فيــــروز العمود الثالث في المؤسسة الرحبانية

فيــــروز  العمود الثالث في المؤسسة الرحبانية

عرف تطور الموسيقى العربية في القرن العشرين، أكثر من ظاهرة فنية، وأكثر من مؤسسة موسيقية، في كل من مصر ولبنان بشكل أخص، وكان بين أشهر وألمع هذه المؤسسات المؤسسة الرحبانية، التي انطلقت منها حركة نهضة في الشعر الغنائي وفي التأليف الموسيقي، في حقول الإذاعة والمسرح والسينما، بالذات في النصف الثاني من القرن العشرين.
ويقول التاريخ إن هذه المؤسسة الرحبانية قامت على أربعة أعمدة أساسية، هي عاصي ومنصور الرحباني في الشعر الغنائي والمسرحي والتأليف الموسيقي، وفيروز في الغناء، وصبري الشريف في الإدارة الفنية والإخراج.
ولدت فيروز، باسم «نهاد حداد»، في حي زقاق البلاط في بيروت، وعاشت طفولة عادية، حتى تعرفت وهي لاتزال تحت سن العشرين، إلى أول مؤسسة فنية في حياتها، هي مؤسسة الأخوين فليفل (محمد وأحمد), اللذين كانا, بعد سيد درويش, أول الموسيقيين العرب الذين بادروا في النصف الأول من القرن العشرين إلى وضع موسيقى الأناشيد الوطنية، اعتماداً على فرقة موسيقية وجوقة من المنشدين والمنشدات. لكن يبدو أن الأخوين فليفل قد تنبها مبكراً إلى أن نهاد حداد تتمتع بمزايا صوتية غير عادية، تلفت الأنظار والأسماع، فراحا يحيطانها برعاية خاصة في سبيل تطوير قدراتها على الأداء الغنائي. غير أن هذه المرحلة الأولى لم تكن طويلة على ما يبدو في حياة نهاد، التي سرعان ما خرقت أبواب مؤسسة ثانية أوسع آفاقاً من المؤسسة الأولى، هي دار الإذاعة اللبنانية، التي كانت في مطلع الخمسينيات تسير خطاها الأولى نحو النهضة الإذاعية الكبرى، في أواخر الخمسينيات وعقدي الستينيات والسبعينيات.
انتسبت نهاد حداد أول ما انتسبت إلى كورس الإذاعة اللبنانية، حيث كان أول من تنبه إلى تمتعها بمواهب صوتية مميزة الفنان الفلسطيني الأصل حليم الرومي، الذي كان مسؤولاً موسيقياً في الإذاعة اللبنانية.
اتخذ الرومي ثلاث خطوات رئيسة إزاء نهاد، كان لها في ما بعد شأن في تدعيم وتوسيع شهرتها الفنية، التي بلغت حد قيام الشاعر اللبناني الكبير سعيد عقل بمنحها لقب «سفيرتنا إلى النجوم», هي:
1 - اختار لها اسماً فنياً مناسباً، فخيَّرها بين شهرزاد وفيروز، فاختارت الاسم الثاني، الذي أصبح اسمها الفعلي والفني بعد ذلك.
2 - أسند إلى المطرب الكبير، ذي الأصول الفلسطينية، محمد غازي مهمة تدريبها على أداء التراث الغنائي العربي، بما في ذلك أداء الموشحات والأدوار.
3 - أما الخطوة الثالثة، والأكثر حسماً في نقل فيروز من مراحل التكوين الأولى، إلى مرحلة الانطلاق الفني الذي لن يعرف حدوداً بعد ذلك، فكانت الإيمان الفني لحليم الرومي، بأن النكهة العصرية في الأداء الغنائي التي تمتلكها فيروز، تناسب كثيراً النكهة العصرية والحديثة في البدايات الفنية للأخوين عاصي ومنصور الرحباني، وقدمها إلى عاصي الرحباني، مقترحاً عليه التعاون الفني معها.

