الفضاءان الواقعي والرمزي في القصة القصيرة «القاصّ جليل القيسي نموذجاً»

الفضاءان الواقعي والرمزي في القصة القصيرة «القاصّ جليل القيسي نموذجاً»

وُلد‭ ‬جليل‭ ‬القيسي‭ ‬في‭ ‬كركوك‭ ‬سنة‭ ‬1935م,‭ ‬وقيل‭ ‬سنة‭ ‬1937م,‭ ‬وهو‭ ‬من‭ ‬‮«‬جماعة‭ ‬كركوك‮»‬‭ ‬الأدبية‭ ‬الذين‭ ‬أصبح‭ ‬لهم‭ ‬شأن‭ ‬كبير‭ ‬في‭ ‬الحركة‭ ‬الأدبية‭ ‬في‭ ‬العراق,‭ ‬التي‭ ‬ارتبطت‭ ‬بجيل‭ ‬الستينيات،‭ ‬ومات‭ ‬بها‭ ‬أيضاً‭ ‬سنة‭ ‬2006م‭. ‬كتب‭ ‬القصة‭ ‬القصيرة‭ ‬والمسرحية‭ ‬النثرية,‭ ‬وكان‭ ‬متميزاً‭ ‬في‭ ‬كتابتهما؛‭ ‬فأصدر‭ ‬مجموعات‭ ‬قصصية‭ ‬7عدة‭ ‬أبرزها‭: ‬‮«‬صهيل‭ ‬المارة‭ ‬حول‭ ‬العالم‮»‬‭ - ‬1968م,‭ ‬‮«‬زليخا‭ ‬البعد‭ ‬يقترب‭ - ‬1974م‮»‬,‭ ‬‮«‬في‭ ‬زورق‭ ‬واحد‭ - ‬1985م‮»‬,‭ ‬و«مملكة‭ ‬الانعكاسات‭ ‬الضوئية‮»‬‭ - ‬1990م‭. ‬وفي‭ ‬ميدان‭ ‬المسرحية‭ ‬النثرية‭ ‬أصدر‭ ‬عدة‭ ‬أعمالاً‭ ‬عدة‭ ‬أبرزها‭: ‬‮«‬جيفارا‭ ‬عاد‭ ‬افتحوا‭ ‬الأبواب‭ - ‬1971م‮»‬,‭ ‬‮«‬فراشات‭ ‬ملونة‭ - ‬1979م‮»‬,‭ ‬‮«‬غداً‭ ‬يجب‭ ‬أن‭ ‬أرحل‭ - ‬1979م‮»‬,‭ ‬‮«‬وداعاً‭ ‬أيها‭ ‬الشعراء‭ - ‬1988م‮»‬,‭ ‬و«ومضات‭ ‬من‭ ‬خلال‭ ‬موشور‭ ‬الذاكرة‭ ‬‭ ‬1999م‮»‬‭. ‬لم‭ ‬ينل‭ ‬جليل‭ ‬القيسي‭ ‬ما‭ ‬يستحقه‭ ‬من‭ ‬اهتمام‭ ‬وبحث،‭ ‬فقد‭ ‬عاش‭ ‬منزوياً‭ ‬في‭ ‬كركوك‭ ‬بعيداً‭ ‬عن‭ ‬الأضواء,‭ ‬قانعاً‭ ‬من‭ ‬الغنيمة‭ ‬بالإياب‭.‬

القصة‭ ‬القصيرة‭ ‬لدى‭ ‬جليل‭ ‬القيسي‭ ‬مشهد‭ ‬مكثف‭ ‬من‭ ‬الواقع،‭ ‬ينقل‭ ‬من‭ ‬الحياة‭ ‬اليومية‭ ‬إلى‭ ‬الورق،‭ ‬يكون‭ ‬فيه‭ ‬هذا‭ ‬النقل‭ ‬فضاء‭ ‬بصرياً‭ ‬خاصاً،‭ ‬صورة‭ ‬أو‭ ‬لوحة‭ ‬يرسمها‭ ‬الكاتب‭ ‬على‭ ‬وفق‭ ‬تصوره‭ ‬وكأنه‭ ‬يرسم‭ ‬لوحة‭ ‬بريشته‭ ‬الخاصة،‭ ‬والقاص‭ ‬جليل‭ ‬القيسي‭ ‬يمتلك‭ ‬هماً‭ ‬ذاتياً،‭ ‬وهماً‭ ‬اجتماعياً‭ ‬يحاول‭ ‬الجمع‭ ‬بينهما‭ ‬في‭ ‬سرد‭ ‬قصصي‭ ‬يميل‭ ‬نحو‭ ‬الرمز‭ ‬والغرائبية‭ ‬‮«‬الفنتازيا‮»‬،‭ ‬لهذا‭ ‬وظف‭ ‬الأساطير‭ ‬والأحلام‭ ‬والرؤى‭ ‬للتعبير‭ ‬عن‭ ‬موقف‭ ‬وجودي،‭ ‬وصفه‭ ‬بأنه‭ ‬موقف‭ ‬جدلي،‭ ‬لأنه‭ ‬قاصٌّ‭ ‬متمكن‭ ‬على‭ ‬مستوى‭ ‬التشكيلات‭ ‬التقنية‭ ‬والفكرية‭. ‬وقد‭ ‬جسدت‭ ‬هذه‭ ‬التقنية‭ ‬وجود‭ ‬قوى‭ ‬موازية‭ ‬للسرد‭ ‬كالأساطير،‭ ‬والأحلام،‭ ‬وأفكار‭ ‬الشخصيات‭ ‬وملامح‭ ‬من‭ ‬قصص‭ ‬وأبطال‭ ‬دستويفسكي،‭ ‬وصور‭ ‬لفنانين‭ ‬عالميين،‭ ‬إذ‭ ‬جسدت‭ ‬هذه‭ ‬القوى‭ ‬اهتماماً‭ ‬بالفضاءات‭ ‬البصرية‭ ‬وهي‭ ‬تستلهم‭ ‬المكونات‭ ‬المكانية‭ ‬والفضاءات‭ ‬‮«‬المغلفة‮»‬‭ ‬التي‭ ‬تشكل‭ ‬الموقع‭ ‬الوسط‭ ‬بين‭ ‬مكانين‭ ‬آخرين؛‭ ‬هما‭: ‬المكان‭ ‬العام‭ ‬الذي‭ ‬تتشكل‭ ‬به‭ ‬أوليات‭ ‬القصة،‭ ‬والذي‭ ‬قد‭ ‬يستعيره‭ ‬القاص‭ ‬من‭ ‬الذاكرة،‭ ‬ثم‭ ‬مكان‭ ‬ما‭ ‬في‭ ‬النفس،‭ ‬عندئذ‭ ‬يبدو‭ ‬المكان‭ ‬المغلق‭ ‬مثل‭ ‬حالة‭ ‬وسطى‭ ‬للشخصيات،‭ ‬تختلي‭ ‬فيه،‭ ‬مكان‭ ‬ضيق‭ ‬مغلق‭ ‬كجزء‭ ‬من‭ ‬ضغوط‭ ‬العالمين‭ ‬الخارجي‭ ‬والداخلي‭.‬

