هل تأثر كارل جوستاف يونج بالتصوف الإسلامي؟

هل تأثر كارل جوستاف يونج بالتصوف الإسلامي؟

يعتبر‭ ‬كارل‭ ‬جوستاف‭ ‬يونج‭ (‬1875-1961‭) ‬الطبيب‭ ‬والمحلل‭ ‬النفساني‭ ‬السويسري‭ ‬من‭ ‬أهم‭ ‬الشخصيات‭ ‬العلمية‭ ‬التي‭ ‬طبعت‭ ‬العلوم‭ ‬الإنسانية‭ ‬في‭ ‬القرن‭ ‬العشرين‭, ‬فأثراها‭ ‬بمفاهيم‭ ‬مازالت‭ ‬نافذة‭ ‬إلى‭ ‬اليوم‭, ‬مثل‭ ‬اللاوعي‭ ‬الجمعي‭ ‬والأنماط‭ ‬النفسية‭ ‬والنموذج‭ ‬البدائي‭ ‬Archétype‭ ‬تجاوز‭ ‬تأثيرها‭ ‬الاختصاصات‭ ‬المذكورة‭ ‬لتصبح‭ ‬متداولة‭ ‬في‭ ‬ما‭ ‬يسمى‭ ‬بالثقافة‭ ‬العامة‭. ‬ويعد‭ ‬أتباع‭ ‬يونج‭ ‬اليوم‭ ‬مئات‭ ‬الآلاف،‭ ‬وتوجد‭ ‬نواد‭ ‬فكرية‭ ‬تعتمد‭ ‬نظريته‭ ‬التي‭ ‬أطلق‭ ‬عليها‭ ‬اسم‭ ‬علم‭ ‬نفس‭ ‬الأعماق‭ ‬وعيادات‭ ‬للعلاج‭ ‬النفسي‭ ‬تستعمل‭ ‬طريقته‭ ‬في‭ ‬التعامل‭ ‬مع‭ ‬المرضى‭. ‬أدخل‭ ‬ثورة‭ ‬في‭ ‬التفكير‭ ‬الغربي‭ ‬الموغل‭ ‬في‭ ‬العقلانية‭ ‬والعلموية،‭ ‬فاعتمد‭ ‬في‭ ‬بحوثه‭ ‬مفاهيم‭ ‬كانت‭ ‬تعتبر‭ ‬نقيضا‭ ‬للعلم‭ ‬مثل‭ ‬الحدس‭ ‬والتخاطر‭ ‬Télépathie‭ ‬والرؤيا‭ ‬الصادقة،‭ ‬وكان‭ ‬من‭ ‬بين‭ ‬قلة‭ ‬قليلة‭ (‬نذكر‭ ‬منها‭ ‬خاصة‭ ‬الفيلسوف‭ ‬الفرنسي‭ ‬برجسون‭) ‬اعتبرت‭ ‬أن‭ ‬للإنسان‭ ‬أبعادا‭ ‬للمعرفة‭ ‬ليست‭ ‬بالضرورة‭ ‬عقلية‭ ‬في‭ ‬المفهوم‭ ‬الديكارتي‭.‬

‭ ‬من‭ ‬المفارقات‭ ‬الغريبة‭ ‬أن‭ ‬يونج‭ ‬المتحدر‭ ‬من‭ ‬أسرة‭ ‬عريقة‭ ‬التدين‭ ‬بدأ‭ ‬متأثرا‭ ‬بطبيب‭ ‬الأعصاب‭ ‬النمساوي‭ ‬فرويد‭ (‬1856-1939‭)‬،‭ ‬مستشهدا‭ ‬بأعماله‭ ‬وهو‭ ‬الطبيب‭ ‬الخالي‭ ‬من‭ ‬الروحانيات‭ ‬والذي‭ ‬يقر‭ ‬صراحة‭ ‬بعدم‭ ‬إيمانه‭ ‬ولا‭ ‬يخفي‭ ‬إعجابه‭ ‬بداروين‭ ‬صاحب‭ ‬نظرية‭ ‬النشوء‭ ‬والارتقاء‭. ‬وقبل‭ ‬أن‭ ‬يلتقي‭ ‬فرويد‭ ‬كان‭ ‬يونج‭ ‬يبادر،‭ ‬كلما‭ ‬أنتج‭ ‬مؤلفا‭ ‬أو‭ ‬مقالا،‭ ‬بإرساله‭ ‬إليه‭ ‬منتظرا‭ ‬بلهفة‭ ‬ردوده‭ ‬وتعليقاته‭ ‬حول‭ ‬ما‭ ‬كتبه،‭ ‬لكن‭ ‬بعد‭ ‬سنوات‭ ‬من‭ ‬الإعجاب‭ ‬والثقة‭ ‬تغيرت‭ ‬الأمور‭ ‬وسارت‭ ‬إلى‭ ‬نقيضها‭.‬

 

فرويد‭ ‬ويونج‭.. ‬من‭ ‬الصداقة‭ ‬إلى‭ ‬القطيعة

تحت‭ ‬تأثير‭ ‬أستاذه‭ ‬بلولار‭ ‬اطلع‭ ‬يونج‭ ‬على‭ ‬نظرية‭ ‬فرويد‭ ‬الوليدة،‭ ‬فشغف‭ ‬بها‭ ‬شغفا‭ ‬كبيرا‭ ‬خلق‭ ‬لديه‭ ‬رغبة‭ ‬ملحة‭ ‬في‭ ‬ملاقاة‭ ‬صاحبها،‭ ‬وكان‭ ‬له‭ ‬ذلك‭ ‬في‭ ‬مارس‭ ‬1907‭, ‬وفي‭ ‬لقاء‭ ‬يشبه‭ ‬الهيام‭ ‬دام‭ ‬13‭ ‬ساعة‭ ‬متواصلة‭. ‬وجد‭ ‬فرويد‭ ‬ضالته‭ ‬في‭ ‬هذا‭ ‬الطبيب‭ ‬الشاب‭ ‬ذي‭ ‬الأصول‭ ‬المسيحية‭ ‬الراغب‭ ‬في‭ ‬الانضواء‭ ‬إلى‭ ‬مدرسته،‭ ‬لأنه‭ ‬كان‭ ‬يخشى‭ ‬مثلما‭ ‬صرح‭ ‬به‭ ‬في‭ ‬رسالة‭ ‬بعث‭ ‬بها‭ ‬إلى‭ ‬أحد‭ ‬أتباعه‭ ‬الطبيب‭ ‬الألماني‭ ‬كارل‭ ‬إبراهام‭ (‬1877-1925‭)‬،‭ ‬أن‭ ‬ينعت‭ ‬‮«‬التحليل‭ ‬النفسي‮»‬‭ ‬بالعلم‭ ‬اليهودي‭ ‬في‭ ‬ظرف‭ ‬بدأ‭ ‬يتسم‭ ‬بمعاداة‭ ‬السامية‭ ‬في‭ ‬أوربا‭ ‬الوسطى‭ ‬والشرقية،‭ ‬وسيجبر‭ ‬فرويد‭ ‬لاحقا‭ ‬على‭ ‬الرحيل‭ ‬والاستقرار‭ ‬بلندن،‭ ‬علما‭ ‬بأن‭ ‬كل‭ ‬تلاميذ‭ ‬فرويد‭ ‬في‭ ‬بداية‭ ‬مغامرته‭ ‬العلمية‭ ‬كانوا‭ ‬يهودا‭. ‬أما‭ ‬يونج‭ ‬الذي‭ ‬لم‭ ‬يكن‭ ‬يميل‭ ‬إلى‭ ‬التفسير‭ ‬العضوي‭ ‬للمرض‭ ‬النفسي،‭ ‬فقد‭ ‬وجد‭ ‬في‭ ‬نظرية‭ ‬فرويد‭ ‬ما‭ ‬يروي‭ ‬تعطشه‭ ‬إلى‭ ‬سبر‭ ‬أعماق‭ ‬النفس‭ ‬البشرية‭ ‬واكتشاف‭ ‬خفاياها‭.‬

