العقاد يفند بعض المفتريات حول اللغة العربية

العقاد يفند بعض المفتريات حول اللغة العربية

نزل‭ ‬القرآن‭ ‬الكريم‭ ‬على‭ ‬قلب‭ ‬رسولنا‭ ‬الأمين‭ {‬بِلِسَانٍ‭ ‬عَرَبِيٍّ‭ ‬مُبِينٍ‭}‬‭ (‬الشعراء‭: ‬195‭)‬،‭ ‬ورسول‭ ‬الإسلام،‭ ‬عليه‭ ‬الصلاة‭ ‬والسلام،‭ ‬عربي‭. ‬وتراثنا‭ ‬الحضاري‭ ‬الباهر‭ ‬الذي‭ ‬نفخر‭ ‬ونعتز‭ ‬به‭, ‬وتملأ‭ ‬نماذج‭ ‬منه‭ ‬مكتبات‭ ‬العالم‭ ‬شرقا‭ ‬وغربا‭, ‬وتعلّم‭ ‬العالم‭ ‬كله‭ ‬في‭ ‬ضوء‭ ‬نوره‭ ‬وهداه‭, ‬سُجِّلَ‭ ‬باللسان‭ ‬العربي‭ ‬المبين‭, ‬على‭ ‬الرغم‭ ‬من‭ ‬أن‭ ‬كثيرا‭ ‬ممن‭ ‬أسهموا‭ ‬في‭ ‬صياغته‭ ‬وَوَضْع‭ ‬لبناته‭ ‬لم‭ ‬يكونوا‭ ‬عربا‭, ‬وإنما‭ ‬اتخذوا‭ ‬اللسان‭ ‬العربي‭ ‬نافذة‭ ‬ومنبرا‭, ‬يطلون‭ ‬بعلمهم‭ ‬على‭ ‬العالم‭ ‬من‭ ‬خلاله‭, ‬منذ‭ ‬أن‭ ‬اتخذوا‭ ‬من‭ ‬الإسلام‭ - ‬الذي‭ ‬أيقظ‭ ‬مواهبهم‭ ‬وشحذ‭ ‬هممهم‭ -‬‭ ‬دينا‭. ‬

يتحرق‭ ‬المسلم‭ ‬المعاصر‭ ‬في‭ ‬هذه‭ ‬الأيام‭ ‬ألما‭, ‬ويذوب‭ ‬كمدا‭ ‬وأسى‭ ‬لواقعه‭ ‬المؤلم‭, ‬وأزمته‭ ‬الحضارية‭ ‬الطاحنة‭, ‬وهو‭ ‬نفسه‭ ‬من‭ ‬أهم‭ ‬أسبابها‭. ‬فقد‭ ‬أصبحنا‭ ‬نحارب‭ ‬لأعدائنا‭ ‬معاركهم‭, ‬ونسعى‭ ‬لتحقيق‭ ‬أهدافهم‭ ‬بمبررات‭ ‬ممسوخة‭, ‬ومسوغات‭ ‬شوهاء‭, ‬على‭ ‬حساب‭ ‬ماضينا‭ ‬وحاضرنا‭, ‬بل‭ ‬وعلى‭ ‬حساب‭ ‬المستقبل‭ ‬الذي‭ ‬هو‭ ‬ملك‭ ‬لأبنائنا‭, ‬والمفترض‭ ‬أننا‭ ‬أمناء‭ ‬عليه‭. ‬وكما‭ ‬يتعرض‭ ‬العرب‭ ‬والمسلمون‭ ‬لمسلسل‭ ‬من‭ ‬الهجمات‭ ‬والانتكاسات‭, ‬تتعرض‭ ‬لغتهم‭ ‬أيضا‭ ‬لما‭ ‬يشبهه‭, ‬إلا‭ ‬أن‭ ‬أكثر‭ ‬ما‭ ‬يؤلمنا‭ ‬في‭ ‬هذه‭ ‬الحالة‭ ‬هو‭ ‬أن‭ ‬يأتي‭ ‬الهجوم‭ ‬هذه‭ ‬المرة‭ ‬من‭ ‬داخلنا‭, ‬ولا‭ ‬أجد‭ ‬ما‭ ‬أقوله‭ ‬مما‭ ‬يتناسب‭ ‬مع‭ ‬هذا‭ ‬التردّي‭ ‬إلا‭ ‬قول‭ ‬زعيم‭ ‬الأمناء‭ ‬المرحوم‭ ‬الأستاذ‭ ‬أمين‭ ‬الخولي‭ ‬مما‭ ‬جاء‭ ‬في‭ ‬كتابه‭ ‬‮«‬فن‭ ‬القول‮»‬‭, ‬وكأني‭ ‬به‭ ‬لايزال‭ ‬بين‭ ‬ظهرانينا‭ ‬يشهد‭ ‬ما‭ ‬نحن‭ ‬فيه‭ ‬من‭ ‬مآس‭ ‬ومحن‭, ‬حيث‭ ‬قال‭: ‬‮«‬وإذا‭ ‬لم‭ ‬تكن‭ ‬اللغة‭ ‬عند‭ ‬أهلها‭ ‬أنفسهم‭, ‬في‭ ‬منزلة‭ ‬كريمة‭, ‬فما‭ ‬مكانها‭ ‬في‭ ‬الدنيا‭ ‬بعد‭ ‬ذلك؟‭ ‬وما‭ ‬منزلتها‭ ‬في‭ ‬الوجود‭ ‬وراء‭ ‬هذا؟‭ ‬وليس‭ ‬بدعا‭ ‬أن‭ ‬نشعر‭ ‬بالصلة‭ ‬الوثيقة‭, ‬والعلاقة‭ ‬القريبة‭ ‬جد‭ ‬القرابة‭, ‬بين‭ ‬وجودنا‭ ‬السياسي‭ ‬وحياتنا‭ ‬اللغوية‭, ‬وبين‭ ‬كياننا‭ ‬العالمي‭ ‬ووجودنا‭ ‬اللساني‭, ‬وبين‭ ‬كرامتنا‭ ‬الدولية‭ ‬ومكانتنا‭ ‬الأدبية‭. ‬فتلك‭ ‬كلها‭ - ‬في‭ ‬نظر‭ ‬الاجتماعي‭ - ‬وشائج‭ ‬متواصلة‭, ‬وأواصر‭ ‬متداخلة‭, ‬لا‭ ‬يشعر‭ ‬بينها‭ ‬بانفصال‭, ‬ولا‭ ‬يجد‭ ‬تباعدا‭. ‬ونحن‭ ‬لا‭ ‬نعيش‭ ‬إلا‭ ‬بكرامتنا‭ ‬الاجتماعية‭, ‬ولا‭ ‬نستطيع‭ ‬أن‭ ‬نعيش‭ ‬بغيرها‮»‬‭.‬

