أزمة الإبداع التعليمي في المجتمع العربي
التعليم وسيلة أساسية لإنتاج فرد ومجتمع وصياغتهما في أروع صورة يبتغيها المجتمع لنفسه ولأبنائه. فهو طريق أمثل رسمه لضمان وجوده وتطوير حياته، وذلك بانتقاء أفضل الثقافات والتعاليم والمبادئ لتجديده وتوسيع آفاق نموّه. وتتمثل هذه الثقافات على أرض الواقع، ليخرج إلى الحياة جيل محب لمجتمعه، فقيه بحاله، مدرك لحقوقه وواجباته إزاءه.
لكن الواقع العربي دومًا ينسف المرتجى، فالتعليم فيه غدا ورقة رابحة بيد الدول المستعمرة القوية التي أدركت السر الأكبر للإمساك بزمام الأمور في المجتمعات العربية عبر إحكامها القيد على عقول النشء الجديد في أولى خطوات انطلاقه نحو الحياة، قبل أن تتكون لديهم الحصانة الداخلية. فاستثمرت أزمة التعليم المتأرجحة بين هيمنة بقايا فكرية استعمارية وسلطة محلية حاكمة رافضة لأي إبداع فكري، بالرغم من الجهود المتواصلة لتثبيت رؤية تعليمية واضحة ترسم على أساسها الأهداف والسياسات... ولكن سرعان ما يكتب لها الفشل.
ويستمر بالتالي التقليد الهمجي والعبثي للغرب، وتنمو في التعليم العالي نظم التعليم النظرية التي تنشر الثقافة الاستهلاكية على حساب التعليم الميداني، المهني والعلمي الذي ضاقت مساحته إلى أدنى حد، وما يترتب على ذلك من نتائج تجر الويلات على المجتمع، فتتكدّس شهادات العلوم النظرية وتضمحل شهادات المنحى العلمي ليختل التوازن في تلبية حاجات المجتمع.
ويتوه خريجو الجامعات باحثين عن عمل، ويتوه المجتمع باحثًا عن كفاءات في المجالات العلمية، باحثًا عن كوادر تقوم بحمل المواطنة الصحيحة، عن روّاد يتولون تسييره وفق إبداعاتهم وومضاتهم الفكرية.
الأصل في تعليم الفرد خدمة نفسه أولاً ومجتمعه ثانيًا، فلابد إذن أن يترجم علمه على أرض الواقع في عمارة مجتمعه، فلا يكون مجرد نظريات ومعلومات يتلقاها بمنأى عن المجتمع... وهذا يستتبع بالتالي العمل على بناء طلاب ذوي تفكير إبداعي مميز، الأمر الذي يستوجب تحسين مخرجات مؤسسات التعليم وتطعيمها بفكر مبدع متقد.
وهنا تتجلى ضرورة رفد المجتمع بشباب مفكرين، يجيدون حل المشكلات، ويتقنون فن التعامل مع الغير، وهذا يستدعي - ولا شك - اعتماد تعليم فعّال مغاير للتعليم المعتمد في المدارس اليوم، تعليم مثمر يهدف إلى إكساب الطلاب العقلية المنفتحة التي تكسبهم حسن التصرف في مجابهة التحديات التي ترتقب مجتمعهم وأمتهم.
والأمة العربية اليوم تئن من ثقل التحديات، من صدأ العقول المتحجرة التي نأت عن التفكير وارتضت العيش على هامش الحياة، وتفتقر إلى عقول مفكرة تعيد إليها لها عزّها المسلوب.
التعليم قوة لا يستهان بها
إن التعليم هو الأزمة الأولى في العالم العربي، وإن الكلام عن حل لها لا معنى له، ما لم يحدث تغيير جذري في أنظمة التعليم السائدة التي تعكس تلقائيًا التخلف الفكري والجمود العقلي اللذين أصابا الإنسان العربي.
إنه ليس حركة نهضوية إصلاحية فحسب، وإنما عملية تنموية إنسانية في الدرجة الأولى، هو قوة لا يستهان بها، ولكن أي تعلّم هذا؟ هل هو كيفما اتفق؟ وفي أي صورة ارتسم؟
يقول توني بوزان «لا يمكن للتعلم أن يكون ذا شأن إلا إذا كان العقل الذي وراءه يعرف جيدًا كيف يستخدم كل كلمة بمهارة شديدة». إذن لابد أن يكون هذا التعلم قائمًا على تفكير مميز متقن غير تقليدي، فقد اعتاد طالب هذا العصر اعتماد التفكير المرتكز على تذكر المعلومات التي تم تخزينها في الذاكرة. ليصبح هذا النوع من التفكير - أي الحفظ - شائعًا جدًا حتى غلب على البرامج المدرسية. وأضحى الطالب يمضي حوالي 20 في المائة من وقته في المدرسة في مرحلتي الطفولة والمراهقة، أي بمعدل حوالي 22000 ساعة من عمره في الدراسة من الصف الأول الأساسي إلى الثالث الثانوي بمعدل ساعتين يوميًا، وهو لم يتعلم بعد التفكير السليم، علمًا بأن الناظر اليوم إلى السيل العارم من المعلومات وحفظها، يدرك أن الأمر يتعدى حدود الفكر التقليدي ليصل إلى تفكير تأملي، تحليلي، ناقد، إبداعي.
