أزمة الإبداع التعليمي في المجتمع العربي

أزمة الإبداع التعليمي  في المجتمع العربي

التعليم‭ ‬وسيلة‭ ‬أساسية‭ ‬لإنتاج‭ ‬فرد‭ ‬ومجتمع‭ ‬وصياغتهما‭ ‬في‭ ‬أروع‭ ‬صورة‭ ‬يبتغيها‭ ‬المجتمع‭ ‬لنفسه‭ ‬ولأبنائه‭. ‬فهو‭ ‬طريق‭ ‬أمثل‭ ‬رسمه‭ ‬لضمان‭ ‬وجوده‭ ‬وتطوير‭ ‬حياته،‭ ‬وذلك‭ ‬بانتقاء‭ ‬أفضل‭ ‬الثقافات‭ ‬والتعاليم‭ ‬والمبادئ‭ ‬لتجديده‭ ‬وتوسيع‭ ‬آفاق‭ ‬نموّه‭. ‬وتتمثل‭ ‬هذه‭ ‬الثقافات‭ ‬على‭ ‬أرض‭ ‬الواقع،‭ ‬ليخرج‭ ‬إلى‭ ‬الحياة‭ ‬جيل‭ ‬محب‭ ‬لمجتمعه،‭ ‬فقيه‭ ‬بحاله،‭ ‬مدرك‭ ‬لحقوقه‭ ‬وواجباته‭ ‬إزاءه‭.‬

لكن‭ ‬الواقع‭ ‬العربي‭ ‬دومًا‭ ‬ينسف‭ ‬المرتجى،‭ ‬فالتعليم‭ ‬فيه‭ ‬غدا‭ ‬ورقة‭ ‬رابحة‭ ‬بيد‭ ‬الدول‭ ‬المستعمرة‭ ‬القوية‭ ‬التي‭ ‬أدركت‭ ‬السر‭ ‬الأكبر‭ ‬للإمساك‭ ‬بزمام‭ ‬الأمور‭ ‬في‭ ‬المجتمعات‭ ‬العربية‭ ‬عبر‭ ‬إحكامها‭ ‬القيد‭ ‬على‭ ‬عقول‭ ‬النشء‭ ‬الجديد‭ ‬في‭ ‬أولى‭ ‬خطوات‭ ‬انطلاقه‭ ‬نحو‭ ‬الحياة،‭ ‬قبل‭ ‬أن‭ ‬تتكون‭ ‬لديهم‭ ‬الحصانة‭ ‬الداخلية‭. ‬فاستثمرت‭ ‬أزمة‭ ‬التعليم‭ ‬المتأرجحة‭ ‬بين‭ ‬هيمنة‭ ‬بقايا‭ ‬فكرية‭ ‬استعمارية‭ ‬وسلطة‭ ‬محلية‭ ‬حاكمة‭ ‬رافضة‭ ‬لأي‭ ‬إبداع‭ ‬فكري،‭ ‬بالرغم‭ ‬من‭ ‬الجهود‭ ‬المتواصلة‭ ‬لتثبيت‭ ‬رؤية‭ ‬تعليمية‭ ‬واضحة‭ ‬ترسم‭ ‬على‭ ‬أساسها‭ ‬الأهداف‭ ‬والسياسات‭... ‬ولكن‭ ‬سرعان‭ ‬ما‭ ‬يكتب‭ ‬لها‭ ‬الفشل‭.‬

ويستمر‭ ‬بالتالي‭ ‬التقليد‭ ‬الهمجي‭ ‬والعبثي‭ ‬للغرب،‭ ‬وتنمو‭ ‬في‭ ‬التعليم‭ ‬العالي‭ ‬نظم‭ ‬التعليم‭ ‬النظرية‭ ‬التي‭ ‬تنشر‭ ‬الثقافة‭ ‬الاستهلاكية‭ ‬على‭ ‬حساب‭ ‬التعليم‭ ‬الميداني،‭ ‬المهني‭ ‬والعلمي‭ ‬الذي‭ ‬ضاقت‭ ‬مساحته‭ ‬إلى‭ ‬أدنى‭ ‬حد،‭ ‬وما‭ ‬يترتب‭ ‬على‭ ‬ذلك‭ ‬من‭ ‬نتائج‭ ‬تجر‭ ‬الويلات‭ ‬على‭ ‬المجتمع،‭ ‬فتتكدّس‭ ‬شهادات‭ ‬العلوم‭ ‬النظرية‭ ‬وتضمحل‭ ‬شهادات‭ ‬المنحى‭ ‬العلمي‭ ‬ليختل‭ ‬التوازن‭ ‬في‭ ‬تلبية‭ ‬حاجات‭ ‬المجتمع‭.‬

ويتوه‭ ‬خريجو‭ ‬الجامعات‭ ‬باحثين‭ ‬عن‭ ‬عمل،‭ ‬ويتوه‭ ‬المجتمع‭ ‬باحثًا‭ ‬عن‭ ‬كفاءات‭ ‬في‭ ‬المجالات‭ ‬العلمية،‭ ‬باحثًا‭ ‬عن‭ ‬كوادر‭ ‬تقوم‭ ‬بحمل‭ ‬المواطنة‭ ‬الصحيحة،‭ ‬عن‭ ‬روّاد‭ ‬يتولون‭ ‬تسييره‭ ‬وفق‭ ‬إبداعاتهم‭ ‬وومضاتهم‭ ‬الفكرية‭.‬

