ومضات من الأدب الرّحباني

ومضات من الأدب الرّحباني

شغل الفنّ الرّحباني السّاحة اللّبنانية، والعالم العربيّ، بل العالم بأسره، منذ أواسط القرن الماضي، ولم يزل. وشقّ لنفسه طريقاً يمتاز عن غيره بخصائص ومميّزات فريدة، باتَت تُعْرَف بالمدرسة الرحبانيّة، تقوم على الإبداع، والفرادة، والرؤية، والجمال الإيقاعي، والتصويري، حتّى غدا نهجاً يُحتذى.  فكيف تجلّت فيه مظاهر القِيَم والتراث والجمال؟ 
إنّ الأحوال الاجتماعيّة في لبنان، وسائر الدول المجاورة، بدأت تشهد تبــدلاً انقلابيّاً في كل وجوهها، ذلك أنّ العولمة غَزَتْ معظم بقاع العالم، ومنها بلدنا، فبدّلت التّراث، والقِيَم، والمفاهيم، وغيّرت العادات، وأنماط العيش، فما كان يشتهيه المرء من أغانٍ ومسرحيّات، في القرن الماضي، لم يَعد يأبه له اليوم، أو بات يواجهه بفتور، لأنّ العولمة تحاول أنْ تُثبّت قيَماً ومفاهيم جديدة. لذلك، ارتأيْنا أنْ نرصد تلك الحقبة، قبل أنْ يمضي بها الزمان، من خلال الأدب الرحباني الّذي يخاطبنا بلغة الأجداد والآباء، ويذكّرنا بقيَمهم، وعاداتهم الحسنة التي نحن بأمسّ الحاجة إليها، في مجتمع بات يترنّح روحيّاً، وإنسانيّاً، أمام هجمات «المادة» المتتالية، وعليه، فهذا الأدب، وإنْ ظنّ بعض أبناء هذا العصر أنّه لم يعدْ يناسب عصر التكنولوجيا والعولمة،  سيبقى - في نظرنا - مرجعاً صالحاً للقيَم الشرقية المُسْتقاة من التّعاليم السّماوية السّامية، ما دام الإنسان مادّة وروحاً، وسيستمر كذلك... فالقيم من الخصائص التي ينفرد بها الإنسان عن سائر المخلوقات، وقد تجلّت في الأدب الرّحباني، متعدّدة المناحي: الرّوحية، والأخلاقية، والوطنيّة، والقوميّة.

مظاهر القيم الرّوحيّة
- المحبّة:  «كان الزّعل غربة  مْرَقْنا عَ جِسْر القمر ولقينا المحبّة  عَ حفّة جسر القمر
 وسمعتْهُنْ
عميبغضو بعض وِتْفَرَّقوا بهالكون، وْهَوْني حَبَسْني عَ الجسر بُغْض، وْرَحْ ضَلْ وحدي
هَوْنْ، تَالحُبّ يجمعْهُنْ، وْلَيِّي يرَجِّعْهُن» (مسرحية جسر القمر).
- الإيمان: «أومِنْ أَنْ خَلْفَ الحبّات الوادعات تزهو جنّات 
 أومن أنْ خلفَ الليل العالي الأمواج يعلو سِراج...».
- الرّجاء: «مهما طال الليل الصّبح جايي الزّهر بيرجع يطلع بِشْقوق الحيطان...» (مسرحية الربيع السابع).
- الصّلاة: «ساعدْني يا نبع الينابيع يا سيّد العطايا ساعدْني» (مسرحية جبال الصوان).
 «يا ساكن العالي طلّ من العالي 
عيْنَكْ علينا على أراضينا رَجِّع إخْوِتنا وأهالينا...».