فالأمر إذن يحتاج إلى وقفة نجول فيها على توزع القوى المهيمنة على العالم، والمرتكزة بداية ونهاية على سلاح التعلم. لنبدأ مع الصاروخ الروسي الذي سبق رفاقه إلى الفضاء في العام 1957، لينقلب الرئيس الأمريكي إلى التعلم في بلده، ويصدر القرارات بمراجعة وتعديل المناهج التعليمية في المدارس. يقول العالم الأمريكي كارل الندروفر معلقًا: «المدرسة الروسية انتصرت على المدرسة الأمريكية».
وفي أمريكا اليوم يتم تغيير المناهج كل ثلاث سنوات لمواكبة تطورات العلم والتكنولوجيا المتلاحقة، وتقدّر كلفة منهج العلوم في أمريكا للصف السادس بحوالي 600 مليون دولار، شارك في تأليفه 600 شخص، منهم كبار رجال الصناعة في أمريكا، ليدلوا بدلوهم في التركيز على القضايا التي تهم الصناعة الأمريكية.
ويقول الجنرال الياباني عن الصراع بين اليابان وروسيا: «انتصر المعلم الياباني عندما هزمت اليابان روسيا في مطلع هذا القرن». وبدوره رد ديجول هزيمة بلاده إلى هزيمة المدرسة الفرنسية أمام المدرسة الألمانية.
وبلد مثل الهند حقق تجربة ديمقراطية هي الأكبر في العالم، بالرغم من فقر شعبه وتباين العقائد والفلسفات، وذلك بفضل تفوّق نظامه التعليمي الذي استأثر به الفقراء والأغنياء على السواء.
والأمثلة على ذلك كثيرة لا تحصى، وهي إن دلت على أمر، فإنما تدل على مدى فاعلية النظام التعليمي في الارتقاء بالأمة وتحصينها لمواجهة أقسى التحديات.
إن العلّة التي ألمت بالعالم العربي اليوم وأطاحت به هي وأد الإبداع والتجديد الفكري في ثناياه، لينتهي إلى إصابة النفوس بعدوى التقليد عن غير هدى، فكانت الفوضى الفكرية بكل ما تحمل من معان، ومتى افتُقد التفكير السليم افتُقد الاهتداء إلى الصواب في القول والعمل، وفتح الباب على مصراعيه أمام التأثيرات الأجنبية الوافدة، وهزت الوحدة العربية في صميمها، واستغل التنوع الفاقد لرابط يجمعه. وأصبح العقل العربي مشلولاً لا يقوى على استيعاب أفكار رفقائه، لتفقد الأمة بذلك وحدتها الروحية، وهذا - ولا شك - أول انزلاق تتعثر فيه، ثم تتوالى النكبات ليُنفى الخيال كمعين أساسي للنظريات العلمية والحقائق المستجدة والاكتشافات الرائدة.
استُبعد التأمل والتفكير ليستبعد معه كل إبداع فردي أو مؤسساتي، ليوصم العالم العربي في نهاية المطاف بالدول النامية، أو بتعبير أدق الدول المتخلفة.
إن العرب هم من تخلوا عن الاحتكام إلى العقل لمصلحة الدول الأخرى، ولسان حالهم وحال مؤسساتهم وأوطانهم ينطق بذلك، لتنتهي بهم الحال إلى أمة استهلاكية تأكل مما لا تنتج، وتلبس مما لا تصنع، أمة تحكم على نفسها بالموت.
أين مدارسنا من الإبداع؟
إن المنهج التعليمي يلازم الطالب طيلة حياته، فبعد أن يكون محكومًا بالقالب الأسري الملزم، ينتقل إلى المدرسة، حيث يتابع المعلم دوره في كبت حرياته الأربع: حرية الحركة، الكلام، التفكير والاختيار، ويبدأ في تدريبه على تسمير جسده في المقعد من دون تفكير، وينصب المعلم أمامه آمرًا ناهيًا معصومًا من الخطأ، فينشأ الطفل على تقديم الإذعان والطاعة للغير، فلا يناقش أو يحاور أو يفنّد، بل يسمع وينفذ، وتغدو هذه السمة ملازمة لشخصيته، طامسة كل مهارة قيادية لديه. وهذا بحق جريمة كبرى ترتكب في حق الطالب والمجتمع بأسره، ولاسيما أنه يفتقد القيادة المبدعة الواعية.