الأصل‭ ‬في‭ ‬تعليم‭ ‬الفرد‭ ‬خدمة‭ ‬نفسه‭ ‬أولاً‭ ‬ومجتمعه‭ ‬ثانيًا،‭ ‬فلابد‭ ‬إذن‭ ‬أن‭ ‬يترجم‭ ‬علمه‭ ‬على‭ ‬أرض‭ ‬الواقع‭ ‬في‭ ‬عمارة‭ ‬مجتمعه،‭ ‬فلا‭ ‬يكون‭ ‬مجرد‭ ‬نظريات‭ ‬ومعلومات‭ ‬يتلقاها‭ ‬بمنأى‭ ‬عن‭ ‬المجتمع‭... ‬وهذا‭ ‬يستتبع‭ ‬بالتالي‭ ‬العمل‭ ‬على‭ ‬بناء‭ ‬طلاب‭ ‬ذوي‭ ‬تفكير‭ ‬إبداعي‭ ‬مميز،‭ ‬الأمر‭ ‬الذي‭ ‬يستوجب‭ ‬تحسين‭ ‬مخرجات‭ ‬مؤسسات‭ ‬التعليم‭ ‬وتطعيمها‭ ‬بفكر‭ ‬مبدع‭ ‬متقد‭.‬

وهنا‭ ‬تتجلى‭ ‬ضرورة‭ ‬رفد‭ ‬المجتمع‭ ‬بشباب‭ ‬مفكرين،‭ ‬يجيدون‭ ‬حل‭ ‬المشكلات،‭ ‬ويتقنون‭ ‬فن‭ ‬التعامل‭ ‬مع‭ ‬الغير،‭ ‬وهذا‭ ‬يستدعي‭ - ‬ولا‭ ‬شك‭ - ‬اعتماد‭ ‬تعليم‭ ‬فعّال‭ ‬مغاير‭ ‬للتعليم‭ ‬المعتمد‭ ‬في‭ ‬المدارس‭ ‬اليوم،‭ ‬تعليم‭ ‬مثمر‭ ‬يهدف‭ ‬إلى‭ ‬إكساب‭ ‬الطلاب‭ ‬العقلية‭ ‬المنفتحة‭ ‬التي‭ ‬تكسبهم‭ ‬حسن‭ ‬التصرف‭ ‬في‭ ‬مجابهة‭ ‬التحديات‭ ‬التي‭ ‬ترتقب‭ ‬مجتمعهم‭ ‬وأمتهم‭.‬

والأمة‭ ‬العربية‭ ‬اليوم‭ ‬تئن‭ ‬من‭ ‬ثقل‭ ‬التحديات،‭ ‬من‭ ‬صدأ‭ ‬العقول‭ ‬المتحجرة‭ ‬التي‭ ‬نأت‭ ‬عن‭ ‬التفكير‭ ‬وارتضت‭ ‬العيش‭ ‬على‭ ‬هامش‭ ‬الحياة،‭ ‬وتفتقر‭ ‬إلى‭ ‬عقول‭ ‬مفكرة‭ ‬تعيد‭ ‬إليها‭ ‬لها‭ ‬عزّها‭ ‬المسلوب‭.‬

 

التعليم‭ ‬قوة‭ ‬لا‭ ‬يستهان‭ ‬بها

إن‭ ‬التعليم‭ ‬هو‭ ‬الأزمة‭ ‬الأولى‭ ‬في‭ ‬العالم‭ ‬العربي،‭ ‬وإن‭ ‬الكلام‭ ‬عن‭ ‬حل‭ ‬لها‭ ‬لا‭ ‬معنى‭ ‬له،‭ ‬ما‭ ‬لم‭ ‬يحدث‭ ‬تغيير‭ ‬جذري‭ ‬في‭ ‬أنظمة‭ ‬التعليم‭ ‬السائدة‭ ‬التي‭ ‬تعكس‭ ‬تلقائيًا‭ ‬التخلف‭ ‬الفكري‭ ‬والجمود‭ ‬العقلي‭ ‬اللذين‭ ‬أصابا‭ ‬الإنسان‭ ‬العربي‭.‬

إنه‭ ‬ليس‭ ‬حركة‭ ‬نهضوية‭ ‬إصلاحية‭ ‬فحسب،‭ ‬وإنما‭ ‬عملية‭ ‬تنموية‭ ‬إنسانية‭ ‬في‭ ‬الدرجة‭ ‬الأولى،‭ ‬هو‭ ‬قوة‭ ‬لا‭ ‬يستهان‭ ‬بها،‭ ‬ولكن‭ ‬أي‭ ‬تعلّم‭ ‬هذا؟‭ ‬هل‭ ‬هو‭ ‬كيفما‭ ‬اتفق؟‭ ‬وفي‭ ‬أي‭ ‬صورة‭ ‬ارتسم؟

يقول‭ ‬توني‭ ‬بوزان‭ ‬‮«‬لا‭ ‬يمكن‭ ‬للتعلم‭ ‬أن‭ ‬يكون‭ ‬ذا‭ ‬شأن‭ ‬إلا‭ ‬إذا‭ ‬كان‭ ‬العقل‭ ‬الذي‭ ‬وراءه‭ ‬يعرف‭ ‬جيدًا‭ ‬كيف‭ ‬يستخدم‭ ‬كل‭ ‬كلمة‭ ‬بمهارة‭ ‬شديدة‮»‬‭. ‬إذن‭ ‬لابد‭ ‬أن‭ ‬يكون‭ ‬هذا‭ ‬التعلم‭ ‬قائمًا‭ ‬على‭ ‬تفكير‭ ‬مميز‭ ‬متقن‭ ‬غير‭ ‬تقليدي،‭ ‬فقد‭ ‬اعتاد‭ ‬طالب‭ ‬هذا‭ ‬العصر‭ ‬اعتماد‭ ‬التفكير‭ ‬المرتكز‭ ‬على‭ ‬تذكر‭ ‬المعلومات‭ ‬التي‭ ‬تم‭ ‬تخزينها‭ ‬في‭ ‬الذاكرة‭. ‬ليصبح‭ ‬هذا‭ ‬النوع‭ ‬من‭ ‬التفكير‭ - ‬أي‭ ‬الحفظ‭ - ‬شائعًا‭ ‬جدًا‭ ‬حتى‭ ‬غلب‭ ‬على‭ ‬البرامج‭ ‬المدرسية‭. ‬وأضحى‭ ‬الطالب‭ ‬يمضي‭ ‬حوالي‭ ‬20‭ ‬في‭ ‬المائة‭ ‬من‭ ‬وقته‭ ‬في‭ ‬المدرسة‭ ‬في‭ ‬مرحلتي‭ ‬الطفولة‭ ‬والمراهقة،‭ ‬أي‭ ‬بمعدل‭ ‬حوالي‭ ‬22000‭ ‬ساعة‭ ‬من‭ ‬عمره‭ ‬في‭ ‬الدراسة‭ ‬من‭ ‬الصف‭ ‬الأول‭ ‬الأساسي‭ ‬إلى‭ ‬الثالث‭ ‬الثانوي‭ ‬بمعدل‭ ‬ساعتين‭ ‬يوميًا،‭ ‬وهو‭ ‬لم‭ ‬يتعلم‭ ‬بعد‭ ‬التفكير‭ ‬السليم،‭ ‬علمًا‭ ‬بأن‭ ‬الناظر‭ ‬اليوم‭ ‬إلى‭ ‬السيل‭ ‬العارم‭ ‬من‭ ‬المعلومات‭ ‬وحفظها،‭ ‬يدرك‭ ‬أن‭ ‬الأمر‭ ‬يتعدى‭ ‬حدود‭ ‬الفكر‭ ‬التقليدي‭ ‬ليصل‭ ‬إلى‭ ‬تفكير‭ ‬تأملي،‭ ‬تحليلي،‭ ‬ناقد،‭ ‬إبداعي‭.‬

