفي، جدلا ومناظرة، قصة طويلة، بدأت بالصراع ضد جارتها إسبارطة في حروب أُطلق عليها «حروب البلوبونيز». كانت عقيدتا الدولتين السياسيتين مختلفتين، فبينما اتخذت أثينا «الديمقراطية» نظاما سياسيا لها، آمنت إسبارطة بحكم الأقلية المختارة من الأرستقراطيين، أقلية استطاعت أن تُسَخِّر الأغلبية لبناء جيش قوي قوامه الشعب والعبيد، حتى أنها بذلت الأموال الطائلة لشراء الصبية من العبيد لتدريبهم وتأهيلهم عسكريا للحروب، فصار لها جيش من أقوى الجيوش. أما أثينا فإنها سعت لأن تكون ديمقراطيتها متقنة ومنضبطة، فوضعت نظام «إكليسيا» Ecclesia، الجمعية العامة، وهي المصدر الأعلى والجهاز الرسمي للسلطة. تقابلها المحكمة العليا «ديكاستيريا» Decasterya، المكونة من ألف مواطن يقومون على درء الفساد والرشوة من خلال سن التشريعات ومراقبتها. كان نظام الانتخاب، بشكل أو بآخر، يفرض الرشوة ويعجز عن رفض الاستغلال بين النائب والناخب. وعلى الرغم من سنّ القوانين وتغيير التشريعات، بقي مرض الرشوة والاستغلال مكينا في جسد النظام الديمقراطي، حتى وصل الأمر بالمحكمة العليا إلى أن تعلن عن تغيير نظام الانتخاب بعد أن كان عن طريق «الاقتراع» إلى أن يكون بطريقة «القُرعة». كانت تلك هي آخر محاولات «ديكاستيريا» لكي تجعل الرشوة باهظة التكاليف، حتى على أثرى الأثرياء. إلا أنّ الأمر لم يقف عند هذا الحدّ، بل تفشى مرض آخر في ديمقراطية أثينا لم يكن آنذاك في الحسبان هو «الديماغوغية» (Demagogy) واصطلح بأنها «حُكم الغوغاء». كان يُطلق على نواب الشعب الأثيني لقب «الخطباء»، وكان لخطبهم تأثير في العامة، حيث كان الخطباء أشبه بالصحف اليومية في زمننا هذا، وسنرى لاحقا كيف كان لحكم الغوغاء أثره في سقوط أثينا. بدأ الشك في النظام السياسي يراود حكماء أثينا حال هزيمة أثينا من إسبارطة في حروب البلوبونيز التي استمرت ثلاثين عاما (430– 400 ق. م). لقد ثار المثقفون الأثينيون على الحزب الديمقراطي الحاكم، ولكن ثورتهم باءت بالفشل. قاد تلك الثورة المسلحة «كريتياس» تلميذ سقراط وعم أفلاطون. من هنا بدأت أصابع الاتهام تشير إلى سقراط. كان سقراط شخصا بسيطا في معيشته، حيث جعل «الأجورا»، وهي ساحة المركز في أثينا، مأوى له، فأهمل بيته وزوجته وعياله، في سبيل البحث عن الحقيقة، عن طريق منهج «التوليد»، وهو توالي الأسئلة المنطقية على خصمه حتى يوقعه في التعارض، وإن سأله خصمه عن شيء قال: لا أدري. انطلقت فلسفة سقراط من الشكّ في كل شيء، وتجرأ في فلسفته على الدين والدولة. كان تعدد الآلهة دين أثينا والديمقراطية نظامها السياسي، أما هو فقد آمن بإله واحد ودعا إلى الفضيلة، فالقوانين التي تسير على هوى الغوغاء ليست كافية لردع الفساد والرذيلة. لقد كان سقراط يؤكد أنّ كثيرًا من الفساد والرذائل كانت تمارس بحكم القانون. وقد دعا أيضا إلى ترك النظام الديمقراطي والاستعاضة عنه بنظام حكم النخبة من العقلاء والحكماء. من هنا رأت أثينا بقيادة الحزب الشعبي الديمقراطي إسكات كل نقد لسياسة الحكومة فحكمت على سقراط بالموت.
