إضاءة على الأخوين رحباني

إضاءة على الأخوين رحباني

لقد رافقت الرحابنة ما يزيد على عقدين من الزمن، مصمماً مسرحياً ومشرفاً فنياً عاماً. كانت علاقتي بهم يومية، وكنت على الدوام حاضراً في رحاب مختبرهم الفنّي وتجاربهم ولقاءاتهم، كواحدٍ من المقرَّبين القلائل الموثوقين. ولقد عملت معهم في لبنان والبلاد العربية وفي رحلاتهم إلى أوربا... وأستطيع القول إنّ ما تعلّمتُه وخبرتُه في تلك المدرسة الفنّية الراقية قد فاق ما تلقّيتُه أثناء دراساتي الجامعية العُليا.
***
في أحد الأيام سألت عاصي الرحباني ولم يكن منصور حاضراً معنا آنذاك: هل هناك من دور، أو هدف للفن في الحياة؟ أجابني ببساطة: الفن، هو محاولة جمالية تهدف إلى التخفيف من مرارة الحياة! لأننا لا نستطيع إزالة هذه المرارة كلياً من الوجود! وبعد رحيل عاصي عن الدنيا بسنوات سألت شقيقه منصور السؤال نفسه، فأجاب: الفن، هو محاولة سامية تجعل الحياة أجمل!
وهكذا، من خلال هذين الاجتهادَيْن أو النظرتين المؤديتين إلى نتيجة تكاد تكون متطابقة، انساب ذلك الدفق الكبير من الموسيقى والشعر، والصوت المعجزة (فيروز) نشداناً لكبح جماح المرارة، والأمل بحياة أجمل.
لقد كُتبَ الكثير وقيل الكثير عن نتاج الأخوين رحباني، وأُنجزت أطروحات جامعية عدة عنهما كفنَّانين ومعهما السيدة فيروز، هذا إلى جانب دراسات معمَّقة تناولت أسلوبهما ورؤاهما، وكذلك سيرتهما ومسار حياتهما من خلال ندوات ولقاءات، إلى جانب الكتب التي صدرت، ملقية الضوء على الفن «الرحباني» المغاير والمتميِّز.
فعندما نقول «الرحابنة» فإننا نعني هذا الثالوث المبدع فقط: عاصي، منصور، فيروز، على اعتبار أن الأخ الثالث للأخوين (إلياس الرحباني) قد شكَّل أفقاً خاصاً به، من خلال إنتاجه الغزير وشخصيته الموسيقية المختلفة، التي مالت إلى النمط الموسيقي الغربي العالمي، ولكن من باب الروح الشرقية الواضحة في مشاركاته مع أخويه في التلحين للسيدة فيروز في أكثر من مسرحية ظهرت بتوقيع الأخوين رحباني.
أما زياد الرحباني – ابن عاصي وفيروز – فهو من الجيل الرحباني الثاني مع أبناء عمومته: مروان وغدي وأسامة أبناء منصور، وغسان وجاد ابني إلياس، ولكن زياد الذي بدأ على الطريقة الرحبانية موسيقياً، سرعان ما وضع لنفسه خطاً خاصاً به من حيث الرؤى وبعض المعالجات الموسيقية.
وُلِد الأخوان رحباني في بيت واحد، في انطلياس، وتاريخ مولد عاصي هو الرابع من مايو عام 1923، وتاريخ مولد منصور هو السابع عشر من مارس عام 1925. ولقد نشآ معاً، ودَرَجا معاً ونَمَتْ فيهما الرؤى التي تقاطعت على الدوام بأحلام كل منهما، فتشكَّل بينهما «اتحاد» رؤيوي وليس وحدة، وفي هذا المجال المفصلي كان عاصي يقول إن الأفكار من خارج المألوف هي دائماً على مواعيد لقاء بعضهما ببعض من أي جهة أتَتْ! هكذا، أنا ومنصور!
منذ البدء، سار الأخوان رحباني على وتر ضفّتَيْن معاكسَيْن مجرى النهر, فوصلا معاً إلى المنابع، ولم يذهبا أبداً إلى «المصبّات»، فقد كان هدفهما على الدوام، هو الارتشاف من بكر المياه.
ولو لم يكن عاصي أخاً لمنصور، لطَلَبَ أن يؤاخيه في الفن، كذلك كان منصور قد تمنّى، فما حَدَثَ هو أن الاثنين كانا أخوين حقيقيين في الإقامة والحل والترحال والإبداع، لذلك، قيل عندما توفي عاصي في 21 يونيو 1986، إنه أخذ معه نصف منصور! ومما قيل أيضاً: إن صيغة الأخوين رحباني هي أهم وأعمق وأبقى من تسمية عاصي وحده، وكذلك من تسمية منصور وحده!
