أبي أمين نخلة
مازال والدي ماثلا أمام ناظري. مازلت أراه في شيخوخته الهادئة وسيجارة «اليانجي» المذهبة لا تفارق شفتيه. كان يشكو من ألم في المرارة وقرحة في المعدة. استمر يقرأ كتب الأصول ودواوين الشعر حتى آخر أيامه. كان يفرح إذا قرأ أدبا أو شعرا نضرا فتنفرج أساريره على صفاء ذهن. كان والدي يعاملني أنا وشقيقتي المرحومة مرسال معاملة الوالد المحب الحنون. وكان لا يبخل في تأمين كل ما نحتاج إليه من لعب ولباس.
لم أعرف جدي لوالدي، أمير الزجل في لبنان، رشيد نخلة، لأنه توفي سنة 1939 وأنا عمري سنتان. ولكني كنت أسمع أبي يتحدث عنه. كان معجبا به ويحترمه كل الاحترام، كان مثله في الحياة. كان رجلا قديرا وسياسيا وإداريا مميزا. وهذا جعل والدي يهوى السياسة، فقد ترشح لعضوية المجلس النيابي سنة 1947 وفاز. وكانت عينه على رئاسة الجمهورية وكان مرشحا دائما لتولي هذا المنصب. كان والدي سيد الصناعتين، صناعة النثر والشعر، وكان صاحب الأناقتين أناقة اللفظ وأناقة الهندام. ما كنت أراه إلا وهو دائما في كامل أناقته. فهو في المجالس سيد الظرف والذوق والأناقة والكياسة ورقة الحاشية.
يقول متذكرا والده في إحدى قصائده:
يا من رآني وأبي مرة
هذا أخي، في جانبي بل أخي..
أستغفر الهيبة، فهو الذي
بدلني في الرفق شمسًا بفي!
رتعت في برّ، وفي رحمة،
يلويه لي من قلبه ألف شي.
أما همومي فهو أدرى بها،
ففي يديه النار، لا في يديّ..
كأن قلبي كان في صدره،
يشق من سرّي له كل طي.
ويقول في قصيدة «سعيد» في السابعة يظهر حبه وحنانه ورأفته:
وحقك: ما من أب، يا «سعيد»،
يحب ابنه فوق هذا المزيد!
يقولون: إني كثير الحنان،
عليك، وإن المربي شديد.
سألت إله النصارى يقيك
لسان البغيض، وعين الحسود.
ولست أفاضل، لكنما
إله النصارى أب ذو وحيد..
وله قصيدة عنوانها «سعيد» في الخامسة والعشرين يقول فيها:
إذا كان للأبناء طعم مرارة،
فإن «سعيدًا» طعمه العسل الشهد.
كأن فؤادي في جوار فؤاده،
فمنه لي الشم المفيح، والورد.
وله قصيدة عنوانها «إلى بنتي» يقول فيها:
فيا كوكب البيت، الذي كلما بدا
ترنح لي قلب، وماج صميم،
كأن لم تلح شمس النهار مضيئة،
ولم تتلألأ في السماء نجوم!
ولم تنتقل في الكثيب غزالة،
ولم يبد منها رائع، ووسيم!
ووالله ما في الوالدين كرقتي،
ولا كفؤادي في الصدور رحيم!
كان والدي معجبًا بالزعيم رياض الصلح بطل استقلال لبنان، وهو كان يدعم والدي سياسيًا.
عندما قتل رياض الصلح في عمّان سنة 1949 شاهدت والدي ودمعة في عينه لأول مرة. ولذلك نظم قصيدتين في رثائه، وهذا لم يفعله لأحد سواه. قصيدة قالها «في حفلة تأبينه» يقول فيها:
ما على الحب إن مضى الأحباب!
تسلم الذكريات والأسباب..