فاللغة‭ ‬هي‭ ‬مستودع‭ ‬التراث‭ ‬ووعاء‭ ‬الفكر‭, ‬وهي‭ ‬ظاهرة‭ ‬إنسانية‭ - ‬اجتماعية‭, ‬تُعرف‭ ‬بها‭ ‬الملامح‭ ‬المميزة‭ ‬لكل‭ ‬مجتمع‭ ‬في‭ ‬كل‭ ‬عصر‭ ‬من‭ ‬عصور‭ ‬التاريخ‭, ‬فهي‭ ‬كما‭ ‬يقول‭ ‬ابن‭ ‬جنّي‭ ‬في‭ ‬كتابه‭ ‬‮«‬الخصائص‮»‬‭: ‬أصوات‭ ‬يعبّر‭ ‬بها‭ ‬كل‭ ‬قوم‭ ‬عن‭ ‬أغراضهم‭. ‬على‭ ‬أن‭ ‬اللغة‭ ‬العربية‭ ‬لها‭ ‬حتى‭ ‬خصوصية‭ ‬تتمتع‭ ‬بها‭ ‬دون‭ ‬سائر‭ ‬اللغات‭ ‬الأخرى‭ ‬تستمدها‭ ‬من‭ ‬كونها‭ ‬لغة‭ ‬القرآن‭ ‬الكريم‭, ‬الذي‭ ‬لايزال‭ ‬عاملاً‭ ‬في‭ ‬ضمير‭ ‬المسلمين‭ ‬على‭ ‬تأكيد‭ ‬أن‭ ‬‮«‬العربية‮»‬‭ ‬جزء‭ ‬من‭ ‬الحقيقة‭ ‬الإسلامية‭, ‬وهي‭ ‬أيضاً‭ ‬إحدى‭ ‬دعائم‭ ‬عروبتنا‭ ‬الأساسية‭ ‬إن‭ ‬لم‭ ‬تكن‭ ‬أهمها‭ ‬على‭ ‬الإطلاق‭. ‬وهذا‭ ‬الارتباط‭ ‬بين‭ ‬اللغة‭ ‬والعقيدة‭ ‬والهُوِيَّة‭ ‬سِمة‭ ‬تفردت‭ ‬بها‭ ‬اللغة‭ ‬العربية‭, ‬ما‭ ‬جعلها‭ ‬محل‭ ‬استهداف‭ ‬أعداء‭ ‬الإسلام‭ ‬الذين‭ ‬يرمون‭ ‬إلى‭ ‬تقويض‭ ‬العقيدة‭ ‬في‭ ‬النفوس‭ ‬بإعمال‭ ‬معاولهم‭ ‬لهدم‭ ‬اللغة‭ ‬العربية،‭ ‬لكونها‭ ‬سياج‭ ‬هوية‭ ‬الأمة‭, ‬الذي‭ ‬يوجد‭ ‬بين‭ ‬عواطف‭ ‬العرب‭ ‬ومشاعرهم‭, ‬في‭ ‬الأفراح‭ ‬والأتراح‭, ‬فتؤلف‭ ‬بين‭ ‬أسلوب‭ ‬تفكيرهم‭ ‬وآدابهم‭ ‬وسلوكهم‭. ‬

  ‬فكيف‭ ‬بالله‭ ‬تصبح‭ ‬لغتنا‭ ‬العريقة‭, ‬لغة‭ ‬القرآن‭ ‬الكريم‭, ‬لغةً‭ ‬مهجورة‭ ‬من‭ ‬أبنائها‭, ‬حتى‭ ‬بتنا‭ ‬نتمسح‭ ‬في‭ ‬لغات‭ ‬غيرنا‭, ‬ونكتب‭ ‬على‭ ‬واجهات‭ ‬محالّنا‭ ‬وحوانيتنا‭ ‬هذا‭ ‬الخليط‭ ‬العجيب‭, ‬من‭ ‬لغات‭ ‬أهل‭ ‬الأرض‭, ‬التي‭ ‬كان‭ ‬أصحابها‭ ‬يلهثون‭ ‬وراءنا‭, ‬ويتعلمون‭ ‬لغتنا،‭ ‬لكى‭ ‬ينهضوا‭ ‬ويفيقوا‭ ‬من‭ ‬سباتهم‭ ‬الطويل؟‭ ‬لقد‭ ‬أصبحت‭ ‬لغتنا‭ ‬لغة‭ ‬الـ‭ ‬‮«‬Take away‮»‬‭ ‬كما‭ ‬يقولون‭, ‬ولكنهم‭ ‬يكتبونها‭ ‬بالحروف‭ ‬العربية‭ ‬ولا‭ ‬يخجلون‭! ‬

 

من‭ ‬الشعوبيين‭ ‬إلى‭ ‬المستشرقين

اللغة‭ ‬العربية‭, ‬دون‭ ‬غيرها‭ ‬من‭ ‬سائر‭ ‬اللغات‭ ‬تتعرض‭ ‬بين‭ ‬الحين‭ ‬والحين‭ - ‬للأسباب‭ ‬التي‭ ‬أشرنا‭ ‬إليها‭ ‬آنفاً‭ - ‬إلى‭ ‬حملات‭ ‬التشويه‭ ‬والتدمير‭, ‬سواء‭ ‬من‭ ‬غير‭ ‬العرب‭ ‬من‭ ‬المستشرقين‭ ‬الأوربيين‭ ‬أو‭ ‬ممن‭ ‬يسيرون‭ ‬في‭ ‬فلكهم‭ ‬من‭ ‬الناطقين‭ ‬بلغة‭ ‬الضاد‭, ‬مثلما‭ ‬تعرضت‭ ‬قديماً‭ ‬لمن‭ ‬يُعرفون‭ ‬بالشعوبيين‭. ‬فهي‭ ‬إذن‭ ‬حملة‭ ‬قديمة‭ - ‬جديدة‭, ‬تستهدف‭ ‬في‭ ‬الأساس‭ ‬معتقداتنا‭ ‬وتراثنا‭ ‬وماضينا،‭ ‬بل‭ ‬ومستقبلنا،‭ ‬لما‭ ‬لهذه‭ ‬اللغة‭ - ‬على‭ ‬وجه‭ ‬الخصوص‭ - ‬من‭ ‬الارتباط‭ ‬بالدين‭, ‬ومن‭ ‬ثم‭ ‬فهي‭ ‬مرتبطة‭ ‬بهوية‭ ‬المسلم‭ ‬وتشكيل‭ ‬عقله‭ ‬ووجدانه‭ ‬وثقافته‭ ‬بوجه‭ ‬عام‭.‬