ولأن‭ ‬اللوحة‭ ‬فضاء‭ ‬مكاني‭ ‬فإنها‭ ‬تستعير‭ ‬ما‭ ‬هو‭ ‬خارجي‭ ‬وتدمجه‭ ‬بما‭ ‬هو‭ ‬داخلي‭ ‬في‭ ‬القصة،‭ ‬أي‭ ‬دمج‭ ‬المشهد‭ ‬الوصفي‭ ‬لفضاءات‭ ‬الأمكنة‭ ‬في‭ ‬ثنايا‭ ‬السرد‭ ‬القصصي،‭ ‬ولأن‭ ‬الأمكنة‭ ‬ذات‭ ‬أثر‭ ‬واضح‭ ‬في‭ ‬بناء‭ ‬القصص،‭ ‬فإن‭ ‬الفضاء‭ ‬البصري‭ ‬يمتلك‭ ‬خاصية‭ ‬متفردة‭ ‬في‭ ‬تكوين‭ ‬صورة‭ ‬ملصقة‭ ‬في‭ ‬منظر‭ ‬شامل‭ ‬كبير‭ ‬يكون‭ ‬أقرب‭ ‬إلى‭ ‬الكولاج‭ ‬في‭ ‬اللوحة‭ ‬التشكيلية‭.‬

في‭ ‬قصته‭ ‬‮«‬معسكر‭ ‬الاعتقال‭ ‬الصحراوي‭ ‬رقم‭ ‬125‮»‬‭ ‬يرصد‭ ‬معاناة‭ ‬الأسرى‭ ‬الذين‭ ‬ظلوا‭ ‬تحت‭ ‬سطوة‭ ‬المحتل‭ ‬الذي‭ ‬أخذ‭ ‬يبني‭ ‬عليهم‭ ‬المعتقلات‭ ‬في‭ ‬الصحراء‭,‬‭ ‬وما‭ ‬يصاحب‭ ‬ذلك‭ ‬من‭ ‬عذاب‭ ‬نفسي‭ ‬حاد‭ ‬وعمليات‭ ‬انتحار‭ ‬مريعة‭ ‬تخلصاً‭ ‬من‭ ‬الاضطهاد‭,‬‭ ‬حتى‭ ‬يشكل‭ ‬هذا‭ ‬الموت‭ ‬الاختياري‭ ‬شجاعة‭ ‬فائقة‭ ‬تحت‭ ‬ظروف‭ ‬صعبة؛‭ ‬لأنه‭ ‬يفسر‭ ‬الانتحار‭ ‬بأنه‭ ‬احتجاج‭ ‬ورفض‭ ‬لواقع‭ ‬قاسٍ‭ ‬مؤلم‭ ‬وأسلوب‭ ‬يفصح‭ ‬عن‭ ‬قيمة‭ ‬الذات‭ ‬وشوق‭ ‬الإنسان‭ ‬للحرية،‭ ‬الحرية‭ ‬المعذبة،‭ ‬حتى‭ ‬إن‭ ‬أحد‭ ‬الأسرى‭ ‬يبتر‭ ‬أصابع‭ ‬يده‭ ‬اليسرى‭ ‬احتجاجاً‭ ‬على‭ ‬الاستلاب‭ ‬الصريح‭ ‬الذي‭ ‬يعانيه‭. ‬وفي‭ ‬قصته‭ ‬‮«‬إنّ‭ ‬عروقي‭ ‬تتحول‭ ‬الآن‭ ‬إلى‭ ‬لون‭ ‬البنفسج‮»‬‭ ‬يعمد‭ ‬البطل‭ ‬إلى‭ ‬تجميد‭ ‬نفسه‭ ‬احتجاجاً‭ ‬على‭ ‬الواقع‭ ‬وهروباً‭ ‬منه؛‭ ‬إن‭ ‬أبطاله‭ ‬يبحثون‭ ‬عن‭ ‬خلاصهم،‭ ‬فيعمدون‭ ‬إلى‭ ‬تعذيب‭ ‬ذواتهم‭ ‬حتى‭ ‬الفناء‭ ‬الأبدي‭ ‬أحياناً‭,‬‭ ‬أو‭ ‬الذوبان‭ ‬في‭ ‬لجة‭ ‬الحياة‭ ‬من‭ ‬خلال‭ ‬توتر‭ ‬نفسي‭ ‬عام‭.‬