بعد موت أستاذه ومعلمه سقراط، ساح أفلاطون في الأرض غربا ثم شرقا، طالبا المزيد من الحكمة والمعرفة. كتب أفلاطون كتابه في السياسة الذي اشتهر بعنوان «جمهورية أفلاطون»، ذلك الكتاب الذي سطر فيه آراءه السياسية، وصرّح فيه بأكثر من موضع بديمقراطية النخبة، تلك النخبة قوامها الحكماء ومتعلمو فنون القيادة السياسية والاقتصادية والاجتماعية. ويشترط أفلاطون في ما يشترط وجوب بلوغ المرشح سن الثلاثين، والإفصاح عن ذمته المالية، وألا يكون من طبقة التجار «إنّ الذين يشغلهم جمع المال والسعي وراء الثروة لا يصلحون لحكم الدولة»، أو قادة الجيوش، «فربما يستخدم جيشه ويقيم حكومة عسكرية ديكتاتورية». لم يكن هذا الرأي الأخير رأي أفلاطون وحده، بل شاركه في هذا الاتجاه كثيرون، منهم زينفون مؤرخ تلك الفترة.
كانت هزيمة أثينا في الحروب البلوبونيزية أمام إسبارطة، ثم اضطرارها للدخول في تحالف عسكري معها ضد الزحف الفارسي، سببا في ضعف الدولتين. وبرغم تقهقر الفرس واندحارهم، فإنّ كلتا الدولتين عانت رهقا من أوضاعها الاقتصادية. لم تعِ أثينا الخطر الداهم حولها، فقد كان فيليب المقدوني يرقب الأحداث عن كثب. كان الأثينيون يرون المقدونيين برابرة بدائيين، ويحتقرونهم باحتقار ديكتاتورية حكم فيليب عليهم، ففي كل محفل وفي كل مؤتمر تعلو أصوات خطباء أثينا بالشتائم ضد نظام الطاغية الرجعي. كان فيليب صبورا ضد خطب ديموسثنيس النارية، وكان حراكه سريًا عندما دس جواسيسه في المدن اليونانية لشراء أصوات وذمم العامة والخاصة، السياسيين وقادة الجند، بحيث شكّل قوة سياسية له من مواطني أثينا تدعو إلى التحالف مع مقدونيا. اضطر ديموسثنيس تحت ضغط الجمعية العامة (إكليسيا) أن يكون ضمن وفد التفاوض الذاهب إلى مقدونيا لعقد اتفاق مع ملكها فيليب. كان الوفد مؤلفا من عشرة خطباء، وصلوا إلى بللا Pella عاصمة مقدونيا، واستُقبلوا بالحفاوة والترحاب. وقد لاحظ ديموسثنيس أن الخطاب السياسي لرفاقه قد تغير، لقد أصبحوا أقوى دعاة التفاهم مع مقدونيا، فاتهمهم بالفساد وتلقي الرشوة من العدو. غير أنّ ديموسثنيس لم يكن فوق الشبهات، فقد اقترح إرسال وفد إلى كسرى الفرس أردشير الثالث لكي يطلب منه عقد حلف ثنائي مع أثينا. لكن فيليب كان أسرع، إذ عقد معاهدة صداقة وعدم اعتداء مع الفرس. وحسم فيليب المقدوني الأمر حين شن هجومه على أثينا في معركة خيرونيا Chaeronea، فأصبح بعدها زعيما لبلاد الإغريق. بعد ذلك، ليس بغريب أن يختار فيليب لتربية ابنه الإسكندر أعظم فلاسفة العصر آنذاك، تلميذ أفلاطون، أرسطو طاليس الذي كانت أخلاقه الأرستقراطية كفيلة بأن تجعله مؤدِّبا لأبناء الملوك. لم يكن أرسطو موحدا كأستاذه بل كان وثنيا، كما لم يكن من دعاة الديمقراطية بأي شكل من أشكالها، فعيشته جعلته يرى في الديكتاتورية واقع حال لا بد من المصالحة معها.
والقضية المُلحة التي نطرحها على هذه الصفحات هي: هل الديمقراطية أفضل نظام للحُكم؟ وإذا كان الجواب «نعم»، فهل تُمارس بإطلاقها حتى تحت حُكم الأغلبية من الغوغاء، أم تكون على حسب ما يراها سقراط ديمقراطية مقيدة، وحسب رأي أفلاطون ديمقراطية النخبة؟ أم هل يا ترى يكون النظام الفردي (الأوتوقراطي) هو الأفضل، أو بين هذا وذاك؟ .