جمع الكرم في الدنان، فكأس،
وشميم، زمانه، وشراب
في القتيل الذي «بعمان» جرح
ذل سيف به، وعز قراب
جامع الصف، بعد طول شتات،
جمعت تحت زقه الأحزاب
وفي قصيدة ثانية «في حفل تمثاله» يقول:
لولاك لم يطأ المدائحَ خاطري
يومًا، ولكن المودة توجب.
والدي لم يمدح رجلاً في حياته
كان والدي يحب الطبيعة اللبنانية الجبلية، حيث الخضرة والمياه العذبة والسماء الزرقاء، وحيث يشاهد البحر المنبسط على مدّ النظر، فكان يتفنن بالزرقتين زرقة السماء وزرقة مياه البحر.
وقد وصف كل ذلك في كتابه «المفكرة الريفية» الذي صدر سنة 1942، وجاء روعة في الكتابة النثرية الفنية.
وكان على علاقة ودّ وإعجاب بأمير الشعراء أحمد شوقي ونظم فيه قصائد عدة. وكان يجتمع به كلما جاء إلى لبنان. وقد رثاه بقصيدة من أجمل ما نظم قال فيها:
شوقي، وأية بردة في نسجهِ،
منوالها غزْلُ الشعاع النيّرِ!
ديباجة كالصحو يلمع زرقة!
وبها مشابه من سحاب ممطرِ
أ «أبا علي»: أدمعي، وقصائدي
وقف الوفاء على ثراك الأطهرِ
أوليتني الشرف الذي لا ينتهي
لمحله عزُّ السماك الأنور
تلك الأبوة في البيان أصونها
ليقال فيك، غدًا: وفى ابن الخيّر!
وكان يفضل أحمد شوقي على كل من حافظ إبراهيم وخليل مطران، لغنائية شعر شوقي الذي غناه الموسيقار محمد عبدالوهاب خاصة.
وكان على مودة مع الشاعر المصري أحمد رامي، وكان يحب المازني ولا يحب العقاد. كان يقول إنه معقد. وكان يقدر أمين الريحاني والأخطل الصغير.
كان والدي يزور دمشق باستمرار للقاء أصدقاء له كثر.
وكان على صداقة مع الملك فيصل، وكان يلبي دعواته لزيارة المملكة العربية السعودية، وقد زار قطر وبعض دول الخليج العربي.
في أبريل سنة 1973 وجهت دعوة لإقامة مهرجان لتكريمه في 15 أبريل كان سيشارك فيه كبار الشعراء العرب. ولكن مع الأسف هذا الحفل ألغي بسبب مقتل الزعماء الفلسطينيين الثلاثة في بيروت على يد إسرائيل، وكان من بينهم الشاعر كمال ناصر الذي كان سيلقي قصيدة في المهرجان باسم فلسطين.
وفي 10 ديسمبر سنة 1996 أقامت وزارة الثقافة والتعليم العالي برعاية وحضور رئيس الجمهورية اللبنانية الأستاذ إلياس الهراوي وحضور أعضاء الحكومة احتفاء بإحياء ذكرى عشرين عامًا على وفاة أمين نخلة، بمشاركة ثلة من أدباء وشعراء من لبنان ومن البلدان العربية.
وفي سنة 2002 أقامت مؤسسة جائزة عبدالعزيز سعود البابطين للإبداع الشعري حفلا تكريميًا له في الكويت بمناسبة مرور مائة سنة على ولادته.
وفي لبنان أقيمت ندوات عدة تناولت أدبه وشعره. وأخيرا نشرنا أعماله الكاملة التي صدرت عن دار صادر في بيروت. كان والدي يبتعد عن المهاترات والمنازعات، وما كان يحفل بأي نقد يوجه إليه. ولم يكن يتكلم بسوء عن أي أديب أو شاعر. يكفيه أنه كان واثقا بنفسه مالكا للغته العربية لا يقبل فيها بأي لحن. كان عروبيًا وفيًا لمبادئه لا يساوم ومتمسكا بأصالته. فهو أمين لنهجه مخلص لفنه لا يقبل إلا بما يوحيه إليه ذوقه الرفيع وحسه المرهف.