ومنذ خطواتهما الأولى تشكَّل لدى الأخوين شغف جارف بالتمرّد والتغيير على مجمل السائد والرائج، فانتهجا خطّاً خاصاً لا شبيه له في زمنهما، وجابَها طغيان ما ورثته الأسماع وأدمنته، ولذلك فقد نهلا من ينابيع الموسيقى وتأثرا بالتراث الإسلامي والبيزنطي والماروني والأرمني، وتبصّرا في الموسيقى الغربية، وعرفا كيف يقطفان من «المألوف» ما ليس مألوفاً، وكيف يتعاملان مع «الفولكلور»، بحيث إنهما لم يقارباه بمنطق الماضي ولغته، بل حاوراه بلغة الحاضر، فأتى سلساً مغايراً ومعاصراً.
لقد أعادا تشكيل «الكلام» والإيقاع ووضعاهما في الصوت، الذي حَمَلَ المواصفات النادرة المتفرّدة والحنجرة الذهبية التي كانت تؤهّله – ربما – وحدها لهذه النقلة الثقافية الرائدة في دنيا الفن العربي خصوصاً، والشرقي بشكل عام.
لقد صاغ الأخوان رحباني فَرَحَ الناس وتمرّدهم في آنٍ معاً، ورَفَعا من قيمة الانتماء إلى الأرض والوطن، وأخذا من التراث جذوته المتوهّجة في زمن كان فيه من لايزال يُسرج خيلَه متوجّهاً نحو ماضٍ مطفأ خامد. كان عاصي يردّد من دون انقطاع أن الفن هو ابن الوعي، وأنه ربيب المعرفة والعلم والمثابرة والمتابعة. وما كان لثنائية الأخوين الفريدة أن تكون معطاءة بتلك النوعية والغزارة في الشعر والموسيقى وسائر الفنون المرئية والمسموعة، لو لم يكن يمتلك كل من الأخوين بحدّ ذاته الموهبة والمزايا الفنية العالية، ولو لم يكن لدى كل منهما رؤاه المنفردة الخاصة بكل عمق تساؤلاتها وهواجسها وحيرتها وثراء جماليتها، وقد برز ذلك عندما بات منصور وحيداً بعد رحيل عاصي فأكمل المسيرة وأنتج.
***
يوم الأحد في 23 يناير عام 1955 تزوّج عاصي الرحباني الفتاة نهاد وديع حداد – فيروز – وأنجبا «زياد، ليال، هلي، ريما»، وتزوج منصور: السيدة ماري تيريز أبوجودة، وأنجبا «مروان وغدي وأسامة». كان حنا الرحباني أبو عاصي من «الشوير» – جبل لبنان، قد تزوج فتاة اسمها سعدى صعب والدتها غيتا بعقليني صعب، وهي من بلدة «عينطورة» – جبل لبنان. وأنجبت سعدى من حنا عاصي الرحباني كلاًّ من: «عاصي، منصور، سلوى، ناديا، إلياس، إلهام». تأثر الأخوان رحباني بجدّتهما غيتا التي كانت قوية بطبيعتها الجبلية وتحفظ العديد من الأهازيج الفولكلورية والحكايا، ومشاركة فعَّالة في المواسم الزراعية وفي قطاف الكروم والثمار وتربية المواشي... وقد عاش الأخوان في هذا المناخ عندما كانا يصعدان من «انطلياس» صيفاً إلى «عينطورة»، فحفظا العديد من مروياتها وانطبع في ذهنيهما تصرفاتها وسلوكها وكل ما يحيط بها، ولقد استعاداها واستحضراها بعد سنين طويلة في أغنية: «هالله.. هالله... يا تراب عينطورة.. يا ملفى الغيم وسطوح العيد... ستِّي من فوق لو فيِّي زورا... راحت عالعيد والعيد بعيد...».
***
لقد كانت الأربعينيات ومطالع الخمسينيات من القرن العشرين، هي السنوات التي بدأ فيها لبنان يتلمّس وهج استقلاله، ومحاولة صياغة طبيعية كيانه وهويته وخصوصيته، حيث ذَهَبَت الجهود بغالبيتها إلى التركيز على بناء مفاصل الدولة الإدارية والأمنية والاقتصادية والسياسية، وبالتزامن مع هذا الحراك ظَهَرَت الحاجة إلى إيجاد شخصية هذا الكيان المميَّزة، لاسيما أن البلد يرتكز على تاريخ حضاري عريق. من هذا المنطلق بدأت تتوالد الرؤى والأحلام والعمل على رفع «البناء الفوقي» للبلد، فظهرت البراعم الفنّية في الموسيقى والأغنية والمسرح وسائر الفنون، حيث كان الهدف نزع ثوب التبعية والتقليد، والخروج على النمطية السائدة والرتابة المزمنة والجمود الذي ورثته الأمة حيث انزَوَت أسيرة في ركاب الآخرين.