وقد‭ ‬وقف‭ ‬الشعوبيون‭ ‬القدماء‭ ‬موقف‭ ‬العداء‭ ‬من‭ ‬لغة‭ ‬القرآن‭, ‬فتصدى‭ ‬لهم‭ ‬علماء‭ ‬العربية‭, ‬الواقفون‭ ‬على‭ ‬أسرارها‭ ‬في‭ ‬ذلك‭ ‬الوقت‭ ‬ومنهم‭ ‬ابن‭ ‬قتيبة‭ ‬الدّينوري‭ (‬213-276هـ‭) ‬القائل‭: ‬‮«‬وقد‭ ‬اعترض‭ ‬على‭ ‬كتاب‭ ‬الله‭ ‬بالطعن‭ ‬مُلحدون‭, ‬ولغَوْا‭ ‬فيه‭ ‬وهجروا‭, ‬واتبعوا‭  ‬ما‭ ‬تشابه‭ ‬منه‭ ‬ابتغاء‭ ‬الفتنة‭ ‬وابتغاء‭ ‬تأويله‭, ‬بأفهام‭ ‬كليلة‭, ‬وأبصار‭ ‬عليلة‭, ‬ونظر‭ ‬مدخول‭, ‬فحرفوا‭ ‬الكلام‭ ‬عن‭ ‬مواضعه‭, ‬وعدّلوه‭ ‬عن‭ ‬سبله‭, ‬ثم‭ ‬قضوا‭ ‬عليه‭ ‬بالتناقض‭ ‬والاستحالة‭, ‬في‭ ‬اللحن‭, ‬وفساد‭ ‬النظم‭ ‬والاختلاف‭, ‬وأدلوا‭ ‬في‭ ‬ذلك‭ ‬بعلل‭ ‬ربما‭ ‬أمالت‭ ‬الضعيف‭ ‬الغَمْر‭, ‬والحدَث‭ ‬الغِر‭, ‬واعترضت‭ ‬بالشُبَه‭ ‬في‭ ‬القلوب‭, ‬وقدحت‭ ‬بالشكوك‭ ‬في‭ ‬الصدور‭... ‬فأحببت‭ ‬أن‭ ‬أنضح‭ ‬عن‭ ‬كتاب‭ ‬الله‭, ‬وأرمي‭ ‬من‭ ‬ورائه‭ ‬بالحجج‭ ‬النيِّرة‭, ‬والبراهين‭ ‬البيِّنة‭, ‬وأكشف‭ ‬للناس‭ ‬ما‭ ‬يلبسون‮»‬‭.‬

وقد‭ ‬منيت‭ ‬‮«‬العربية‭ ‬الفصحى‮»‬‭ - ‬كما‭ ‬يقول‭ ‬د‭.‬رمضان‭ ‬عبدالتواب‭, ‬رحمه‭ ‬الله‭ -‬‭ ‬في‭ ‬العصر‭ ‬الحديث‭ ‬بخصوم‭ ‬حاقدين‭, ‬وأعداء‭ ‬ألداء‭ ‬من‭ ‬الشعوبيين‭ ‬الجدد‭ ‬من‭ ‬أمثال‭ ‬المستشرق‭ ‬الألماني‭ ‬تيودور‭ ‬نولدكه‭ ‬وغيره‭, ‬وليست‭ ‬تلك‭ ‬الهجمة‭ ‬الضارية‭ ‬إلا‭ ‬جزءاً‭ ‬من‭ ‬الهجوم‭ ‬على‭ ‬الدين‭ ‬الإسلامي‭ ‬الحنيف،‭ ‬لما‭ ‬فطن‭ ‬له‭ ‬أعداء‭ ‬هذا‭ ‬الدين‭ ‬من‭ ‬الارتباط‭ ‬الوثيق‭ ‬بينه‭ ‬وبين‭ ‬اللغة‭ ‬العربية‭ ‬الفصحى‭, ‬ومن‭ ‬قبله‭ ‬كانت‭ ‬دعوة‭ ‬المستشرق‭ ‬الألماني‭ ‬ولهلم‭ ‬سبيتا‭ ‬إلى‭ ‬التحول‭ ‬من‭ ‬الفصحى‭ ‬إلى‭ ‬العامية‭, ‬وقد‭ ‬وضع‭ ‬كتاباً‭ ‬أسماه‭ ‬‮«‬قواعد‭ ‬اللغة‭ ‬العربية‭ ‬في‭ ‬مصر‮»‬‭, ‬وكذلك‭ ‬المستشرق‭ ‬الإنجليزي‭ ‬وليم‭ ‬ويلكوكس‭, ‬الذي‭ ‬كان‭ ‬يعمل‭ ‬مهندساً‭ ‬للري‭ ‬في‭ ‬مصر‭. ‬أما‭ ‬المستشرق‭ ‬المشهور‭ ‬ماسينيون‭ ‬فكان‭ ‬يدعو‭ ‬إلى‭ ‬استبدال‭ ‬الحروف‭ ‬اللاتينية‭ ‬بالحروف‭ ‬العربية‭, ‬وكان‭ ‬يدعو‭ ‬أيضاً‭ ‬إلى‭ ‬اللهجات‭ ‬العامية‭. ‬وفي‭ ‬يقينهم‭ ‬أنهم‭ ‬إن‭ ‬أزالوا‭ ‬الفصحى‭ ‬عن‭ ‬مكانتها‭ ‬الراسخة‭ ‬في‭ ‬القلوب‭ ‬منذ‭ ‬أربعة‭ ‬عشر‭ ‬قرنا‭ ‬من‭ ‬الزمان‭, ‬فقد‭ ‬أزالوا‭ ‬الحصن‭ ‬الأكبر‭ ‬من‭ ‬حصون‭ ‬هذا‭ ‬الدين‭ ‬الحنيف‭, ‬ويغيب‭ ‬عنهم‭ ‬أن‭ ‬الله‭ ‬تبارك‭ ‬وتعالى‭ ‬هو‭ ‬الذي‭ ‬تكفّل‭ ‬بحفظها‭ ‬حين‭ ‬تكفّل‭ ‬بحفظ‭ ‬القرآن‭ ‬في‭ ‬قوله‭ ‬تعالى‭ ‬من‭ ‬سورة‭ ‬الحجر‭ ‬في‭ ‬الآية‭ ‬التاسعة‭ {‬إِنَّا‭ ‬نَحْنُ‭ ‬نَزَّلْنَا‭ ‬الذِّكْرَ‭ ‬وَإِنَّا‭ ‬لَهُ‭ ‬لَحَافِظُونَ‭}‬‭.‬‭ ‬وعلى‭ ‬الرغم‭ ‬من‭ ‬ذلك،‭ ‬لم‭ ‬تهدأ‭ ‬المحاولات‭ ‬الجادة‭ ‬الحاقدة‭, ‬التي‭ ‬استهدفت‭ ‬اللغة‭ ‬العربية‭, ‬والعمل‭ ‬الحثيث‭ ‬نحو‭ ‬إحلال‭ ‬اللهجات‭ ‬العامية‭ ‬محلها‭ ‬أملاً‭ ‬في‭ ‬اقتراب‭ ‬اللغة‭ ‬العربية‭ ‬من‭ ‬نهايتها‭, ‬في‭ ‬المستقبل‭ ‬القريب‭, ‬كغيرها‭ ‬من‭ ‬اللغات‭ ‬القديمة‭ ‬التي‭ ‬اندثرت‭, ‬أو‭ ‬بقيت‭ ‬آثارها‭ ‬البسيطة‭ ‬كاللاتينية‭ ‬والسنسكريتية‭, ‬حتى‭ ‬أن‭ ‬تشارلز‭ ‬فيرجسون‭, ‬العالم‭ ‬اللغوي‭ ‬الأمريكي‭ ‬المعروف‭, ‬توقّع‭ ‬أن‭ ‬تكون‭ ‬النهاية‭ ‬في‭ ‬العام‭ ‬2150م‭ ‬عندما‭ ‬تظهر‭ ‬لغات‭ ‬رسمية‭ ‬عربية‭ ‬تَرِث‭ ‬الفصحى‭ ‬أمثال‭ ‬المغربية‭ ‬والمصرية‭ ‬والسورية‭ ‬والسودانية‭, ‬كما‭ ‬يسميها‭. ‬ولكننا‭ ‬نقول‭: ‬لهم‭ ‬هيهات‭.. ‬هيهات‭! ‬مهما‭ ‬مكرتم‭ ‬وفكرتم‭ ‬ودبرتم‭! ‬وصدق‭ ‬الله‭ ‬تعالى‭ ‬إذ‭ ‬يقول‭: ‬‭{‬وَيَمْكُرُونَ‭ ‬وَيَمْكُرُ‭ ‬اللَّهُ‭ ‬وَاللَّهُ‭ ‬خَيْرُ‭ ‬الْمَاكِرِينَ‭}‬‭ ‬‭(‬الأنفال‭: ‬30‭). ‬ولن‭ ‬يستطيعوا‭ ‬أن‭ ‬يطفئوا‭ ‬نور‭ ‬القرآن‭ ‬بإخماد‭ ‬العربية‭: ‬‭{‬يُرِيدُونَ‭ ‬لِيُطْفِئُوا‭ ‬نُورَ‭ ‬اللَّهِ‭ ‬بِأَفْوَاهِهِمْ‭ ‬وَاللَّهُ‭ ‬مُتِمُّ‭ ‬نُورِهِ‭ ‬وَلَوْ‭ ‬كَرِهَ‭ ‬الْكَافِرُونَ‭}‬‭ ‬‭(‬الصف‭: ‬8‭). ‬وقد‭ ‬أوضح‭ ‬د‭.‬حسين‭ ‬الهراوي‭, ‬منذ‭ ‬أوائل‭ ‬القرن‭ ‬الماضي‭, ‬أن‭ ‬الدعوة‭ ‬إلى‭ ‬العامية‭ ‬كانت‭ ‬إحدى‭ ‬الطرق‭ ‬التي‭ ‬تبناها‭ ‬المستشرقون‭ ‬ورواد‭ ‬الاستعمار‭ ‬وأذنابهم‭ ‬منذ‭ ‬زمن‭ ‬قديم‭, ‬وكانت‭ ‬هذه‭ ‬إحدى‭ ‬وسائلهم‭ ‬حتى‭ ‬لا‭ ‬يتفاهم‭ ‬المسلمون‭ ‬ولا‭ ‬يفهمون‭ ‬لغة‭ ‬قرآنهم‭.‬

