من المكتبة الأجنبية: الحصاد المسروق: قرصنة مصدر الغذاء العالمي

المكتبة الأجنبية: الحصاد المسروق: قرصنة مصدر الغذاء العالمي
        

عرض: حسام فتحي أبو جبارة**

          مع ظهور الاقتصاد المعولم في العقدين الأخيرين، برز إلى السطح موضوع الغذاء المهندس وراثيًا والذي وجد مقاومة عنيفة من العلماء والمزارعين والمستهلكين والنشطاء حول العالم، وفي مقدمتهم الطبيبة الهندية فاندانا شيفا، التي تعتبر من أبرز المناضلات العالميات في مجال البيئة والدفاع عن الموارد الطبيعية، وسبق لها الفوز بجائزة نوبل للسلام البديلة (جائزة العيش الصحيح) عام 1993 تقديرًا لجهودها في مقاومة الزراعة الصناعية، التي تعتمد على الهندسة الوراثية. وهي تروي في هذا الكتاب تأثيرات الزراعة المعولمة على صغار المزارعين والبيئة وسلامة الطعام، وتبحث في البذور المهجنة وراثيًا، والجدل القائم حول زراعة الأسماك وانعكاساتها على البيئة.

          ترى فاندانا شيفا أن ما يسميه الاقتصاد الصناعي «نموًا» إنما هو في حقيقة الأمر شكل من أشكال السرقة من الطبيعة والبشر، فصحيح أن قطع الغابات أو تحويلها إلى زراعة أحادية لتوفير مواد خام صناعية يؤدي إلى تحقيق عوائد اقتصادية، إلا أن هذه العوائد قائمة على سلب الغابات من تنوعها الحيوي، ومن قدرتها على الحفاظ على التربة والماء، وأيضًا على سلب مجتمعات الغابات من مواردها من الغذاء، والأعلاف، والوقود، والأمان من الفيضانات والجفاف. في الهند على سبيل المثال، وهي الدولة التي يكسب 75 في المائة من سكانها قوتهم من الزراعة، تبرز تأثيرات العولمة على الزراعة التي باتت وسيلة لسلب الفقراء من حقهم في الغذاء وحتى حقهم في الحياة.

          فقد تمكن المزارعون الهنود من زراعة أكثر من 20 ألف نوع من الأرز، الذي يعتبر الغذاء الرئيسي لمئات الملايين من البشر في شتى أنحاء العالم، ونجحوا في نقل هذه الأنواع إلى نظرائهم في الدول المجاورة عن طريق التبادل الحر للبذور بين الفلاحين، والذي كان ولايزال أساس المحافظة على التوازن الحيوي والأمن الغذائي، وهذا التبادل قائم على مبدأ التعاون والمبادلة، فالمزارع الذي يود أن يستبدل البذار يعطي كمية مساوية من البذار من حقله مقابل ما يحصل عليه من بذار لمحاصيل أخرى من زميله، وهذا التبادل الحر بين الفلاحين يتخطى مجرد استبدال البذور، بل يشمل تبادل الآراء والإنبات والوراثة، إنه تراكم للتقاليد والمعرفة وكيفية إدارة البذور، فالمزارعون يتعلمون عن النباتات التي يرغبون بزراعتها في المستقبل وذلك بمراقبتها وهي تنمو في حقول الآخرين.

احتكار البذور

          ولكن ظهور أنظمة حقوق الملكية الفكرية للبذور التي أصبحت جزءًا من اتفاقيات منظمة التجارة العالمية، أدت إلى احتكار تجارة البذور من قبل شركات عالمية تدعي امتلاكها لحقوق براءة اختراع أنواع معينة من الأرز، حيث تسيطر حاليًا 10 شركات على 32 في المائة من السوق التجاري للبذور، وهي تفرض على الدول المنضمة إلى منظمة التجارة العالمية إجراءات صارمة لمنع عملية تبادل البذور بين المزارعين أنفسهم، وتفرض عليهم شراء البذور المهجنة، التي تباع بأسعار باهظة، وتتطلب مياهًا ومبيدات حشرية أكثر، ومن ثم فهي تؤدي إلى وصول الإنتاج إلى المستهلك بأسعار أعلى، ويمكن أن تسبب خسائر فادحة للمزارع في حال حدوث كوارث طبيعية نتيجة ارتفاع تكلفة الإنتاج عليه.

