الفضاءان الواقعي والرمزي في القصة القصيرة «القاصّ جليل القيسي نموذجاً»
وُلد جليل القيسي في كركوك سنة 1935م, وقيل سنة 1937م, وهو من «جماعة كركوك» الأدبية الذين أصبح لهم شأن كبير في الحركة الأدبية في العراق, التي ارتبطت بجيل الستينيات، ومات بها أيضاً سنة 2006م. كتب القصة القصيرة والمسرحية النثرية, وكان متميزاً في كتابتهما؛ فأصدر مجموعات قصصية 7عدة أبرزها: «صهيل المارة حول العالم» - 1968م, «زليخا البعد يقترب - 1974م», «في زورق واحد - 1985م», و«مملكة الانعكاسات الضوئية» - 1990م. وفي ميدان المسرحية النثرية أصدر عدة أعمالاً عدة أبرزها: «جيفارا عاد افتحوا الأبواب - 1971م», «فراشات ملونة - 1979م», «غداً يجب أن أرحل - 1979م», «وداعاً أيها الشعراء - 1988م», و«ومضات من خلال موشور الذاكرة – 1999م». لم ينل جليل القيسي ما يستحقه من اهتمام وبحث، فقد عاش منزوياً في كركوك بعيداً عن الأضواء, قانعاً من الغنيمة بالإياب.
القصة القصيرة لدى جليل القيسي مشهد مكثف من الواقع، ينقل من الحياة اليومية إلى الورق، يكون فيه هذا النقل فضاء بصرياً خاصاً، صورة أو لوحة يرسمها الكاتب على وفق تصوره وكأنه يرسم لوحة بريشته الخاصة، والقاص جليل القيسي يمتلك هماً ذاتياً، وهماً اجتماعياً يحاول الجمع بينهما في سرد قصصي يميل نحو الرمز والغرائبية «الفنتازيا»، لهذا وظف الأساطير والأحلام والرؤى للتعبير عن موقف وجودي، وصفه بأنه موقف جدلي، لأنه قاصٌّ متمكن على مستوى التشكيلات التقنية والفكرية. وقد جسدت هذه التقنية وجود قوى موازية للسرد كالأساطير، والأحلام، وأفكار الشخصيات وملامح من قصص وأبطال دستويفسكي، وصور لفنانين عالميين، إذ جسدت هذه القوى اهتماماً بالفضاءات البصرية وهي تستلهم المكونات المكانية والفضاءات «المغلفة» التي تشكل الموقع الوسط بين مكانين آخرين؛ هما: المكان العام الذي تتشكل به أوليات القصة، والذي قد يستعيره القاص من الذاكرة، ثم مكان ما في النفس، عندئذ يبدو المكان المغلق مثل حالة وسطى للشخصيات، تختلي فيه، مكان ضيق مغلق كجزء من ضغوط العالمين الخارجي والداخلي.
ولأن اللوحة فضاء مكاني فإنها تستعير ما هو خارجي وتدمجه بما هو داخلي في القصة، أي دمج المشهد الوصفي لفضاءات الأمكنة في ثنايا السرد القصصي، ولأن الأمكنة ذات أثر واضح في بناء القصص، فإن الفضاء البصري يمتلك خاصية متفردة في تكوين صورة ملصقة في منظر شامل كبير يكون أقرب إلى الكولاج في اللوحة التشكيلية.
في قصته «معسكر الاعتقال الصحراوي رقم 125» يرصد معاناة الأسرى الذين ظلوا تحت سطوة المحتل الذي أخذ يبني عليهم المعتقلات في الصحراء, وما يصاحب ذلك من عذاب نفسي حاد وعمليات انتحار مريعة تخلصاً من الاضطهاد, حتى يشكل هذا الموت الاختياري شجاعة فائقة تحت ظروف صعبة؛ لأنه يفسر الانتحار بأنه احتجاج ورفض لواقع قاسٍ مؤلم وأسلوب يفصح عن قيمة الذات وشوق الإنسان للحرية، الحرية المعذبة، حتى إن أحد الأسرى يبتر أصابع يده اليسرى احتجاجاً على الاستلاب الصريح الذي يعانيه. وفي قصته «إنّ عروقي تتحول الآن إلى لون البنفسج» يعمد البطل إلى تجميد نفسه احتجاجاً على الواقع وهروباً منه؛ إن أبطاله يبحثون عن خلاصهم، فيعمدون إلى تعذيب ذواتهم حتى الفناء الأبدي أحياناً, أو الذوبان في لجة الحياة من خلال توتر نفسي عام.
