فيـروز ... وصوتهـا

فيـروز ... وصوتهـا

لأن فيروز آلت إلى ما هي عليه، عمد البعض إلى «تناتش» فكرة لقائها بالأخوين رحباني وبداية عملها معهما. حليم الرومي قدمها في رواية إلى عاصي الرحباني في الإذاعة. وفي الرواية أنها انتفضت راجية عدم دفعها إلى العمل مع عاصي. وفي رواية أخرى دعا أحد مهندسي الصوت في الإذاعة اللبنانية عاصي الرحباني إلى سماع تسجيل صوتي لفيروز، فاكتشف قدرتها على الغناء، والحال الماسية التي تطبع صوتها، لنوضع جميعاً كمستمعين في لبنان والعالم العربي أمام ليلة قدرنا الغنائية.
ذلك اللقاء بين الثلاثة (فيروز والأخوين رحباني) شكَّل مرحلة جديدة في تاريخ الأغنية العربية، باعتبار أنهم أدركوا منذ اللحظة الأولى أن لا شيء لبنانياً خالصاً في الغناء والموسيقى وكل الفنون، حيث إن الأشياء تفقد وهجها إذا ما فقدت عمقها، والحال هنا عن الانفتاح على العالم العربي والعالم ككل، والعمق اللبناني مآله العمق العربي.
فيروز تمتلك خامة صوتية لا تتوخى «التعسيل» في الأداء، لأن صوتها عسل خالص، فلا تُجمِّل بنبرة على عُربة، أو تفتعل عربة في جملة. العُرب في روح الصوت، في صميمه، في بنائه الأول، في خلقه العجائبي الذي يرسل إلى سامعه ويمحضه حال الانخطاف التام. ثم إن من اهتم بهذه الخامة الاستثنائية تفرّغ للعمل على قياسات الصوت وموازيره. اشتغل الأخوان رحباني على الصوت والكلمة والموسيقى، وحاذرا الوقوع في المطولات بحسب مشروعهما الخاص والكبير الذي علّم في تاريخ الأغنية العربية ونقل السماع من رحابته إلى مرحلة قطف الجمال في أقل وقت ممكن، مع أن فيروز غنَّت للمدن والعواصم العربية، كما غنت وقدمت الموشحات، غير أنها بقيت أحد أضلاع مؤسسة تقدمية طليعية قرأت مطولاً في «كيفية» الغناء العربي، وحادت عنه إلى ما يحب بعض العارفين اللبنانيين تسميته بأغنية «غزل البنات» التي تذوب سريعاً، وتبقى حلاوتها طويلاً في الفم.
لم تلبث فيروز أن غنت مع عاصي بعد تحوُّله إلى الاحتراف، بعد ممارستها الغناء كراغبة في البيت وهي تمارس واجبات وشؤوناً منزلية، أو في القرية وهي تساعد جدتها، ولاسيما في قطف التين، ثم كهاوية مع معلمة الإنشاد في مدرستها، قبل أن تنتقل إلى الكونسرفاتوار، حيث درست مدة سنتين كاملتين، حتى احتلت موقع المغنية الصولو في جوقة الطلاب، التي صار لها شأنها في الإذاعة اللبنانية بسبب صوتها. وقعت «المثالثة» بعدها بين فيروز وعاصي ومنصور، وبعد سنوات قليلة تزوج عاصي من فيروز في عام 1955، وأدى ارتباطهما الزوجي إلى ارتباط فني نتجت عنه اسكتشات وأغنيات وموشحات، وصولاً إلى عام 1956، حيث عرف الأخوان رحباني وفيروز النهج الغنائي الوطني، انتهاء بمشاركتهم في الدورة الأولى لمهرجانات بعلبك في «الأيام اللبنانية» بمنوعات غنائية تمحورت تحت عنوان «أيام الحصاد».