‭ ‬توطدت‭ ‬العلاقة‭ ‬بين‭ ‬الرجلين‭ ‬إلى‭ ‬حد‭ ‬أصبح‭ ‬فيه‭ ‬فرويد‭ ‬يرى‭ ‬في‭ ‬يونج‭ ‬خليفته،‭ ‬وكان‭ ‬يطلق‭ ‬عليه‭ ‬لقب‭ ‬‮«‬رجل‭ ‬الأرض‭ ‬الموعودة‭ ‬للطب‭ ‬العقلي‮»‬‭. ‬أما‭ ‬هذا‭ ‬الأخير‭ ‬فكان‭ ‬يلقب‭ ‬نفسه،‭ ‬مثلما‭ ‬جاء‭ ‬في‭ ‬كتابه‭ ‬‮«‬حياتي‮»‬،‭ ‬
بـ‭ ‬‮«‬ولي‭ ‬العهد‮»‬‭. ‬دافع‭ ‬يونج‭ ‬دفاعا‭ ‬مستميتا‭ ‬عن‭ ‬نظرية‭ ‬التحليل‭ ‬النفسي‭ ‬وتصدى‭ ‬للمكذبين‭ ‬والمشككين،‭ ‬وسافر‭ ‬مع‭ ‬فرويد‭ ‬في‭ ‬زيارة‭ ‬علمية‭ ‬سنة‭ ‬1909‭ ‬إلى‭ ‬الولايات‭ ‬المتحدة‭ ‬الأمريكية‭ ‬وللتعريف‭ ‬بها،‭ ‬وأسس‭ ‬بطلب‭ ‬منه‭ ‬المجلة‭ ‬العالمية‭ ‬للتحليل‭ ‬النفسي‭ (‬جاهربوش‭ ‬Jahrbuch‭) ‬وترأسها‭ ‬مثلما‭ ‬ترأس‭ ‬المؤتمر‭ ‬الثاني‭ ‬للجمعية‭ ‬العالمية‭ ‬للتحليل‭ ‬النفسي‭ (‬نورنبرغ،‭ ‬ألمانيا،‭ ‬1910‭)‬،‭ ‬إضافة‭ ‬إلى‭ ‬عديد‭ ‬الملتقيات‭ ‬العلمية‭ ‬الأخرى‭ ‬التي‭ ‬حضرها‭ ‬مع‭ ‬أستاذه‭. ‬لكن‭ ‬بعد‭ ‬سنوات‭ ‬من‭ ‬الوئام‭ ‬بدأ‭ ‬الفتور‭ ‬يظهر‭ ‬في‭ ‬علاقة‭ ‬الرجلين،‭ ‬فقلّت‭ ‬المراسلات‭ ‬وتقلصت‭ ‬اللقاءات‭ ‬وانعدمت‭ ‬عبارات‭ ‬الود‭ ‬التي‭ ‬كانا‭ ‬يتبادلانها‭ ‬إلى‭ ‬أن‭ ‬حصلت‭ ‬القطيعة‭ ‬سنة‭ ‬1912‭ ‬بتقديم‭ ‬يونج‭ ‬استقالته‭ ‬من‭ ‬الجمعية‭ ‬العالمية‭ ‬للتحليل‭ ‬النفسي‭ ‬وبعثه‭ ‬سنة‭ ‬1914‭ ‬مدرسة‭ ‬خاصة‭ ‬به‭ ‬أطلق‭ ‬عليها‭ ‬اسم‭ ‬مدرسة‭ ‬علم‭ ‬نفس‭ ‬الأعماق‭.‬

‭ ‬لا‭ ‬يمكن‭ ‬للعارف‭ ‬بتاريخ‭ ‬الرجلين‭ ‬أن‭ ‬يفاجأ‭ ‬بهذه‭ ‬القطيعة،‭ ‬ففرويد‭ ‬كان‭ ‬يصرح‭ ‬علنا‭ ‬بعدم‭ ‬إيمانه‭ ‬وأنه‭ ‬نشأ‭ ‬في‭ ‬أسرة‭ ‬لا‭ ‬تولي‭ ‬للدين‭ ‬أهمية‭ ‬كبيرة‭ ‬وكتب‭ ‬في‭ ‬أكثر‭ ‬من‭ ‬مرة‭ ‬أن‭ ‬التدين‭ ‬مظهر‭ ‬من‭ ‬مظاهر‭ ‬العصاب‭ ‬الجمعي،‭ ‬كما‭ ‬ربط‭ ‬بين‭ ‬الاعتقاد‭ ‬في‭ ‬وجود‭ ‬قوة‭ ‬متعالية‭ ‬والصورة‭ ‬المكبوتة‭ ‬للأب‭ ‬المتسلط‭. ‬وعلى‭ ‬عكسه،‭ ‬يتحدر‭ ‬يونج‭ ‬من‭ ‬عائلة‭ ‬بروتستانتية‭ ‬عميقة‭ ‬التدين،‭ ‬فأبوه‭ ‬كان‭ ‬قسا‭ ‬وجده‭ ‬للأم‭ ‬كان‭ ‬أيضاً‭ ‬قسا‭ ‬مشهورا‭ ‬بمدينة‭ ‬بازل‭ ‬السويسرية‭. ‬أما‭ ‬أمه‭ ‬فلها‭ ‬شغف‭ ‬خاص‭ ‬بـ‭ ‬‮«‬استحضار‭ ‬الأرواح‮»‬‭ ‬Spiritisme‭ ‬وتدعي‭ ‬أنها‭ ‬في‭ ‬اتصال‭ ‬مستمر‭ ‬مع‭ ‬موتى‭ ‬العائلة‭ ‬وتقاسمها‭ ‬هذا‭ ‬الاهتمام‭ ‬إحدى‭ ‬بنات‭ ‬خالته‭.‬

نشأ‭ ‬يونج‭ ‬في‭ ‬وسط‭ ‬مفعم‭ ‬بالأسرار‭ ‬والروحانيات‭ ‬والغيبيات‭ ‬وتأثر‭ ‬بذلك‭ ‬تأثرا‭ ‬كبيرا،‭ ‬ما‭ ‬جعله‭ ‬يدافع‭ ‬عن‭ ‬هذا‭ ‬العالم‭ ‬الخفي‭ ‬بين‭ ‬أترابه‭ ‬المشككين‭ ‬أثناء‭ ‬دراسته‭ ‬الثانوية،‭ ‬وانعكس‭ ‬ذلك‭ ‬على‭ ‬حياته‭ ‬الجامعية،‭ ‬فجعل‭ ‬موضوع‭ ‬أطروحته‭ ‬سنة‭ ‬1901‭ ‬‮«‬سيكولوجية‭ ‬الظواهر‭ ‬الخفية‭ ‬ومدى‭ ‬ارتباطها‭ ‬بالأمراض‭ ‬النفسية‮»‬،‭ ‬ثم‭ ‬تواصل‭ ‬ذلك‭ ‬خلال‭ ‬كل‭ ‬حياته‭ ‬العلمية‭ ‬إلى‭ ‬وفاته،‭ ‬فكتب‭ ‬عديد‭ ‬الكتب‭ ‬المتصلة‭ ‬بالأبعاد‭ ‬النفسية‭ ‬للظواهر‭ ‬الغيبية‭ ‬والخيمياء‭ ‬Alchimie،‭ ‬ومن‭ ‬بينها‭ ‬كتاب‭ ‬ألفه‭ ‬سنة‭ ‬1916‭ ‬تحت‭ ‬عنوان‭ ‬‮«‬سبع‭ ‬مواعظ‭ ‬للموتى‮»‬‭ ‬ويتجلى‭ ‬فيه‭ ‬بعد‭ ‬صوفي‭ ‬عميق‭.‬

لم‭ ‬يكن‭ ‬الخلاف‭ ‬بين‭ ‬فرويد‭ ‬ويونج‭ ‬خلافا‭ ‬شخصيا‭ ‬يغذيه‭ ‬طموحهما‭ ‬الجارف‭ ‬للهيمنة‭ ‬على‭ ‬حقل‭ ‬الطب‭ ‬النفسي‭ ‬مثلما‭ ‬ذهب‭ ‬إليه‭ ‬البعض،‭ ‬بل‭ ‬كان‭ ‬خلافا‭ ‬ينبع‭ ‬من‭ ‬المنطلقات‭ ‬الفكرية‭ ‬للرجلين،‭ ‬فبعد‭ ‬فترة‭ ‬من‭ ‬الزمن‭ ‬تقاسما‭ ‬فيها‭ ‬جملة‭ ‬من‭ ‬التصورات‭ ‬المتصلة‭ ‬بالآليات‭ ‬النفسية‭ ‬مثل‭ ‬اللاوعي‭ ‬والتحويل‭ ‬والترميز،‭ ‬بدأت‭ ‬الأرضية‭ ‬المشتركة‭ ‬تتصدع‭ ‬وتباعدت‭ ‬الأفكار‭ ‬التي‭ ‬يتقاسمها‭ ‬الطبيبان‭ ‬من‭ ‬خلال‭ ‬إضفاء‭ ‬معان‭ ‬جديدة‭ ‬عليها‭ ‬أو‭ ‬تحويرها‭ ‬في‭ ‬اتجاه‭ ‬آخر،‭ ‬وخاصة‭ ‬من‭ ‬جانب‭ ‬يونج،‭ ‬كتجاوزه‭ ‬للاوعي‭ ‬الفردي‭ ‬إلى‭ ‬اللاوعي‭ ‬الجمعي‭. ‬لكن‭ ‬القطيعة‭ ‬الحقيقية‭ ‬برزت‭ ‬عندما‭ ‬انتقد‭ ‬هذا‭ ‬الأخير‭ ‬الأهمية‭ ‬التي‭ ‬يعطيها‭ ‬فرويد‭ ‬للعامل‭ ‬الجنسي‭ ‬في‭ ‬بناء‭ ‬شخصية‭ ‬الإنسان‭ ‬واعتماده‭ ‬له‭ ‬لتفسير‭ ‬الأمراض‭ ‬النفسية،‭ ‬فاعتبر‭ ‬أن‭ ‬الطاقة‭ ‬الشبقية‭ (‬ليبدو‭) ‬لا‭ ‬تقتصر‭ ‬على‭ ‬الجانب‭ ‬الجنسي‭ ‬للكائن‭ ‬البشري،‭ ‬بل‭ ‬هي‭ ‬طاقة‭ ‬شاملة‭ ‬جامعة‭ ‬لكل‭ ‬أبعاده‭ ‬المادية‭ ‬والروحية‭.‬

