الحضارة الغربية بين النزعة المركزية وتزييف التاريخ

الحضارة الغربية  بين النزعة المركزية وتزييف التاريخ

تُعتبر سمة «المركزية» خلفية أو قاعدة من القواعد الثابتة أو المركوزة، الثاوية في تلافيف بنية وجوهر وعُمق ثقافة الغرب وسيكولوجيته! ودليل ذلك واضح تماماً للقارئ وللمتابع العادي، بل والناقد المدقّق المتابع المتفحّص، فمثلاً إذا تغيّرتْ أو تزحزحتْ ـــ داخل تركيبة البنية المذكورة ـــ مواقع الأيديولوجيا أو مفاهيم الاقتصاد أو مقتضيــات السياسة، أو غير ذلك من المجالات والمفاهيم، فإن هذا البعد ــ تمركز الغرب ــ يظل على الدوام قاراً ثابتاً، لا يُسمح له مطلقاً بأي هامش من الحركة أو الحلحلة، مهما بلغت وطأة المتغيرات المرافقة لصيــرورة حركة الواقع وللمنجز الإنساني والحضاري!

أعتقد أن هذا النزوع الثقافي الغربي يترجم عن عقــدة عميقة في أغوار بنية التكوين النفسي والفكري والأنثروبولوجي للمؤسسة الغربية والإنسان الغربي،  فمنــذ بدايات المسار التاريخي ظل الغرب يعتقد بأنه يمثل المركز، وأن غيره يمثلون الأطراف، وأنه الصـوت وغيره الصدى! وأنه القطــــب  وغيــــره الآفاق القصيّة!
  ونحن حيـــن نـــقــوم بمراجعة تاريخية سريعة بهذا الصدد، نجـــد أن الذاكــرة الثــــقافية الــــغربيــة مترعة بخيـــــالات الشعور والإحسـاس بالقيمـــة «الاستثنائية» لمكانة الغرب الحضارية والإنسانية ولإنسانه ومُثلــه وقــيمه؛ ومقتضـــــى هذا الشعور أو هــــذا الإحساس من الناحية العملية، يتمثـــل في ضـــرورة وحتمية إلزام الآخر الحضاري بالاندراج الطوعي أو القهري تحت ظلال المركز، والتهوين من مقوّمات وجوده المستقل أو المتميّز، ومـن خصوصياته الثقافية  والحضارية ونحــــوها، إنّ هذا الشعور الثقافي الاستعلائي المقيت هــو الذي يغذّي الآن الاتجـــاه المتســــارع نحو تجسيد فكرة مشروع العولمــة «GLOBALIZATION»، أي جعل النمط الحضاري الغربي نمطاً مثالياً ينبغي استنساخه وتمثلــه والاقـــتداء به، في كلّ مكان من أرجاء المعمورة، وفــي مختلف أوجــــه النشاط والأصعدة أيضاً؛ الثقافيـــة منها والسياسية والفكــرية والاقتصــــاديــــة ونحـــوها.
 