مظاهر القيم الأخلاقيّة
- تعليم الأبناء محبّة الله والوطن:
«رَبّي ولادِك ع الرِّضى بالمحبّة والرِّضى... وقوليلهن لبنان، بعد الله يعبدو لبنان» (مسرحية ناطورة المفاتيح).
- إكرام الضّيف: «أهلا وسَهْلا فيكِ  ببلدنا مَيْس الرّيم» (مسرحية ميس الريم).
- الأمانة: «أنا بَعْطي وإنتو عِدّو  عَ هِمِّتْكُن وْدِمِّتْنا ما هي أحْلى من دِمِّتْكُن» (مسرحية الليل والقنديل).
- التّعاون: «نحن بهالدّني متْكَتْلين مع بعضنا، والّلي بيصير عليك بيصير علينا».
- الأمانة الزّوجيّة: «الماضي، الطّفولة، أهلِكْ، الجيران، كُلّْهُنْ نِسْيان، غَيْرو ولا إنْسان، بالفقر بتكوني معو، وبالعزّ بتكوني معو» (مسرحية موسم العز).
- العلاقة الحسنة بين الجيران: «يا جيراني بخاطركن، لا تِنْسوني بخاطركن، ضلّو بغيابي طلّو عَ الدّار، عَالبوّابة وِزْهور الدّار، وْليليّة افتكرو فيّي، واشتاقو عليّي».
وهكذا، فإنّ القيَم الرّوحيّة، والقِيَم الأخلاقيّة مترابطة ومتلازمة في الأدب الرّحباني، إذ لا إيمان لِمَنْ ليس له أمانة، ولا دين لِمَنْ ليس له وفاء.
   
مظاهر القيم  الوطنيّة
إضافة إلى ما سبق، فقد انطوى هذا الفنّ على حبّ الوطن، وبدا ذلك عبر الأشعار الوطنيّة المُغنّاة: «عودة العسكر»، «بيّي راح مع العسكر»، «وَعْدي إلَك»، «قصرَكْ لامع»، «عَ ساحة البرج»، «وَطَني يا جبل الغَيم الأزرق»، «بيقولو زغيّر بلدي»... فضلاً عن التّعابير البطوليّة الّتي مازالت تردّدها الألسنة حتى اليوم، شعراً أو نثــــراً في المواقف العَصِيبة: «بَدّكُن الاستقلال، اعتمدوا على الله، وعَ حالكن. خدوه بالقوة، بضربة السيف اللي بتضوي». «قاطع مثل العدل، مِحْني مثل التواضع، وبْحَدّو الفاصل بتخلّص لبنان». «كتار قلال شو هَمّ، مِنْكمّل بالّلي بقيو». وإذا كان هذا الأدب يمدح  البطولات، ويفتخر بالوطنيين من الرجالات، فذلك من دون شكّ بهدف إشعال مصابيح تضيء طريق من يُعوزهم المثل الأعلى ليهتدوا.
 
مظاهر القيم القوميّة
إنّ إخلاصهم لوطنهم، لم يمنعهم من التّضامن مع قضايا الأمّة العربية، وعلى رأسها القضية الفلسطينية التي هزّت الضمير العالمي، ولاتزال، فغنَّوها في أكثر من قصيدة «زهرة المدائن - نهار آخر - وسنرجع يا يافا - بَيْسَان - يا جسراً خشبيّاً - جسر العودة - راجعون - سنرجع يوماً» (الأخوان رحباني - قصائد مغناة ط 1 - 2007)، وأَوْحوا إلى ضرورة تحريرها من خلال الاعتماد على الذّات، واعتماد المقاومة الداخلية. ولم يكتفوا بذلك بل أشادوا بفخرٍ وعزَّة بأمجاد بعض الدول العربية العريقة في التاريخ، الموغلة في الحضارة: بغداد، ومصر، وسوريا، والأردن، والإمارات.