وفي‭ ‬المقابل‭ ‬انتقد‭ ‬فرويد‭ ‬استغراق‭ ‬يونج‭ ‬في‭ ‬الغيبيات‭ ‬والظواهر‭ ‬الإخفائية‭ ‬Occultisme،‭ ‬معتبرا‭ ‬أن‭ ‬ذلك‭ ‬يناقض‭ ‬العقلانية‭ ‬والمقاربة‭ ‬العلمية،‭ ‬ولن‭ ‬يؤدي‭ ‬إلى‭ ‬اكتشاف‭ ‬الحقائق،‭ ‬وهو‭ ‬حكم‭ ‬يرفضه‭ ‬بالطبع‭ ‬يونج‭ ‬الذي‭ ‬يصر‭ ‬على‭ ‬أن‭ ‬الوجود‭ ‬يتجاوز‭ ‬المدركات‭ ‬الحسية‭, ‬وأنه‭ ‬لا‭ ‬ينبغي‭ ‬نفي‭ ‬الظواهر‭ ‬التي‭ ‬لا‭ ‬يستطيع‭ ‬العلم‭ ‬تفسيرها،‭ ‬وكان‭ ‬يقول‭ ‬إن‭ ‬الروح‭ ‬البشرية‭ ‬تمثل‭ ‬لغزا‭ ‬أكثر‭ ‬جاذبية‭ ‬من‭ ‬دراسة‭ ‬التركيبة‭ ‬العضوية‭ ‬للجسم‭. ‬أما‭ ‬عن‭ ‬طريقة‭ ‬إدراك‭ ‬الحقيقة‭ ‬فلا‭ ‬يعتبر‭ ‬العقل‭ ‬إلا‭ ‬وسيلة‭ ‬من‭ ‬بين‭ ‬الوسائل‭ ‬الأخرى‭ ‬المتاحة‭ ‬مثل‭ ‬الحدس‭ ‬والتأمل‭ ‬الباطني‭ ‬والإلهام،‭ ‬وما‭ ‬فتئ‭ ‬يردد‭ ‬أن‭ ‬الانسان‭ ‬لا‭ ‬يمكن‭ ‬أن‭ ‬يبدع‭ ‬فنيا‭ ‬وعلميا‭ ‬إلا‭ ‬من‭ ‬خلال‭ ‬التأمل‭ ‬في‭ ‬ذاته،‭ ‬لذلك‭ ‬نجد‭ ‬في‭ ‬مفرداته‭ ‬عبارات‭ ‬تذكرنا‭ ‬بالتصوف‭ ‬الإسلامي،‭ ‬مثل‭ ‬التجلي‭ ‬والكشف‭ ‬والإلهام،‭ ‬فهل‭ ‬تأثر‭ ‬يونج‭ ‬به؟

 

علامات‭ ‬لافتة‭ ‬للانتباه

لم‭ ‬يذكر‭ ‬يونج‭ -‬‭ ‬على‭ ‬حد‭ ‬علمنا‭ - ‬مصدرا‭ ‬من‭ ‬مصادر‭ ‬التصوف‭ ‬الإسلامي‭ ‬في‭ ‬كتاباته‭ ‬ولم‭ ‬يستشهد‭ ‬صراحة‭ ‬بمقولة‭ ‬من‭ ‬مقولات‭ ‬المسلمين،‭ ‬لكن‭ ‬تبين‭ ‬الأحداث‭ ‬المختلفة‭ ‬التي‭ ‬عاشها‭ ‬في‭ ‬حياته‭ ‬أنه‭ ‬كان‭ ‬مطلعا‭ ‬على‭ ‬أدبيات‭ ‬هذا‭ ‬التيار‭ ‬الروحاني‭ ‬الذي‭ ‬ترعرع‭ ‬في‭ ‬العالم‭ ‬الإسلامي،‭ ‬وبرز‭ ‬منه‭ ‬عديد‭ ‬الأعلام‭ ‬الذين‭ ‬استهووا‭ ‬علماء‭ ‬الغرب‭ ‬فدرسوا‭ ‬إنتاجهم‭ ‬وترجموه‭ ‬إلى‭ ‬لغاتهم‭. ‬ولم‭ ‬يكن‭ ‬هذا‭ ‬التراث‭ ‬غائبا‭ ‬في‭ ‬فكر‭ ‬يونج‭ ‬على‭ ‬خلاف‭ ‬ما‭ ‬كان‭ ‬عليه‭ ‬في‭ ‬فكر‭ ‬فرويد‭ ‬الذي‭ ‬تجاهله‭ ‬تماما،‭ ‬فوالد‭ ‬يونج‭ ‬بولس،‭ ‬القس‭ ‬بإحدى‭ ‬ضواحي‭ ‬مدينة‭ ‬بازل،‭ ‬أعد‭ ‬رسالة‭ ‬الدكتوراه‭ ‬حول‭ ‬نشيد‭ ‬الأناشيد‭ ‬Cantique‭ ‬des cantiques‭ ‬في‭ ‬أصلها‭ ‬العربي‭ ‬المترجم‭ ‬إلى‭ ‬الألمانية‭ ‬وهي‭ ‬مجموعة‭ ‬قصائد‭ ‬مغناة‭ ‬بالحب‭ ‬الإلهي‭. ‬كان‭ ‬الطبيب‭ ‬يونج‭ ‬مولعا‭ ‬بالمذاهب‭ ‬الباطنية‭ ‬والأسرار‭ ‬المبهمة،‭ ‬ما‭ ‬جعله‭ ‬يغوص‭ ‬في‭ ‬دراسة‭ ‬الرموز‭ ‬ويميل‭ ‬إلى‭ ‬التدقيق‭ ‬في‭ ‬أشكالها‭ ‬ومعانيها،‭ ‬مثل‭ ‬العلامات‭ ‬والشعارات‭ ‬الموجودة‭ ‬في‭ ‬نصوص‭ ‬الخيمياء،‭ ‬فبدأ‭ ‬يهتم‭ ‬بها‭ ‬منذ‭ ‬قطيعته‭ ‬مع‭ ‬فرويد‭ ‬إلى‭ ‬أن‭ ‬أصدر‭ ‬سنة‭ ‬1944‭ ‬كتابه‭ ‬‮«‬علم‭ ‬النفس‭ ‬والخيمياء‮»‬‭. ‬وعندما‭ ‬نتحدث‭ ‬عن‭ ‬الخيمياء،‭ ‬فلا‭ ‬يمكن‭ ‬أن‭ ‬نتغافل‭ ‬عن‭ ‬رواجها‭ ‬في‭ ‬القرون‭ ‬الوسطى‭ ‬والدور‭ ‬المحوري‭ ‬الذي‭ ‬لعبه‭ ‬الخيميائيون‭ ‬المسلمون‭ ‬في‭ ‬ممارستها‭ ‬وانتشارها‭ ‬في‭ ‬أوربا‭ ‬عبر‭ ‬إسبانيا،‭ ‬حيث‭ ‬تهافت‭ ‬الباحثون‭ ‬على‭ ‬استحضار‭ ‬ما‭ ‬كان‭ ‬يسمى‭ ‬بحجر‭ ‬الفلاسفة‭. ‬