مرحلة الانطلاق الرحباني
كان عاصي ومنصور رحباني في بداياتهما الفنية يقدمان ألحانهما الأولى لصوت شقيقتهما الكبرى ولمطربة معروفة في الإذاعة اللبنانية في تلك السنوات، هي حنان.
ولم يتأخر عاصي ومنصور في صياغة ثنائيات غنائية عصرية وحديثة، يسندان مهمة الأداء فيها إلى حنان وفيروز.
غير أن اللون الجديد الذي بدأ عاصي ومنصور يخوضان فيه تجاربهما الموسيقية الأولى، كان يواجَه برفض النقاد التقليديين في لبنان وسورية، حتى تنبه لمواهبهما ذات الطابع الحديث والجديد في الموسيقى العربية، المخرج والإداري الإذاعي الكبير، صبري الشريف، مدير القسم الموسيقي لإذاعة الشرق الأدنى، التي انتقلت بعد نكبة فلسطين، من يافا إلى قبرص وبيروت، فراح يخصص لهما جزءاً مهماً من موازنة الموسيقى في إذاعة الشرق الأدنى، يغدقه على تجاربهما الفنية الجديدة، مستقدماً لهما نفراً من الموزعين الإيطاليين، لتطوير معارفهما الموسيقية. وكانت فيروز في تلك المرحلة الأولية المهمة قد تحوّلت إلى الصوت الغنائي الرئيس في المؤسسة الموسيقية الرحبانية.
في هذه الأثناء، وفي خضم مواجهة النقاد المتزمتين، الذين كانوا يبدون ملاحظات على موسيقى الرحابنة وأداء فيروز الغنائي، راح عاصي ومنصور يميلان إلى تقديم أعمال غنائية تجمع إلى الحداثة، الاعتماد على المقامات الأساسية في الموسيقى العربية، ومنها على سبيل المثال أغنية «عتاب» وقصيدة «سوقي القطيع إلى المراعي».
وبجهد خارق من المؤسسة الرحبانية ذات الأضلع الثلاثة، عاصي ومنصور وفيروز، يدير أعمالهم الفنية العقل المدبر صبري الشريف، انطلقت المؤسسة الرحبانية إلى أوسع الآفاق في طرح تجاربهما الجديدة، اعتماداً على صوت رئيس هو صوت فيروز.
بدأت فيروز من خلال المؤسسة الرحبانية تلمع في أداء الأغنيات ذات النكهة الجديدة، والمشاركة في النهضة الإذاعية التي انخرط فيها عاصي ومنصور، بكتابة المسرحيات الغنائية الإذاعية القصيرة، وإسناد دور البطولة الغنائية فيها لصوت فيروز، وهي مجموعة التمثيليات الإذاعية، التي بدآ من خلالها التعاون مع فيلمون وهبي، ممثلاً وملحناً، ونصري شمس الدين.
بعد النهضة الإذاعية، قام الأخوان رحباني بمرافقة فيروز في رحلة فنية شهيرة إلى القاهرة، كانت مناسبة غنية جداً تعرَّف خلالها «الرحبانية» وفيروز إلى أعمال مسرحية رئيسة لسيد درويش، من خلال نفر من الموسيقيين المصريين، المؤمنين بالنكهة الجديدة في أعمال الأخوين رحباني وفيروز، وعلى رأسهم الفنان محمد حسن الشجاعي، رئيس الدائرة الموسيقية في إذاعة القاهرة آنذاك.
ويبدو أن التعرف إلى مسرحيات سيد درويش قد فتح أمام هذه المؤسسة التجديدية المهمة في الموسيقى العربية، الآفاق الأشد اتساعاً للمسرح الغنائي، فانخرط عاصي ومنصور، اتكالاً على صوت فيروز بشكل رئيس، مع أصوات مساعدة على رأسها صوت نصري شمس الدين، لإطلاق مرحلة إبداع فني كبير في مجال المسرحيات الغنائية، حيث راحوا تقريباً ينتجون مسرحية غنائية جديدة، مع بداية كل موسم فني، كانت قاعة البيكاديللي في بيروت موقعاً أساسياً لها، إضافة إلى مهرجانات بعلبك والأرز في الصيف.
غير أن فيروز لمعت كالجوهرة الثمينة وسط المؤسسة الرحبانية الكبيرة، فأصبحت مرشحة لأن تلعب أكثر من دور، ويمكن القول إن صوت فيروز كان الجناح القوي الذي حمل النفس التجديدي للأخوين رحباني، وتجاربهما الجريئة في ارتياد آفاق جديدة في الموسيقى العربية المعاصرة. وقد تعلق جمهور المستمعين العرب بصوت فيروز إلى درجة أنه أصبح ينتقل من خلال هذا الصوت إلى تجربة موسيقية جديدة جريئة يخوضها الأخوان رحباني، رغم تفاوت المستوى الفني أحياناً بين تجربة وأخرى.
وأصبح صوت فيروز، على مر الزمن، الجناح الذي يحلق بألحان الأخوين رحباني إلى أعلى مستويات الشهرة والانتشار والتقبل الجماهيري لهذه الألوان الجديدة التي تنطلق من بيروت، إلى كل أرجاء الوطن العربي، مشرقاً ومغرباً.