فالأمر‭ ‬إذن‭ ‬يحتاج‭ ‬إلى‭ ‬وقفة‭ ‬نجول‭ ‬فيها‭ ‬على‭ ‬توزع‭ ‬القوى‭ ‬المهيمنة‭ ‬على‭ ‬العالم،‭ ‬والمرتكزة‭ ‬بداية‭ ‬ونهاية‭ ‬على‭ ‬سلاح‭ ‬التعلم‭. ‬لنبدأ‭ ‬مع‭ ‬الصاروخ‭ ‬الروسي‭ ‬الذي‭ ‬سبق‭ ‬رفاقه‭ ‬إلى‭ ‬الفضاء‭ ‬في‭ ‬العام‭ ‬1957،‭ ‬لينقلب‭ ‬الرئيس‭ ‬الأمريكي‭ ‬إلى‭ ‬التعلم‭ ‬في‭ ‬بلده،‭ ‬ويصدر‭ ‬القرارات‭ ‬بمراجعة‭ ‬وتعديل‭ ‬المناهج‭ ‬التعليمية‭ ‬في‭ ‬المدارس‭. ‬يقول‭ ‬العالم‭ ‬الأمريكي‭ ‬كارل‭ ‬الندروفر‭ ‬معلقًا‭: ‬‮«‬المدرسة‭ ‬الروسية‭ ‬انتصرت‭ ‬على‭ ‬المدرسة‭ ‬الأمريكية‮»‬‭.‬

وفي‭ ‬أمريكا‭ ‬اليوم‭ ‬يتم‭ ‬تغيير‭ ‬المناهج‭ ‬كل‭ ‬ثلاث‭ ‬سنوات‭ ‬لمواكبة‭ ‬تطورات‭ ‬العلم‭ ‬والتكنولوجيا‭ ‬المتلاحقة،‭ ‬وتقدّر‭ ‬كلفة‭ ‬منهج‭ ‬العلوم‭ ‬في‭ ‬أمريكا‭ ‬للصف‭ ‬السادس‭ ‬بحوالي‭ ‬600‭ ‬مليون‭ ‬دولار،‭ ‬شارك‭ ‬في‭ ‬تأليفه‭ ‬600‭ ‬شخص،‭ ‬منهم‭ ‬كبار‭ ‬رجال‭ ‬الصناعة‭ ‬في‭ ‬أمريكا،‭ ‬ليدلوا‭ ‬بدلوهم‭ ‬في‭ ‬التركيز‭ ‬على‭ ‬القضايا‭ ‬التي‭ ‬تهم‭ ‬الصناعة‭ ‬الأمريكية‭.‬

ويقول‭ ‬الجنرال‭ ‬الياباني‭ ‬عن‭ ‬الصراع‭ ‬بين‭ ‬اليابان‭ ‬وروسيا‭: ‬‮«‬انتصر‭ ‬المعلم‭ ‬الياباني‭ ‬عندما‭ ‬هزمت‭ ‬اليابان‭ ‬روسيا‭ ‬في‭ ‬مطلع‭ ‬هذا‭ ‬القرن‮»‬‭. ‬وبدوره‭ ‬رد‭ ‬ديجول‭ ‬هزيمة‭ ‬بلاده‭ ‬إلى‭ ‬هزيمة‭ ‬المدرسة‭ ‬الفرنسية‭ ‬أمام‭ ‬المدرسة‭ ‬الألمانية‭.‬

وبلد‭ ‬مثل‭ ‬الهند‭ ‬حقق‭ ‬تجربة‭ ‬ديمقراطية‭ ‬هي‭ ‬الأكبر‭ ‬في‭ ‬العالم،‭ ‬بالرغم‭ ‬من‭ ‬فقر‭ ‬شعبه‭ ‬وتباين‭ ‬العقائد‭ ‬والفلسفات،‭ ‬وذلك‭ ‬بفضل‭ ‬تفوّق‭ ‬نظامه‭ ‬التعليمي‭ ‬الذي‭ ‬استأثر‭ ‬به‭ ‬الفقراء‭ ‬والأغنياء‭ ‬على‭ ‬السواء‭.‬

والأمثلة‭ ‬على‭ ‬ذلك‭ ‬كثيرة‭ ‬لا‭ ‬تحصى،‭ ‬وهي‭ ‬إن‭ ‬دلت‭ ‬على‭ ‬أمر،‭ ‬فإنما‭ ‬تدل‭ ‬على‭ ‬مدى‭ ‬فاعلية‭ ‬النظام‭ ‬التعليمي‭ ‬في‭ ‬الارتقاء‭ ‬بالأمة‭ ‬وتحصينها‭ ‬لمواجهة‭ ‬أقسى‭ ‬التحديات‭.‬