          ولعل أخطر ما في سياسات تحرير التجارة اليوم، هو تركزها في إنتاج سلع الرفاهية التي يمتلك المستهلكون في الجزء الشمالي من الكرة الأرضية القدرة على شرائها، ومن ذلك الترويج لإنتاج الورد والفواكه والقريدس (الروبيان) واللحم في دول العالم الثالث على حساب الأرز والقمح والسكر، وهذه المعادلة التي يكون الهدف الظاهري منها هو زيادة حجم صادرات البلدان النامية، غالبًا ما تسبب خسائر مالية فادحة لهذه البلدان، ففي حالة صادرات الورد، صرفت الهند عام 1998م، مثلًا، أكثر من 1.4 مليار روبية بالعملة الأجنبية للترويج لصادرات الورد، وكسبت 320 مليون روبية فقط مقابل ذلك. وفي حالة صادرات اللحوم، مقابل كل دولار أمريكي تكسبه الهند، فإنها تدمر ما قيمته 15 دولارًا من الوظائف البيئية التي تؤديها الحيوانات في الحقول من أجل زراعة مستدامة، أما في حالة صادرات القرديس، فمقابل كل دونم من مزرعة صناعية للقرديس، يتم تدمير 200 دونم من الأنظمة البيئية المنتجة، ومقابل كل دولار يكتسب كعملة أجنبية من الصادرات يحدث تدمير في الاقتصاد المحلي بقيمة ستة إلى عشرة دولارات.

صيد خطر

          وفي ظل تشجيع البنك الدولي للدول بالتحوّل من سياسة الغذاء أولًا إلى سياسة التصدير أولًا، فإن الدول تتنافس مع بعضها بعضًا، وبالتالي فإن أسعار سلع الرفاهية هذه تنهار، كما أن تحرير التجارة والإصلاح الاقتصادي يشمل تخفيضًا للعملات، وهكذا فإن مكاسب التصدير تقل وتزداد تكاليف الواردات. وبما أنه يُطلب من العالم الثالث أن يوقف إنبات الأغذية وأن يشتري الغذاء من السوق العالمية من خلال تصدير المحاصيل النقدية، فإن العولمة تقود إلى وضع تكون فيه المجتمعات الزراعية في الجنوب معتمدة باستمرار على الواردات، ولكن دون أن تتوافر لديها العملة الصعبة لأن تدفع ثمن الغذاء المستورد، ولنا في إندونيسيا وروسيا خير مثال على الدول التي انتقلت بسرعة من الاكتفاء الذاتي إلى الجوع بسبب الاعتماد على الواردات وتخفيض قيمة عملاتها.

          وفي فصل آخر من الكتاب، تتحدث المؤلفة عن مخاطر شباك الصيد الحديثة على الثروة السمكية، فتقول إن السمك يحتوي على نسبة 17 في المائة من البروتينات الحيوانية في الغذاء البشري، ويعتمد أكثر من 200 مليون شخص على صيد السمك كوسيلة لكسب رزقهم. وفي حين يأتي ما يزيد على 75 في المائة من الأسماك التي يستهلكها الناس من البيئات البرية، فإن الزراعة الصناعية للأسماك أو زراعة الأحواض هي أسرع القطاعات في إنتاج الأسماك العالمي وخاصة القريدس والسلمون اللذين يتم زراعة أكثر من نصف الكميات المستهلكة منهما.

          وقد أسهمت طرق الصيد الحديثة، سواءً بواسطة الشباك الضخمة أو السلاسل في تدهور البيئة الطبيعية، إذ إن هذه الوسائل تهدد سلامة كثير من المخلوقات البحرية وفي مقدمتها السلاحف التي تناقص عددها بشدة في العقود الأربعة الأخيرة، وباتت بعض أنواعها مهددة بالانقراض. ووفقًا لمجموعة البيئة الأمريكية فإن صيد القرديس هو أحد الأسباب الرئيسية لموت السلاحف، نظرًا لأن شباك الصيد الضخمة لا تتيح للسلاحف فرصة الهرب فتؤدي إلى موت أعداد كبيرة منها كل عام، خاصة في المحيط الهندي والمحيط الهادئ الغربي.

          وتحت عنوان «محصول البذور المسروق» تقول فاندانا شيفا إن التنوع الهائل في أصناف المحاصيل كان أساس موردنا من الغذاء، إلا أنه أصبح عرضة للتهديد هذه الأيام، نتيجة للاجتياح الوراثي والقرصنة الوراثية، فالزراعات الأحادية للمحاصيل والاحتكارات تدمر المحصول الغني من البذور الموجودة في الطبيعة على مدى آلاف السنين. فمن بين 250 ألفا إلى 300 ألف صنف من الأصناف الحية من النباتات الموجودة حاليًا، هناك ما لا يقل عن 10 آلاف إلى 50 ألف صنف قابلة للأكل، وهناك 30 صنفًا فقط توفر 90 في المائة من السعرات الحرارية التي يحتاج إليها الإنسان، وأربعة أصناف فقط (الأرز، والقمح، والذرة، وفول الصويا) توفر أغلبية السعرات الحرارية والبروتينات المستهلكة من قبل سكان العالم.

          وقد سمحت الأسواق والزراعات المحلية بازدهار تنوّع المحاصيل في حقولنا، ما مكّن المزارعين من مواصلة تطوير زراعات متنوعة والحفاظ على أنواع متعددة من البذور والنباتات، وإن ضمان الاستعمال المتواصل لهذه البذور والنباتات هو أفضل طريقة للحفاظ عليها، وإن أي نظام اقتصادي يقرر كيفية استعمال النباتات سيؤثر على الأصناف الباقية وتلك التي ستنقرض. ومع حلول الأسواق العالمية محل الأسواق المحلية أصبحت الزراعات الأحادية تحل محل الزراعات المتنوعة، فمن المألوف زراعة 10 آلاف صنف من القمح في الصين، وقد تم تخفيضها إلى ألف صنف فقط مع حلول سبعينيات القرن العشرين، وهناك 20 في المائة فقط من ذرة المكسيك المتنوعة باقية حتى الآن، وأقل من ألف صنف من التفاح في الولايات المتحدة، بعد أن انقرض حوالي ستة آلاف صنف في القرن العشرين.