صوت فيروز وقضية فلسطين
يمكن القول إن صوت فيروز كان أكرم الأصوات العربية في تقديم الأغنيات اللامعة الخاصة بالقضية الفلسطينية، في أكثر من مرحلة من مراحلها المتعددة. لم يترك الأخوان رحباني لوناً من ألوان التأليف الموسيقي إلا ومارساه من خلال صوت فيروز، للتعبير عن تفاعلهما الأغنى والأخصب بين كل الفنانين العرب بقضية فلسطين، فكتبا أكثر من مغناة، من أهمها: «راجعون»، و«مع الغرباء» (شعر هارون هاشم رشيد)، و«زهرة المدائن»، وأكثر من لحن حماسي يعبِّر عن تطلعات الجماهير العربية تجاه فلسطين، مثل: «سيف فليشهر» (شعر سعيد عقل)، وأغنية «أذكر يوماً كنت بيافا» التي أداها المطرب جوزف عازار، وأغنيات وصفية شديدة التأثير مثل أغنية «القدس العتيقة»، و«سنرجع يوماً إلى حيِّنا».
وإذا راجعنا كل ما كتبه وأنشده الفنانون العرب لقضية فلسطين، فسنكتشف أن حصة الأسد هي للأخوين رحباني وصوت فيروز، وذلك لا يقتصر فقط على وفرة هذه الأغاني وكثرتها، بل رفعة مستواها الفني، سواء في التأليف الموسيقي، أو في الأداء الغنائي.

تجارب أخرى
إن الدور المركزي الذي أداه صوت فيروز في إطار المؤسسة الرحبانية الكبيرة، قد انتزع لها حرية التعامل مع مبدعين آخرين في الموسيقى العربية، لعل أغزرهم في التعامل مع صوت فيروز هو العبقري فيلمون وهبي، الذي كان عندما يلحن لفيروز من الكلمات المميزة للأخوين رحباني، أو بعد ذلك لجوزف حرب، يرتفع إلى أعلى مستوياته في التلحين الموسيقي، متفوقاً على نفسه وعلى إبداعاته الأخرى.
ويمكن القول إنه إذا كانت المدرسة الرحبانية الحديثة قد ركزت على الطبقات العليا في صوت فيروز، وبراعتها في الأداء الحساس والشفاف على هذه الطبقات العليا، فإن وهبي هو أهم من استثمر الطبقات الدنيا والوسطى في صوت فيروز، من خلال عدد لا يحصى من الأغنيات التي أخذت موقعاً في مقدمة أغنياتها المفضلة لدى الجمهور.
بعد ذلك، لابد من إشارة إلى التعاون المثمر بين صوت فيروز وعبقرية محمد عبدالوهاب التلحينية، وإن كانت لم تتجاوز الأعمال الثلاثة: «سهار بعد سهار»، و«سكن الليل»، و«مُرَّ بي».
بعد ذلك حصلت فيروز على مجموعة ألحان ناجحة من الملحن السوري الموهوب محمد محسن، كما صدرت لها في مرحلة متأخرة، أسطوانة كاملة من ألحان العبقري اللبناني زكي ناصيف، تضم عدداً من الأغنيات الناجحة، ذات المذاق الخاص، تتوجها قصيدة «يا بني أمي» من شعر جبران خليل جبران.
غير أن المرحلة المتوسطة والأخيرة من رحلة فيروز الطويلة مع الغناء تركزت على اعتماد فيروز على ألحان ابنها العبقري زياد رحباني، في مجموعة من الألحان تتراوح بين الرومانسية التقليدية والرومانسية الجديدة، التي حملت صوت فيروز إلى آفاق جديدة تجاوزت في مرحلتها الأخيرة المرحلة الرحبانية.
وعندما نذكر أصوات أهم مغنيات ومطربات العرب في القرن العشرين، فلا شك في ضرورة حجز موقع متقدم لاسم فيروز، التي مازالت تصر على الغناء المتجدد، رغم اقترابها من سن الثمانين >