مظاهر التّراث
وما يزيد أهمية هذا الأدب، في اعتقادنا، كونه يربط التّراث ربطاً وثيقاً بالإنسان، ويسعى للحفاظ على هويّة المجتمع القائم فيه، من ناحية لغته الشّعبيّة، وعاداته، وتقاليده التي تشكّل انسياب نسغ الحياة الاجتماعيّة من جيل إلى جيل. فقد أطْلَعَ الأجيال النّاشِئة على: الطّربوش، والشّروال، والقَيْمَة، والإصابة بالعين، وظريف الطّول، وأبي الزّلف، والزّجل، والدّبكة، والتّجمّعات في ساحة الضّيعة أيام الأعياد والأعراس، وسُلْطة المختار المعنويّة، ودَور النّاطور، ومَغْزل الصّوف، ودودة القزّ...  وبهذا يكون الأدب الرحباني قد وثّق التّراث الشّعبيّ الشّفهي، من خلال المسرحيّات والأغاني، وجعله أكثر منعةً وثباتاً, ويكون خير شاهدٍ على بيئته، حتّى لكأنّ مَنْ يطّلِع عليه مكتوباً، أو يسمعه مُغَنًّى، أو يشاهده على مسرحٍ، يخل نفسه في عرس قرويّ يعيش الأصالة والتّراث، وفي سهرة مُقمِرة يُناجي الحبيب، وفوق قِمَمِ لبنان يلامس النجوم، ويُداعب القمر «نحن والقمر جيران».  
ولقد أثْبَتَت الأيام أنّ بعلبك وبيروت ضاقَتا بالرحابنة فطاروا إلى دمشق، والجرش، وقرطاج، وأمريكا... وكلِّ بلدٍ حطّ اللبنانيون رحالهم به، حاملين معهم أمجاد وطنهم، وأفكارهم، ورؤاهم، وأدبهم الإنساني الذي يلامس قضايا كلّ نفس بشرية. ولقد انفتحوا على موضوعات متنوعة فتطرّقوا إلى الحصّادين، والحطّابين، والفلّاحين، وماسِحي الأحذية، والعمّارين، وصيّادي السّمك، وصغار الباعة، والشّرطة، والعسكر، والأمير، والإمبراطور، والمختار، والناطور، والغاصب المحتلّ، والعميل، والشّهيد، والمقاوم، والقُضاة، والّلصوص، والجَدّ، والجَدّة، والأبناء، والأحفاد، والعريس، والعروس، والغنيّ، والفقير، والأسْرة، والزّواج، والمرأة المُقاوِمَة، والمرأة الحبيبة، والحبّ، والبغض، والخرافات، والعادات والسُّلطة، والانكسار، والانتصار، والصلاة، والإيمان.

مظاهر الجمال
وهكذا، فإنّ الأدب الرّحبانيّ متّصلٌ اتّصالاً وثيقاً بمخزون ثقافي حضاريّ، ومرتبط بمجتمعه في شتّى صُوَره وأبعاده، غير أنّ هذه الصُّور ليست نقلاً فوتوغرافيّاً، ومرآة مسطّحة تعكس الواقع المرئي المحدود، وحسب، بل إنّها تنطوي على فكر رؤيوي ينطلق من المنظور إلى اللامنظور،  ومن المحدوديّة الجغرافيّة الى الشموليّة الإنسانيّة، مسلّحاً بفنون الجماليّات والرؤى الفنيّة التي تحوّل الواقع الماديّ المحدود إلى واقع لغوي فنيّ يحمل رسالة عامّة، بناءً عليه، فاللفظة الرّحبانيّة تخطّت علاقتها بالمعجم، لتكتسب معاني ودلالات تضمينيّة ترتبط بالبيئة والثّقافة والحضارة، وتخطّت كونها حروفاً جامدة، لتغدو أنغاماً ناطقة تفيض بالطاقة الإيحائيّة... كما أنّ الصّور الرّحبانيّة تعدّت الدّور التّزيينيّ المحدود إلى الدّور التّعبيريّ عن مواقف الحياة، فأصبحت صُوَراً نفسيّة انفعاليّة، تزخر بالرّموز. ويمكن القول إنّ غالبيّة هذه الصّور القائمة على التّشبيه والاستعارة مستوحاة من الطّبيعة، ولا غرو في ذلك، فبيئة الرحابنة غنيّة بالمناظر الطبيعيّة:
- «تقفون كشجر الزّيتون كجذوع الزّمن تُقيمون كالزّهرة كالصّخرة في أرض الدّار تُقيمون» (الأخوان رحباني - قصيدة جسر العودة ص86 - 2007).
- «أشرقت عيناه سحراً مثلما يُشرق الصّبح بيوم مشمس».
- «أنا جئتُ من لبنانَ من وطنٍ إنْ لاعَبَتْهُ الرّيح تنْكَسِرُ صيفاً، ولونَ الثّلجِ حمّلني وَاَرَقَّ ما يندى بهِ الزّهَرُ».
- «يا هموم الحبّ يا قُبَلُ  في بحار الشّوق تَغْتَسِلُ».