صيحات الاحتجاج والتحذير
  لذلك كان من الطبيعي في هذا السياق المعتّق بالتوتر الحضاري والثقافي، الذي تحتوشه من جميع الجهات عواملُ التدافع المشروع وغير المشروع، أن تبرز صيحات التحذير وأصوات الاحتجاج، ضد هذه النزعة الممهورة والمُفعمة بروح الاستكبار والاستعلاء والتميّز الموهوم، وضد هذه الروح المعتكِزة على ميتافيزيقا تميّز وتحضّر ورقي «الإنسان الغربي» و«الحضارة الغربية» و«الثقافة الغربية» وبالتالي القيمة الاستثنائية لهذا الإنسان وهذه الحضارة والثقافة.
ولقد تشكّلت تلـك الصيحات والأصوات في صورة تكتّلات أو تنظيمات، وفي صورة حركات سياسية وتيارات اجتماعية وثقافيــة تدعو للعودة إلى الذات وإلى ضرورة التمسّك بمقومات الهُوية، وفي صورة مشروعات فكرية، أخذت أبعاداً حضارية وصوراً إنسانية شتى، بما في ذلك تلك التي برزتْ من رحم النسق الثقافي الغربي نفسه. ويمكن لنا هنا أن نشير باقتضاب إلى بعض الكتابات الاحتجاجية والنقدية التي ظهرت خلال عقود متفرقة من القرن العشرين الميلادي، مثل ما كتبه الفرنسي رينيه دوبو René Dobo في كتابه المشهور «إنسانية الإنسان»، الذي يقول في إحدى صفحاته مهاجما بُعد خلوّ «القصد» أو «المعنى المُقْنِع»  – حسب تعبيره - في نسق حياة الحضـارة الغربية، ومدى اندياح مساحات الاضطراب والقلق في تركيبة نفسية إنسانها، حيث الجذور العميقة «للقلق موجودة في البنية النفسية للفرد، كل فرد من أفــراد هذه المجتمعات؛ وأكبر مشكلة حادة في الحياة المعاصرة هي في الغالب شعور الإنســان أن الحياة قد فقدت معناها... إن الحياة الشاذة التي يعيشها عامة الناس الآن، تخنق وتعطّل التفاعلات الحيوية الضرورية لسلامة الإنسان العقلية». 
هكذا يقرر العالم رينيه دوبو وهكذا يضع بصمته عن السمة العامة التي تطبع أنموذج الحياة في الغرب والمجتمعــــات الغربية.
ومن أبرز الدراسات الاحتجاجية الناقدة أيضاً ما كتبه الفيلسوف الألماني أوزوالد شبنجلر Oswald Chbangelr في كتابه «أفول الغرب»، الذي كتبه في الفترة الممتدة بين  1918 و1922م. كما نجد أيضاً الأمريكـي تشارلز فرنكل Charles Frankel صاحب كتاب «أزمة الإنسان الحديث»، والإنجليزي كولن ولسون Colin Wilson في كتبه ذائعة الصيت:  «اللّامنتمي» و«رحلة نحو البداية» و«سقوط الحضارة»، الذي بدأ مقدمته بقوله: «مرّت سنوات وأصبح الشخص القلق الذي سميته «اللّامنتمي» بطل عصرنا، وكنـت أنظر إلى حضارتنا نظرتي إلى شيء رخيص تافه، باعتبار أنها تمثل انحطاط جميع المقاييس العقلية». وهكذا أيضاً يقرر ولسون.
 وهناك أيضاً الفرنسي إنــــدريه مــــالرو
(Andre Malraux (1901 – 1976 في كتابيه: «إغراء الغرب» و«مصير البشر»، الذي دعا الصينيين إلى الحفاظ على هُويتهـــم الثقافية وعدم وقوعــهم في شَـــرك غواية الحضارة الغربية، كما نصح الآسيويين جمـــــيعاً بعدم نسيان أنهم أصل الحضارات الإنسانية، وأنّ عليهم واجب الدفاع عن هذا الشــعور من خلال الوقوف في وجه المــنازع الاحتوائية والاستــقطــابية المعــــبّرة عن قيم الحضارة الغربية، علماً بأن قائمة هــؤلاء النقاد الغربيين طويلة قد تحتاج إلى دراسة مستقلة مطوّلة أو مسهبة، لما تنطوي عليه أفكارهم من دلالات مهمة وأبعاد عميقــة في نقد ومراجعة انعكاسات الحضارة الغربية وفكريتها على نفسية وحياة الإنسان في الغرب، بل على المصير الإنساني برمته.