لابد‭ ‬من‭ ‬الإشارة‭ - ‬ونحن‭ ‬نستعرض‭ ‬هذه‭ ‬المرحلة‭ ‬التاريخية‭ - ‬إلى‭ ‬أن‭ ‬الخيمياء‭ ‬لا‭ ‬تقتصر‭ ‬على‭ ‬السعي‭ ‬إلى‭ ‬تحويل‭ ‬المعادن‭ ‬الخسيسة‭ ‬إلى‭ ‬معادن‭ ‬نفيسة،‭ ‬بل‭ ‬تتجسم‭ ‬أيضا‭ ‬في‭ ‬الصبر‭ ‬ومجابهة‭ ‬الصعاب‭ ‬وتحمل‭ ‬الإحباط‭ ‬وممارسة‭ ‬الطقوس‭ ‬والأدعية‭ ‬والجهد‭ ‬المضني‭ ‬لفك‭ ‬الرموز‭ ‬المرتبطة‭ ‬ببعض‭ ‬الكتابات‭ ‬العصية‭ ‬على‭ ‬الفهم،‭ ‬فالتغيير‭ ‬الحقيقي‭ ‬لا‭ ‬يكمن‭ ‬في‭ ‬تحويل‭ ‬المعادن‭ ‬بقدر‭ ‬ما‭ ‬يكمن‭ ‬في‭ ‬تغيير‭ ‬النفوس،‭ ‬إضافة‭ ‬إلى‭ ‬أن‭ ‬بعض‭ ‬المتصوفين‭ ‬وضعوا‭ ‬مؤلفات‭ ‬في‭ ‬الخيمياء‭ ‬مثل‭ ‬ذي‭ ‬النون‭ ‬المصري‭ (‬796-856‭)‬،‭ ‬فإن‭ ‬تعابير‭ ‬المتصوفين‭ ‬لا‭ ‬تخلو‭ ‬من‭ ‬مجازات‭ ‬واستعارات‭ ‬مستمدة‭ ‬من‭ ‬هذا‭ ‬المجال،‭ ‬فقد‭ ‬عنون‭ ‬محيي‭ ‬الدين‭ ‬بن‭ ‬عربي‭ (‬1165-1240‭) ‬أحد‭ ‬كتبه‭ ‬بـ‭ ‬‮«‬فصوص‭ ‬الحكم‮»‬‭ ‬ولقبه‭ ‬مريدوه‭ ‬بـ‭ ‬‮«‬الشيخ‭ ‬الأكبر‭ ‬والكبريت‭ ‬الأحمر‮»‬،‭ ‬وكان‭ ‬يقارن‭ ‬الانتقال‭ ‬الوجداني‭ ‬من‭ ‬الروح‭ ‬الظاهرة‭ ‬إلى‭ ‬الروح‭ ‬الباطنة‭ ‬بتحول‭ ‬المعدن‭ ‬الخسيس‭ ‬إلى‭ ‬الذهب‭ ‬النفيس‭.‬

ربما‭ ‬يتبادر‭ ‬إلى‭ ‬الذهن‭ ‬أن‭ ‬يونج‭ ‬اطلع‭ ‬فقط‭ ‬على‭ ‬المخطوطات‭ ‬الأوربية‭ ‬المتصلة‭ ‬بالخيمياء،‭ ‬والتي‭ ‬لا‭ ‬تخلو‭ ‬من‭ ‬عبارات‭ ‬صوفية‭. ‬إن‭ ‬هذا‭ ‬الاعتقاد‭ ‬لا‭ ‬يصمد‭ ‬أمام‭ ‬حقائق‭ ‬ثابتة‭ ‬في‭ ‬حياته،‭ ‬فقد‭ ‬كانت‭ ‬له‭ ‬لقاءات‭ ‬منتظمة‭ ‬مدة‭ ‬عشرين‭ ‬سنة‭ (‬من‭ ‬سنة‭ ‬1933‭ ‬إلى‭ ‬سنة‭ ‬1953‭) ‬مع‭ ‬مستشرقين‭ ‬فرنسيين‭ ‬ذوي‭ ‬شهرة‭ ‬عالمية‭ ‬في‭ ‬دراسة‭ ‬التصوف‭ ‬الإسلامي‭:‬‭ ‬لويس‭ ‬ماسنيون‭ (‬1883-1962‭) ‬وهنري‭ ‬كوربان‭ (‬1903-1978‭)‬،‭ ‬وذلك‭ ‬في‭ ‬نطاق‭ ‬أيام‭ ‬‮«‬إيرانوس‮»‬‭ ‬التي‭ ‬كانت‭ ‬تنظمها‭ ‬كل‭ ‬سنة‭ ‬سيدة‭ ‬سويسرية‭ ‬برجوازية‭ ‬شغوفة‭ ‬بالروحانيات‭ ‬تدعى‭ ‬أولجا‭ ‬كابتاين‭ ‬فروب‭ ‬Olga KapteynFröbe‭ (‬1881-1962‭) ‬في‭ ‬منزلها‭ ‬الفخم‭ ‬قرب‭ ‬بحيرة‭ ‬‮«‬ماجور‮»‬‭ ‬جنوب‭ ‬سويسرا،‭ ‬جاعلة‭ ‬منه‭ - ‬مثلما‭ ‬كانت‭ ‬تقول‭ - ‬نقطة‭ ‬التقاء‭ ‬بين‭ ‬الشرق‭ ‬والغرب‭.‬

عرف‭ ‬المستشرق‭ ‬الأول‭ ‬برسالته‭ ‬الضخمة‭ ‬حول‭ ‬الحلاج‭ ‬وترجمة‭ ‬ديوانه‭ ‬إلى‭ ‬اللغة‭ ‬الفرنسية‭ ‬ودراسة‭ ‬مستفيضة‭ ‬حول‭ ‬المصطلحات‭ ‬الصوفية،‭ ‬وكان‭ ‬المؤسس‭ ‬لمؤتمر‭ ‬الحوار‭ ‬الإسلامي‭ ‬المسيحي،‭ ‬وقد‭ ‬أطلق‭ ‬عليه‭ ‬البابا‭ ‬بيوس‭ ‬الحادي‭ ‬عشر‭ (‬1857-1939‭) ‬لقب‭ ‬‮«‬الكاثوليكي‭ ‬المسلم‮»‬‭. ‬أما‭ ‬المستشرق‭ ‬الثاني‭ ‬فكان‭ ‬من‭ ‬أكبر‭ ‬المختصين‭ ‬في‭ ‬التصوف‭ ‬الإيراني‭ ‬فألف‭ ‬فيه‭ ‬وترجم‭ ‬لعديد‭ ‬المتصوفين‭ ‬مثل‭ ‬السهروردي،‭ ‬كما‭ ‬قام‭ ‬بدراسات‭ ‬حول‭ ‬ابن‭ ‬عربي،‭ ‬وكان‭ ‬أيضا‭ ‬من‭ ‬دعاة‭ ‬الحوار‭ ‬بين‭ ‬الديانات‭ ‬الموحدة‭.‬

لم‭ ‬يكتف‭ ‬يونج‭ ‬باللقاءات‭ ‬الفكرية‭ ‬بل‭ ‬تعرّف‭ ‬مباشرة‭ ‬إلى‭ ‬بعض‭ ‬الثقافات‭ ‬خارج‭ ‬الثقافة‭ ‬المهيمنة‭ ‬آنذاك،‭ ‬أي‭ ‬الثقافة‭ ‬الأوربية‭. ‬وفي‭ ‬هذا‭ ‬النطاق‭ ‬قام‭ ‬بزيارة‭ ‬إلى‭ ‬تونس‭ ‬سنة‭ ‬1920،‭ ‬منتقلا‭ ‬من‭ ‬مدينة‭ ‬إلى‭ ‬مدينة‭ ‬ومن‭ ‬جهة‭ ‬إلى‭ ‬جهة‭ ‬إلى‭ ‬أن‭ ‬حط‭ ‬الرحال‭ ‬بمنطقة‭ ‬الجريد‭ (‬توزر،‭ ‬نفطة‭...) ‬المعروفة‭ ‬بكثرة‭ ‬الفرق‭ ‬الصوفية‭ ‬الشعبية‭ ‬وبتراث‭ ‬عريض‭ ‬في‭ ‬المدائح‭ ‬والأذكار‭ ‬والابتهالات‭ ‬وحضر‭ ‬حفلات‭ ‬الأهالي‭ ‬التي‭ ‬لا‭ ‬تخلو‭ ‬من‭ ‬استعراضات‭ ‬هذه‭ ‬الفرق،‭ ‬وقد‭ ‬افتتن‭ ‬بذلك‭ ‬أيما‭ ‬افتتان،‭ ‬مثلما‭ ‬صرح‭ ‬به‭ ‬في‭ ‬كتابه‭ ‬‮«‬حياتي‮»‬‭. ‬وخلال‭ ‬إقامته‭ ‬في‭ ‬تونس‭ ‬دوّن‭ ‬يونج‭ ‬في‭ ‬مذكراته‭ ‬رؤية‭ ‬تجلت‭ ‬له‭ ‬في‭ ‬المنام،‭ ‬في‭ ‬شكل‭ ‬صراع‭ ‬بدني‭ ‬بينه‭ ‬وبين‭ ‬شاب‭ ‬عربي‭ ‬تبدو‭ ‬عليه‭ ‬ملامح‭ ‬الأمراء،‭ ‬داخل‭ ‬قلعة‭ ‬شرقية‭ ‬الشكل،‭ ‬انتهت‭ ‬بانتصاره‭ ‬على‭ ‬الشاب‭. ‬لم‭ ‬يزهُ‭ ‬يونج‭ ‬بانتصاره،‭ ‬ولم‭ ‬يقطع‭ ‬الصلة‭ ‬مع‭ ‬خصمه‭ ‬بل‭ ‬اقترب‭ ‬منه‭ ‬واضعا‭ ‬ذراعه‭ ‬حول‭ ‬كتفه،‭ ‬راجيا‭ ‬منه‭ ‬بطيبة‭ ‬أبوية،‭ ‬مثلما‭ ‬يقول،‭ ‬أن‭ ‬يقرأ‭ ‬له‭ ‬خطا‭ ‬شرقيا‭ ‬مكتوبا‭ ‬على‭ ‬ورق‭ ‬أبيض‭ ‬موجود‭ ‬بجواره‭. ‬تحتمل‭ ‬الرؤيا‭ ‬مثل‭ ‬كل‭ ‬الرؤى‭ ‬تأويلات‭ ‬عديدة،‭ ‬لكن‭ ‬نرى‭ ‬من‭ ‬وجهة‭ ‬نظرنا‭ ‬أنها‭ ‬ترمز‭ ‬إلى‭ ‬عجز‭ ‬القوة‭ ‬المادية‭ ‬للغرب‭ ‬أمام‭ ‬الأسرار‭ ‬الروحانية‭ ‬للشرق‭.‬