          إن السبب الرئيسي وراء هذا التراجع المتواصل في أصناف المحاصيل يعود بشكل أساسي إلى عدم حصول البذور على براءات اختراع، وهو الأمر الذي تشترطه اتفاقيات منظمة التجارة العالمية كأساس لحركة التجارة بين بلدان العالم، بالرغم من أن هذه البراءات تكلّف المزارعين أموالًا طائلة لا يملكونها، وتؤدي إلى الإخلال بالتنوع الحيوي الزراعي، وتهدد صحة الإنسان، ذلك أن التشريعات الخاصة بالبذور تجبر المزارعين على استعمال الأنواع المسجلة فقط، وغالبًا ما تكون هذه الأنواع نتاج عمليات الهندسة الوراثية.

لصوصية الهندسة الوراثية

          وإذا كانت الشركات الكبرى تروّج للهندسة الوراثية على أنها تقنية خضراء تحمي الطبيعة والتنوع الحيوي، إلا أن أدوات الهندسة الوراثية مصممة بحيث تسرق خيرات الطبيعة من خلال تدمير التنوع الحيوي وزيادة استخدام المبيدات ونشر مخاطر التلوث الوراثي الحتمية، فالكثير من النباتات المهجنة وراثيًا تتم هندستها لمقاومة الأمراض الفيروسية عن طريق دمج الصبغيات في الجزء الذي يحتوي على بروتينات من الفيروس، وهذه الصبغيات الفيروسية قد تتسبب بأمراض جديدة، وربما تنشأ فيروسات مرتدة واسعة النطاق مسببة أوبئة كبرى، وعند الاستهلاك يمكن للحامض النووي المهندس وراثيًا في هذه الأطعمة أن يتحلل ويدخل في مجرى الدم. وقد عُرف منذ زمن طويل أن القناة الهضمية للإنسان ملأى بالأنزيمات، التي يمكن أن تهضم الـ «دي إن إي» بسرعة. لكن في دراسة صممت لاختبار بقاء حامض نووي فيروسي في القناة الهضمية، تم إطعام الفئران «دي إن إي» من فيروس جرثومي، ووجد أن أجزاء كبيرة قد بقيت في ممر القناة الهضمية ودخلت في مجرى الدم. وتشير دراسات إضافية إلى أن الـ «دي إن إي» المهضوم يمكن أن يستقر في خلايا الطحال والكبد وكذلك في خلايا كريات الدم البيضاء.

          وترى المؤلفة أن تحكم «حفنة» من الشركات العالمية بمورد الغذاء العالمي، ومحاولتها إعادة تشكيله للوصول إلى الحدود القصوى للأرباح والقوة تتطلب تكاتفًا بين جمعيات الحفاظ على البيئة وحركات الزراعة المستدامة وحركات المزارعين والمستهلكين، لضمان إنتاج مستدام وسليم، وتوزيع عادل وسهولة في الوصول إلى الغذاء. وتطالب باستبدال نظام «التجارة الحرة» بنظام بيئي عادل لإنتاج وتوزيع الغذاء، تتم في ظله حماية التربة والمزارعين والمستهلكين، لأن الحق في الطعام أمر مقدس لكل الأجيال.
----------------------------------
* طبيبة وكاتبة من الهند وحاصلة على «نوبل للسلام»
** صحفي وكاتب فلسطيني مقيم في دبي

-------------------------------------

طَلَبْتُ الغِنَى فِي كُلِّ وجهٍ فَلَمْ أجِدْ
                              سَبيلَ الغِنى، إلاّ سبيلَ التّعَفّفِ
إذَا كَنْتَ لاَ ترضَى بشيءٍ تنالُهُ
                              وكنْتَ عَلَى مَا فاتَ حَمَّ التَّلهُّفِ
فلَستَ مِنَ الهَمّ العَريضِ بخارِجٍ،
                              ولسْتَ منَ الغيظِ الطَّويلِ بمشْتَفٍ
أرَانِي بنفْسِي معجباً متعزِّزاً
                              كأنّي على الآفاتِ لَستُ بمُشرِفِ
وَإنّي لَعَينُ البَائِسِ الواهِنِ القُوَى،
                              وعينُ الضَّعيفِ البائسِ المتطرِّفِ
وليْسَ امْرُوٌ لمْ يرْعَ منْكَ بجهْدِهِ
                              جَميعَ الذي تَرْعاهُ مِنْهُ، بمُنصِفِ

أبوالعتاهية

 

 

تأليف: فاندانا شيفا*   

 




 





مؤلفة الكتاب