الفيتوري... رحيل الشاعر الثائر

الفيتوري... رحيل الشاعر الثائر

من لم يستمع إلى الفيتوري وهو يلقي أشعاره فقد فاته الكثير، إذ كان إلقاؤه فريداً، وصوته مهيباً مؤثراً، يعكس شخصيته العبقرية، فهو بركان غضب، ثورة، إحساس صادق الصدق العميق، طاقة متفجرة، تمكُّن من اللغة ومخارج ألفاظها، صرخة ذات إيقاع متميز جعلت اسمه يسطع منذ ظهور ديوانه الأول «أغاني إفريقية» عام 1955 وهو مازال شاباً صغيراً يدرس بكلية دار العلوم بالقاهرة ليقف بجدارة إلى جوار شعراء كبار, ويثني على موهبته كبار النقاد في مصر، مثل عباس محمود العقاد وكامل الشناوي وغيرهما، ويصير ضيفاً على المنتديات والمحافل الأدبية وقت أن كان الشعر في تلك الفترة مقياس الثقافة الأول، وإلقاء الشعر موهبة تجذب المحبين وتطرب المستمعين.

لم يكن الفيتوري شاعراً عادياً، بل كان انعكاساً لعصر مفعم بالتقلبات السياسية، والأحداث المهمة، يعرف قيمته من قرأ كثيراً وتنقل بين دواوين الشعراء، القدامى منهم والمعاصرين من مختلف التيارات. كان محمد الفيتوري نسيج وحده، يصعب تصنيفه بسهولة تحت راية أو اتجاه، مثله مثل كل العباقرة الذين كانوا صادقين مع أنفسهم... فالعبقري غالباً لا يهمه ذلك التصنيف، ولا يضع نفسه في خانة أو اتجاه، لكن كل ما يهمه أن يعبِّر عن نفسه تاركاً للنقاد مهمة شرح عمله الفني. وكان الرسام بيكاسو أشهر مصوري القرن العشرين يقول: «كل ما عليّ أن أرسم فقط، أما شرح العمل الفني وتصنيفه فهما مهمة النقاد».
الفيتوري كان اتجاهاً وحده ونسيجاً فريداً، وكانت شخصيته الثائرة تندمج مع فنه في كيان واحد. وبالرغم من ظروفه الصعبة منذ بدايته مع عالم الشعر فإنه امتلك طموح العباقرة وثقة المتمكنين، وصمّم منذ شبابه على أن يكون شاعراً وشاعراً فقط في وقت لم يكن الشعر ضماناً للحصول على دخل ثابت يعين على الحياة في حدها الأدنى.
كان الفيتوري مثل الشخصيات الأسطورية في الأدب والفن، ولا أبالغ إذا قلت إنه كان «متنبي عصره» عشقه وتأثر به كما تأثر بكل العباقرة من الشعراء العرب ممن سبقوه منذ حقبة الشعر الجاهلي حتى زمن شعر الحداثة.
الفيتوري يمثل ثورة ليست فقط في الشعر، بل في الحياة، يهاجم الطغاة في كل مكان على سطح الأرض، ويدافع عن المقهورين من أبناء إفريقيا ويفخر بأصوله وبلونه الأسود، وبتمسكه بالحرية، وفي ذلك يقول:
قلها، لا تجبن، لا تجبن
قلها في وجه البشرية
أنا زنجي، وأبي... زنجي الجد
وأمي زنجية
وأنا أسود... لكني
حر... أمتلك الحرية
***
ويدافع عن الفقراء فيقول:
دنيا لا يملكها من يملكها
أغنى أهليها سادتها الفقراء
***
غنى الفيتوري لإفريقيا كما لم يغنِّ شاعرٌ عربيٌ من قبل:
ها هنا... واريتُ أجدادي هنا
وهم اختاروا ثراها كفنا
وسأقضي أنا من بعد أبي
وسيقضي ولدي من بعدنا
وستبقى أرض إفريقيا لنا
فهي ما كانت لقوم غيرنا
نحن أهرقنا عليها دمنا
ومزجنا بثراها عظمنا
وشققناها بحاراً وربى
وزرعناها سيوفاً وقنا
وركزنا فوقها أعلامنا
وتحدينا عليها الزمنا
وسنهديها إلى أحفادنا
وسيحمون علاها مثلنا
فاسلمي يا أرض إفريقيا لنا
***
كان الشاعر الكبير محمد الفيتوري على مر السنين أشبه بقائد مظاهرة «مليونية» يخطب في الجماهير الإفريقية والعربية... يستحثها ويحركها ويهزها بشِعره وكلماته النارية، يدعوها إلى أن تقود نفسها وتثور على المحتل وتفيق من غفوتها الطويلة، بل من سباتها العميق لتحطم قيود الاستعمار وتستعيد الأرض والكرامة والكبرياء التي اغتصبها المحتل الأجنبي:
إفريقيا... إفريقيا استيقظي
استيقظي من نفسك القابعة
أكلّ ما عندك أن تصبحي
مزرعة للأرجل الزارعة؟
أكلّ ما عندك أن تلعقي
أحذية المستعمر اللامعة؟
أكلّ ما عندك أن ترقدي