إن‭ ‬العلّة‭ ‬التي‭ ‬ألمت‭ ‬بالعالم‭ ‬العربي‭ ‬اليوم‭ ‬وأطاحت‭ ‬به‭ ‬هي‭ ‬وأد‭ ‬الإبداع‭ ‬والتجديد‭ ‬الفكري‭ ‬في‭ ‬ثناياه،‭ ‬لينتهي‭ ‬إلى‭ ‬إصابة‭ ‬النفوس‭ ‬بعدوى‭ ‬التقليد‭ ‬عن‭ ‬غير‭ ‬هدى،‭ ‬فكانت‭ ‬الفوضى‭ ‬الفكرية‭ ‬بكل‭ ‬ما‭ ‬تحمل‭ ‬من‭ ‬معان،‭ ‬ومتى‭ ‬افتُقد‭ ‬التفكير‭ ‬السليم‭ ‬افتُقد‭ ‬الاهتداء‭ ‬إلى‭ ‬الصواب‭ ‬في‭ ‬القول‭ ‬والعمل،‭ ‬وفتح‭ ‬الباب‭ ‬على‭ ‬مصراعيه‭ ‬أمام‭ ‬التأثيرات‭ ‬الأجنبية‭ ‬الوافدة،‭ ‬وهزت‭ ‬الوحدة‭ ‬العربية‭ ‬في‭ ‬صميمها،‭ ‬واستغل‭ ‬التنوع‭ ‬الفاقد‭ ‬لرابط‭ ‬يجمعه‭. ‬وأصبح‭ ‬العقل‭ ‬العربي‭ ‬مشلولاً‭ ‬لا‭ ‬يقوى‭ ‬على‭ ‬استيعاب‭ ‬أفكار‭ ‬رفقائه،‭ ‬لتفقد‭ ‬الأمة‭ ‬بذلك‭ ‬وحدتها‭ ‬الروحية،‭ ‬وهذا‭ - ‬ولا‭ ‬شك‭ - ‬أول‭ ‬انزلاق‭ ‬تتعثر‭ ‬فيه،‭ ‬ثم‭ ‬تتوالى‭ ‬النكبات‭ ‬ليُنفى‭ ‬الخيال‭ ‬كمعين‭ ‬أساسي‭ ‬للنظريات‭ ‬العلمية‭ ‬والحقائق‭ ‬المستجدة‭ ‬والاكتشافات‭ ‬الرائدة‭.‬

استُبعد‭ ‬التأمل‭ ‬والتفكير‭ ‬ليستبعد‭ ‬معه‭ ‬كل‭ ‬إبداع‭ ‬فردي‭ ‬أو‭ ‬مؤسساتي،‭ ‬ليوصم‭ ‬العالم‭ ‬العربي‭ ‬في‭ ‬نهاية‭ ‬المطاف‭ ‬بالدول‭ ‬النامية،‭ ‬أو‭ ‬بتعبير‭ ‬أدق‭ ‬الدول‭ ‬المتخلفة‭.‬

إن‭ ‬العرب‭ ‬هم‭ ‬من‭ ‬تخلوا‭ ‬عن‭ ‬الاحتكام‭ ‬إلى‭ ‬العقل‭ ‬لمصلحة‭ ‬الدول‭ ‬الأخرى،‭ ‬ولسان‭ ‬حالهم‭ ‬وحال‭ ‬مؤسساتهم‭ ‬وأوطانهم‭ ‬ينطق‭ ‬بذلك،‭ ‬لتنتهي‭ ‬بهم‭ ‬الحال‭ ‬إلى‭ ‬أمة‭ ‬استهلاكية‭ ‬تأكل‭ ‬مما‭ ‬لا‭ ‬تنتج،‭ ‬وتلبس‭ ‬مما‭ ‬لا‭ ‬تصنع،‭ ‬أمة‭ ‬تحكم‭ ‬على‭ ‬نفسها‭ ‬بالموت‭.‬

 

أين‭ ‬مدارسنا‭ ‬من‭ ‬الإبداع؟

إن‭ ‬المنهج‭ ‬التعليمي‭ ‬يلازم‭ ‬الطالب‭ ‬طيلة‭ ‬حياته،‭ ‬فبعد‭ ‬أن‭ ‬يكون‭ ‬محكومًا‭ ‬بالقالب‭ ‬الأسري‭ ‬الملزم،‭ ‬ينتقل‭ ‬إلى‭ ‬المدرسة،‭ ‬حيث‭ ‬يتابع‭ ‬المعلم‭ ‬دوره‭ ‬في‭ ‬كبت‭ ‬حرياته‭ ‬الأربع‭: ‬حرية‭ ‬الحركة،‭ ‬الكلام،‭ ‬التفكير‭ ‬والاختيار،‭ ‬ويبدأ‭ ‬في‭ ‬تدريبه‭ ‬على‭ ‬تسمير‭ ‬جسده‭ ‬في‭ ‬المقعد‭ ‬من‭ ‬دون‭ ‬تفكير،‭ ‬وينصب‭ ‬المعلم‭ ‬أمامه‭ ‬آمرًا‭ ‬ناهيًا‭ ‬معصومًا‭ ‬من‭ ‬الخطأ،‭ ‬فينشأ‭ ‬الطفل‭ ‬على‭ ‬تقديم‭ ‬الإذعان‭ ‬والطاعة‭ ‬للغير،‭ ‬فلا‭ ‬يناقش‭ ‬أو‭ ‬يحاور‭ ‬أو‭ ‬يفنّد،‭ ‬بل‭ ‬يسمع‭ ‬وينفذ،‭ ‬وتغدو‭ ‬هذه‭ ‬السمة‭ ‬ملازمة‭ ‬لشخصيته،‭ ‬طامسة‭ ‬كل‭ ‬مهارة‭ ‬قيادية‭ ‬لديه‭. ‬وهذا‭ ‬بحق‭ ‬جريمة‭ ‬كبرى‭ ‬ترتكب‭ ‬في‭ ‬حق‭ ‬الطالب‭ ‬والمجتمع‭ ‬بأسره،‭ ‬ولاسيما‭ ‬أنه‭ ‬يفتقد‭ ‬القيادة‭ ‬المبدعة‭ ‬الواعية‭.‬