قام‭ ‬يونج‭ ‬بعد‭ ‬ذلك‭ ‬بزيارة‭ ‬إلى‭ ‬شرق‭ ‬إفريقيا‭ (‬1925-1926‭) ‬قادته‭ ‬إلى‭ ‬كينيا‭ ‬ثم‭ ‬إلى‭ ‬السودان‭ ‬ومصر،‭ ‬وزار‭ ‬بعد‭ ‬ذلك‭ ‬فلسطين‭ (‬1933‭) ‬والهند‭ (‬1937‭) ‬في‭ ‬مسعى‭ ‬متواصل‭ ‬لسبر‭ ‬أغوار‭ ‬ثقافات‭ ‬أجنبية،‭ ‬باحثا‭ ‬عن‭ ‬علامات‭ ‬خارج‭ ‬حضارته‭ ‬مثلما‭ ‬يقول‭. ‬هل‭ ‬ساهمت‭ ‬التجارب‭ ‬المذكورة‭ ‬والمتصلة‭ ‬بالاطلاع‭ ‬على‭ ‬التراث‭ ‬الصوفي‭ ‬الإسلامي‭ ‬في‭ ‬ظهور‭ ‬المفاهيم‭ ‬التي‭ ‬اعتمدها‭ ‬يونج‭ ‬في‭ ‬بناء‭ ‬نظريته‭ ‬حول‭ ‬علم‭ ‬نفس‭ ‬الأعماق‭ ‬وطرائق‭ ‬العلاج‭ ‬التي‭ ‬اعتمدها؟

 

تماثلات‭ ‬مثيرة

تبدو‭ ‬بعض‭ ‬كتابات‭ ‬يونج‭ ‬غامضة‭ ‬وقابلة‭ ‬لتأويلات‭ ‬عديدة،‭ ‬وربما‭ ‬تعبر‭ ‬عن‭ ‬بعد‭ ‬وجودي‭ ‬عميق‭ ‬عصي‭ ‬على‭ ‬البيان،‭ ‬لأنها‭ ‬مستمدة‭ ‬من‭ ‬أعماق‭ ‬ذاته،‭ ‬فلا‭ ‬غرو‭ ‬أن‭ ‬يترك‭ ‬أحيانا‭ ‬الكلمات‭ ‬ليعتمد‭ ‬الرسم‭ ‬مثلما‭ ‬نرى‭ ‬في‭ ‬كتابه‭ ‬الذي‭ ‬نشر‭ ‬بعد‭ ‬وفاته‭ ‬المسمى‭ ‬بـ‭ ‬‮«‬الكتاب‭ ‬الأحمر‮»‬‭. ‬ورغم‭ ‬ذلك‭ ‬جعل‭ ‬من‭ ‬مفاهيمه‭ ‬ركائز‭ ‬أساسية‭ ‬لنظريته‭ ‬وطريقته‭ ‬في‭ ‬العلاج،‭ ‬فاعتمدها‭ ‬تلامذته‭ ‬ثم‭ ‬انتشرت‭ ‬بعد‭ ‬ذلك‭ ‬في‭ ‬مجال‭ ‬العلوم‭ ‬الإنسانية،‭ ‬إلا‭ ‬أن‭ ‬المطلع‭ ‬على‭ ‬التراث‭ ‬الصوفي‭ ‬الإسلامي‭ ‬لا‭ ‬يمكنه‭ ‬إلا‭ ‬أن‭ ‬يلاحظ‭ ‬التشابه‭ ‬الكبير‭ ‬بين‭ ‬طريقته‭ ‬في‭ ‬البحث‭ ‬والطريقة‭ ‬التي‭ ‬اعتمدها‭ ‬المتصوفون‭ ‬المسلمون،‭ ‬وهي‭ ‬طريقة‭ ‬تتسم‭ ‬في‭ ‬كلتا‭ ‬الحالتين‭ ‬بالعسر‭ ‬والضنى‭ ‬وركوب‭ ‬الخطر،‭ ‬مثلما‭ ‬سنرى‭.‬

 

الطريق‭ ‬إلى‭ ‬المعرفة‭ ‬

كان‭ ‬يونج‭ ‬يحب‭ ‬الخلوة‭ ‬ويهجر‭ ‬الناس‭ ‬بمن‭ ‬فيهم‭ ‬مرضاه‭ ‬ليقضي‭ ‬ساعات‭ ‬طويلة‭ ‬قرب‭ ‬بحيرة‭ ‬زوريخ،‭ ‬مستغرقا‭ ‬في‭ ‬التأمل‭ ‬الذاتي‭ ‬يقلب‭ ‬الرمل‭ ‬والحصى‭ ‬وكأنه‭ ‬غائب‭ ‬عن‭ ‬الوجود‭. ‬أما‭ ‬أطول‭ ‬انعزال‭ ‬عرفه‭ ‬فقد‭ ‬دام‭ ‬ست‭ ‬سنوات‭ ‬كاملة‭ (‬1912-1918‭) ‬وأعقب‭ ‬مباشرة‭ ‬قطيعته‭ ‬مع‭ ‬فرويد،‭ ‬وقد‭ ‬عرف‭ ‬فيه‭ ‬الألم‭ ‬الروحي‭ ‬والقلق‭ ‬الوجداني،‭ ‬وبدأت‭ ‬علامات‭ ‬الذهان‭ ‬الذي‭ ‬أفقد‭ ‬نيتشه‭ ‬عقله‭ ‬سنوات‭ ‬قليلة‭ ‬قبل‭ ‬ذلك،‭ ‬تظهر‭ ‬عليه‭ ‬حتى‭ ‬خشي‭ ‬على‭ ‬نفسه‭ ‬مثلما‭ ‬يذكر‭ ‬في‭ ‬ترجمته‭ ‬الذاتية‭ ‬‮«‬حياتي‮»‬،‭ ‬أما‭ ‬ابنه‭ ‬فرنز‭ ‬فيقول‭ ‬إن‭ ‬والده‭ ‬وضع‭ ‬بندقية‭ ‬في‭ ‬مكتبه‭ ‬مفكرا‭ ‬في‭ ‬الانتحار‭ ‬إذا‭ ‬ازدادت‭ ‬حالته‭ ‬سوءا‭. ‬لكن‭ ‬بعد‭ ‬أن‭ ‬أشرف‭ ‬على‭ ‬اليأس‭ ‬وكاد‭ ‬يسقط‭ ‬في‭ ‬هوة‭ ‬لا‭ ‬قرار‭ ‬لها‭ ‬يتخلص‭ ‬من‭ ‬محنته،‭ ‬لا‭ ‬بسلطان‭ ‬العقل‭ ‬بل‭ ‬بنوع‭ ‬من‭ ‬الإلهام‭ ‬الروحاني‭ ‬والكشف،‭ ‬فيخرج‭ ‬للوجود‭ ‬بنظرة‭ ‬جديدة‭ ‬وبقدرة‭ ‬فائقة‭ ‬على‭ ‬العطاء‭ ‬والإنتاج‭. ‬تذكرنا‭ ‬مغامرة‭ ‬يونج‭ ‬الوجودية‭ ‬المحفوفة‭ ‬بالمخاطر‭ ‬بهذا‭ ‬‮«‬البحر‭ ‬العميق‮»‬‭ ‬الذي‭ ‬تاه‭ ‬فيه‭ ‬كثير‭ ‬من‭ ‬المتصوفين‭ ‬المسلمين‭ ‬فعاشوا‭ ‬أزمات‭ ‬نفسية‭ ‬حادة‭ ‬وفي‭ ‬لحظة‭ ‬مميزة‭ ‬إلهية‭ ‬خارقة‭ ‬يخرجون‭ ‬من‭ ‬هذا‭ ‬العالم‭ ‬القاتم،‭ ‬لا‭ ‬بسلطان‭ ‬العقل‭ ‬بل‭ ‬بالإلهام‭ ‬والكشف،‭ ‬مثلما‭ ‬يذكر‭ ‬الغزالي‭ ‬في‭ ‬كتابه‭ ‬‮«‬المنقذ‭ ‬من‭ ‬الضلال‮»‬‭. ‬