وثمة‭ ‬واقعية‭ ‬معذبة‭ ‬تتوزع‭ ‬بين‭ ‬الأسطورة‭ ‬والماضي‭ ‬الحزين‭,‬‭ ‬وبين‭ ‬الخضوع‭ ‬إلى‭ ‬التهويمات‭ ‬في‭ ‬قصص‭ ‬جليل‭ ‬القيسي‭ ‬في‭ ‬مجموعته‭ ‬‮«‬زليخة‭.. ‬البعد‭ ‬يقترب‮»‬‭ ‬التي‭ ‬ترصد‭ ‬الواقع‭ ‬وتوغل‭ ‬في‭ ‬أجوائه‭ ‬العكرة‭ ‬التي‭ ‬عكست‭ ‬العبث‭ ‬واللامعقول‭ ‬في‭ ‬الحدث‭ ‬واستلاب‭ ‬الشخصيات‭ ‬وقلق‭ ‬الحياة‭ ‬التي‭ ‬يعيش‭ ‬فيها‭ ‬الجميع‭,‬‭ ‬بمن‭ ‬فيهم‭ ‬القاص،‭ ‬الذي‭ ‬ظل‭ ‬يشعر‭ ‬مع‭ ‬حالات‭ ‬الهلوسة‭ ‬والسادية‭ ‬والمازوكية‭ ‬وانفصام‭ ‬الشخصية‭ ‬والتوتر‭ ‬النفسي‭ ‬الحاد‭ ‬وكأنه‭ ‬يمثل‭ ‬بذلك‭ ‬احتجاجاً‭ ‬على‭ ‬واقعه‭ ‬وهزيمته‭ ‬التي‭ ‬أربكت‭ ‬قواه‭ ‬وشتتت‭ ‬أفكاره‭ ‬ووزعته‭ ‬بين‭ ‬الانتماء‭ ‬واللاانتماء‭.‬

 

فكرة‭ ‬الفضاء

تشير‭ ‬قصص‭ ‬جليل‭ ‬القيسي‭ ‬في‭ ‬مرحلة‭ ‬مبكرة‭ ‬إلى‭ ‬فكرة‭ ‬الفضاء‭,‬‭ ‬كما‭ ‬يلاحظ‭ ‬قارئ‭ ‬قصة‭ ‬‮«‬هو؟‭! ‬هي؟‭! ‬هو؟‭!‬‮»‬‭ ‬أن‭ ‬ثمة‭ ‬صورة‭ ‬‮«‬ملتصقة‭ ‬من‭ ‬وراء‭ ‬زجاج‭ ‬كبير‭ ‬مرشوش‭ ‬بستار‭ ‬شفيف‭ ‬من‭ ‬المطر‭. ‬تأمل‭ ‬الصورة‭ ‬من‭ ‬جديد‮»‬،‭ ‬إذ‭ ‬استعار‭ ‬القاص‭ ‬هذه‭ ‬الصورة‭ ‬وألصقها‭ ‬في‭ ‬ثنايا‭ ‬السرد‭,‬‭ ‬ثم‭ ‬دفع‭ ‬البطل‭ ‬لأن‭ ‬يتأملها‭ ‬في‭ ‬محاولة‭ ‬لتطعيم‭ ‬ما‭ ‬هو‭ ‬إنشائي‭ ‬وسردي‭ ‬خالص‭ ‬بما‭ ‬هو‭ ‬منقول‭ ‬من‭ ‬فضاء‭ ‬صوري‭/ ‬مرئي،‭ ‬كنوع‭ ‬من‭ ‬التكثيف‭ ‬لمشهد‭ ‬واقعي‭ ‬ذي‭ ‬ملامح‭ ‬وصفية‭ ‬عادية،‭ ‬يمكن‭ ‬من‭ ‬خلال‭ ‬هذا‭ ‬المشهد‭ ‬شحن‭ ‬القصة‭ ‬بطاقة‭ ‬مضافة‭ ‬هي‭ ‬طاقة‭ ‬الصورة‭ ‬وما‭ ‬يصاحبها‭ ‬من‭ ‬مقتربات‭ ‬وصفية،‭ ‬لأن‭ ‬الوصف‭ ‬في‭ ‬مثل‭ ‬هذه‭ ‬الظروف‭ ‬يشكل‭ ‬نوعاً‭ ‬من‭ ‬اللعبة‭ ‬الفنية‭ ‬التي‭ ‬توقف‭ ‬حركة‭ ‬السرد‭/‬حركة‭ ‬الزمن،‭ ‬نتيجة‭ ‬توقف‭ ‬الأحداث،‭ ‬ويسمح‭ ‬للكاتب‭ ‬بأن‭ ‬يلتقط‭ ‬أنفاسه‭ ‬في‭ ‬استراحة‭ ‬طارئة‭ ‬مغرية،‭ ‬تدفع‭ ‬المتلقي‭/ ‬القارئ‭ ‬نحو‭ ‬تأمل‭ ‬اللحظة‭ ‬الحرجة‭ ‬التي‭ ‬أمسك‭ ‬فيها‭ ‬الزمن‭ ‬عن‭ ‬الحركة،‭ ‬وهو‭ ‬ما‭ ‬يمنح‭ ‬الكاتب‭ ‬فرصة‭ ‬للانشغال‭ ‬بصياغة‭ ‬لغته‭ ‬لكي‭ ‬يتناسب‭ ‬الوقف،‭ ‬وتبتعد‭ ‬عن‭ ‬الصور‭ ‬النفعية‭ ‬المترهلة‭ ‬لتحليلها‭ ‬إلى‭ ‬صور‭ ‬زخرفية‭ / ‬كمالية،‭ ‬ولكن‭ ‬إلحاح‭ ‬البطل‭ ‬على‭ ‬متابعة‭ ‬مثل‭ ‬هذه‭ ‬اللحظة‭ ‬الوصفية‭ ‬يمنحها‭ ‬طابعاً‭ ‬تفسيرياً،‭ ‬ويكشف‭ ‬عن‭ ‬اعترافه‭ ‬ببراعة‭ ‬المصور‭ ‬مضفياً‭ ‬جواً‭ ‬حلمياً‭ ‬خاصاً‭ ‬حين‭ ‬يقول‭: ‬‮«‬وردد‭ ‬كمن‭ ‬يحلم‭: ‬أين‭ ‬يذهب‭ ‬العندليب‭ ‬عندما‭ ‬يأتي‭ ‬الشتاء؟‮»‬‭. ‬ما‭ ‬يشير‭ ‬إلى‭ ‬قوة‭ ‬مؤثرات‭ ‬المكان‭ ‬في‭ ‬الذاكرة‭ ‬للتعبير‭ ‬عن‭ ‬هواجس‭ ‬الكاتب‭ ‬الحلمية‭ ‬المضمرة‭ ‬في‭ ‬التعامل‭ ‬مع‭ ‬المكان،‭ ‬بعيداً‭ ‬عن‭ ‬القيمة‭ ‬الجمالية‭ ‬الراسخة،‭ ‬أحياناً‭. ‬