الخلاصة
صحيح أنّ الرّحابنة من قرية لبنانيّة، لكنهم انتزعوا المجد العالميّ انتزاعاً، في زمن عجز غيرهم فيه عن تحقيق مثله. ولا شكّ في أنّ بعضاً من نجاحهم، يكمُن في انطلاقهم من بساطة الحياة الواقعيّة المحليّة، ودخولهم أدقّ تشعبات القضايا الإنسانيّة، السياسيّة، والعاطفيّة، والوطنيّة، والروحيّة.
وهكذا يكون الأدب الرّحبانيّ قد بُنيَ على تداخل بين القيم الأخلاقيّة، والقيم الجماليّة الفنّية. فالجمال الحرّ، وحرية الجمال مرهونان بتحديد المستوى الأخلاقي لهما. وبهذا أصبح هذا الأدب وسيلة من وسائل التثقيف القِيمِيّ والحضاري، ومدرسة لتعليم الانتماء الوطنيّ والقوميّ.
استناداً إلى ما سبق، فإنّ جمال أدب الرحابنة هو جمال الأخلاق، كما أنّه أخلاق الجمال. ولا  نغالي، هنا، إذا قلنا إنّ القِيَم الأخلاقية، في هذا الأدب، شكلٌ من أشكال الجمال.
ولا مجال للشّكّ في أنّ للسّيدة فيروز دوراً رئيساً في شهرة هذا الأدب، إذ إنّ صوتها يُجسّد مشاعرَها وانفعالاتِها، ويرسم مشاعر الأخوين في مواقف عديدة مختلفة. ففي الصّلاة، ينساب رقيقاً بين الضّلوع في ترانيم ترفع الأفكار فوق الماديّ المحسوس، وفي التّغزّل، يتسلّل بنعومته إلى الأفئدة العاشقة يُداعبها ويؤنسها، وفي استنهاض الشّعوب الخانعة، يهدر بصلابته يُحفّز الهمم المتراخية ويؤجّج نار الانتفاضة، وفي حال الافتخار بالوطن، يفجّر بأصالته المشاعر الوطنيّة ويوقد الحميّة في القلوب... وهكذا، تُعَدُّ فيروز ركناً رئيساً في نجاح الأدب الرّحبانيّ، وَسِعَة شهرته وانتشاره.

ملاحظتان
1 - لقد اعتمدْنا لقب «الرّحابنة» بدلاً من «الأخوين رحباني» لا جهلاً بأصول اللغة، وقواعدها، ولا عجزاً عن تمييز المثنّى من الجمع، ولا اختصاراً للعائلة الرّحبانيّة الكريمة بالأخوين (عاصي ومنصور)، فقط، فالرّحابنة كثر، ونحن نعرف ذلك. ولكنّنا اعتمدنا هذا اللقب  تجنّباً لصيغة المثنّى، كتابة، وقراءة، وسمعاً، كونها مُسْتَثقلة في اللغة العربيّة، إضافة إلى أنّ «الأخوين» معروفان في العالم الفنّي باسم «الرّحابنة» وليس باسم «الرّحبانِيَّيْن». وهكذا رأينا أنَ هذا الاصطلاح لن يترك لبساً في الفهم، أو إرباكاً للقارئ.
2 - تناولت هذه الدّراسة القصيرة القليل من الأدب الرّحباني، بسبب ضيق الفسحة المخصّصة لها. ومَنْ أراد الاستزادة يمكنه الاطّلاع على أطروحة: «الأدب الرحباني: رؤية وجمال». د.ميشال فارس حنّا، الجامعة اللبنانيّة، كليّة الآداب، بيروت.لبنان.2013.