والطفل‭ ‬العربي،‭ ‬وفقًا‭ ‬لما‭ ‬أثبتته‭ ‬بعض‭ ‬الدراسات،‭ ‬تفوق‭ ‬نسبة‭ ‬ذكائه‭ ‬وقدرته‭ ‬على‭ ‬الابتكار‭ ‬الخلاّق‭ ‬غيره‭ ‬من‭ ‬أطفال‭ ‬العالم‭ ‬بمراحل‭ ‬كثيرة،‭ ‬فهو‭ ‬بشكل‭ ‬عام‭ ‬يتسم‭ ‬باليقظة،‭ ‬إلا‭ ‬أنه‭ ‬يفتقد‭ ‬الحافز‭ ‬على‭ ‬الإبداع‭ ‬عند‭ ‬سن‭ ‬السابعة،‭ ‬عام‭ ‬دراسي‭ ‬واحد‭ ‬من‭ ‬النظام‭ ‬التعليمي‭ ‬المرهق‭ ‬كفيل‭ ‬بتثبيط‭ ‬الهمة‭ ‬الإبداعية‭ ‬لديه،‭ ‬فهذا‭ ‬النظام‭ ‬يقضي‭ ‬على‭ ‬15‭ ‬في‭ ‬المائة‭ ‬من‭ ‬قدرات‭ ‬الطالب‭ ‬مع‭ ‬كل‭ ‬عام‭ ‬دراسي،‭ ‬حتى‭ ‬إذا‭ ‬وصل‭ ‬إلى‭ ‬المرحلة‭ ‬الإعدادية‭ ‬يكون‭ ‬قد‭ ‬فقد‭ ‬قدراته‭ ‬كلها‭ ‬تقريبًا‭.‬

وقد‭ ‬استغربت‭ ‬الخبيرات‭ ‬الأجنبيات‭ ‬قدرات‭ ‬الأبناء‭ ‬العرب‭ ‬على‭ ‬الاستيعاب‭ ‬السريع‭ ‬والتشوق‭ ‬للمزيد‭ ‬من‭ ‬المعلومات‭ ‬بشكل‭ ‬يفوق‭ ‬غيرهم‭ ‬من‭ ‬أطفال‭ ‬الغرب،‭ ‬إلا‭ ‬أن‭ ‬خبراء‭ ‬أجانب‭ ‬آخرين‭ ‬لم‭ ‬يفاجأوا‭ ‬بما‭ ‬حلّ‭ ‬بأطفال‭ ‬العرب،‭ ‬وردّوا‭ ‬ذلك‭ ‬إلى‭ ‬النظام‭ ‬المدرسي‭ ‬الصارم‭ ‬الخانق‭ ‬للإبداع،‭ ‬بقولهم‭: ‬نجلسهم‭ ‬على‭ ‬مكاتب‭ ‬ونطالبهم‭ ‬برفع‭ ‬أيديهم‭ ‬قبل‭ ‬التحدث،‭ ‬فنحن‭ ‬نشدد‭ ‬على‭ ‬الالتزام‭ ‬والنظام،‭ ‬ثم‭ ‬نعود‭ ‬بعد‭ ‬ذلك‭ ‬ونتساءل‭ ‬عن‭ ‬السبب‭ ‬في‭ ‬عدم‭ ‬قدرتهم‭ ‬على‭ ‬الإبداع‭!‬

هذا‭ ‬فضلاً‭ ‬عن‭ ‬إهمال‭ ‬الفروق‭ ‬الفردية‭ ‬بين‭ ‬الطلبة‭ ‬والتركيز‭ ‬على‭ ‬أساليب‭ ‬التدريب‭ ‬الجمعية‭ ‬التي‭ ‬تؤدي‭ ‬إلى‭ ‬تجاهل‭ ‬الطالب‭ ‬المبدع‭ ‬فتتدنى‭ ‬دافعيته،‭ ‬فأنّى‭ ‬له‭ ‬بعد‭ ‬ذلك‭ ‬البحث‭ ‬عن‭ ‬ذاتيته؟‭!‬

وأضحى‭ ‬التعليم‭ ‬دوامة‭ ‬مغلقة‭ ‬غير‭ ‬قادرة‭ ‬حتى‭ ‬على‭ ‬التأهيل‭ ‬الصحيح،‭ ‬الأساتذة‭ ‬تحكمهم‭ ‬قوالب‭ ‬محددة،‭ ‬والطلاب‭ ‬يتزاحمون‭ ‬في‭ ‬انتظار‭ ‬شهادات‭ ‬التخرج،‭ ‬تخرج‭ ‬طلاب‭ ‬غير‭ ‬قادرين‭ ‬على‭ ‬تحمُّل‭ ‬أعباء‭ ‬الأمة،‭ ‬ففكرهم‭ ‬لم‭ ‬يتعود‭ ‬حل‭ ‬المشكلات،‭ ‬وإنما‭ ‬التلقي‭ ‬وحسب‭.‬

وقد‭ ‬عُزي‭ ‬الارتفاع‭ ‬في‭ ‬درجة‭ ‬التحكمية‭ (‬التسلطية‭)‬،‭ ‬التي‭ ‬يتعرض‭ ‬لها‭ ‬الطالب‭ ‬في‭ ‬عمر‭ (‬6-12‭ ‬سنة‭)‬،‭ ‬لا‭ ‬إلى‭ ‬الأسرة،‭ ‬بل‭ ‬إلى‭ ‬المؤسسة‭ ‬التعليمية‭ ‬الرسمية،‭ ‬إذ‭ ‬إن‭ ‬هذه‭ ‬المؤسسة‭ ‬تعكس‭ ‬السلطة‭ ‬الرسمية‭ ‬في‭ ‬المجتمع‭ ‬وفي‭ ‬معظم‭ ‬الأحيان‭ ‬صورتها‭ ‬السياسية‭ ‬الاقتصادية‭.‬