‭ ‬عاش‭ ‬يونج‭ ‬مثل‭ ‬عديد‭ ‬المتصوفين‭ ‬أزمة‭ ‬خلاقة‭ ‬خرجوا‭ ‬منها‭ ‬بروح‭ ‬جديدة‭ ‬ونظرة‭ ‬مغايرة‭ ‬لنظرتهم‭ ‬القديمة‭ ‬وقدرة‭ ‬فائقة‭ ‬على‭ ‬العطاء‭ ‬والإنتاج‭. ‬تستند‭ ‬هذه‭ ‬التجربة‭ ‬المميزة‭ ‬إلى‭ ‬التأمل‭ ‬العميق‭ ‬في‭ ‬الذات‭ ‬مصدر‭ ‬الإلهام‭ ‬والمعرفة‭. ‬ورغم‭ ‬إيمان‭ ‬يونج‭ ‬بسلطان‭ ‬العقل‭ ‬فإنه‭ ‬يحصر‭ ‬قدرته‭ ‬في‭ ‬إدراك‭ ‬المحسوسات‭ ‬التي‭ ‬لا‭ ‬تمثل‭ ‬إلا‭ ‬ذرة‭ ‬من‭ ‬ذرات‭ ‬الوجود،‭ ‬فيرد‭ ‬على‭ ‬ناقديه‭ ‬الذين‭ ‬يتهمونه‭ ‬بالخروج‭ ‬عن‭ ‬المنهج‭ ‬العلمي‭ ‬المتداول‭ ‬بالتساؤل‭: ‬هل‭ ‬ينبغي‭ ‬أن‭ ‬نرفض‭ ‬باسم‭ ‬العلم‭ ‬الظواهر‭ ‬التي‭ ‬لا‭ ‬تستجيب‭ ‬لقوانين‭ ‬الزمان‭ ‬والمكان‭ ‬والسببية،‭ ‬ولا‭ ‬عجب‭ ‬في‭ ‬أن‭ ‬نجد‭ ‬بعض‭ ‬مفاهيمه‭ ‬مثل‭ ‬النموذج‭ ‬القديم‭ ‬واللاوعي‭ ‬الجمعي،‭ ‬المرتبطة‭ ‬بالذات‭ ‬البشرية‭ ‬متضمنة‭ ‬لأبعاد‭ ‬ماورائية‭ ‬تتجاوز‭ ‬الإنسانية،‭ ‬ولعل‭ ‬ما‭ ‬يقرب‭ ‬يونج‭ ‬أكثر‭ ‬من‭ ‬الصوفية‭ ‬هو‭ ‬التزامن‭ ‬الخارق‭ ‬لقانون‭ ‬السببية‭.‬

 

التزامن‭ ‬La synchronicité

أصدر‭ ‬يونج‭ ‬العام‭ ‬1952،‭ ‬أي‭ ‬قبل‭ ‬انقطاعه‭ ‬عن‭ ‬المشاركة‭ ‬النشيطة‭ ‬في‭ ‬أيام‭ ‬‮«‬إيرانوس‮»‬‭ ‬الروحانية‭ ‬بجنوب‭ ‬سويسرا،‭ ‬مؤلفا‭ ‬أطلق‭ ‬عليه‭ ‬عنوان‭ ‬‮«‬التزامن‭ ‬أو‭ ‬مبدأ‭ ‬العلاقات‭ ‬غير‭ ‬السببية‮»‬‭ ‬بيّن‭ ‬فيه‭ ‬الصدفة‭ ‬التي‭ ‬تجمع‭ ‬أحيانا‭ ‬بطريقة‭ ‬عفوية‭ ‬ومن‭ ‬دون‭ ‬علاقة‭ ‬سببية‭ ‬ظاهرة‭ ‬نفسية‭ ‬وظاهرة‭ ‬مادية،‭ ‬مثل‭ ‬أن‭ ‬يفكر‭ ‬الإنسان‭ ‬في‭ ‬شيء‭ ‬ما‭ ‬وفجأة‭ ‬يجده‭ ‬أمامه،‭ ‬فقد‭ ‬لاحظ‭ ‬مرة‭ ‬أن‭ ‬مريضة‭ ‬كانت‭ ‬تروي‭ ‬له‭ ‬حلما‭ ‬عاشته‭ ‬في‭ ‬إحدى‭ ‬الليالي‭ ‬متمثلا‭ ‬في‭ ‬جوهرة‭ ‬قدمت‭ ‬لها‭ ‬كهدية‭ ‬وكانت‭ ‬في‭ ‬شكل‭ ‬خنفساء‭ ‬ذهبية،‭ ‬وبينما‭ ‬كانت‭ ‬تسرد‭ ‬حكايتها‭ ‬ارتطمت‭ ‬بزجاج‭ ‬النافذة‭ ‬ذبابة‭ ‬ذهبية‭ ‬اللون،‭ ‬فاستغربت‭ ‬المريضة‭ ‬ذلك‭ ‬وتجاوزت‭ ‬نزعتها‭ ‬العقلانية‭ ‬المتصلبة،‭ ‬التي‭ ‬كانت‭ ‬تمثل‭ ‬حسب‭ ‬رأيه‭ ‬حجر‭ ‬عثرة‭ ‬أمام‭ ‬تحسين‭ ‬أدائها‭ ‬النفسي‭.‬

واعتمادا‭ ‬على‭ ‬بعض‭ ‬مشاهداته‭ ‬يقول‭ ‬يونج‭ ‬إنه‭ ‬لا‭ ‬يمكن‭ ‬تفسير‭ ‬كل‭ ‬المظاهر‭ ‬الكونية‭ ‬انطلاقا‭ ‬من‭ ‬مبدأ‭ ‬السببية،‭ ‬فيبتعد‭ ‬عن‭ ‬الفلسفة‭ ‬العقلانية‭ ‬مثل‭ ‬فلسفة‭ ‬ابن‭ ‬رشد‭ ‬الذي‭ ‬يقول‭ ‬في‭ ‬كتابه‭ ‬‮«‬الكشف‭ ‬عن‭ ‬مناهج‭ ‬الأدلة‮»‬‭:  ‬‮«‬من‭ ‬أنكر‭ ‬وجود‭ ‬المسببات‭ ‬مرتبة‭ ‬على‭ ‬الأسباب‭ ‬في‭ ‬الأمور‭ ‬الصناعية‭ ‬أو‭ ‬لم‭ ‬يدركها‭ ‬فهمه،‭ ‬فليس‭ ‬عنده‭ ‬علم‭ ‬بالصناعة‭ ‬ولا‭ ‬بالصانع‮»‬‭ ‬لكنه‭ ‬يتماثل‭ ‬تماما‭ ‬مع‭ ‬فكرة‭ ‬الغزالي،‭ ‬وهو‭ ‬الفقيه‭ ‬والمتكلم‭ ‬وفي‭ ‬آن‭ ‬واحد‭ ‬شيخ‭ ‬بارز‭ ‬من‭ ‬شيوخ‭ ‬الصوفية‭ ‬التي‭ ‬ضمنها‭ ‬في‭ ‬كتابه‭ ‬‮«‬تهافت‭ ‬الفلاسفة‮»‬‭: ‬‮«‬إن‭ ‬الاقتران‭ ‬بين‭ ‬ما‭ ‬يعتقد‭ ‬في‭ ‬العادة‭ ‬سببا‭ ‬ولا‭ ‬يعتقد‭ ‬مسببا‭ ‬ليس‭ ‬ضروريا‭ ‬عندنا‭. ‬بل‭ ‬كل‭ ‬شيئين‭ ‬ليس‭ ‬هذا‭ ‬ذلك‭ ‬ولا‭ ‬ذاك‭ ‬هذا،‭ ‬ولا‭ ‬إثبات‭ ‬أحدهما‭ ‬متضمن‭ ‬لإثبات‭ ‬الآخر،‭ ‬ولا‭ ‬نفيه‭ ‬متضمن‭ ‬لنفي‭ ‬الآخر،‭ ‬فليس‭ ‬من‭ ‬ضرورة‭ ‬وجود‭ ‬أحدهما‭ ‬وجود‭ ‬الآخر‭ ‬ولا‭ ‬من‭ ‬ضرورة‭ ‬عدم‭ ‬أحدهما‭ ‬عدم‭ ‬الآخر‭ ‬مثل‭ ‬الري‭ ‬والشرب‭ ‬والشبع‭ ‬والأكل‭ ‬والشفاء‭ ‬وشرب‭ ‬الدواء‭... ‬وهلمَّ‭ ‬جرا‭ ‬إلى‭ ‬كل‭ ‬المشاهدات‭ ‬من‭ ‬المقترنات‭ ‬في‭ ‬الطب‭ ‬والنجوم‭ ‬والصناعات‭ ‬والحرف‮»‬،‭ ‬فالأمور‭ ‬تبدو‭ ‬أكثر‭ ‬تعقيدا‭ ‬ولا‭ ‬يمكن‭ ‬الأخذ‭ ‬بمظاهر‭ ‬الأشياء،‭ ‬بل‭ ‬ينبغي‭ ‬تخطي‭ ‬الظاهر‭ ‬والنفاذ‭ ‬إلى‭ ‬الأعماق‭.‬