 

الشعوبيون‭ ‬العرب

أما‭ ‬في‭ ‬الوطن‭ ‬العربي‭, ‬فقد‭ ‬ظهر‭ ‬كثير‭ ‬من‭ ‬الكتاب‭ ‬في‭ ‬العصر‭ ‬الحديث‭, ‬ممن‭ ‬يدْعون‭ ‬إلى‭ ‬العامية‭ ‬المحلية‭, ‬أو‭ ‬إلى‭ ‬كتابة‭ ‬العربية‭ ‬بحروف‭ ‬لاتينية‭.‬

وقد‭ ‬يؤدي‭ ‬كل‭ ‬ذلك‭ ‬إلى‭ ‬آثار‭ ‬وخيمة‭ ‬على‭ ‬الشعور‭ ‬بالانتماء‭ ‬القومي،‭ ‬ذلك‭ ‬أن‭ ‬اللغة‭ ‬ليست‭ ‬مجرد‭ ‬أصوات‭ ‬أو‭ ‬ألفاظ‭ ‬منطوقة‭, ‬أو‭ ‬كلمات‭ ‬مكتوبة‭, ‬وإنما‭ ‬هي‭ ‬كيان‭ ‬متكامل‭ ‬من‭ ‬الفكر‭ ‬والوجدان‭ ‬والتراث‭ ‬والتاريخ‭ ‬والقيم‭ ‬الدينية‭ ‬والأخلاقية‭, ‬كما‭ ‬أنها‭ ‬أداة‭ ‬اتصال‭ ‬وتواصل،‭ ‬ولذا‭ ‬فإن‭ ‬استبدال‭ ‬لغة‭ ‬بأخرى‭ ‬فيه‭ ‬إهدار‭ ‬لكل‭ ‬هذه‭ ‬الأبعاد‭, ‬وانسلاخ‭ ‬المجتمع‭ ‬نفسه‭ ‬عن‭ ‬تاريخه‭ ‬وعن‭ ‬ماضيه‭ ‬وعن‭ ‬هويته‭ ‬الثقافية‭, ‬كما‭ ‬أن‭ ‬فيه‭ ‬إضعافاً‭ ‬لعلاقته‭ ‬الثقافية‭ ‬والفكرية‭ ‬مع‭ ‬الأقطار‭ ‬الأخرى‭ ‬التي‭ ‬تشترك‭ ‬معه‭ ‬في‭ ‬تلك‭ ‬اللغة‭, ‬وفرق‭ ‬كبير‭ ‬بين‭ ‬أن‭ ‬يتعلم‭ ‬المرء‭ ‬اللغات‭ ‬الأجنبية‭ ‬لتكون‭ ‬وسيلة‭ ‬للتبادل‭ ‬الفكري‭ ‬مع‭ ‬الثقافات‭ ‬المختلفة،‭ ‬وبين‭ ‬أن‭ ‬يتبنى‭ ‬هذه‭ ‬اللغة‭ ‬أو‭ ‬تلك‭ ‬لتكون‭ ‬هي‭ ‬أداته‭ ‬في‭ ‬التفكير‭ ‬والتعبير،‭ ‬على‭ ‬حساب‭ ‬لغته‭ ‬الأصلية‭.‬