والطفل العربي، وفقًا لما أثبتته بعض الدراسات، تفوق نسبة ذكائه وقدرته على الابتكار الخلاّق غيره من أطفال العالم بمراحل كثيرة، فهو بشكل عام يتسم باليقظة، إلا أنه يفتقد الحافز على الإبداع عند سن السابعة، عام دراسي واحد من النظام التعليمي المرهق كفيل بتثبيط الهمة الإبداعية لديه، فهذا النظام يقضي على 15 في المائة من قدرات الطالب مع كل عام دراسي، حتى إذا وصل إلى المرحلة الإعدادية يكون قد فقد قدراته كلها تقريبًا.
وقد استغربت الخبيرات الأجنبيات قدرات الأبناء العرب على الاستيعاب السريع والتشوق للمزيد من المعلومات بشكل يفوق غيرهم من أطفال الغرب، إلا أن خبراء أجانب آخرين لم يفاجأوا بما حلّ بأطفال العرب، وردّوا ذلك إلى النظام المدرسي الصارم الخانق للإبداع، بقولهم: نجلسهم على مكاتب ونطالبهم برفع أيديهم قبل التحدث، فنحن نشدد على الالتزام والنظام، ثم نعود بعد ذلك ونتساءل عن السبب في عدم قدرتهم على الإبداع!
هذا فضلاً عن إهمال الفروق الفردية بين الطلبة والتركيز على أساليب التدريب الجمعية التي تؤدي إلى تجاهل الطالب المبدع فتتدنى دافعيته، فأنّى له بعد ذلك البحث عن ذاتيته؟!
وأضحى التعليم دوامة مغلقة غير قادرة حتى على التأهيل الصحيح، الأساتذة تحكمهم قوالب محددة، والطلاب يتزاحمون في انتظار شهادات التخرج، تخرج طلاب غير قادرين على تحمُّل أعباء الأمة، ففكرهم لم يتعود حل المشكلات، وإنما التلقي وحسب.
وقد عُزي الارتفاع في درجة التحكمية (التسلطية)، التي يتعرض لها الطالب في عمر (6-12 سنة)، لا إلى الأسرة، بل إلى المؤسسة التعليمية الرسمية، إذ إن هذه المؤسسة تعكس السلطة الرسمية في المجتمع وفي معظم الأحيان صورتها السياسية الاقتصادية.
من هذا المنطق يمكن رصد فشل النظام التعليمي الحالي في توعية الطلاب بماهية النماذج الفكرية الحالية، لتبقى الفصول الدراسية تعقد على الكتاب المدرسي وتلقين المدرس، بالرغم من محاولات الإصلاح الكثيرة من قبل الأفراد والجماعات التي باءت بالفشل الذريع.
ومن هنا فإنه لابد من العمل على تغيير الحال، وإيجاد مناهج التفكير النقدي، إلا أن هذه المناهج التعليمية تحتاج إلى دعم مالي عال ليتم نقل الشباب من ثقافة الكتاب إلى ثقافة الإبداع عبر نشاطات تساعد على انطلاق التفكير المتشعب، وهذا بالطبع ليس بالأمر الهيّن، بل يحتاج إلى تأميم ورعاية.
إن المجتمع العربي ينوء بثقل التحديات العلمية، فخلال المائة سنة الماضية كان نصيبه من الاكتشافات والابتكارات العلمية منعدمًا أو شبه منعدم. وما الأدوات والآلات المستوردة إلا دليل آخر على الفشل والخنوع.
إن المبالغ التي تنفق على التعليم الحكومي في الوطن العربي تصنع بها أفضل مدارس في العالم. فالمسألة إذن ليست اقتصادية، وإنما الخلل في إدارة المسألة.
إن التعليم في المجتمع العربي بصيغته الحالية له العديد من الأهداف، وواحد من الأهداف التي نادرًا ما تطفو على سطح إدراكنا مسألة الحفاظ على الوضع الراهن، أي رفد المجتمع بأعضاء لن يقوموا بتحدي أي من الجوانب الأساسية للطريقة التي تسير بها الأمور.
وهذا يستوجب تأمين بيئة تعليمية يرغم فيها الطلاب على تعلُّم الطاعة والإذعان من دون تفكير أو ترديد، والقيام بالمهام الوظيفية دون تمرّد أو عصيان، فالمطلوب إعداد موظفين يعملون ضمن حدودهم الوظيفية لا غير، لا علماء مبدعين مكتشفين بمقدورهم نقد وتمييز أو رفض كل ما يتقدم إليهم، قادرين على فعل أشياء جديدة وعدم الاكتفاء بتمجيد ما فعلته الأجيال السابقة.