 

الظاهر‭ ‬والباطن

من‭ ‬المعروف‭ ‬أن‭ ‬يونج‭ ‬يولي‭ ‬أهمية‭ ‬كبيرة‭ ‬للرموز،‭ ‬فكان‭ ‬يبحث‭ ‬عنها‭ ‬في‭ ‬الخيمياء‭ ‬والأحلام‭ ‬والطلاسم‭ ‬التي‭ ‬تعتمدها‭ ‬الجماعة‭ ‬الخفية‭ ‬المنغلقة‭ ‬على‭ ‬نفسها،‭ ‬ويرى‭ ‬فيها‭ ‬تعبيرا‭ ‬تلقائيا‭ ‬للإنسان،‭ ‬مبينا‭ ‬أن‭ ‬هذا‭ ‬الأخير‭ - ‬وإن‭ ‬كان‭ ‬قادرا‭ ‬على‭ ‬خلق‭ ‬العلامات‭ ‬في‭ ‬معنى‭ ‬اصطلاحها‭ - ‬فإنه‭ ‬غير‭ ‬قادر‭ ‬على‭ ‬خلق‭ ‬الرموز‭ ‬التي‭ ‬تنبع‭ ‬عفويا‭ ‬من‭ ‬ذاته‭ ‬وتلعب‭ ‬دور‭ ‬الوسيط‭ ‬بين‭ ‬الظاهر‭ ‬والباطن‭ ‬والوعي‭ ‬واللاوعي‭. ‬وعلى‭ ‬عكس‭ ‬ما‭ ‬ذهب‭ ‬إليه‭ ‬فرويد‭ ‬في‭ ‬اعتقاده‭ ‬بأن‭ ‬الإنتاج‭ ‬الفني‭ ‬يرمز‭ ‬إلى‭ ‬خصائص‭ ‬صاحبه،‭ ‬فقام‭ ‬بتحليل‭ ‬لوحات‭ ‬الرسام‭ ‬الإيطالي‭ ‬ليوناردو‭ ‬دي‭ ‬فنشي‭ (‬1452-1519‭) ‬وربطها‭ ‬ببعض‭ ‬سماته‭ ‬الشخصية‭ ‬مثل‭ ‬ولادته‭ ‬غير‭ ‬الشرعية‭ ‬واضطراب‭ ‬حياته‭ ‬الجنسية،‭ ‬وفق‭ ‬رأيه،‭ ‬فإن‭ ‬يونج‭ ‬يرى‭ ‬أن‭ ‬الرموز‭ ‬مكونات‭ ‬أساسية‭ ‬للنماذج‭ ‬القديمة‭ ‬Archétypes‭ ‬المتجاوزة‭ ‬للأفراد‭ ‬والشعوب‭ ‬والمنعكسة‭ ‬على‭ ‬نفوسهم‭ ‬وثقافاتهم،‭ ‬لذلك‭ ‬فإن‭ ‬حل‭ ‬ألغازها‭ ‬يبقى‭ ‬عصيا‭ ‬على‭ ‬القراءة‭ ‬السطحية‭ ‬والتأويل‭ ‬الشكلي‭. ‬ولسبر‭ ‬أغوارها‭ ‬لابد‭ ‬من‭ ‬النفاذ‭ ‬إلى‭ ‬أعماقها‭ ‬للوقوف‭ ‬على‭ ‬بنيتها‭ ‬الأولى،‭ ‬ما‭ ‬يعيدنا‭ ‬إلى‭ ‬النماذج‭ ‬القديمة‭ ‬الغائرة‭ ‬في‭ ‬اللاوعي‭ ‬الجمعي‭.‬

إن‭ ‬موقفه‭ ‬من‭ ‬الرموز‭ ‬كمفاتيح‭ ‬لاختراق‭ ‬الظاهر‭ ‬واكتشاف‭ ‬الباطن‭ ‬يذكر‭ ‬بموقف‭ ‬المتصوفين‭ ‬المسلمين‭ ‬إزاء‭ ‬ما‭ ‬يسمونهم‭ ‬بعلماء‭ ‬الرسوم،‭ ‬أي‭ ‬الفقهاء‭ ‬الذين‭ ‬يكتفون‭ ‬وفق‭ ‬رأيهم‭ ‬بقراءة‭ ‬سطحية‭ ‬للكلمات‭ ‬ولا‭ ‬يبحثون‭ ‬عما‭ ‬خفي‭ ‬من‭ ‬معانيها،‭ ‬لذلك‭ ‬نرى‭ ‬عديد‭ ‬المتصوفين‭ ‬يبحثون‭ ‬عن‭ ‬العلاقات‭ ‬بين‭ ‬الحروف‭ ‬والكلمات‭ ‬والأرقام،‭ ‬فيرى‭ ‬ابن‭ ‬عربي‭ ‬مثلا‭ ‬أن‭ ‬الحروف،‭ ‬الأولى‭ ‬للسور‭ ‬القرآنية‭ ‬تكتنز‭ ‬معانيها‭ ‬كما‭ ‬ألفوا‭ ‬في‭ ‬أسرار‭ ‬الحروف،‭ ‬واستعملوا‭ ‬رموزا‭ ‬قد‭ ‬توحي‭ ‬بالمجون‭ ‬لكنها‭ ‬لا‭ ‬تمثل‭ ‬إلا‭ ‬صورا‭ ‬مجازية‭ ‬لشعور‭ ‬عجز‭ ‬عنه‭ ‬الوصف،‭ ‬فالخمر‭ ‬التي‭ ‬يمدحها‭ ‬أبو‭ ‬نواس‭ ‬غير‭ ‬الخمر‭ ‬التي‭ ‬يمدحها‭ ‬ابن‭ ‬الفارض‭ ‬حينما‭ ‬يقول‭: ‬

شربنا‭ ‬على‭ ‬ذكر‭ ‬الحبيب‭ ‬مدامة‭ ‬سكرنا‭ ‬بها‭ ‬من‭ ‬قبل‭ ‬أن‭ ‬يخلق‭ ‬الكرم

فلا‭ ‬عجب‭ ‬أن‭ ‬نرى‭ ‬عديد‭ ‬المتصوفين‭ ‬في‭ ‬قفص‭ ‬الاتهام‭ ‬من‭ ‬أجل‭ ‬تعابير‭ ‬فهمت‭ ‬على‭ ‬أنها‭ ‬كفر،‭ ‬ويفسر‭ ‬ذلك‭ ‬ابن‭ ‬عربي‭ ‬عندما‭ ‬يقول‭ ‬إن‭ ‬المتصوفين‭ ‬اصطلحوا‭ ‬ألفاظا‭ ‬أرادوا‭ ‬بها‭ ‬معاني‭ ‬غير‭ ‬المعاني‭ ‬المتعارفة‭ ‬عند‭ ‬الفقهاء،‭ ‬فمن‭ ‬حملها‭ ‬على‭ ‬معانيها‭ ‬المعتادة‭ ‬وجد‭ ‬فيها‭ ‬كفرا،‭ ‬لذلك‭ ‬يحرم‭ ‬النظر‭ ‬في‭ ‬كتبهم‭ ‬وفق‭ ‬اعتقاده‭. ‬ومن‭ ‬بين‭ ‬المفاهيم‭ ‬التي‭ ‬جوبهت‭ ‬بالرفض‭ ‬من‭ ‬قبل‭ ‬الفقهاء‭ ‬بعض‭ ‬مواقفهم‭ ‬من‭ ‬الوجود‭.‬