وثمة واقعية معذبة تتوزع بين الأسطورة والماضي الحزين, وبين الخضوع إلى التهويمات في قصص جليل القيسي في مجموعته «زليخة.. البعد يقترب» التي ترصد الواقع وتوغل في أجوائه العكرة التي عكست العبث واللامعقول في الحدث واستلاب الشخصيات وقلق الحياة التي يعيش فيها الجميع, بمن فيهم القاص، الذي ظل يشعر مع حالات الهلوسة والسادية والمازوكية وانفصام الشخصية والتوتر النفسي الحاد وكأنه يمثل بذلك احتجاجاً على واقعه وهزيمته التي أربكت قواه وشتتت أفكاره ووزعته بين الانتماء واللاانتماء.
فكرة الفضاء
تشير قصص جليل القيسي في مرحلة مبكرة إلى فكرة الفضاء, كما يلاحظ قارئ قصة «هو؟! هي؟! هو؟!» أن ثمة صورة «ملتصقة من وراء زجاج كبير مرشوش بستار شفيف من المطر. تأمل الصورة من جديد»، إذ استعار القاص هذه الصورة وألصقها في ثنايا السرد, ثم دفع البطل لأن يتأملها في محاولة لتطعيم ما هو إنشائي وسردي خالص بما هو منقول من فضاء صوري/ مرئي، كنوع من التكثيف لمشهد واقعي ذي ملامح وصفية عادية، يمكن من خلال هذا المشهد شحن القصة بطاقة مضافة هي طاقة الصورة وما يصاحبها من مقتربات وصفية، لأن الوصف في مثل هذه الظروف يشكل نوعاً من اللعبة الفنية التي توقف حركة السرد/حركة الزمن، نتيجة توقف الأحداث، ويسمح للكاتب بأن يلتقط أنفاسه في استراحة طارئة مغرية، تدفع المتلقي/ القارئ نحو تأمل اللحظة الحرجة التي أمسك فيها الزمن عن الحركة، وهو ما يمنح الكاتب فرصة للانشغال بصياغة لغته لكي يتناسب الوقف، وتبتعد عن الصور النفعية المترهلة لتحليلها إلى صور زخرفية / كمالية، ولكن إلحاح البطل على متابعة مثل هذه اللحظة الوصفية يمنحها طابعاً تفسيرياً، ويكشف عن اعترافه ببراعة المصور مضفياً جواً حلمياً خاصاً حين يقول: «وردد كمن يحلم: أين يذهب العندليب عندما يأتي الشتاء؟». ما يشير إلى قوة مؤثرات المكان في الذاكرة للتعبير عن هواجس الكاتب الحلمية المضمرة في التعامل مع المكان، بعيداً عن القيمة الجمالية الراسخة، أحياناً.
أما بطله فيبقى نهباً لهاجس نفسي متوتر في قصته «بوس إكس مشيا» عندما يردد بعض الألفاظ من دون وعي لمعناها حتى نهاية القصة, مما يعبر عن شيوع حالة من الانسحاق تحت عجلات الحياة اليومية عبر تحليل نفسي يوغل نحو أعماق الشخصيات, مستفيدا من طروحات علماء النفس، وبالذات مدرسة التحليل النفسي, كما فعل مع المرأة التي تعوض عن شعورها بالنقص في الهروب نحو إشباع رغبتها في قصته «حتى القطط» فتتخذ السادية وسيلة لتعذيب الآخرين للثأر من الواقع, وذلك عبر لقطة فنية قائمة على تجانس الحوار مع الحدث في ظل سرد لعوامل الاستلاب في القصتين «سفرة الجسدالآخرين»، و«سافروا مع طيور البحر».
استثمار القراءة
وأما قصتاه أحلام الفارس الحزين دونكي خوتا، والوشق، من مجموعته: «في زورق واحد» فإن بطل القصة الأولى «م» يسترجع بحركة زمنية نحو الماضي تشير إلى «الصور التخطيطية في الكتاب لوجه دونكي خوتا المرهق النحيف، ولرقبته الهزيلة ولعينيه المتقدتين..»، والتي يشكل الفضاء البصري فيها نقطة انطلاق خاصة لاستثمار القراءة بوصفها ممارسة بصرية/ مرئية تسهم في إثراء البناء السردي، وإغناء مشاهد القصة بلمحات ملتقطة من خارج القصة، وكأنها «كولاج» صوري ينتزع من غلاف الرواية ليوضع في سياقها السردي، مثلما انتزع بعض المشاهد ووضعها على الشاشة، ثم راح يتأمل الجماهير في الملابس الملونة والنساء الجميلات اللائي يحملن باقات كبيرة من زهور البراري، أو يستحضر صورة النصب الجداري لحمورابي. أما في قصة «الوشق» فإن الساردة تتحدث عن زوجها الذي زيّن جدران بيته بلوحات «مطبوعة لفنانين كبار ومن مدارس شتى»، في إشارة واضحة إلى أن الفضاء البصري يتشكل بطريقة أو بأخرى لخلق تنوع خاص في المشاهد القصصية، وليعين الكاتب على الانتقال من مكان إلى آخر، أو من زمان إلى آخر.