في ذلك الزمن كانت أقصر أغنية تبلغ مدتها عشرين دقيقة، فجاء الرحابنة بوحدة الدقائق الثلاث مع الكلام المغاير، وكانت أول أغنية لحّنها عاصي الرحباني لفيروز هي «حبذا يا غروب» من شعر قبلان مكرزل، وبُثَّت عبر الإذاعة اللبنانية، التي كان قد سبق فيروز إليها كل من صباح ونجاح سلام وسعاد محمد.
في ذلك الوقت كانت مجموعة من الشباب الموهوبين فنياً تتوق وتسعى لبناء تلك الشخصية الثقافية، الفنية والوطنية للبنان، وكان في طليعة هؤلاء الشباب: عاصي ومنصور الرحباني واعتبرا من اللبنات الجادّة التي ساهمت في تركيز الكيان اللبناني بهوية متفرِّدة.
يقول منصور: «نحن أوجدنا بالفطرة عالماً نسجناه من محبّة الناس حولنا، كنَّا محاطين في مطالعنا بمبدعين كبار، وفي طريقنا التقينا بمبدعين، وحين سنترك القلم والريشة والوتر سيبقى حول آثارنا كبار مبدعون».
لقد هَدَف الرحبانيان طوال مسيرتهما إلى تحقيق الزمن الجميل في الآتي من الأيام، لأنهما لم يعيشاه، بل حَلُما به وكتباه، إذ إنهما من مواليد ما بين الحربين العالميتين، أي في زمن لملمة مآسي وجراح ودمار الحرب العالمية الأولى، وتفتَّحَ شبابهما في زمن الاستعدادات للموت والكوارث القادمة في الحرب العالمية الثانية، لهذا، فقد تشكَّلت رؤاهما وامتلأت بالحيرة المرَّة، التي طَبَعَتْ مسارهما بغنائية متفرّدة متمسِّكة بعالم الطفولة الأبيض وحنينٍ إلى مرابعها كمرتجى وأمل لا يريدان مغادرته، وهذا ما جعلهما ينشدان السلام ويناجيان الأمكنة والمطارح، بنوستالجيا غنائية شفيفة ممزوجة بإيمان عميق بأن خيراً سيهلُّ في زمن ما، على أمكنةٍ ما. ففي مغناة «ناطورة المفاتيح» (1972) قالا بصوت فيروز غناء:
«وَيْنُنْ... وَيْنُنْ.. وَيْن صواتن، وَيْن وجُوهُنْ..
صار في وادي بيني وبَيْنُنْ... وَيْنُنْ..
ركبوا عربيات الوقت وهربوا بالنسيان 
وتركوا ضحكات ولادُنْ منسيّة عالحيطان».
هذا الشَجَن الحرَّاق، والبعاد إلى حدود الغياب، والهروب في النسيان، والجدران الباقية المدموغة بضحكات الأولاد كَمَعْلَم مكانيّ بقيَ من الساكنين وشماً في الذاكرة، وهنا، نشعر معهما بأن القلب يرى ما لا تراه العيون!
***
لقد قيل الكثير عن انحياز الرحبانيين إلى أمكنة الريف، الضيعة، الجبل، الأحراش، دراج اللوز، الصخر، الوعر، النهر، دروب العين، الكروم... وغيرها، وأنهما ابتعدا عن «المدينة»، وكأن «نبع فوار انطلياس» – هو مكانهما الأول – و«وطى الدوّار والمنيبيع» – مكانهما الثَّاني إلى جانب ما يعادلهما من المطارح الطبيعية، التي زَرَعَتْ مناخها ومفرداتها وألوانها ومواسمها وناسها في رؤاهما، حيث تشكَّلَتْ من خلالها «سينوغرافيا» مسرحهما ولغتهما وهواجسهما النغمية، بعد أن سحرتهما كطفلين وبهرتهما كشابَّين، وترسّخت فيهما كمبدعين، فكشفت لهما سرّ بساطتها وجمالها، والقول الصواب هو أن الأخوين قد «مَدْيَنا أو مَدَّنا» – من مدينة إذا جاز التعبير -، وذلك من دون أن يخونا جذور وأصالة «الريف» أو يعبثا به، فقد رفعاه عالياً كمنطلق للكيان – الحلم إرثاً وتراثاً وخصوصيَّة، بينما نلاحظ، ومنذ عقود كيف أن الكثيرين أقدموا بسذاجتهم وجهلهم على «ترييف» المدن والحواضر.