 

العقاد‭ ‬يتصدى‭ ‬للدفاع‭ ‬عن‭ ‬العربية

‭ ‬أما‭ ‬بكاء‭ ‬البعض‭ ‬من‭ ‬كثرة‭ ‬الحروف‭ ‬الساكنة‭ ‬مقارنة‭ ‬بنظيراتها‭ ‬في‭ ‬اللغات‭ ‬الأوربية‭ ‬‮«‬الحية‮»‬‭, ‬ودعوته‭ ‬لاختزالها‭ ‬فعجيب‭ ‬حقا‭, ‬ويدل‭ ‬ذلك‭ ‬على‭ ‬أنه‭ ‬أبعد‭ ‬ما‭ ‬يكون‭ ‬عن‭ ‬مناقشة‭ ‬مثل‭ ‬هذه‭ ‬القضايا‭, ‬إذ‭ ‬إن‭ ‬هذه‭ ‬إحدى‭ ‬مزايا‭ ‬العربية‭, ‬ولبيان‭ ‬ذلك‭ ‬نقول‭: ‬إن‭ ‬هذه‭ ‬الحروف‭ - ‬الزائدة‭ ‬عن‭ ‬الحاجة‭ ‬في‭ ‬نظر‭ ‬بعض‭ ‬المُتقوِّلين‭ - ‬وُجدت‭ ‬لتنهض‭ ‬بوظائفها‭ ‬في‭ ‬الوفاء‭ ‬بالمخارج‭ ‬الصوتية‭ ‬التي‭ ‬تتميز‭ ‬بها‭ ‬العربية‭, ‬على‭ ‬خير‭ ‬وجه‭, ‬دون‭ ‬التباس‭ ‬أو‭ ‬تكرار‭ ‬أو‭ ‬تعقيد‭, ‬يتمثل‭ ‬في‭ ‬اللجوء‭ ‬إلى‭ ‬أكثر‭ ‬من‭ ‬حرف‭ ‬أو‭ ‬حرفين‭ ‬كما‭ ‬في‭ ‬الإنجليزية‭ ‬والفرنسية‭ ‬وغيرهما‭.‬

ويوضح‭ ‬الأستاذ‭ ‬عباس‭ ‬العقاد‭ (‬28‭ ‬يونيو‭ ‬1889‭ - ‬12‭ ‬مارس‭ ‬1964‭) ‬هذه‭ ‬الميزة‭ ‬بشيء‭ ‬من‭ ‬التفصيل‭, ‬وعلى‭ ‬سبيل‭ ‬المثال‭ ‬فحرف‭ ‬‮«‬الذال‮»‬‭ ‬في‭ ‬‮«‬العربية‮»‬‭ ‬يقابله‭ ‬في‭ ‬الإنجليزية‭ ‬حرفان‭: ‬‮«‬th‮»‬‭ ‬كما‭ ‬في‭ ‬اسم‭ ‬الإشارة‭ ‬‮«‬this‮»‬‭. ‬أما‭ ‬حرف‭ ‬‮«‬الثاء‮»‬‭ ‬فيقابله‭ ‬في‭ ‬الإنجليزية‭ ‬الحرفان‭ ‬السابقان‭ ‬نفسهما،‭ ‬كما‭ ‬في‭ ‬كلمة‭ ‬‮«‬thank‮»‬،‭ ‬ما‭ ‬يؤدي‭ ‬إلى‭ ‬الالتباس‭. ‬وهناك‭ ‬ما‭ ‬هو‭ ‬أكثر‭ ‬من‭ ‬ذلك،‭ ‬فحرف‭ ‬‮«‬الشين‮»‬‭ ‬في‭ ‬العربية‭ ‬يقابله‭ ‬حرفان‭ ‬‮«‬sh‮»‬‭ ‬كما‭ ‬في‭ ‬‮«‬shake‮»‬،‭ ‬وأحيانا‭ ‬أخرى‭ ‬حرف‭ ‬‮«‬s‮»‬‭ ‬كما‭ ‬في‭ ‬الكلمة‭ ‬عربية‭ ‬الأصل‭ ‬‮«‬sugar‮»‬‭, ‬وكثيرا‭ ‬ما‭ ‬يقوم‭ ‬بذلك‭ ‬أكثر‭ ‬من‭ ‬حرفين‭ ‬كما‭ ‬في‭ ‬‮«‬nation‮»‬‭ ‬و‮«‬deficient‮»‬‭. ‬أما‭ ‬حرف‭ ‬‮«‬الكاف‮»‬‭ ‬فلا‭ ‬يقل‭ ‬في‭ ‬الالتباس‭ ‬عما‭ ‬سبقه‭, ‬فأحيانا‭ ‬يقوم‭ ‬مقامه‭ ‬في‭ ‬الإنجليزية‭ ‬حرف‭ ‬‮«‬k‮»‬‭, ‬وأحيانا‭ ‬أخرى‭ ‬حرف‭ ‬‮«‬c‮»‬‭ ‬كما‭ ‬في‭ ‬‮«‬camel‮»‬‭ ‬و‮«‬Cairo‮»‬‭, ‬وفي‭ ‬بعض‭ ‬الكلمات‭ ‬الأخرى‭ ‬يؤدي‭ ‬هذه‭ ‬الوظيفة‭ ‬حرفان‭ ‬‮«‬ch‮»‬،‭ ‬كما‭ ‬في‭ ‬كلمة‭ ‬‮«‬Chemistry‮»‬‭ ‬بمعنى‭ ‬كيمياء‭.‬