من‭ ‬هذا‭ ‬المنطق‭ ‬يمكن‭ ‬رصد‭ ‬فشل‭ ‬النظام‭ ‬التعليمي‭ ‬الحالي‭ ‬في‭ ‬توعية‭ ‬الطلاب‭ ‬بماهية‭ ‬النماذج‭ ‬الفكرية‭ ‬الحالية،‭ ‬لتبقى‭ ‬الفصول‭ ‬الدراسية‭ ‬تعقد‭ ‬على‭ ‬الكتاب‭ ‬المدرسي‭ ‬وتلقين‭ ‬المدرس،‭ ‬بالرغم‭ ‬من‭ ‬محاولات‭ ‬الإصلاح‭ ‬الكثيرة‭ ‬من‭ ‬قبل‭ ‬الأفراد‭ ‬والجماعات‭ ‬التي‭ ‬باءت‭ ‬بالفشل‭ ‬الذريع‭.‬

ومن‭ ‬هنا‭ ‬فإنه‭ ‬لابد‭ ‬من‭ ‬العمل‭ ‬على‭ ‬تغيير‭ ‬الحال،‭ ‬وإيجاد‭ ‬مناهج‭ ‬التفكير‭ ‬النقدي،‭ ‬إلا‭ ‬أن‭ ‬هذه‭ ‬المناهج‭ ‬التعليمية‭ ‬تحتاج‭ ‬إلى‭ ‬دعم‭ ‬مالي‭ ‬عال‭ ‬ليتم‭ ‬نقل‭ ‬الشباب‭ ‬من‭ ‬ثقافة‭ ‬الكتاب‭ ‬إلى‭ ‬ثقافة‭ ‬الإبداع‭ ‬عبر‭ ‬نشاطات‭ ‬تساعد‭ ‬على‭ ‬انطلاق‭ ‬التفكير‭ ‬المتشعب،‭ ‬وهذا‭ ‬بالطبع‭ ‬ليس‭ ‬بالأمر‭ ‬الهيّن،‭ ‬بل‭ ‬يحتاج‭ ‬إلى‭ ‬تأميم‭ ‬ورعاية‭.‬

إن‭ ‬المجتمع‭ ‬العربي‭ ‬ينوء‭ ‬بثقل‭ ‬التحديات‭ ‬العلمية،‭ ‬فخلال‭ ‬المائة‭ ‬سنة‭ ‬الماضية‭ ‬كان‭ ‬نصيبه‭ ‬من‭ ‬الاكتشافات‭ ‬والابتكارات‭ ‬العلمية‭ ‬منعدمًا‭ ‬أو‭ ‬شبه‭ ‬منعدم‭. ‬وما‭ ‬الأدوات‭ ‬والآلات‭ ‬المستوردة‭ ‬إلا‭ ‬دليل‭ ‬آخر‭ ‬على‭ ‬الفشل‭ ‬والخنوع‭.‬

إن‭ ‬المبالغ‭ ‬التي‭ ‬تنفق‭ ‬على‭ ‬التعليم‭ ‬الحكومي‭ ‬في‭ ‬الوطن‭ ‬العربي‭ ‬تصنع‭ ‬بها‭ ‬أفضل‭ ‬مدارس‭ ‬في‭ ‬العالم‭. ‬فالمسألة‭ ‬إذن‭ ‬ليست‭ ‬اقتصادية،‭ ‬وإنما‭ ‬الخلل‭ ‬في‭ ‬إدارة‭ ‬المسألة‭.‬

إن‭ ‬التعليم‭ ‬في‭ ‬المجتمع‭ ‬العربي‭ ‬بصيغته‭ ‬الحالية‭ ‬له‭ ‬العديد‭ ‬من‭ ‬الأهداف،‭ ‬وواحد‭ ‬من‭ ‬الأهداف‭ ‬التي‭ ‬نادرًا‭ ‬ما‭ ‬تطفو‭ ‬على‭ ‬سطح‭ ‬إدراكنا‭ ‬مسألة‭ ‬الحفاظ‭ ‬على‭ ‬الوضع‭ ‬الراهن،‭ ‬أي‭ ‬رفد‭ ‬المجتمع‭ ‬بأعضاء‭ ‬لن‭ ‬يقوموا‭ ‬بتحدي‭ ‬أي‭ ‬من‭ ‬الجوانب‭ ‬الأساسية‭ ‬للطريقة‭ ‬التي‭ ‬تسير‭ ‬بها‭ ‬الأمور‭.‬

وهذا‭ ‬يستوجب‭ ‬تأمين‭ ‬بيئة‭ ‬تعليمية‭ ‬يرغم‭ ‬فيها‭ ‬الطلاب‭ ‬على‭ ‬تعلُّم‭ ‬الطاعة‭ ‬والإذعان‭ ‬من‭ ‬دون‭ ‬تفكير‭ ‬أو‭ ‬ترديد،‭ ‬والقيام‭ ‬بالمهام‭ ‬الوظيفية‭ ‬دون‭ ‬تمرّد‭ ‬أو‭ ‬عصيان،‭ ‬فالمطلوب‭ ‬إعداد‭ ‬موظفين‭ ‬يعملون‭ ‬ضمن‭ ‬حدودهم‭ ‬الوظيفية‭ ‬لا‭ ‬غير،‭ ‬لا‭ ‬علماء‭ ‬مبدعين‭ ‬مكتشفين‭ ‬بمقدورهم‭ ‬نقد‭ ‬وتمييز‭ ‬أو‭ ‬رفض‭ ‬كل‭ ‬ما‭ ‬يتقدم‭ ‬إليهم،‭ ‬قادرين‭ ‬على‭ ‬فعل‭ ‬أشياء‭ ‬جديدة‭ ‬وعدم‭ ‬الاكتفاء‭ ‬بتمجيد‭ ‬ما‭ ‬فعلته‭ ‬الأجيال‭ ‬السابقة‭.‬

 