خاملة خائرة خاضعة؟
أكلّ ما عندك أن تضحكي
هازئة بالقيم الرائعة؟
أكلّ ما عندك أن تصدّري
قوافل الرقيق، يا ضائعة؟
***
لتنتفض جثة تاريخنا
ولينتصب تمثال أحقادنا
آن لهذا الأسوَد المنزوي
المتواري عن عيون السنا
آن له أن يتحدى الورى
آن له أن يتحدى الفنا
فلتنحنِ الشمس لهاماتنا
ولتخشع الأرض لأصواتنا
إنا سنكسوها بأفراحنا
كما كسوناها بأحزاننا
أجل... فإنا قد أتى دورنا
إفريقيا... إنا أتى دورُنا
***
أصبح الفيتوري صوت إفريقيا وشاعرها، كانت إفريقيا هي قضيته الأولى، وسوف نتذكر الفيتوري كلما وردت كلمة «إفريقيا» ضمن أي نص نطالعه. وإذا كانت إفريقيا هي قضية الفيتوري الأولى فقد كانت القضية العربية تأخذ منه القدر نفسه من الاهتمام.
أعطاها من شعره وكتاباته وجهده الكثير، وضحى من أجلها، وتنقل بين الأقطار العربية أحياناً باختياره وأحياناً منفياً. ولم يكن يحس بالغربة حتى وهو منفي، فهو سوداني المولد، مصري النشأة والدراسة رحبت به ليبيا، وصال وجال من فوق منابر الحياة الثقافية في بيروت، وأخيراً استقر على أرض المغرب العربي روحاً وجسداً طاهراً في ثراها... وكأني أسمع أبا العلاء يقول:
مضى طاهر الجثمان والنفس والكرى
وسهد المنى والجيب والذيل والردن (1).
***
استطاع الفيتوري أن يطبع اسمه في قلوب كل العرب، وحفظ تلاميذ المدارس أشعاره ورددوها:
أصبح الصبح فلا السجن ولا السجان باق
وإذا الفجر جناحان يرفان عليك...
***
«الشاعر الثائر» هو أدقّ وصف للفيتوري، فقد كانت حياته في الشعر الثوري الوطني الذي مال إليه أكثر من شعر الغزل أو الرومانسية الذي كان يطرب له ولكن لا يجد نفسه فيه. لقد فرضت ظروف النشأة منذ الطفولة عليه أن يدافع بشدة عن لونه وقارته السمراء، وأن يهاجم بشراسة المستعمر الذي نهب ثروات القارة الإفريقية والأمة العربية، فلم يجد نفسه إلا مناضلاً بسلاح الكلمة شاعراً أو كاتباً صحفياً مميزاً صادقاً ثائراً في عصر كانت فيه قارة إفريقيا تحاول التخلص من القيود والأغلال التي كان يفرضها المستعمر الأبيض فيصرخ:
أرضي... والأبيض دنّسها
دنسها المحتلّ العادي
فلأمض شهيداً... وليمضوا
مثلي شهداء أولادي
فوراء الموت... وراء الأرض...
تدوي صرخة أجدادي:
لستم ببنينا... إن لم تذر
الريح رمادَ الجلاد
***
كان الفيتوري صوت الثورة والانتفاضة... كلماته ثورية تحرك الصخر... ولنستمع إليه وهو يخاطب المستعمر في قصيدة «إلى وجه أبيض»:
أنا كائن... أمي وأمك طينة
والنور ليس لأينا جدا
فإلام تحرمني حقوقي بينما
تلقى السعادة أنت والرغدا
وإلام تستعلي بأنفك سيدا
وأنا أطأطئ هامتي عبدا
إني صحوت... صحوت من أمسي
وذي فأسي تهد قبوره هدا
سأكون ناراً... فالحياة تريدني
ناراً وأرقص فوقها رعدا
***
حقاً... كان الفيتوري ناراً طوال حياته إلى أن تدهورت حالته الصحية... لكننا إذا استعرضنا جزءاً من مسيرة حياته العَفِيَّة... نجده ناراً تحرق كلماته الكيان الاستعماري، وتحرق أسطورة الطغاة في كل مكان، فقد كان الشاعر صوت الشعب المطحون إزاء سطوة الطغاة الذين عرّاهم بكلماته وقصائده التي صدح بها في كل محفل وناد فيقول:
لماذا يظن الطغاة الصغار
أن موت المناضل موت القضية؟
أعلم سرَّ احتكام الطغاة إلى البندقية
لا خائفا
إن صوتي مشنقة للطغاة جميعاً
ولا نادما
إن روحي مثقّلة بالغضب
كل طاغية صنم... دمية من خشب
ربما حسب الصنم الدمية المستبدة وهو يعلق
أوسمة الموت فوق صدور الرجال أنه بطل مايزال
***
أعماله
استمرت مسيرة الفيتوري الأدبية قرابة نصف قرن قدم خلالها نحو عشرين ديواناً، صدر أولها عام 1955 بعنوان «أغاني إفريقية» وتلاها لاحقاً العديد من الدواوين كان من أهمها:
- «عاشق من إفريقيا» (عام 1964).