‭ ‬وعلى‭ ‬ذلك‭, ‬فإن‭ ‬نطق‭ ‬حروف‭ ‬اللغات‭ ‬الأخرى‭, ‬التي‭ ‬يمتدحها‭ ‬البعض‭ ‬ويتخذونها‭ ‬مثلا‭ ‬في‭ ‬البساطة‭ ‬والسلاسة‭ ‬والوضوح‭ ‬كالإنجليزية‭, ‬اللغة‭ ‬العالمية‭ ‬الأولى‭ ‬الآن‭, ‬هو‭ ‬مشكلة‭ ‬تؤدي‭ ‬إلى‭ ‬الالتباس‭ ‬والتشويش‭ ‬والتداخل‭, ‬ولا‭ ‬يمكن‭ ‬حل‭ ‬‮«‬فوازير‮»‬‭ ‬وأحاجي‭ ‬نطقها‭ ‬إلا‭ ‬بحفظ‭ ‬هذه‭ ‬الحالات‭ ‬كما‭ ‬هي‭, ‬حيث‭ ‬لا‭ ‬تفي‭ ‬حروفها‭ ‬مفردة‭ ‬بالحاجات‭ ‬الصوتية‭ ‬لهذه‭ ‬اللغة‭. ‬ومن‭ ‬جهة‭ ‬أخرى‭ ‬فإنهم‭ ‬يلجأون‭ ‬إلى‭ ‬نطق‭ ‬الحرف‭ ‬الواحد‭ ‬بأشكال‭ ‬متباينة‭ ‬في‭ ‬الكلمات‭ ‬المختلفة‭, ‬فحرف‭ ‬الـ‭ ‬‮«‬g‮»‬‭ ‬مثلا‭ ‬ينطق‭ ‬‮«‬جيما‭ ‬قاهرية‮»‬،‭ ‬كما‭ ‬في‭ ‬‮«‬God‮»‬‭ ‬وجيما‭ ‬قرشية‭ ‬كما‭ ‬في‭ ‬‮«‬Gem‮»‬‭, ‬وجيما‭ ‬معطشة‭ ‬كما‭ ‬في‭ ‬‮«‬Religion‮»‬‭, ‬وربما‭ ‬لا‭ ‬ينطق‭ ‬كما‭ ‬في‭ ‬‮«‬Right‮»‬‭. ‬أما‭ ‬حروف‭ ‬العلة‭ ‬التي‭ ‬يتيه‭ ‬بكثرتها‭ ‬الأستاذ‭ ‬الشوباشي‭ ‬في‭ ‬اللغات‭ ‬الغربية‭, ‬فيعتور‭ ‬نطقها‭ ‬أيضا‭ ‬كثير‭ ‬من‭ ‬الخلط‭ ‬والالتباس‭, ‬فمع‭ ‬اقترانها‭ ‬تنطق‭ ‬على‭ ‬أربعة‭ ‬أصوات،‭ ‬كما‭ ‬في‭ ‬هذه‭ ‬الكلمات‭ ‬blood‭, ‬door‭, ‬food and‭ ‬moon‭. ‬ومع‭ ‬ذلك‭ ‬تمتاز‭ ‬العربية‭ ‬بحروف‭ ‬لا‭ ‬توجد‭ ‬في‭ ‬اللغات‭ ‬الأخرى،‭ ‬من‭ ‬أشهرها‭ ‬الضاد،‭ ‬ومن‭ ‬ثم‭ ‬فقد‭ ‬أصبحت‭ ‬علما‭ ‬على‭ ‬العربية‭, ‬وكذلك‭ ‬حروف‭ ‬الظاء‭ ‬والعين‭ ‬والقاف‭ ‬والحاء‭ ‬والطاء‭, ‬أو‭ ‬توجد‭ ‬في‭ ‬غيرها‭ ‬أحيانا‭ ‬ولكنها‭ ‬ملتبسة‭ ‬مترددة‭ ‬لا‭ ‬تضبط‭ ‬بعلامة‭ ‬واحدة‭.‬

ويريد‭ ‬الشوباشى‭ ‬أن‭ ‬‮«‬يقتل‮»‬‭ ‬الإعراب‭ ‬بحجة‭ ‬الغموض‭ ‬في‭ ‬نطق‭ ‬كلمة‭ ‬واحدة‭ ‬على‭ ‬عشر‭ ‬حالات،‭ ‬كما‭ ‬في‭ ‬كلمة‭ ‬‮«‬‭ ‬قتلت‮»‬‭,  ‬ولست‭ ‬أدري‭ ‬لماذا‭ ‬هذه‭ ‬الكلمة‭ ‬بالذات؟‭ ‬ما‭ ‬علينا‭! ‬اللغة‭ ‬العربية‭ ‬لغة‭ ‬منطقية‭ ‬عقلانية‭ ‬‮«‬ديناميكية‮»‬‭ ‬تحتاج‭ ‬في‭ ‬فهمها‭ ‬إلى‭ ‬إعمال‭ ‬العقل‭, ‬الذي‭ ‬أمرنا‭ ‬خالقنا‭ - ‬جل‭ ‬وعلا‭ -‬‭ ‬أن‭ ‬نستخدمه‭ ‬ولنا‭ ‬بذلك‭ ‬الأجر‭ ‬والثواب‭, ‬ومن‭ ‬ثم‭ ‬فليس‭ ‬غريبا‭ ‬أن‭ ‬أطلق‭ ‬القدماء‭ ‬على‭ ‬الفلسفة‭ ‬الإسلامية‭, ‬وهي‭ ‬من‭ ‬أكثر‭ ‬العلوم‭ ‬اعتمادا‭ ‬على‭ ‬العقل‭,  ‬‮«‬علم‭ ‬الكلام‮»‬‭. ‬فالكلمة‭ ‬تُفهم‭ ‬وظيفتها‭ ‬ومدلولها‭ ‬من‭ ‬موقعها‭ ‬من‭ ‬الإعراب‭ ‬حتى‭ ‬لو‭ ‬كان‭ ‬هناك‭ ‬تقديم‭ ‬أو‭ ‬تأخير‭ (‬وهو‭ ‬لا‭ ‬يتم‭ ‬عشوائيا‭ ‬أو‭ ‬رفاهية‭, ‬وإنما‭ ‬هو‭ ‬أيضا‭ ‬له‭ ‬وظيفة‭ ‬ويؤدي‭ ‬دورا‭ ‬مهماً‭). ‬وبهذه‭ ‬المناسبة‭ ‬أريد‭ ‬بالمنطق‭ ‬نفسه‭ ‬أن‭ ‬أسأل‭ ‬الأستاذ‭ ‬الشوباشي‭: ‬هل‭ ‬كلمة‭ ‬‮«‬You‮»‬‭ ‬الإنجليزية‭ ‬التي‭ ‬تكتب‭ ‬وتنطق‭ ‬أيضا‭ ‬على‭ ‬وجه‭ ‬واحد،‭ ‬بينما‭ ‬يراد‭ ‬بها‭ ‬معان‭ ‬كثيرة‭ ‬مثل‭: ‬‮«‬أنت‮»‬‭ ‬للمذكر‭ ‬و«أنت‮»‬‭ ‬للمؤنث‭ ‬و«أنتما‮»‬‭ ‬و«أنتم‮»‬‭ ‬و‮«‬أنتن‮»‬‭, ‬أدعى‭ ‬إلى‭ ‬الالتباس‭ ‬الحقيقي‭ ‬سماعا‭ ‬وقراءة‭ ‬وترجمة،‭ ‬أم‭ ‬كلمة‭ ‬تكتب‭ ‬على‭ ‬وجه‭ ‬واحد،‭ ‬بينما‭ ‬تنطق‭ ‬وفقاً‭ ‬لموقعها‭ ‬من‭ ‬الإعراب؟‭! ‬