وقد شكَّل المهرجان مفصلاً في حياة الثلاثي ووضعهم في سبيلهم بعيداً عن الضيق واختناق الطموح، مستفيدين من تلك الإنجازات التي قدمتها الموسيقى العربية، والمصرية تحديداً، مع المشايخ أمثال الشيخ زكريا أحمد وعبده الحامولي والشيخ سيد درويش والشيخ سلامة حجازي، مع نظرتهم النقدية إلى مثل ذلك التراث. صوت فيروز أرخى بملكوته على سلسلة أعمال مسرحية بعد أيام الحصاد، فكانت أبهى ما شكلته مسرحيات لاحقة من مثل: عرس في القرية (1959) وموسم العز والبعلبكية، وجسر القمر، وفخر الدين، وجبال الصوان، وناطورة المفاتيح، وصولاً إلى: قصيدة حب في عام 1973، وكلها من بطولة فيروز، ما عدا «دواليب الهوا» بطولة وديع الصافي وصباح.
فيروز، أو مطربة الصباح، لا نريد أن نسوّرها بلقب أو نحدها بفترة، قدر ما نريد أن نشير إلى مدى الصوت وهدوئه ورومانسيته، وشبهه بالصباحات الرائقة التي بلا خدوش، عتبة أي نهار.
تحولت فيروز من فتاة كورس مغمورة إلى أسطورة في مدى العالم العربي، في حين أن صوتها مر في أطوار ملحنين عديدين لم يقبضوا فيها على أطوار وأسرار الصوت العجائبي. الأغنية القصيرة حولتها إلى مطربة وخلصتها من صفة المؤدية، فالضرب على المعنى يُفقد المعنى معناه ويوقعه في إسار العادية. نتكلم هنا عن صوت فيروز في كثير من «الغنيات»، مثل : «دخيلك يا أمي»، «حبيتك تنسيت النوم»، «تعا ولا تجي»، وسواها إلى أن عبرت بعد ذلك إلى زياد الرحباني في «معرفتي فيك» و«بتمرق عليي» وسواها إلى طريقة جديدة واتجاه أدائي يعبِّر عن حال غنائية صعبة جداً تشمل بعاطفتها الرومانسية من يرغب ومن لا يرغب. الجمهور تعاطى مع جديد فيروز بحال من التلقائية والعفوية، كما أعاد زياد في المجال عينه، تسجيل ما يقارب العشرين أغنية مختارة من أرشيف عاصي الرحباني وفيروز، وتمثل هذه محطات بارزة في حياتهما الفنية المشتركة، بتوزيع جديد من خمسين آلة موسيقية وبروح حديثة. لا تحاول أن تطغى على الروح الأصلية لمعاني القطع وأزمنتها ومراميها الفنية والثقافية، لكنها تقدمها بمزاج مختلف.
مازلنا ونبقى، نخرج إلى صوتها أينما شدا، مديرين ظهرنا للحرب ولا نداء يدعونا إلا صوتها. نتنهد مغمضي العينين نسمعها ونحصي رعداتنا، حيث لقداسة صوتها جميع  الرعدات التي تحجبها أيامنا العربية الخائبة. إن شيئاً فينا يغني حين تغني. ما من نغم أو لحن بعينه، هو شيء أشبه بإيقاع داخلي قوي كأن براكين ضخمة تتنفس في صدورنا. يتشعب العالم ويتفتح حين يغني صوتها هيامه. من دون صوت فيروز لم يُحك الحب، ومن دونه يظل الحنان منغلقاً في صمته، كما وأعماق أرواحنا كانت لتظل مجهولة، لقيطة ومغتربة عن الهوى واللمس الخفيف في «يا ريت، أنت وأنا بالبيت، شي بيت أبعد بيت».
نحن هنا، في راهننا القاسي الذي لم يتسن لأعمارنا أن تعرف سواه، نعتبر يومياتنا من دون صوت فيروز، يوميات عمياء ناقصة لا محال.
هل حاولت يوماً النظر إلى صوت؟ أنا أتيح لي النظر إلى صوتها ينسكب من فمها وهي ترتل: 
«يا مريم البكر 
فقت الشمس والقمرا 
وكل نجم بأفلاك السماء سرا...».
 أنا الوحيدة بين سامعيها في الكنيسة التي شحب وجهي لدى سماعها. شحوبي ليس سوى كلف مباغت من يقيني بأن القبح والحرب يحيقان بالعالم، والزيف والرياء خارج ما تغنيه فيروز... في أغنياتها شيء ما يسبب السعادة المعجونة بنوع الشجن الرهيف.