- «اذكريني يا إفريقيا» (1965).
- «أحزان إفريقيا (1966) - (مسرحية شعرية).
- «البطل والثورة والمشنقة» (1968).
- «سقوط دبشليم» (1969).
- معزوفة درويش متجول (1971).
ثورة عمر المختار (مسرحية شعرية) (1973)
- ابتسمي حتى تمر الخيل (1975).
- أقوال شاهد إثبات.
- عصفورة الدم (1983).
- شرق الشمس غرب القمر (1985).
- يأتي العاشقون إليك (1989).
- قوس الليل قوس النهار (1994).
- يوسف بن تاشفين (مسرحية مكتوبة نثراً).
- الشاعر واللعبة (مسرحية مكتوبة نثراً).
عرياناً يرقص في الشمس (2005).
وعن تجربته الشعرية قال الفيتوري ذات مرة: «الشاعر أو الفنان هو مجموعة تجارب وهو حصيلة أحداث ومواقف، وهذه التجارب أو الأحداث أو المواقف، سواء أكانت سلبية أم إيجابية، قاسية أم رحيمة، تصبّ في وعاء الشعر المختزن في روح ووجدان الشاعر. وأنا في النهاية مستفيد منها، بل أعتبرها هدية من الله... لأنك دون أن تعاني ما يعانيه الآخرون لن تكون أبداً ذا صلة بالواقع».
تفرّد قاموس الفيتوري الشعري، وأضاف إلى لغة الشعر الكثير من المفردات الطازجة، وكانت له معرفة عميقة بالتراث الشعري العربي والإنساني، وفي شعره نغمات صوفية يقترب فيها من فلسفة أبي العلاء المعري... يقول:
بعض عمرك ما لم تعشه
وما لم تمته
وما لم تقله
وما لا يقال
وبعض حقائق عصرك
أنك عصر من الكلمات
وأنك مستغرق في الخيال
***
ويرى الدكتور حامد طاهر أن التصوف في شعر الفيتوري «ليس هو ذلك التصوف الجاهل المذهول، وإنما هو تصوف ثوري ومثقف... وأن النزعة الصوفية لديه ليست نزعة فردية، هدفها خلاص روحه فقط، وإنما المقصود خلاص روح الأمة كلها» .
***
تعرفت على الأستاذ محمد الفيتوري - معرفة شخصية - منذ نحو ربع قرن عندما كنت أعمل بالصحافة الكويتية محرراً ورساماً بمجلة «المجالس» التي كانت كثيراً ما توفدني لتغطية المناسبات والاحتفاليات الثقافية والوطنية في مختلف أنحاء العالم العربي. وفي أحد مهرجانات «المربد» الشعري الذي كان يعقد سنوياً بالعراق التقيت الأستاذ الفيتوري سنة 1989 وكان لقاء شعرت أنه تأخر كثيراً، فلطالما قرأت أشعاره وحفظت بعضها من قبل ذلك بكثير، ولكن جذبني صوته وإلقاؤه الشعر على المسرح... كان إلقاء فريداً، رائعاً، 
مميزاً.
وفي هذا المهرجان حصل الفيتوري بإجماع الآراء على لقب «شاعر العام»، وعلمت بفوزه بالجائزة ربما قبل أن يعلم هو نفسه بالخبر، وذلك من أستاذي وصديقي الدكتور كمال بشر الذي شاءت المصادفة أن أجلس إلى جواره في الحفل الكبير الذي سوف تُسلم فيه الجائزة. فاز الفيتوري بالجائزة الكبرى، وفزت أنا بحوار طويل مع الفيتوري نشر بمجلة «المجالس» على عددين، ومنذ ذلك الحين تعددت لقاءاتي وتحولت إلى صداقة قوية، خاصة بعد عودتي إلى مصر وعودتي إلى عملي الأصلي بالإذاعة والتلفزيون، حيث شاركت في تأسيس «قناة المعلومات المرئية» التي أصبحت رئيساً لها لاحقاً. وكان الفيتوري - رحمة الله عليه - يثق بآرائي ويسعد بمناقشاتي معه... وظل يتصل بي مشكوراً في كل مرة يزور فيها القاهرة، سواء في احتفالية شعرية أو زيارة عمل أو زيارة عادية.