أما‭ ‬بطله‭ ‬فيبقى‭ ‬نهباً‭ ‬لهاجس‭ ‬نفسي‭ ‬متوتر‭ ‬في‭ ‬قصته‭ ‬‮«‬بوس‭ ‬إكس‭ ‬مشيا‮»‬‭ ‬عندما‭ ‬يردد‭ ‬بعض‭ ‬الألفاظ‭ ‬من‭ ‬دون‭ ‬وعي‭ ‬لمعناها‭ ‬حتى‭ ‬نهاية‭ ‬القصة‭,‬‭ ‬مما‭ ‬يعبر‭ ‬عن‭ ‬شيوع‭ ‬حالة‭ ‬من‭ ‬الانسحاق‭ ‬تحت‭ ‬عجلات‭ ‬الحياة‭ ‬اليومية‭ ‬عبر‭ ‬تحليل‭ ‬نفسي‭ ‬يوغل‭ ‬نحو‭ ‬أعماق‭ ‬الشخصيات‭,‬‭ ‬مستفيدا‭ ‬من‭ ‬طروحات‭ ‬علماء‭ ‬النفس،‭ ‬وبالذات‭ ‬مدرسة‭ ‬التحليل‭ ‬النفسي‭,‬‭ ‬كما‭ ‬فعل‭ ‬مع‭ ‬المرأة‭ ‬التي‭ ‬تعوض‭ ‬عن‭ ‬شعورها‭ ‬بالنقص‭ ‬في‭ ‬الهروب‭ ‬نحو‭ ‬إشباع‭ ‬رغبتها‭ ‬في‭ ‬قصته‭ ‬‮«‬حتى‭ ‬القطط‮»‬‭  ‬فتتخذ‭ ‬السادية‭ ‬وسيلة‭ ‬لتعذيب‭ ‬الآخرين‭ ‬للثأر‭ ‬من‭ ‬الواقع‭,‬‭ ‬وذلك‭ ‬عبر‭ ‬لقطة‭ ‬فنية‭ ‬قائمة‭ ‬على‭ ‬تجانس‭ ‬الحوار‭ ‬مع‭ ‬الحدث‭ ‬في‭ ‬ظل‭ ‬سرد‭ ‬لعوامل‭ ‬الاستلاب‭ ‬في‭ ‬القصتين‭ ‬‮«‬سفرة‭ ‬الجسدالآخرين‮»‬،‭ ‬و«سافروا‭ ‬مع‭ ‬طيور‭ ‬البحر‮»‬‭. ‬

 