يسمعون «سيد الهوى قمري» و«أهواك بلا أمل» و«بكوخنا يا ابني»، كما يسمعون «لشو تطلع يا قمر» بمدلولات اجتماعية وسياسية، والأخيرة آلت إلى زياد في تصوّره الجديد ومناخاته الموسيقية الفارقة، ودائماً في شراكته مع أمه منذ رحيل عاصي.
نرى إلى صورتها، ويُرى من فيروز جزء من عينيها الفاحمتين، حزينتين كما منذ الأبد، وفمها الصغير في إضمامة لا تسمح برؤية أسنانها البيض اللامعة وتبرق حين تغني. خصلة شعر ضالة على عنقها، وأخرى مثلها على نحرها المستدير، الملفوع بلوعة قديمة، غائصة تحت وشاح أزرق، وكتفاها مكورتان غير صلبتين، كما تلوح أذنها وردية شفافة.
في أغنيات فيروز الجديدة على وجه التحديد، في تعاونها المشترك مع زياد، هناك تواز بين اللعب على عوالم المراهقة، والإبداع الفني، وفيها حساسية الأطفال ونزقهم، ومن هنا تتدفق روحيتها، وفي أغنياتها من ألحان زياد، ذلك الشيء اللبناني الخالص، وتميل إلى نفاد الصبر والطبع الملول، وفيها إدارة الظهر للحب (وإن بغنج) إن كان مؤلماً ومكلفاً. مع ذلك أوفياء نحن (جمهورها) إلى كنوز عاصي ومنصور من وزن: «راجعين يا هوى» و«لا تسألوني ما اسمه حبيبي» و«بعدك على بالي» و«يا مايلة عالغصن» و«يا من حوى» تغنيها فيروز في نقاء صوتها وطبيعته واتساعه وقدرته على أداء أدق الالتفافات من دون تكلف، كذلك تطويع نبراته في خدمة التعبير اللغوي، ومزجه بين الصوت الطبيعي والصوت المستعار في تجانس تام. هذه الصفات لصوتها بقيت حتى الساعة مسحوبة على الأغنيات التي تعاونت مع زياد على تظهيرها، لكنها رغبة جمهورها العريض والمتنوع، إلى قديمها، وحنينه إلى أداءاتها مع عاصي ومنصور. يحب جمهورها جديدها مع زياد مثل: «إيه في أمل» و«قال قايل» و«الله كبير» و«قصة زغيرة كتير» و«ما شاورت حالي» و«عندي ثقة فيك» وسواها، لكنه الحنين أحياناً ما يأخذهم إلى قديمها مع الأخوين رحباني، يأخذهم إلى ذواتهم بمعنى ما.
ثمة بالطبع، في الآن عينه، من يتيمه صوت أم كلثوم وسواها من المطربات العظيمات، سوى أنها تلك العاطفة الرقيقة حيال صوت فيروز لأنه ينتمي إليهم، إلى مشاعرهم اليومية، إلى إنسانيتهم وتفاصيل عيشهم، وإلى خفة الوقت وخفة التعاطي الغرامي مع الطبيعة والبشر والمشاعر. صوت قابل للامتلاك في اللحظة التي يحط فيها في الأذن، كما أن صاحبته العصية على الظهور الإعلامي إلا في ما ندر، يجعلها وصوتها حالة طيفية تسمح لجمهورها بإنشاط الخيال والذهاب به إلى أقصى هذياناته. من الصعب على أغلب جمهورها اللبناني والعربي أن يخونه حفظ معظم أغنياتها، حتى على الذين تعوزهم الكيفية المحكية اللبنانية، فصوت فيروز في النهاية حالة أكثر منه كلمات وموسيقى. حالة تحاكي الناس العاديين في طيبتهم وفي مللهم وفي هواهم.. حال ليست ملائكية، ولكنها تنتمي إليهم، إلى أمزجتهم وطقوس عيشهم وجاذبية هذا العيش المبهمة. صوت اللحظة المسالمة، وصوت الجمال والأمل، وصوت محرّض في النهاية، على استنهاض كل ما في دواخلنا من رقة لمغالبة الواقع، الواقعين في شركه جميعاً .