وفي الفترة التي عُيِّن فيها الفيتوري دبلوماسياً ووزيراً مفوضاً لليبيا في القاهرة كنا دائمي اللقاء... نتجول بين أحياء القاهرة وأماكنها المفضلة لديه والتي شاهدت أحداث النهضة المصرية في أوائل الخمسينيات وحملت أجمل ذكريات الشاعر الكبير، كما كنا نتابع معاً وبصفة دائمة ندوات «معرض الكتاب» وكذلك معارض الفن التشكيلي، وكان يعرف عني اهتمامي بالرسم والتصوير وحب كل مجالات الفنون الجميلة. وفي إحدى المرات التي التقينا فيها ليلاً في التسعينيات دعاني لصحبته لنذهب معاً سيراً على الأقدام من شقته التي كان ينزل بها بجوار ميدان طلعت حرب إلى حيّ «باب اللوق» القريب من الميدان، بشعور وإحساس الشاعر المرهف، لكي يريني المكان الذي أبدع فيه قصيدته «تحت الأمطار»، حيث يحمل للقصيدة وللمكان ذكرى لا تنسى، بالرغم من مرور نحو أربعين عاماً وقتئذ على هذه الذكرى وهذه الحادثة وهذه القصيدة التي وصفها 
الدكتور حامد طاهر في كتابه عن الفيتوري بقوله: «إن القصيدة في مجملها رمزية: سائق عجوز أنهك خيول عربته دون مبالاة بآلامها (كذلك كل سلطان غاشم ينهك شعبه دون أن يستمع إلى شكواه) القصيدة بناء درامي محكم، يتميز أول ما يتميز بانعدام الزوائد (أي كلمات الحشو التي يلجأ إليها كثير من الشعراء) وإتقان اختيار القافية الموضوعة في مكانها تماماً (دون الوقوع في هاوية القوافي الاضطرارية) وإلى جانب هذا وذاك: تلك البلاغة التي تمزج بين الحقيقي والمجازي، بين الواقعي البسيط والاستعاري».
تقول القصيدة:
أيها السائق... رفقاً بالخيول المتعبة
قف... فقد أدمى حديد السرج لحم الرقبة
قف... فإن الدرب في ناظرة الخيل اشتبه
هكذا كان يغني الموت حول العربة
وهي تهوي تحت أمطار الدجى مضطربة
***
غير أن السائق الأسود، ذا الوجه النحيل
جذب المعطف في يأس على الوجه العليل
ورمى الدرب بما يشبه أنوار الأفول
ثم عنى سوطه الباكي على ظهر الخيول
فتلوّت وتهاوت ثم سارت في ذهول

لحن الخاتمة
سألت الفيتوري مرة، وأنا أعرف قدر حبه للمتنبي: ما أهم بيت للمتنبي لا تنساه؟ أجاب: من دون تردد هو من قصيدته النونية التي ردّ فيها على من أشاعوا أنه مات فقال:
كم قد قتلتُ وكم قد متُّ عندكم
ثم انتفضت فزال القبر والكفن
والغريب أن التاريخ قد أعاد نفسه، فقد أشيع منذ سنتين أن الفيتوري مات في المغرب، ثم ما لبثت أسرته الكريمة أن نفت هذه الإشاعة... ومنذ نحو 14 عاماً قال الفيتوري: «حين أطل إلى الوراء أعترف أنه قد كان لي حلم وحيد وأبدي هو: أن أصبح شاعراً وأن أكون جديراً بهذه الصفة، حتى لا يقال عني عندما أغادر هذه الحياة ذات يوم: لقد مات الوزير السابق أو الصحفي السابق أو حتى الرئيس السابق، 
ولكن: الإنسان الشاعر الذي غيب الموت جسده».
ومنذ أعوام رثى الفيتوري صديقه الشاعر المصري فتحي سعيد بقصيدة رائعة، فقال مخاطباً روح الشاعر الثوري:
«تعلمت أن الشعر أن يذهب الفتى
بعيداً ويبقى بعده كل ما غنَّى»
ولعل هذا البيت يعكس قصة الشاعر الثائر نفسه... هذه القصة التي تستحق كثيراً من الدراسة والتأمل.
الآن يذهب الفيتوري بعيداً... ويبقى بعده كل ما غنى >

هامش:
(1) البيت لأبي العلاء المعري من قصيدته في رثاء والده.