استثمار‭ ‬القراءة

وأما‭ ‬قصتاه‭ ‬أحلام‭ ‬الفارس‭ ‬الحزين‭ ‬دونكي‭ ‬خوتا،‭ ‬والوشق،‭ ‬من‭ ‬مجموعته‭: ‬‮«‬في‭ ‬زورق‭ ‬واحد‮»‬‭ ‬فإن‭ ‬بطل‭ ‬القصة‭ ‬الأولى‭ ‬‮«‬م‮»‬‭ ‬يسترجع‭ ‬بحركة‭ ‬زمنية‭ ‬نحو‭ ‬الماضي‭ ‬تشير‭ ‬إلى‭ ‬‮«‬الصور‭ ‬التخطيطية‭ ‬في‭ ‬الكتاب‭ ‬لوجه‭ ‬دونكي‭ ‬خوتا‭ ‬المرهق‭ ‬النحيف،‭ ‬ولرقبته‭ ‬الهزيلة‭ ‬ولعينيه‭ ‬المتقدتين‭..‬‮»‬،‭ ‬والتي‭ ‬يشكل‭ ‬الفضاء‭ ‬البصري‭ ‬فيها‭ ‬نقطة‭ ‬انطلاق‭ ‬خاصة‭ ‬لاستثمار‭ ‬القراءة‭ ‬بوصفها‭ ‬ممارسة‭ ‬بصرية‭/ ‬مرئية‭ ‬تسهم‭ ‬في‭ ‬إثراء‭ ‬البناء‭ ‬السردي،‭ ‬وإغناء‭ ‬مشاهد‭ ‬القصة‭ ‬بلمحات‭ ‬ملتقطة‭ ‬من‭ ‬خارج‭ ‬القصة،‭ ‬وكأنها‭ ‬‮«‬كولاج‮»‬‭ ‬صوري‭ ‬ينتزع‭ ‬من‭ ‬غلاف‭ ‬الرواية‭ ‬ليوضع‭ ‬في‭ ‬سياقها‭ ‬السردي،‭ ‬مثلما‭ ‬انتزع‭ ‬بعض‭ ‬المشاهد‭ ‬ووضعها‭ ‬على‭ ‬الشاشة،‭ ‬ثم‭ ‬راح‭ ‬يتأمل‭ ‬الجماهير‭ ‬في‭ ‬الملابس‭ ‬الملونة‭ ‬والنساء‭ ‬الجميلات‭ ‬اللائي‭ ‬يحملن‭ ‬باقات‭ ‬كبيرة‭ ‬من‭ ‬زهور‭ ‬البراري،‭ ‬أو‭ ‬يستحضر‭ ‬صورة‭ ‬النصب‭ ‬الجداري‭ ‬لحمورابي‭. ‬أما‭ ‬في‭ ‬قصة‭ ‬‮«‬الوشق‮»‬‭ ‬فإن‭ ‬الساردة‭ ‬تتحدث‭ ‬عن‭ ‬زوجها‭ ‬الذي‭ ‬زيّن‭ ‬جدران‭ ‬بيته‭ ‬بلوحات‭ ‬‮«‬مطبوعة‭ ‬لفنانين‭ ‬كبار‭ ‬ومن‭ ‬مدارس‭ ‬شتى‮»‬،‭ ‬في‭ ‬إشارة‭ ‬واضحة‭ ‬إلى‭ ‬أن‭ ‬الفضاء‭ ‬البصري‭ ‬يتشكل‭ ‬بطريقة‭ ‬أو‭ ‬بأخرى‭ ‬لخلق‭ ‬تنوع‭ ‬خاص‭ ‬في‭ ‬المشاهد‭ ‬القصصية،‭ ‬وليعين‭ ‬الكاتب‭ ‬على‭ ‬الانتقال‭ ‬من‭ ‬مكان‭ ‬إلى‭ ‬آخر،‭ ‬أو‭ ‬من‭ ‬زمان‭ ‬إلى‭ ‬آخر‭.‬

ويشغل‭ ‬الفضاء‭ ‬البصري‭ ‬مساحة‭ ‬كبيرة‭ ‬من‭ ‬قصص‭ ‬‮«‬مملكة‭ ‬الانعكاسات‭ ‬الضوئية‮»‬‭ ‬من‭ ‬خلال‭ ‬التراسل‭  ‬بين‭ ‬اللوحة‭ ‬والقصة،‭ ‬بوصف‭ ‬اللوحة‭ ‬سرداً‭ ‬بصرياً‭ ‬يتوغل‭ ‬ليصبح‭ ‬أشبه‭ ‬بحكاية‭ ‬ملصقة‭ ‬داخل‭ ‬سيرورة‭ ‬القص،‭ ‬لأن‭ ‬الكاتب‭ ‬يطمح‭ ‬إلى‭ ‬تحقيق‭ ‬نوع‭ ‬من‭ ‬التنافذ‭ ‬بين‭ ‬القصة‭ ‬والفنون‭ ‬الأخرى،‭ ‬كالموسيقى‭ ‬والتشكيل‭ ‬والمسرح‭ ‬والأساطير‭. ‬

 