 

‮«‬العامية‮»‬‭ ‬ليست‭ ‬لغة‭ ‬علم

أما‭ ‬بالنسبة‭ ‬للدعوة‭ ‬إلى‭ ‬استعمال‭ ‬اللغة‭ ‬العامية‭, ‬في‭ ‬مجال‭ ‬العلوم‭ ‬والتقنية،‭ ‬فإن‭ ‬ذلك‭ ‬يؤدي‭ ‬إلى‭ ‬كارثة‭ ‬حقيقية‭ ‬من‭ ‬جرّاء‭ ‬الخلط‭ ‬والتشويش‭, ‬وانحسار‭ ‬الدقة‭ ‬وتلاشي‭ ‬التحديد‭, ‬الذي‭ ‬يتميز‭ ‬به‭ ‬الأسلوب‭ ‬العلمي‭, ‬والتعبير‭ ‬عن‭ ‬الحقائق‭ ‬والنظريات‭ ‬والتجارب‭ ‬والبحوث‭ ‬العلمية‭, ‬فضلا‭ ‬عن‭ ‬افتقار‭ ‬‮«‬العامية‮»‬‭ ‬إلى‭ ‬إمكانات‭ ‬الاشتقاق‭ ‬والتوليد‭ ‬الذي‭ ‬تتميز‭ ‬به‭ ‬الفصحى‭ ‬لمسايرة‭ ‬التطورات‭ ‬العلمية‭ ‬التي‭ ‬لا‭ ‬تتوقف‭. ‬وفي‭ ‬حالات‭ ‬التقديم‭ ‬والتأخير‭, ‬التي‭ ‬تتميز‭ ‬بها‭ ‬الأساليب‭ ‬العربية‭, ‬فلن‭ ‬يكون‭ ‬من‭ ‬السهل‭ ‬تعيين‭ ‬الفاعل‭ ‬وتمييزه‭ ‬من‭ ‬المفعول‭ ‬مع‭ ‬اختفاء‭ ‬الإعراب‭, ‬ما‭ ‬قد‭ ‬يترتب‭ ‬عليه‭ ‬من‭ ‬مشكلات‭ ‬لا‭ ‬تحمد‭ ‬عقباها‭, ‬ولاسيما‭ ‬في‭ ‬بعض‭ ‬المجالات‭ ‬العملية‭ ‬كالكهرباء‭ ‬والميكانيكا‭ ‬والكيمياء‭ ‬التطبيقية،‭ ‬إلى‭ ‬غير‭ ‬ذلك‭ ‬من‭ ‬مجالات‭ ‬تتطلب‭ ‬التحديد‭ ‬الصارم‭ ‬والدقة‭ ‬المتناهية‭, ‬حيث‭ ‬إن‭ ‬أي‭ ‬التــــباس‭ ‬قــــد‭ ‬يكون‭ ‬قاتلا‭! ‬

أما‭ ‬الدعوة‭ ‬لإلغاء‭ ‬‮«‬نون‭ ‬النسوة‮»‬‭, ‬فسوف‭ ‬تزيد‭ ‬الطين‭ ‬بلة‭, ‬فالمقارنات‭ ‬مثلا‭ ‬بين‭ ‬نتائج‭ ‬الاختبارات‭  ‬والفحوص‭ ‬لمجموعتين‭ ‬من‭ ‬المرضى‭ ‬إحداهما‭ ‬من‭ ‬الذكور‭ ‬والأخرى‭ ‬من‭ ‬الإناث‭, ‬سيحدث‭ ‬بصددها‭ ‬الخلط‭ ‬والتشويش‭ ‬تماما،‭ ‬مثلما‭ ‬يحدث‭ ‬في‭ ‬حالة‭ ‬الأحكام‭ ‬الفقهية‭ ‬والضوابط‭ ‬الشرعية‭ ‬التي‭ ‬تخص‭ ‬الرجال‭ ‬من‭ ‬دون‭ ‬النساء‭ ‬أو‭ ‬عكس‭ ‬ذلك‭, ‬فسوف‭ ‬يعتورها‭ ‬الخلط‭ ‬وعدم‭ ‬التحديد‭ ‬الذي‭ ‬قد‭ ‬يفضي‭ ‬إلى‭ ‬آثار‭ ‬خطيرة‭.‬

‭ ‬وقد‭ ‬كان‭ ‬الأستاذ‭ ‬العقاد‭ - ‬رحمه‭ ‬الله‭ - ‬كثيرا‭ ‬ما‭ ‬يعلن‭ ‬أن‭ ‬اللغة‭ ‬العامية‭ ‬ليست‭ ‬لغة‭ ‬علم‭ ‬ولا‭ ‬أدب‭ ‬راق‭, ‬يمكن‭ ‬أن‭ ‬يعيش‭ ‬مع‭ ‬الأيام‭ ‬والسنين‭, ‬هذا‭, ‬فضلا‭ ‬عن‭ ‬أن‭ ‬الثروة‭ ‬اللفظية‭ ‬للعامية‭ ‬جدُّ‭ ‬فقيرة‭ ‬بالمقارنة‭ ‬مع‭ ‬الفصحى‭, ‬فقد‭ ‬تبين‭ ‬في‭ ‬بعض‭ ‬الإحصاءات‭ ‬أنها‭ ‬لا‭ ‬تتجاوز‭ ‬الخمسمائة‭ ‬كلمة‭, ‬بينما‭ ‬تتطلب‭ ‬الحياة‭ ‬العلمية‭ ‬المتنامية‭ ‬عشرات‭ ‬الآلاف‭ ‬بل‭ ‬ومئاتها‭ ‬من‭ ‬الكلمات،‭ ‬لنستطيع‭ ‬التعبير‭ ‬عن‭ ‬المدركات‭ ‬الجديدة‭ ‬المتطورة‭ ‬والمسايرة‭ ‬لحركة‭ ‬الفكر‭ ‬العلمي‭ ‬والإنساني‭ ‬بوجه‭ ‬عام‭. ‬وهذا‭ ‬الثراء‭ ‬اللفظي‭ ‬ميزة‭ ‬تتميز‭ ‬بها‭ ‬‮«‬العربية‮»‬‭, ‬وليس‭ ‬عيبا‭ ‬كما‭ ‬يظن‭ ‬من‭ ‬في‭ ‬قلوبهم‭ ‬مرض‭, ‬أو‭ ‬على‭ ‬أحسن‭ ‬الظن‭ ‬من‭ ‬ليس‭ ‬عندهم‭ ‬علم‭!‬

