الشكوى والعتاب

الشكوى والعتاب

أبو منصور الثعالبي أديب ولغوي وناقد وصاحب الكتاب الشهير «يتيمة الدهر». ولد سنة 350هـ في نيسابور عاصمة خراسان، وكانت من أعظم المدن الإسلامية في القرون الوسطى مع مدن بلخ، وهراة، ومرو مسقط رأس عمر الخيام وفريد الدين العطار وإمام الحرمين عبدالله النيسابوري.
والثعالبي هو عبدالملك بن محمد بن إسماعيل الثعالبي، كان فرّاء يخيط جلود وفراء الثعالب فنسب إلى صناعته، درس الأدب والتاريخ فنبغ واشتهر. قال الباخرزي عنه هو جاحظ نيسابور، وكان من أشهر علماء شرق العالم الإسلامي (ما وراء النهر) وهو من منارات القرن الرابع الهجري في الأدب وله عدد من الكتب بعد «يتيمة الدهر»، منها «العقد النفيس في نزهة الجليس»، و«فقه اللغة وسر العربية»، ونسب إليه «الشكوى والعتاب وما وقع للخلان والأصحاب»، الذي قامت بتحقيقه د. إلهام عبدالوهاب المفتي، وهي أستاذة في كلية التربية الأساسية - قسم اللغة العربية في الكويت سابقاً. وقام المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب بطبعه ضمن سلسلة إحياء التراث.

 

قسمت المحققة مادة الكتاب إلى عشرة أبواب تبدأ بالعتاب والشكوى والتثريب والاستعطاف وما يشبه ذلك، وتنتهي بالباب العاشر في العمل والكد والتعب والشغل والجد والعزم والنية والكفاية والكيس والعجلة والسرعة والعدو وحسن التأني في الأمور وانتهاز الفرص. وتصدر الكتاب بأبيات قيّمة نسبت لابن الملقن وإلى إبراهيم الخواص:
صبرت على بعض الأذى خوف كُلّه
ودافعتُ عن نفسي لنفسي فعزّتِ
وجرَّعتها المكروه حتى تدرَّبت
ولو لم أجرعها إذاً لاشمأزت
ألا رُب ذُُلٍ ساق للنفس عزةً
ويا رب نفس بالتذلل عزَّت
سأصبر جهدي إن في الصبر عزةً
وأرضى بدنياي وإن هي قلَّتِ
وقول آخر:
قالوا غداً العيد ماذا أنت لابسه؟
فقلت خلعة ساق عنده جَرعَا
فقرٌ وصبرٌ هما ثوبان تحتهما
قلب يرى ربه الأعيادُ والجُمعا
ثم يأتي الكتاب بأروع ما قيل في العتاب والشكوى في الشعر العربي.
روى أياس بن معاوية: خرجت في سفر ومعي رجل من الأعراب، فلما كان ببعض المناهل لقيه ابن عم له فتعانقا وإلى جانبهما شيخ كبير فقال لهما: انعما عيشاً، إن المعاتبة تبعث التجني، والتجني يبعث المخاصمة, والمخاصمة تبعث العداوة:
فدع ذكر العتاب فرب شر
طويل هاج أوّله العتاب
وحول نشوب الخلاف من دون أن يتوقه المرء، قال فيه الشاعر:
بلى قد تهب الريح من غير وجهها
وتقدح في العود الصحيح القوادح
أما الشكوى وإبداؤها بين الناس، فهناك من يراها منقصة.
قال الأحنف: شكوت إلى عمي صعصعة ابن معاوية وجعاً في بطني فنهرني ثم قال: يا ابن أخي إذا نزل بك شيء فلا تشكه إلى أحد فإنما الناس رجلان، صديق تسوؤه، وعدو تسره، والذي بك لا تشكه إلى مخلوق مثلك لا يقدر على رفع مثله عن نفسه، ولكن من ابتلاك هو قادر أن يفرِّج عنك، يا ابن أخي إحدى عيني هاتين ما أبصر بها سهلاً ولا جبلاً من أربعين سنة وما أطلعت على ذلك امرأتي ولا أحد من أهلي.
قال الشاعر:
شكوت وما الشكوى لمثلي عادة
ولكن تغيض النفس عندامتلائها
ثم تناول الكتاب ما قيل في العتاب:
ومن لم يغمض عينه عن صديقه
وعن بعض ما فيه يمت وهو عاتب
ومن يتتبع جاهداً كل عثرة 
يجدها ولم يسلم له الدهر صاحب
وهذا لبشار:
إذا كنت في كل الأمور معاتباً
صديقك لم تلق الذي لا تعاتبه
وروى الكتاب هذا الموقف الطريف لعبدالله ابن طاهر، إذ قال: كنت عند المأمون ثاني اثنين، فنادى يا غلام، يا غلام، بأعلى صوته، فدخل غلام تركي، فقال بحدة: أيمنع الغلام أن يأكل ويشرب أو يتوضأ ويصلي، كلما خرجنا من عندك تصيح يا غلام يا غلام إلى كم يا غـــــلام يا غلام؟
فنكس المأمون رأسه طويلاً فما شككت أنه يأمر بضرب عنقه، فقال المأمون لي: يا عبدالله إن الرجل إذا حَسُنت أخلاقه ساءت أخلاق خدمه، فلا نستطيع أن نسيء أخلاقنا لتحسن أخلاق خدمنا.
وقال في ذلك رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «بئس المال في آخر الزمان المماليك».
وعن مجاهد «إذا كثر الخدم كثرت الشياطين»، وعن سالم بن أبي الجعد «عبد صالح خير من حر طالح».
وقال لقمان: «لا تأمن امرءاً على سر، ولا تطأ خادمة تريدها للخدمة، ولا تتخذ غلاماً يأكل فارهاً، ويعمل كارهاً، ويبغض قوماً ويحب نوماً».
وكانت للمأمون جويرية من أحسن الناس وجهاً وأسبقهم إلى كل نادرة، وهي راوية بديعة للشعر، وتخط بأحسن ما يكتب بالقلم، بالإضافة إلى حسن منطقها وجمالها وحسن طلعتها، نقشت على خاتمها: «حسبي حبي»، فحسدها خدم القصر حتى جرَّعوها السم فماتت، فجزع عليها المأمون وقال فيها:
اختلست ريحانتي من يدي
أبكي عليها آخر المسند
كانت هي الأنس إذا استوحشت
نفسي من الأقرب والأبعد
وروضة كان بها مرتعي
ومنهلاً كان بها موردي
كانت يدي كان بها قوتي
فاختلس الدهر يدي من يدي
وأجمل ما قيل في اختبار الصديق ما قاله عبدالله بن معاوية بن عبدالله بن جعفر بن أبي طالب في الفضل بن السائب:
رأيت فضيلاً كان شيئاً ملففا
فكشّفه التمحيص حتى بدا ليا
أأنت أخي ما لم تكن لي حاجة
فإن عرضت أيقنت ألا أخاً ليا
ولست براء عيب ذي الود كله
ولا بعض ما فيه إذا كنت راضياً
فعين الرضا عن كل عيب كليلة
ولكن عين السخط تبدي المساويا
كتاب يعجز الكاتب أن يحيط بشيء منه في مقالة، إنه مؤلَّف قيم صدر من المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب، ومنسوب لأبي منصور الثعالبي، قامت بتحقيقه د. إلهام عبدالوهاب المفتي ■