قراءة‭ ‬غير‭ ‬مشروطة

ومن‭ ‬هنا‭ ‬تمكن‭ ‬المدى‭ ‬التشكيلي‭ ‬من‭ ‬أخذ‭ ‬فضائه‭ ‬السردي‭ ‬في‭ ‬القصة،‭ ‬وبالذات‭ ‬في‭ ‬القصص‭: ‬فتاة‭ ‬مجدولة‭ ‬بالضوء،‭ ‬ومملكة‭ ‬الانعكاسات‭ ‬الضوئية،‭ ‬وأحلام‭ ‬بيضاء،‭ ‬وتذكرني‭ ‬مع‭ ‬شوبرت،‭ ‬ومملو،‭ ‬حينما‭ ‬يلتقي‭ ‬المنظور‭ ‬التشكيلي‭ ‬مع‭ ‬منظور‭ ‬القاص‭ ‬في‭ ‬تكوين‭ ‬مشهد‭ ‬وصفي‭ ‬ينطلق‭ ‬من‭ ‬تمثل‭ ‬عمل‭ ‬فني‭ ‬خاص‭ ‬يعد‭ ‬مشهداً‭ ‬منقولاً‭ ‬من‭ ‬الواقع؛‭ ‬وهذا‭ ‬ما‭ ‬يجعل‭ ‬القصة‭ ‬عملاً‭ ‬مفتوح‭ ‬النهايات‭ ‬ذ‭ ‬في‭ ‬غالب‭ ‬الأحيان‭ ‬ذ‭ ‬لدى‭ ‬جليل‭ ‬القيسي،‭ ‬ومعرضة‭ ‬للهواء،‭ ‬مكشوفة‭ ‬أمام‭ ‬المشاهد‭ ‬وهو‭ ‬يطمح‭ ‬إلى‭ ‬أن‭ ‬يقرأها‭ ‬قراءة‭ ‬غير‭ ‬مشروطة‭ ‬بحيث‭ ‬يمكن‭ ‬العودة‭ ‬إليها‭ ‬بوجهة‭ ‬نظر‭ ‬ومناخات‭ ‬متجددة،‭ ‬وهذا‭ ‬ما‭ ‬يكشف‭ ‬عن‭ ‬وجود‭ ‬تناظر‭ ‬جمالي‭ ‬بين‭ ‬القصة‭ ‬واللوحة،‭ ‬يسري‭ ‬على‭ ‬أجواء‭ ‬القصص،‭ ‬وملامح‭ ‬تطورها‭ ‬من‭ ‬حيث‭ ‬استيعابها‭ ‬لعديد‭ ‬من‭ ‬التناصات‭ ‬من‭ ‬أعمال‭ ‬دستويفسكي‭ ‬والأساطير؛‭ ‬وربما‭ ‬النصوص‭ ‬الخفية‭ ‬التي‭ ‬لا‭ ‬يعلن‭ ‬عنها،‭ ‬وقد‭ ‬جاء‭ ‬هذا‭ ‬الولع‭ ‬بكتابة‭ ‬مثل‭ ‬هذه‭ ‬القصص‭ ‬نتيجة‭ ‬ضغوط‭ ‬مأزومة‭ ‬تدفعه‭ ‬للتصريح‭ ‬أن‭ ‬كل‭ ‬شيء‭ ‬أصبح‭ ‬يتلاشى،‭ ‬وأن‭ ‬من‭ ‬واجبه‭ ‬ككاتب‭ ‬أن‭ ‬يحتوي‭ ‬هذا‭ ‬الركام‭ ‬للحفاظ‭ ‬على‭ ‬جماليته‭ ‬كما‭ ‬يحافظ‭ ‬الفنان‭ ‬على‭ ‬لوحاته‭ ‬القديمة،‭ ‬عبر‭ ‬نوع‭ ‬من‭ ‬الارتداد‭ ‬نحو‭ ‬الماضي‭ ‬الأثير،‭ ‬ولكنه‭ ‬مهدد،‭  ‬ويعاني‭ ‬إزاحات‭ ‬عديدة،‭ ‬بعد‭ ‬أن‭ ‬تموضع‭ ‬في‭ ‬أمكنة‭ ‬قلقة،‭ ‬وذات‭ ‬علاقات‭ ‬صادمة‭ ‬مع‭ ‬الإنسان،‭ ‬ففي‭ ‬قصة‭ ‬‮«‬فتاة‭ ‬مجدولة‭ ‬بالضوء‮»‬‭ ‬يستحضر‭ ‬اللوحة‭ ‬والأسطورة‭ ‬في‭ ‬داخل‭ ‬سياق‭ ‬السرد،‭ ‬حينما‭ ‬يتحول‭ ‬الحديث‭ ‬من‭ ‬اللوحة‭ ‬التي‭ ‬تجسد‭ ‬ملامح‭ ‬نصب‭ ‬الحرية‭ ‬لجواد‭ ‬سليم‭ ‬إلى‭ ‬الأسطورة،‭ ‬والرمز‭ ‬الأسطوري‭ ‬للأفعى‭ ‬بوصفها‭ ‬رمزاً‭ ‬جنسياً‭ ‬يواجه‭ ‬المرأة‭ ‬وهي‭ ‬تقرأ‭ ‬اللوحة‭ ‬قراءة‭ ‬بصرية؛‭ ‬فراح‭ ‬يتذكر‭ ‬قبائل‭ ‬الزولو‭ ‬وتغوني‭ ‬في‭ ‬إفريقيا‭ ‬الوسطى‭ ‬وقبائل‭ ‬كفر‭ ‬في‭ ‬جنوب‭ ‬إفريقيا،‭ ‬مشيرا‭ ‬إلى‭ ‬اعتقادها‭ ‬بأن‭ ‬‮«‬الثعابين‭ ‬آباء‭ ‬وأنهم‭ ‬يعودون‭ ‬للحياة‭ ‬ويزورون‭ ‬مساكنهم‭ ‬المقدسة‮»‬،‭ ‬سحرياً‭ ‬خاصاً،‭ ‬ثم‭ ‬تتصاعد‭ ‬أهمية‭ ‬اللوحة‭ ‬في‭ ‬فضاء‭ ‬القصة‭ ‬فيعرضها‭ ‬على‭ ‬شاشة‭ ‬حقيقية‭ ‬تعرض‭ ‬قصراً‭ ‬لسنحاريب،‭ ‬وحاشية‭ ‬أسرحدون‭ ‬وشخصية‭ ‬الحكيم‭ ‬الأشوري‭ ‬‮«‬أحيقار‮»‬،‭ ‬وتستمر‭ ‬هذه‭ ‬الشاشة‭ ‬لتصبح‭ ‬فضاءً‭ ‬بصرياً‭ ‬يستعيد‭ ‬صوغ‭ ‬المشهد‭ ‬الأسطوري‭ ‬عبر‭ ‬سرد‭ ‬قصصي‭ ‬جديد،‭ ‬بشكل‭ ‬يجعل‭ ‬من‭ ‬اللوحة‭ ‬بؤرة‭ ‬مشعة‭ ‬قادرة‭ ‬على‭ ‬خلق‭ ‬العمق‭ ‬التعبيري‭ ‬في‭ ‬القصة‭ ‬عبر‭ ‬مقترب‭ ‬العلاقة‭ ‬الحميمة‭ ‬بين‭ ‬الأسطورة‭ ‬والحلم،‭ ‬وذلك‭ ‬بالانتقال‭ ‬من‭ ‬زمن‭ ‬الواقع‭ ‬إلى‭ ‬زمن‭ ‬الأسطورة‭ ‬ليترجم‭ ‬الصيرورة‭ ‬الرمزية‭ ‬الكامنة‭ ‬في‭ ‬ثنايا‭ ‬الأحلام‭. ‬فأصبحت‭ ‬اللوحة‭ ‬وسيلة‭ ‬للانتقال‭ ‬نحو‭ ‬الأسطورة‭ ‬في‭ ‬قصة‭ ‬‮«‬مملكة‭ ‬الانعكاسات‭ ‬الضوئية‮»‬‭ ‬من‭ ‬خلال‭ ‬زيارة‭ ‬بطل‭ ‬القصة‭ ‬التي‭ ‬يسردها‭ ‬بلسان‭ ‬المتكلم‭ ‬للفنان‭ ‬‮«‬عادل‭ ‬العطار‮»‬‭ ‬الذي‭ ‬يسكن‭ ‬في‭ ‬القلعة‭ ‬‮«‬يريد‭ ‬بها‭ ‬قلعة‭ ‬كركوك‭ ‬الأثرية‭ ‬القديمة‮»‬‭. ‬والفنان‭ ‬شخصية‭ ‬ذات‭ ‬ثقافة‭ ‬عميقة،‭ ‬محدث‭ ‬رائع،‭ ‬يظهر‭ ‬ذلك‭ ‬الكاتب‭ ‬من‭ ‬خلال‭ ‬تحليله‭ ‬للوحة‭ ‬‮«‬استديو‭ ‬الفنان‮»‬‭ ‬التي‭ ‬رسمها‭ ‬‮«‬فريدريك‭ ‬بازل‮»‬‭ ‬في‭ ‬ذروة‭ ‬شبابه،‭ ‬ثم‭ ‬يستطرد‭ ‬ليتخيل‭ ‬وجوه‭ ‬الآلهة‭ ‬والنار‭ ‬الأزلية،‭ ‬ثم‭ ‬يتحول‭ ‬الحديث‭ ‬عن‭ ‬اللوحات‭ ‬المحفوظة‭ ‬‮«‬الألبوم‮»‬‭ ‬إلى‭ ‬حديث‭ ‬عن‭ ‬الآلهة‭ ‬والرموز‭ ‬الأسطورية‭ ‬في‭ ‬العالم‭ ‬القديم‭ ‬بحيث‭ ‬يفتح‭ ‬الفضاء‭ ‬البصري‭ ‬فضاءات‭ ‬عوالم‭ ‬أسطورية‭ ‬كثيرة‭ ‬أمامه،‭ ‬ما‭ ‬يجعل‭ ‬قراءة‭ ‬اللوحة‭ ‬تلقياً‭ ‬حلمياً‭ ‬للأساطير‭ ‬القديمة‭.‬