انعطاف نحو معادلة التوازن
ونظراً لما تمّ ذكره، لا يستغرب المتابع المتفحّص والباحث الجاد انعطاف كثير من المفكرين والعلماء والفلاسفة والفنانين من أبناء الحضارة الغربية تجاه الإسلام والثقافة الإسلامية، بدافع البحث عن بدائل نسقية مُقنعة للعـــــقـــل والفكر والضمير، ومُشبِعة لمعادلة التوازن بين مطالب الجسد وأشواق الروح.
ومن بين هؤلاء المنعطفين نحو الإسلام، الفيلسوف الفرنسي الراحل رجاء جارودي  (Roger Garaudy (1913- 2012 م)؛ فقد كان فيلسوفاً كبيراً دارساً للتاريخ والحضارات الإنسانية، فضلاً عن تعمقه في أيديولوجيات ومذاهب وأدبيات الحضارة الغربية، تلك التي خرج هو نفسه من رحمهــا الثقافي والفكري؛ ففي معظم مؤلفاته ــ خاصة تلك التي كتبها بعد إسلامه ـ يهاجم جارودي مركزية الحضارة الغربية ونزوعها القهري الاحتوائي ضد الآخر الحضاري، واستعمالها جميع مناهج وأدوات تزييف التاريخ.
 وقد أفصح في كتاب له يُعد مـــــن أبـــرز مؤلفاته الأخيرة التي أثارت جدلاً طويلاً، هو كتاب «أمريكا طليعة الانحطاط: كيف نواجه القرن الحادي والعشــرين؟» عن الأبعاد والخطوط العريضة التي يتألف منها مشروعه الفكري، الذي يبشر من خلالـه بمنهجية جديدة لحوار الحضارات والثقافات والاتجاهات، ونبذ فكرة الصراع القائمة على النزعــة المركزية واستعمار التاريخ ــ كما يعــبّر ــ  وهي فكرة جوهرية في تركيبة الحضارة الغــربية؛ فأمريكا ــ في نظر جارودي ــ تعتبر أقـــوى أنمــــوذج لحضارة الغرب الآن، إنما تَحدّدَ وجودُها التاريخي والجغـــــرافي بمَعلمَين رئيسين هما: سحق الهنود الحمر واقتلاعهم مــن أرضهم وسلبهم مصــــادر ثروتـــــهم لاسيما القطن والثروة الحيوانية الكبيرة المتنوعة، ثم العبودية التي تمثل انتحاراً حقيقياً لقيمة إنسانية الإنسان، إذ إنّ أمريكا في بداية تأسيسها العنيف والقهري عمدت إلى تشغيل أفـواج الرقيق التي تمّ استجلابها عنوة من إفريقيا، ومن بعض جزر الأطلنطي المأهولة بذوي البشرة السـوداء.
 ويطلق جارودي على هذه المأساة مصطلح «الملحمة العنصرية»، وهي ملحمة تُشكّل جـوهر الثقافة الأمريكية المرسّخة في الكثير من أفلام العنف الاستعراضية المشهورة؛ لكن جارودي يسحب هذه السمة، أو الصفة الفارقة على كيان الحضارة الغربية كله، مستنداً إلى دراسة التاريخ ومقارنة الأبعاد والأسس المؤثرة في المضامين الروحية والفكرية والإنسانيـة، للحضارات البارزة في تاريخ البشرية.
وفي الأخير، يدعو جارودي إلى ضرورة اندلاع حركة عصيان حضاري، ضد مخاطر الهيمنة الأحادية والتحكم المركزي في آليات النظام العالمي القائم، الذي يُراد له التمكين والاستمرارية.
إن هذا الوضع ــ حسب قراءة جارودي لا يمكن له أن يتجذّر خلال القرن الحادي والعشرين؛ ومن ثم فإن المجابهة ملقاة على عاتق النُّخب المثقفة، أو إنتلجنسيا الحضارات، وذلك يمثل مساهمة على الصعيد الثقافي لتعزيز توجّه استقلال الشعوب والمجتمعات فعلياً، وحماية الخصوصيات الثقافية والهُويات الفكرية والحضارية  من الذوبان والاندثار، ومواجهة إشكالية التشكّل وفق إرادة الآخر الحضاري المهيمن... فالرهان إذن سيكون قائماً بحدّة على هذا المستوى خلال النصف الأول من القرن الحادي والعشريـن، لكن لا ضمان ــ بنظر جارودي ــ لتحقيق المغايرة الحضارية الفعلية إلا بوضع حد نهائي للتاريخ الحيواني للإنسان  ــ كما قال ــ والذي تجسّده اليوم وترسّخ نمطه القهريةُ الحضارية الغربية ■