 

وحدة‭ ‬الوجود

يعتقد‭ ‬يونج‭ ‬أن‭ ‬وراء‭ ‬المظاهر‭ ‬المختلفة‭ ‬للوجود‭ ‬كالمادة‭ ‬والروح‭ ‬والذكورة‭ ‬والأنوثة‭ ‬والوعي‭ ‬واللاوعي‭... ‬جوهرا‭ ‬واحدا،‭ ‬فقد‭ ‬قال‭ ‬في‭ ‬كتابه‭ ‬‮«‬تأملات‭ ‬نظرية‭ ‬حول‭ ‬الطبيعة‭ ‬البشرية‮»‬‭ ‬الذي‭ ‬أصدره‭ ‬سنة‭ ‬1946‭ ‬إن‭ ‬المادة‭ ‬والروح‭ ‬مظهران‭ ‬مختلفان‭ ‬لشيء‭ ‬واحد،‭ ‬فهو‭ ‬لا‭ ‬ينكر‭ ‬المتناقضات‭ ‬ولا‭ ‬يقلل‭ ‬من‭ ‬تأثيرها‭ ‬في‭ ‬النفس،‭ ‬لكنه‭ ‬يعتبر‭ ‬أنها‭ ‬قابلة‭ ‬للتآلف‭ ‬والانصهار‭ ‬في‭ ‬وحدة‭ ‬صماء‭ ‬غير‭ ‬قابلة‭ ‬للتجزئة‭. ‬أما‭ ‬الشفاء‭ ‬فيكمن‭ ‬في‭ ‬إدماج‭ ‬الأضداد‭ ‬داخل‭ ‬كائن‭ ‬متفرد،‭ ‬حتى‭ ‬ينسجم‭ ‬الوعي‭ ‬واللاوعي‭ ‬والجانب‭ ‬المشرق،‭ ‬والجانب‭ ‬المظلم‭ ‬في‭ ‬ذاته‭ ‬وما‭ ‬يسميه‭ ‬بالأنيموس‭ (‬البعد‭ ‬الذكوري‭ ‬لنفسية‭ ‬المرأة‭) ‬والأنيما‭ (‬البعد‭ ‬الأنوثي‭ ‬لنفسية‭ ‬الرجل‭)‬،‭ ‬إلى‭ ‬غير‭ ‬ذلك‭ ‬من‭ ‬الأبعاد‭ ‬المتناقضة‭ ‬في‭ ‬الذات‭ ‬البشرية،‭ ‬وهو‭ ‬موقف‭ ‬أثار‭ ‬حفيظة‭ ‬فرويد‭ ‬الذي‭ ‬اعتبر‭ ‬اتجاهه‭ ‬فلسفيا‭ ‬بحتا‭ ‬نابعا‭ ‬من‭ ‬مذهب‭ ‬الواحدية‭ ‬Monisme‭.‬

‭ ‬يلتقي‭ ‬موقف‭ ‬يونج‭ ‬الذي‭ ‬يرجع‭ ‬الاختلافات‭ ‬إلى‭ ‬أصل‭ ‬واحد‭ ‬يمكن‭ ‬أن‭ ‬تعود‭ ‬إليه‭ ‬في‭ ‬نهاية‭ ‬المطاف‭ ‬باعتقاد‭ ‬المتصوفين‭ ‬في‭ ‬وحدة‭ ‬الوجود،‭ ‬فابن‭ ‬عربي‭ ‬مثلا‭ ‬يرى‭ ‬أن‭ ‬الإنسان‭ ‬يختزل‭ ‬داخله‭ ‬أسرار‭ ‬الكون،‭ ‬وهذا‭ ‬الأخير‭ ‬يعكس‭ ‬أعماق‭ ‬الإنسان،‭ ‬أما‭ ‬الخلاص‭ ‬فيتم‭ ‬عبر‭ ‬الفناء‭ ‬في‭ ‬الواحد‭. ‬ولئن‭ ‬كانت‭ ‬هذه‭ ‬الفكرة‭ ‬قديمة‭ ‬ونجدها‭ ‬عند‭ ‬بعض‭ ‬الفلاسفة‭ ‬الإغريق‭ ‬وخاصة‭ ‬أفلوطين‭ ‬مثلما‭ ‬نجدها‭ ‬عند‭ ‬المتصوفين‭ ‬المسيحيين،‭ ‬فإن‭ ‬منزلة‭ ‬التوحيد‭ ‬في‭ ‬العقيدة‭ ‬الإسلامية‭ ‬جعلتها‭ ‬تبرز‭ ‬بصفة‭ ‬خاصة‭ ‬في‭ ‬الفكر‭ ‬الصوفي‭ ‬الإسلامي،‭ ‬علما‭ ‬بأن‭ ‬يونج‭ ‬كان‭ ‬له‭ ‬موقف‭ ‬نقدي‭ ‬من‭ ‬التثليث‭ ‬المسيحي‭ ‬تسبب‭ ‬له‭ ‬في‭ ‬قطيعة‭ ‬مع‭ ‬بعض‭ ‬رجال‭ ‬الدين‭ ‬المسيحيين‭ ‬الذين‭ ‬كانوا‭ ‬من‭ ‬المقربين‭ ‬إليه‭.‬

 

الخاتمـــة

يوجد‭ ‬أكثر‭ ‬من‭ ‬دليل‭ ‬على‭ ‬أن‭ ‬الطبيب‭ ‬والمحلل‭ ‬النفساني‭ ‬السويسري‭ ‬قد‭ ‬اطلع‭ ‬على‭ ‬التراث‭ ‬الصوفي‭ ‬الإسلامي،‭ ‬من‭ ‬خلال‭ ‬مطالعته‭ ‬ومجالسته‭ ‬لمختصين‭ ‬في‭ ‬دراسته‭ ‬وحضوره‭ ‬الندوات‭ ‬الفكرية‭ ‬التي‭ ‬شارك‭ ‬فيها‭ ‬مستشرقون‭ ‬بارزون،‭ ‬وزيارته‭ ‬إلى‭ ‬عدد‭ ‬من‭ ‬الأقطار‭ ‬الإسلامية‭. ‬قد‭ ‬يكون‭ ‬هذا‭ ‬الاطلاع‭ ‬وراء‭ ‬ظهور‭ ‬العديد‭ ‬من‭ ‬المفاهيم‭ ‬المطابقة‭ ‬تماما‭ ‬لمصطلحات‭ ‬الصوفية‭ ‬التي‭ ‬اعتمدها‭ ‬لبناء‭ ‬نظريته‭ ‬حول‭ ‬النفس‭ ‬البشرية‭ ‬وعلاجها‭ ‬عند‭ ‬المرض‭. ‬لكن‭ ‬من‭ ‬المبالغة‭ ‬القول‭ ‬إن‭ ‬التصوف‭ ‬الإسلامي‭ ‬كان‭ ‬المصدر‭ ‬الوحيد‭ ‬الذي‭ ‬استلهم‭ ‬منه‭ ‬يونج‭ ‬نظريته‭ ‬وطريقة‭ ‬تعامله‭ ‬مع‭ ‬مرضاه،‭ ‬فقد‭ ‬اطلع‭ ‬كذلك‭ ‬على‭ ‬حضارات‭ ‬غير‭ ‬إسلامية‭ ‬كالحضارة‭ ‬الصينية‭ ‬وثقافة‭ ‬الشعوب‭ ‬البدائية‭ ‬والتراث‭ ‬الفكري‭ ‬الأوربي‭ ‬في‭ ‬العصور‭ ‬الوسطى‭. ‬ومهما‭ ‬يكن‭ ‬من‭ ‬أمر‭ ‬فإنه‭ ‬لم‭ ‬يسقط‭ ‬المفاهيم‭ ‬التي‭ ‬استلهمها‭ ‬على‭ ‬نظريته‭ ‬ومنهجه‭ ‬في‭ ‬العلاج‭ ‬إسقاطا،‭ ‬بل‭ ‬قوّمها‭ ‬وعدلها‭ ‬بالرجوع‭ ‬إلى‭ ‬تجربته‭ ‬السريرية‭ ‬كطبيب‭ ‬للأمراض‭ ‬النفسية،‭ ‬فكانت‭ ‬حصيلة‭ ‬تأليفية‭ ‬طريفة‭ ‬جمعت‭ ‬أبعادا‭ ‬ظلت‭ ‬متنافرة‭ ‬عند‭ ‬كثير‭ ‬من‭ ‬مفكري‭ ‬عصره‭ .