 

فضاء‭ ‬بصري

ويحاول‭ ‬الكاتب‭ ‬استدراجنا‭ ‬نحو‭ ‬الفضاء‭ ‬البصري‭ ‬في‭ ‬قصة‭ ‬‮«‬أحلام‭ ‬بيضاء‮»‬‭ ‬وهو‭ ‬محمل‭ ‬بالأسطورة‭ ‬عبر‭ ‬استحضاره‭ ‬لشخصية‭ ‬صديقه‭ ‬الفنان‭ ‬‮«‬حازم‮»‬‭ ‬الذي‭ ‬كان‭ ‬يرسم‭ ‬معه‭ ‬في‭ ‬النشرات‭ ‬المدرسية‭ ‬خلال‭ ‬الدراسة‭ ‬المتوسطة،‭ ‬ليجعل‭ ‬من‭ ‬ملامح‭ ‬شخصية‭ ‬الفنان‭ ‬‮«‬اللحية‭ ‬وملابس‭ ‬الراهب‮»‬‭ ‬فضاءً‭ ‬بصرياً‭ ‬مضافاً‭ ‬إلى‭ ‬اللوحات‭ ‬والألوان،‭ ‬مستفيداً‭ ‬من‭ ‬سرده‭ ‬للذكريات‭ ‬القديمة‭ ‬الآفلة‭ ‬والحديثة‭ ‬عن‭ ‬موهبة‭ ‬بطل‭ ‬القصة‭ ‬‮«‬محمد‭ ‬الراوي‮»‬‭ ‬وقوة‭ ‬ملاحظاته‭ ‬حين‭ ‬يقول‭: ‬‮«‬تكلم‭ ‬بحماسة‭ ‬أكثر‭ ‬عن‭ ‬صبانا،‭ ‬وعن‭ ‬موهبتي‭ ‬الكبيرة‭ ‬في‭ ‬الرسم،‭ ‬وعن‭ ‬قوة‭ ‬ملاحظاتي،‭ ‬ورشاقة‭ ‬خطواتي‭ ‬وقتها‭ ‬ومزجي‭ ‬الذكي‭ ‬للألوان،‭ ‬وفهمي‭ ‬الدقيق‭ ‬في‭ ‬المنظور‭... ‬تكلم‭ ‬كيف‭ ‬دخل‭ ‬بناء‭ ‬على‭ ‬وصية‭ ‬والده‭ ‬الذي‭ ‬نذره‭ ‬وهو‭ ‬صغير‭ ‬للكنيسة‮»‬،‭ ‬ثم‭ ‬تتكرر‭ ‬هذه‭ ‬الملاحقة‭ ‬لتتطور‭ ‬إلى‭ ‬حديث‭ ‬عن‭ ‬رينوار،‭ ‬فائق‭ ‬حسن،‭ ‬ضياء‭ ‬العزاوي،‭ ‬وعن‭ ‬الفن‭ ‬البدائي‭ ‬وغوغان،‭ ‬ثم‭ ‬يتحول‭ ‬المشهد‭ ‬إلى‭ ‬مشهد‭ ‬حلمي‭ ‬خاص،‭ ‬يتداخل‭ ‬فيه‭ ‬خيال‭ ‬الفنان‭ ‬مع‭ ‬اليقين‭ . ‬ثم‭ ‬تتكرر‭ ‬المحاولة‭ ‬مرة‭ ‬أخرى‭ ‬في‭ ‬قصة‭ ‬‮«‬تذكرني‭ ‬مع‭ ‬شوبرت‮»‬‭ ‬من‭ ‬خلال‭ ‬الفنان‭ ‬بول‭ ‬غوغان‭ ‬في‭ ‬لوحتيه‭ ‬‮«‬من‭ ‬نحن؟‭ ‬من‭ ‬أين‭ ‬جئنا؟‮»‬،‭ ‬و«المسيح‭ ‬الأصفر‮»‬‭ ‬حينما‭ ‬يركز‭ ‬الصديق‭ ‬القديم‭ ‬النبيل‭ ‬مثل‭ ‬الآلهة‭ ‬بابل‭ ‬وسومر‭ ‬بصره‭ ‬في‭ ‬اللوحة‭ ‬عبر‭ ‬منظوره‭ ‬الخاص‭ ‬ليرى‭ ‬حسب‭ ‬قوله‭ ‬‮«‬الوجه‭ ‬الأصفر‮»‬‭.‬