ويشغل الفضاء البصري مساحة كبيرة من قصص «مملكة الانعكاسات الضوئية» من خلال التراسل بين اللوحة والقصة، بوصف اللوحة سرداً بصرياً يتوغل ليصبح أشبه بحكاية ملصقة داخل سيرورة القص، لأن الكاتب يطمح إلى تحقيق نوع من التنافذ بين القصة والفنون الأخرى، كالموسيقى والتشكيل والمسرح والأساطير.
قراءة غير مشروطة
ومن هنا تمكن المدى التشكيلي من أخذ فضائه السردي في القصة، وبالذات في القصص: فتاة مجدولة بالضوء، ومملكة الانعكاسات الضوئية، وأحلام بيضاء، وتذكرني مع شوبرت، ومملو، حينما يلتقي المنظور التشكيلي مع منظور القاص في تكوين مشهد وصفي ينطلق من تمثل عمل فني خاص يعد مشهداً منقولاً من الواقع؛ وهذا ما يجعل القصة عملاً مفتوح النهايات ذ في غالب الأحيان ذ لدى جليل القيسي، ومعرضة للهواء، مكشوفة أمام المشاهد وهو يطمح إلى أن يقرأها قراءة غير مشروطة بحيث يمكن العودة إليها بوجهة نظر ومناخات متجددة، وهذا ما يكشف عن وجود تناظر جمالي بين القصة واللوحة، يسري على أجواء القصص، وملامح تطورها من حيث استيعابها لعديد من التناصات من أعمال دستويفسكي والأساطير؛ وربما النصوص الخفية التي لا يعلن عنها، وقد جاء هذا الولع بكتابة مثل هذه القصص نتيجة ضغوط مأزومة تدفعه للتصريح أن كل شيء أصبح يتلاشى، وأن من واجبه ككاتب أن يحتوي هذا الركام للحفاظ على جماليته كما يحافظ الفنان على لوحاته القديمة، عبر نوع من الارتداد نحو الماضي الأثير، ولكنه مهدد، ويعاني إزاحات عديدة، بعد أن تموضع في أمكنة قلقة، وذات علاقات صادمة مع الإنسان، ففي قصة «فتاة مجدولة بالضوء» يستحضر اللوحة والأسطورة في داخل سياق السرد، حينما يتحول الحديث من اللوحة التي تجسد ملامح نصب الحرية لجواد سليم إلى الأسطورة، والرمز الأسطوري للأفعى بوصفها رمزاً جنسياً يواجه المرأة وهي تقرأ اللوحة قراءة بصرية؛ فراح يتذكر قبائل الزولو وتغوني في إفريقيا الوسطى وقبائل كفر في جنوب إفريقيا، مشيرا إلى اعتقادها بأن «الثعابين آباء وأنهم يعودون للحياة ويزورون مساكنهم المقدسة»، سحرياً خاصاً، ثم تتصاعد أهمية اللوحة في فضاء القصة فيعرضها على شاشة حقيقية تعرض قصراً لسنحاريب، وحاشية أسرحدون وشخصية الحكيم الأشوري «أحيقار»، وتستمر هذه الشاشة لتصبح فضاءً بصرياً يستعيد صوغ المشهد الأسطوري عبر سرد قصصي جديد، بشكل يجعل من اللوحة بؤرة مشعة قادرة على خلق العمق التعبيري في القصة عبر مقترب العلاقة الحميمة بين الأسطورة والحلم، وذلك بالانتقال من زمن الواقع إلى زمن الأسطورة ليترجم الصيرورة الرمزية الكامنة في ثنايا الأحلام. فأصبحت اللوحة وسيلة للانتقال نحو الأسطورة في قصة «مملكة الانعكاسات الضوئية» من خلال زيارة بطل القصة التي يسردها بلسان المتكلم للفنان «عادل العطار» الذي يسكن في القلعة «يريد بها قلعة كركوك الأثرية القديمة». والفنان شخصية ذات ثقافة عميقة، محدث رائع، يظهر ذلك الكاتب من خلال تحليله للوحة «استديو الفنان» التي رسمها «فريدريك بازل» في ذروة شبابه، ثم يستطرد ليتخيل وجوه الآلهة والنار الأزلية، ثم يتحول الحديث عن اللوحات المحفوظة «الألبوم» إلى حديث عن الآلهة والرموز الأسطورية في العالم القديم بحيث يفتح الفضاء البصري فضاءات عوالم أسطورية كثيرة أمامه، ما يجعل قراءة اللوحة تلقياً حلمياً للأساطير القديمة.