نعم‭, ‬لغتنا‭ ‬في‭ ‬خطر‭, ‬ولكن‭ ‬ليس‭ ‬معنى‭ ‬ذلك‭ ‬أن‭ ‬نلعنها‭ ‬ونلغيها‭, ‬ونستبدل‭ ‬العامية‭ ‬بها‭, ‬ولكن‭ ‬الأجدى‭ ‬من‭ ‬ذلك‭ ‬أن‭ ‬نبحث‭ ‬بالطرق‭ ‬العلمية‭ ‬المنهجية‭ ‬لحل‭ ‬مشكلاتها‭, ‬وتيسيرها‭ ‬على‭ ‬ألسنة‭ ‬وأقلام‭ ‬الناطقين‭ ‬والكاتبين‭ ‬بها‭.‬

    ‬إن‭ ‬الدعوة‭ ‬إلى‭ ‬اللهجات‭ ‬العامية‭ ‬بهدف‭ ‬القضاء‭ ‬على‭ ‬الازدواج‭ ‬اللغوي‭, ‬واتساق‭ ‬الفكر‭ ‬مع‭ ‬اللسان‭ ‬وتبسيط‭ ‬القواعد‭ ‬بحذف‭ ‬معظمها‭, ‬دعوة‭ ‬مشبوهة‭ ‬تؤدي‭ ‬إلى‭ ‬الانسلاخ‭ ‬عن‭ ‬العقيدة‭ ‬ونقض‭ ‬عُرى‭ ‬الدين‭, ‬من‭ ‬خلال‭ ‬الانقطاع‭ ‬عن‭ ‬أهم‭ ‬نصوصه‭: ‬القرآن‭ ‬الكريم‭ ‬والسنة‭ ‬النبوية‭ ‬المطهرة‭, ‬والتراث‭ ‬الفقهي‭ ‬والشرعي‭ ‬والأدبي‭ ‬والفكري‭ ‬المكتوب‭ ‬باللغة‭ ‬العربية‭ ‬الفصيحة‭, ‬ذلك‭ ‬الذي‭ ‬يضرب‭ ‬في‭ ‬تاريخنا‭ ‬إلى‭ ‬نحو‭ ‬ألف‭ ‬وخمسمائة‭ ‬عام‭. ‬إنها‭ ‬باختصار‭ ‬دعوة‭ ‬لطمس‭ ‬معالم‭ ‬الهوية‭ ‬العربية‭ ‬الإسلامية‭ ‬وإلغائها‭, ‬وهي‭ ‬في‭ ‬النهاية‭ ‬دعوة‭ ‬مذمومة‭ ‬مسمومة‭ ‬فاشلة‭ ‬لا‭ ‬يمكن‭ ‬تنفيذها‭, ‬وستنتهي‭ ‬قبل‭ ‬أن‭ ‬تبدأ‭, ‬شأنها‭ ‬في‭ ‬ذلك‭ ‬شأن‭ ‬سوابقها‭ ‬بل‭ ‬ولواحقها‭, ‬أمام‭ ‬ما‭ ‬تعهّد‭ ‬الله‭ ‬به‭ ‬من‭ ‬حفظ‭ ‬قرآنه‭ ‬الكريم،‭ ‬كما‭ ‬جاء‭ ‬في‭ ‬قوله‭ ‬تعالى‭: {‬إِنَّا‭ ‬نَحْنُ‭ ‬نَزَّلْنَا‭ ‬الذِّكْرَ‭ ‬وَإِنَّا‭ ‬لَهُ‭ ‬لَحَافِظُونَ‭}‬‭ ‬‭(‬الحجر‭: ‬9‭) ‬وحتى‭ ‬نستيقن‭ ‬من‭ ‬ذلك‭, ‬فإنه‭ ‬مع‭ ‬كل‭ ‬تطور‭ ‬علمي‭, ‬وتقدم‭ ‬تقني‭, ‬يتأكد‭ ‬ويترسخ‭ ‬هذا‭ ‬العهد‭ ‬القرآني‭ ‬الناصع‭ ‬البيان‭, ‬ليتحقق‭ ‬معه‭ ‬حفظ‭ ‬لغة‭ ‬القرآن‭, ‬رغم‭ ‬أنف‭ ‬الحاقدين‭, ‬وكيد‭ ‬الكائدين‭, ‬ورحم‭ ‬الله‭ ‬سيبويه‭ ‬وأجزل‭ ‬له‭ ‬الأجر‭ ‬والثواب‭, ‬لقاء‭ ‬ما‭ ‬قدّم‭ ‬من‭ ‬علم‭ ‬يخلد‭ ‬ذكره‭ ‬ما‭ ‬بقيت‭ ‬العربية‭, ‬وستبقى‭ ‬بإذن‭ ‬الله‭. ‬

 

العقاد‭ ‬يؤلف‭ ‬كتابين‭ ‬للدفاع‭ ‬عن‭ ‬اللغة

كرس‭ ‬العقاد‭ ‬في‭ ‬أخريات‭ ‬حياته‭, ‬الحافلة‭ ‬بالجهاد‭ ‬في‭ ‬جميع‭ ‬المجالات‭, ‬للغة‭ ‬العربية‭ ‬كتابين‭ ‬من‭ ‬كتبه‭, ‬فضلا‭ ‬عن‭ ‬دراسات‭ ‬كثيرة‭ ‬أودعها‭ ‬كتبه‭ ‬المختلفة‭, ‬تحت‭ ‬عناوين‭ ‬كثيرة‭ ‬متنوعة‭. ‬وقد‭ ‬جاء‭ ‬كتابه‭ ‬الأول‭ (‬1960‭)  ‬بعنوان‭ ‬‮«‬اللغة‭ ‬الشاعرة‮»‬‭, ‬أما‭ ‬الكتاب‭ ‬الثاني‭ (‬1963‭) ‬فهو‭ ‬بعنوان‭: ‬‮«‬أشتات‭ ‬مجتمعات‭ ‬في‭ ‬اللغة‭ ‬والأدب‮»‬‭, ‬وقد‭ ‬دافع‭ ‬فيهما‭ ‬عن‭ ‬اللغة‭ ‬العربية‭, ‬وبيَّن‭ ‬مزاياها‭ ‬المختلفة‭ ‬التي‭ ‬تمتاز‭ ‬بها‭ ‬على‭ ‬غيرها‭ ‬من‭ ‬لغات‭ ‬العلم‭ ‬والحضارة‭, ‬ولا‭ ‬يتسع‭ ‬المجال‭ ‬هنا‭ ‬للتعرض‭ ‬لما‭ ‬جاء‭ ‬فيهما‭ ‬من‭ ‬أفكار‭ ‬وحقائق‭ ‬ومعلومات‭ ‬حول‭ ‬هذه‭ ‬اللغة‭ ‬العريق.