أما‭ ‬في‭ ‬قصة‭ ‬‮«‬ممملو‮»‬،‭ ‬فيتحدث‭ ‬عن‭ ‬مدينة‭ ‬‮«‬ششروم‮»‬‭ ‬التي‭ ‬يعيش‭ ‬أهلها‭ ‬‮«‬وسط‭ ‬طوفان‭ ‬من‭ ‬الألوان،‭ ‬أشجار‭ ‬الأرجوان‭ ‬تحيط‭ ‬بنا،‭ ‬عشرات‭ ‬أنواع‭ ‬الزهور‭ ‬الملونة،‭ ‬أشجار‭ ‬البلوط،‭ ‬التوت،‭ ‬وطيور‭ ‬ملونة،‭ ‬وحتى‭ ‬جبالنا‭ ‬في‭ ‬كل‭ ‬موسم‭ ‬تكون‭ ‬بألوان‭ ‬مختلفة‭ ... ‬نحن‭ ‬لا‭ ‬نستطيع‭ ‬أن‭ ‬نعيش‭ ‬من‭ ‬غير‭ ‬ألوان‭...‬‮»‬‭ ‬ليرسم‭ ‬له‭ ‬فضاءه‭ ‬البصري‭ ‬الذي‭ ‬استقاه‭ ‬من‭ ‬أشياء‭  ‬الطبيعة‭ ‬ونباتاتها،‭ ‬ما‭ ‬يشكل‭  ‬نقلة‭ ‬واضحة‭ ‬في‭ ‬التعامل‭ ‬مع‭ ‬الفضاء‭ ‬البصري‭ ‬من‭ ‬المكونات‭ ‬التشكيلية‭ ‬إلى‭ ‬السردية؛‭ ‬وبهذا‭ ‬حقق‭ ‬الكاتب‭ ‬امتزاجاً‭ ‬واضحاً‭ ‬وجلياً‭ ‬بين‭ ‬المنظور‭ ‬البصري‭ ‬والسياق‭ ‬السردي‭ ‬لأن‭ ‬تخليق‭ ‬المشهد‭ ‬الوصفي‭ ‬جاء‭ ‬من‭ ‬خلال‭ ‬صياغة‭ ‬لغوية،‭ ‬تنطلق‭ ‬من‭ ‬العلاقة‭ ‬الحميمة‭ ‬بين‭ ‬الطبيعة‭ ‬والإنسان‭ ‬بوصف‭ ‬الفنان‭ ‬صانعاً‭ ‬آخر‭ ‬لأشياء‭ ‬الطبيعة‭ ‬حينما‭ ‬يشكلها‭ ‬على‭ ‬وفق‭ ‬منظوره‭ ‬الشخصي‭ ‬الجديد‭ ‬حينما‭ ‬يستثمر‭ ‬العملية‭ ‬الإبداعية‭ ‬في‭ ‬الإنتاج‭ ‬الفني،‭ ‬وهو‭ ‬ما‭ ‬خلق‭ ‬نوعاً‭ ‬من‭ ‬التناظر‭/ ‬التجاور‭ ‬بين‭ ‬القصة‭ ‬واللوحة،‭ ‬وبين‭ ‬السرد‭ ‬والتشكيل‭ ‬عبر‭ ‬حوار‭ ‬خفي‭ ‬بين‭ ‬السرد‭ ‬كحامل‭ ‬لرؤى‭ ‬وأفكار‭ ‬مقموعة،‭ ‬وبين‭ ‬الألوان‭ ‬التي‭ ‬تبث‭ ‬شفرات‭ ‬مضمرة‭ ‬تشكل‭ ‬دليلاً‭ ‬واضحاً‭ ‬على‭ ‬نوع‭ ‬من‭ ‬التفكير‭ ‬المتمرد‭ ‬ضد‭ ‬ما‭ ‬هو‭ ‬سائد‭ ‬أو‭ ‬مألوف،‭ ‬ولعل‭ ‬اختيار‭ ‬الكاتب‭ ‬للوحات‭ ‬أو‭ ‬مشاهد‭ ‬وصفية‭ ‬كتبت‭ ‬لتوحي‭ ‬بأنها‭ ‬وصف‭ ‬لمشهد‭ ‬تشكيلي،‭ ‬كنوع‭ ‬من‭ ‬الهروب‭ ‬من‭ ‬نقد‭ ‬الواقع‭ ‬إلى‭ ‬كشف‭ ‬عما‭ ‬هو‭ ‬مضمر‭ ‬وخفي‭ ‬ومدان‭.‬

‭***‬

يقول‭ ‬جليل‭ ‬القيسي‭: ‬أكثر‭ ‬من‭ ‬ثلاثين‭ ‬عاماً‭ ‬وأنا‭ ‬في‭ ‬شرفة‭ ‬العزلة‭.. ‬لقد‭ ‬ضربتها‭ ‬حولي‭ ‬بطريقة‭ ‬درامية‭ ‬مشوبة‭ ‬بالسادية‭.. ‬إن‭ ‬عزلتي‭ ‬نفسية‭ ‬وفلسفية‭ ‬أجيء‭ ‬إليها‭ ‬لأنني‭ ‬فيها‭ ‬أزدهر‭ ‬