فضاء بصري
ويحاول الكاتب استدراجنا نحو الفضاء البصري في قصة «أحلام بيضاء» وهو محمل بالأسطورة عبر استحضاره لشخصية صديقه الفنان «حازم» الذي كان يرسم معه في النشرات المدرسية خلال الدراسة المتوسطة، ليجعل من ملامح شخصية الفنان «اللحية وملابس الراهب» فضاءً بصرياً مضافاً إلى اللوحات والألوان، مستفيداً من سرده للذكريات القديمة الآفلة والحديثة عن موهبة بطل القصة «محمد الراوي» وقوة ملاحظاته حين يقول: «تكلم بحماسة أكثر عن صبانا، وعن موهبتي الكبيرة في الرسم، وعن قوة ملاحظاتي، ورشاقة خطواتي وقتها ومزجي الذكي للألوان، وفهمي الدقيق في المنظور... تكلم كيف دخل بناء على وصية والده الذي نذره وهو صغير للكنيسة»، ثم تتكرر هذه الملاحقة لتتطور إلى حديث عن رينوار، فائق حسن، ضياء العزاوي، وعن الفن البدائي وغوغان، ثم يتحول المشهد إلى مشهد حلمي خاص، يتداخل فيه خيال الفنان مع اليقين . ثم تتكرر المحاولة مرة أخرى في قصة «تذكرني مع شوبرت» من خلال الفنان بول غوغان في لوحتيه «من نحن؟ من أين جئنا؟»، و«المسيح الأصفر» حينما يركز الصديق القديم النبيل مثل الآلهة بابل وسومر بصره في اللوحة عبر منظوره الخاص ليرى حسب قوله «الوجه الأصفر».
أما في قصة «ممملو»، فيتحدث عن مدينة «ششروم» التي يعيش أهلها «وسط طوفان من الألوان، أشجار الأرجوان تحيط بنا، عشرات أنواع الزهور الملونة، أشجار البلوط، التوت، وطيور ملونة، وحتى جبالنا في كل موسم تكون بألوان مختلفة ... نحن لا نستطيع أن نعيش من غير ألوان...» ليرسم له فضاءه البصري الذي استقاه من أشياء الطبيعة ونباتاتها، ما يشكل نقلة واضحة في التعامل مع الفضاء البصري من المكونات التشكيلية إلى السردية؛ وبهذا حقق الكاتب امتزاجاً واضحاً وجلياً بين المنظور البصري والسياق السردي لأن تخليق المشهد الوصفي جاء من خلال صياغة لغوية، تنطلق من العلاقة الحميمة بين الطبيعة والإنسان بوصف الفنان صانعاً آخر لأشياء الطبيعة حينما يشكلها على وفق منظوره الشخصي الجديد حينما يستثمر العملية الإبداعية في الإنتاج الفني، وهو ما خلق نوعاً من التناظر/ التجاور بين القصة واللوحة، وبين السرد والتشكيل عبر حوار خفي بين السرد كحامل لرؤى وأفكار مقموعة، وبين الألوان التي تبث شفرات مضمرة تشكل دليلاً واضحاً على نوع من التفكير المتمرد ضد ما هو سائد أو مألوف، ولعل اختيار الكاتب للوحات أو مشاهد وصفية كتبت لتوحي بأنها وصف لمشهد تشكيلي، كنوع من الهروب من نقد الواقع إلى كشف عما هو مضمر وخفي ومدان.
***
يقول جليل القيسي: أكثر من ثلاثين عاماً وأنا في شرفة العزلة.. لقد ضربتها حولي بطريقة درامية مشوبة بالسادية.. إن عزلتي نفسية وفلسفية أجيء إليها لأنني فيها أزدهر ■