فجوة‭ ‬بين‭ ‬التعليم‭ ‬وفن‭ ‬الحياة

إن‭ ‬هذه‭ ‬الفجوة‭ ‬بين‭ ‬التعليم‭ ‬العربي‭ ‬والحياة،‭ ‬وقفت‭ ‬بالعرب‭ ‬في‭ ‬أوائل‭ ‬الطريق،‭ ‬حين‭ ‬مضى‭ ‬الآخرون‭ ‬يعملون‭ ‬ليصلوا‭ ‬إلى‭ ‬محطات‭ ‬من‭ ‬الرقي‭ ‬والإبداع‭ ‬تثير‭ ‬الشغف‭. ‬فما‭ ‬سر‭ ‬هذه‭ ‬الفجوة،‭ ‬وإلى‭ ‬متى‭ ‬ستدوم؟

إن‭ ‬الأمة‭ ‬تحتاج‭ ‬إلى‭ ‬أن‭ ‬تجيد‭ ‬فن‭ ‬الحياة‭. ‬الطالب‭ ‬يدرس‭ ‬مرغمًا،‭ ‬العامل‭ ‬يعالج‭ ‬حرفته‭ ‬وهو‭ ‬ضائق‭ ‬منكمش،‭ ‬الموظف‭ ‬يجلس‭ ‬إلى‭ ‬مكتبه‭ ‬وهو‭ ‬مهدود‭ ‬مهزوم،‭ ‬التاجر‭ ‬يدخل‭ ‬متجره‭ ‬وهو‭ ‬خامل‭ ‬مستكين،‭ ‬إن‭ ‬أجهزتهم‭ ‬النفسية‭ ‬متوقفة‭ ‬كالساعة‭ ‬الفارغة‭ ‬لا‭ ‬يسمع‭ ‬لها‭ ‬رنين،‭ ‬ولا‭ ‬ترى‭ ‬بها‭ ‬حياة،‭ ‬ولا‭ ‬ينضبط‭ ‬بها‭ ‬وقت‭!‬

الحاجة‭ ‬هنا‭ ‬إلى‭ ‬مواطنين‭ ‬سليمي‭ ‬التفكير‭ ‬قبل‭ ‬كل‭ ‬شيء،‭ ‬ليحسنوا‭ ‬تحرير‭ ‬أنفسهم‭ ‬من‭ ‬القيود‭ ‬التقليدية،‭ ‬ليفكروا‭ ‬خارج‭ ‬الصندوق،‭ ‬ليفكروا‭ ‬بأنفسهم‭ ‬بدلاً‭ ‬من‭ ‬أن‭ ‬يفكر‭ ‬أحد‭ ‬عنهم‭ ‬فيتولى‭ ‬أمورهم‭. ‬فمن‭ ‬المفترض‭ ‬أن‭ ‬يكون‭ ‬التفكير‭ ‬الناقد‭ ‬مبادرة‭ ‬ذاتية‭ ‬من‭ ‬قبل‭ ‬الطالب‭ ‬الذي‭ ‬يخوض‭ ‬غمار‭ ‬الحاضر‭ ‬والمستقبل،‭ ‬إلا‭ ‬أن‭ ‬غيابه‭ ‬في‭ ‬المؤسسات‭ ‬التعليمية‭ ‬يشهد‭ ‬على‭ ‬العجز‭ ‬المضني‭ ‬على‭ ‬التمييز‭ ‬بين‭ ‬سياقات‭ ‬التعليم‭ ‬المثمر‭ ‬وغير‭ ‬المثمر‭.‬

في‭ ‬التعليم‭ ‬المثمر،‭ ‬إن‭ ‬الطالب‭ - ‬وإن‭ ‬خشي‭ ‬الخطأ‭ - ‬إلا‭ ‬أنه‭ ‬يعمل‭ ‬ويثابر‭ ‬فيخطئ‭ ‬ليتعلم‭ ‬ويقاسي،‭ ‬ثم‭ ‬يكسب‭ ‬المهارة‭ ‬في‭ ‬ممارسته‭ ‬ويتعزز‭ ‬لديه‭ ‬إيمانه‭ ‬بذاته‭. ‬يقول‭ ‬فرانز‭ ‬سيربيك‭: ‬‮«‬أجمل‭ ‬ما‭ ‬في‭ ‬إبداعات‭ ‬الطفل‭ ‬أخطاؤه،‭ ‬فعلمه‭ ‬رائع‭ ‬بقدر‭ ‬ما‭ ‬يحفل‭ ‬به‭ ‬من‭ ‬الأخطاء‭ ‬الفردية،‭ ‬وممل‭ ‬وبعيد‭ ‬عن‭ ‬سماته‭ ‬الشخصية‭ ‬بقدر‭ ‬ما‭ ‬يزيل‭ ‬المعلم‭ ‬من‭ ‬أخطائه‮»‬‭.‬

يشار‭ ‬هنا‭ ‬إلى‭ ‬أنه‭ ‬لا‭ ‬يمكن‭ ‬اكتساب‭ ‬الخبرة‭ ‬والتعلم‭ ‬إلا‭ ‬من‭ ‬الأخطاء‭ ‬في‭ ‬التجارب،‭ ‬ولكن‭ ‬المدارس‭ ‬في‭ ‬العالم‭ ‬العربي‭ ‬تغفل‭ ‬عن‭ ‬هذا‭ ‬الأمر،‭ ‬فلا‭ ‬تسمح‭ ‬بالأخطاء‭ ‬وتسارع‭ ‬في‭ ‬المحاسبة‭ ‬عليها‭ ‬لكي‭ ‬يتعذر‭ ‬محوها،‭ ‬وعلى‭ ‬الطالب‭ ‬تفاديها‭ ‬بأي‭ ‬وسيلة‭ ‬كانت،‭ ‬حتى‭ ‬يؤدي‭ ‬به‭ ‬الأمر‭ ‬إلى‭ ‬امتهان‭ ‬السلبية‭ ‬في‭ ‬مواقفه‭ ‬المستقبلية،‭ ‬وفي‭ ‬عمله‭ ‬في‭ ‬المؤسسات،‭ ‬فيقوم‭ ‬بأدنى‭ ‬ما‭ ‬يمكن‭ ‬من‭ ‬الواجب‭ ‬بغية‭ ‬تحقيق‭ ‬أمنه‭ ‬الوظيفي‭.‬