***
كان عاصي مغرماً بالجدل والحوار، يسأل كثيراً برغم معرفته المسبقة لغالبية الأجوبة والردود، وكان يقول ما يفكر به أمام الأصدقاء في المكتب وفي البيت، وكانت الجلسات هذه تطول ويحضرها المقرَّبون أمثال سعيد عقل، المحامي عبدالله الخوري، المسرحي العالمي جورج شحادة، المحامي إلياس حنا، رياض شرارة، برج فازليان، جورج سكاف، رفيق خوري.
أحد الأيام قلت لعاصي إنّك ومنصور تفصحان أمام هؤلاء الأصدقاء وتقولان ما تفكران به وأحياناً تقرآن نصوصاً، وتسمعان منهم بعض الملاحظات، بل والآراء والاقتراحات، إلاّ أنَّني لم ألحظ أنكما قد أخذتما يوماً برأي من تلك الآراء. أجابني باسماً: «إننا نحب أن نسمع كل الأفكار، حتى نبتكر ما يفوقها، ولقد خسرنا الكثير مما فكّرنا به وألغيناه حين وَرَدَ على لسان الأصدقاء، إننا بحاجة دائمة إلى هذا التحدّي الذي يأخذنا في حال التجلّي إلى الجديد والمدهش».
***
كان الأخوان يعملان بسرعة فائقة في الكتابة وفي التلحين، ولم يكن وقتهما مكرَّساً للشغل، وكانا مغرمين باللقاءات والسهرات ومن عشّاق الأكل المتقن، بل من الخبراء فيه، خصوصاً السَمَك، حيث كان منصور علاَّمة بأنواعه وطُرُق وأساليب تحضيره! هذه اللقاءات – حتى مآدب الأكل – كان أغلبها يتمّ في المكتب، حيث الحوارات اليومية في شؤون وشجون الناس سياسياً، ثقافياً وفنياً.
***
في عام 1976 كنتُ مع عاصي نشرب القهوة في المكتب، وذلك بعد مروره بالأزمة الصحّية الخطيرة التي أصابته قبل أربع سنوات، ومن دون تمهيد أو مقدمات قال لي: هل تعلم بأن اجتيازي للعارض الصحي لم يكن فقط بسبب العناية الطبّية الكبيرة، فقلتُ له: وهل هناك من سبب آخر غير براعة الأطباء وتجاوبك مع العلاج؟ قال لي: أنت تعلم بأنني مؤمن، وأن إيماني صادق، فعندما أُصبتُ في رأسي وشاع الخَبَر سريعاً عبر الإعلام في لبنان وكل الدول العربية، كَثُرَت صلوات وابتهالات المحبِّين بمختلف انتماءاتهم الدينية، طالبين من الله أن يرأف بي، ثم تابع قائلاً: هذه الصلوات شكّلَتْ طاقة إيجابية قوية فاعلة وَصَلتني وأثَّرَت في حالتي وساهمت كثيراً في خروجي من ذلك الانفجار المميت حيّاً مع بعض الخسائر!
***
أنتج الأخوان رحباني 25 مسرحية غنائية من عام 1957 حتى عام 1982، وكتبا عديداً من الاسكتشات الإذاعية والحلقات التلفزيونية، وثلاثة أفلام سينمائية هي: «بياع الخواتم، (1965)، سفر برلك (1967)، بنت الحارس» (1968).
بعد وفاة عاصي أكمل منصور المسيرة، واستمر 23 عاماً أنتج خلالها 11 مسرحية من عام 1987 وحتى عام 2008، ورحل في الثالث عشر من  يناير عام 2009.
كان آخر ظهور للأخوين رحباني مع السيدة فيروز في بعلبك عام 1974، ثم ظهرت السيدة على أدراج بعلبك من جديد من دون عاصي – ولآخر مرّة – في الرابع عشر من  أغسطس – 1998 مع منصور، حيث غنَّت وقتذاك وكأنها تخاطب الراحل عاصي:
وطَلَّيت عا بعلبك بعد عشرين سنة
إسأل إذا شافك حدا تا يدلّني
لا تقول منَّك هون، بعدو عالدراج
خيالك وبعدا طايرا فيك الدني .