فجوة بين التعليم وفن الحياة
إن هذه الفجوة بين التعليم العربي والحياة، وقفت بالعرب في أوائل الطريق، حين مضى الآخرون يعملون ليصلوا إلى محطات من الرقي والإبداع تثير الشغف. فما سر هذه الفجوة، وإلى متى ستدوم؟
إن الأمة تحتاج إلى أن تجيد فن الحياة. الطالب يدرس مرغمًا، العامل يعالج حرفته وهو ضائق منكمش، الموظف يجلس إلى مكتبه وهو مهدود مهزوم، التاجر يدخل متجره وهو خامل مستكين، إن أجهزتهم النفسية متوقفة كالساعة الفارغة لا يسمع لها رنين، ولا ترى بها حياة، ولا ينضبط بها وقت!
الحاجة هنا إلى مواطنين سليمي التفكير قبل كل شيء، ليحسنوا تحرير أنفسهم من القيود التقليدية، ليفكروا خارج الصندوق، ليفكروا بأنفسهم بدلاً من أن يفكر أحد عنهم فيتولى أمورهم. فمن المفترض أن يكون التفكير الناقد مبادرة ذاتية من قبل الطالب الذي يخوض غمار الحاضر والمستقبل، إلا أن غيابه في المؤسسات التعليمية يشهد على العجز المضني على التمييز بين سياقات التعليم المثمر وغير المثمر.
في التعليم المثمر، إن الطالب - وإن خشي الخطأ - إلا أنه يعمل ويثابر فيخطئ ليتعلم ويقاسي، ثم يكسب المهارة في ممارسته ويتعزز لديه إيمانه بذاته. يقول فرانز سيربيك: «أجمل ما في إبداعات الطفل أخطاؤه، فعلمه رائع بقدر ما يحفل به من الأخطاء الفردية، وممل وبعيد عن سماته الشخصية بقدر ما يزيل المعلم من أخطائه».
يشار هنا إلى أنه لا يمكن اكتساب الخبرة والتعلم إلا من الأخطاء في التجارب، ولكن المدارس في العالم العربي تغفل عن هذا الأمر، فلا تسمح بالأخطاء وتسارع في المحاسبة عليها لكي يتعذر محوها، وعلى الطالب تفاديها بأي وسيلة كانت، حتى يؤدي به الأمر إلى امتهان السلبية في مواقفه المستقبلية، وفي عمله في المؤسسات، فيقوم بأدنى ما يمكن من الواجب بغية تحقيق أمنه الوظيفي.
في تقرير نشرته «لوس أنجليس تايمز» في 23 يناير 2001م، مفاده أن حجم المواد التي يدرسها الطلاب في مصر أضعاف ما يدرسه الطلاب في أمريكا، وكذا إن ما يقضيه الطلاب المصريون في المذاكرة أضعاف ما يقضيه الطلاب الأمريكيون. فإلام يعود هذا التفاوت الكبير في المناهج والمقررات؟
إن المناهج التي تدرس في المدارس في الوطن العربي تفضي بالطلاب ليكونوا كسولين في تعاملهم مع النصوص، وترسي اعتقاداتهم بأن المعرفة تتدلى فقط من رأس الأستاذ. وإذا بالتمرينات المقدمة لهم تتجه لتكون نسخة لفظية من النصوص، فلا حاجة لإعمال خيالهم، وكأن قدراتهم الفكرية قد أصابها نوع من الصدأ، ولا داعي لإمتاع أنفسهم بحرية التخيّل والإبداع، بالرغم من أن الفضول والتفكير الناقد الواعي يمثلان أساس القراءة الخلاّقة.
إن قسمًا كبيرًا من طلاب الدراسات العليا في عالمنا العربي ينأون عن الكتابة بمفردهم، حتى يقول أحدهم «إني لا أستصعب الكتابة بل لا أستطيع»، ويلجأون إلى الاقتباس المستمر عن مراجع أخرى، بل ربما الأدهى من ذلك أن ترى كتبنا العربية منسوخة عن بعضها البعض.
إن الأمل بالله كبير... والمتأمل في واقع البلدان العربية يلحظ وجود نسبة كبيرة شابة من سكانها: «60 في المائة من سكانها دون سن الثلاثين». وهذا أمر يدعو إلى التفاؤل، فالشباب معقود عليهم الأمل في التغيير والتخطيط لمستقبل تعليمي مشرق.
وإن مجرد السير في مضمار التجديد التربوي - ولو كان محدودًا - يفتح تدريجيًا آفاقًا تحسينية في نواح متفرقة من النظام التعليمي، وقد تطرح عبر المسار رؤية إصلاحية جذرية، ربما تتحقق على المدى البعيد على أيدي الخلف المرتقَب .