في‭ ‬تقرير‭ ‬نشرته‭ ‬‮«‬لوس‭ ‬أنجليس‭ ‬تايمز‮»‬‭ ‬في‭ ‬23‭ ‬يناير‭ ‬2001م،‭ ‬مفاده‭ ‬أن‭ ‬حجم‭ ‬المواد‭ ‬التي‭ ‬يدرسها‭ ‬الطلاب‭ ‬في‭ ‬مصر‭ ‬أضعاف‭ ‬ما‭ ‬يدرسه‭ ‬الطلاب‭ ‬في‭ ‬أمريكا،‭ ‬وكذا‭ ‬إن‭ ‬ما‭ ‬يقضيه‭ ‬الطلاب‭ ‬المصريون‭ ‬في‭ ‬المذاكرة‭ ‬أضعاف‭ ‬ما‭ ‬يقضيه‭ ‬الطلاب‭ ‬الأمريكيون‭. ‬فإلام‭ ‬يعود‭ ‬هذا‭ ‬التفاوت‭ ‬الكبير‭ ‬في‭ ‬المناهج‭ ‬والمقررات؟

إن‭ ‬المناهج‭ ‬التي‭ ‬تدرس‭ ‬في‭ ‬المدارس‭ ‬في‭ ‬الوطن‭ ‬العربي‭ ‬تفضي‭ ‬بالطلاب‭ ‬ليكونوا‭ ‬كسولين‭ ‬في‭ ‬تعاملهم‭ ‬مع‭ ‬النصوص،‭ ‬وترسي‭ ‬اعتقاداتهم‭ ‬بأن‭ ‬المعرفة‭ ‬تتدلى‭ ‬فقط‭ ‬من‭ ‬رأس‭ ‬الأستاذ‭. ‬وإذا‭ ‬بالتمرينات‭ ‬المقدمة‭ ‬لهم‭ ‬تتجه‭ ‬لتكون‭ ‬نسخة‭ ‬لفظية‭ ‬من‭ ‬النصوص،‭ ‬فلا‭ ‬حاجة‭ ‬لإعمال‭ ‬خيالهم،‭ ‬وكأن‭ ‬قدراتهم‭ ‬الفكرية‭ ‬قد‭ ‬أصابها‭ ‬نوع‭ ‬من‭ ‬الصدأ،‭ ‬ولا‭ ‬داعي‭ ‬لإمتاع‭ ‬أنفسهم‭ ‬بحرية‭ ‬التخيّل‭ ‬والإبداع،‭ ‬بالرغم‭ ‬من‭ ‬أن‭ ‬الفضول‭ ‬والتفكير‭ ‬الناقد‭ ‬الواعي‭ ‬يمثلان‭ ‬أساس‭ ‬القراءة‭ ‬الخلاّقة‭.‬

إن‭ ‬قسمًا‭ ‬كبيرًا‭ ‬من‭ ‬طلاب‭ ‬الدراسات‭ ‬العليا‭ ‬في‭ ‬عالمنا‭ ‬العربي‭ ‬ينأون‭ ‬عن‭ ‬الكتابة‭ ‬بمفردهم،‭ ‬حتى‭ ‬يقول‭ ‬أحدهم‭ ‬‮«‬إني‭ ‬لا‭ ‬أستصعب‭ ‬الكتابة‭ ‬بل‭ ‬لا‭ ‬أستطيع‮»‬،‭ ‬ويلجأون‭ ‬إلى‭ ‬الاقتباس‭ ‬المستمر‭ ‬عن‭ ‬مراجع‭ ‬أخرى،‭ ‬بل‭ ‬ربما‭ ‬الأدهى‭ ‬من‭ ‬ذلك‭ ‬أن‭ ‬ترى‭ ‬كتبنا‭ ‬العربية‭ ‬منسوخة‭ ‬عن‭ ‬بعضها‭ ‬البعض‭.‬

إن‭ ‬الأمل‭ ‬بالله‭ ‬كبير‭... ‬والمتأمل‭ ‬في‭ ‬واقع‭ ‬البلدان‭ ‬العربية‭ ‬يلحظ‭ ‬وجود‭ ‬نسبة‭ ‬كبيرة‭ ‬شابة‭ ‬من‭ ‬سكانها‭: ‬‮«‬60‭ ‬في‭ ‬المائة‭ ‬من‭ ‬سكانها‭ ‬دون‭ ‬سن‭ ‬الثلاثين‮»‬‭. ‬وهذا‭ ‬أمر‭ ‬يدعو‭ ‬إلى‭ ‬التفاؤل،‭ ‬فالشباب‭ ‬معقود‭ ‬عليهم‭ ‬الأمل‭ ‬في‭ ‬التغيير‭ ‬والتخطيط‭ ‬لمستقبل‭ ‬تعليمي‭ ‬مشرق‭.‬

وإن‭ ‬مجرد‭ ‬السير‭ ‬في‭ ‬مضمار‭ ‬التجديد‭ ‬التربوي‭ - ‬ولو‭ ‬كان‭ ‬محدودًا‭ - ‬يفتح‭ ‬تدريجيًا‭ ‬آفاقًا‭ ‬تحسينية‭ ‬في‭ ‬نواح‭ ‬متفرقة‭ ‬من‭ ‬النظام‭ ‬التعليمي،‭ ‬وقد‭ ‬تطرح‭ ‬عبر‭ ‬المسار‭ ‬رؤية‭ ‬إصلاحية‭ ‬جذرية،‭ ‬ربما‭ ‬تتحقق‭ ‬على‭ ‬المدى‭ ‬البعيد‭ ‬على‭ ‬أيدي‭ ‬الخلف‭ ‬المرتقَب‭ .