الشاعر السوداني محمد عبدالحي استدعاء الأسطورة
يذهب كثير من الباحثين وجادة القراء في السودان إلى أن الشاعر الدكتور محمد عبدالحي (1944- 1989م)، يعتبر نسيجاً وحده من حيث الخطاب الشعري. ولعلّ صوره الشعرية ظلت فريدة لما حفل به شعره من رموز تستوحي ظلالها من طقس الأسطورة. والباحث في الإرث الإبداعي للشاعر محمد عبدالحي لا يداخله الشك أنّ الموهبة الشعرية عنده نهلت من الحصيلة الثقافية الواسعة، فالأكاديمي الشاب الذي حصل على إجازة الدكتوراه من جامعة أوكسفورد الشهيرة ببريطانيا، ثم عمل محاضراً في الأدب الإنجليزي بجامعة الخرطوم حتى صار رئيساً للقسم بكلية الآداب فيها، لم يكتفِ بالتدريس والبحث الأكاديمي، بل ظل يرفد الصحف المحلية والعربية بترجمات في الأدب المقارن، مثل الدراسة التي نشرها بمجلة الدوحة عام 1979م حول سمات التشابه بين الأديب والشاعر الإنجليزي الشهير وليام بليك والأديب السوداني معاوية محمد نور، إضافة إلى قراءته للأدب الإفريقي من خلال برنامج إذاعي شهير عنوانه «أقنعة القبيلة»! كما أنه حقق الأعمال النثرية للشاعر السوداني الذائع الصيت التجاني يوسف بشير (1912-1937م)، كل هذا الحراك الثقافي والأكاديمي المميز جاء في حياة لم تتخطّ الخامسة والأربعين.
من الطبيعي إذن أن يكتسب شعر محمد عبدالحي زخمه من جراء كل هذا التنوّع الكثيف للحصيلة المعرفية. وفي هذا المقال تسليط للضوء على عمل شعري كبير للشاعر محمد عبدالحي رأى النور ضمن أعماله المبكرة، لكن العبقرية كثيراً ما تخطت حيز السن، فعلى الرغم من أنّ قصيدة «العودة إلى سنّار» من بواكير شعره، فإنها ظلت واحدة من أرقى أعماله الشعرية، قال فيها الشاعر السوداني الكبير محمد المهدي المجذوب: «فهذا الشعر نسيج ملتحم أصيل، والتوفيق بين التراث وحضارة العصر وتراثها الإنساني أمر دقيق لا يستوي إلا على يد ملكة قاهرة رزق الله بها عبدالحي».
ولعلّ أهمّ ما في قصيدة «العودة إلى سنّار» شفافية الرمز وحسن معالجة المصطلح اللغوي، بل إنّ هنالك تصالحاً بين استخدام الرمز والقاموس اللغوي في القصيدة، ما جعل انسياب الجملة الشعرية فيها سهلاً:
الليلةَ يسْتقبلني أهلي
أهدوني مسْبحةً من أسنانِ الموتى
إبريقاً... جمجمةً
ومصلّى من جلدِ الجاموسْ
رمزاً يلمحُ بين النخلةِ والأبنوسْ
لغةً تطلعُ مثل الرُّمحْ
من جسد الأرض
وعبر سماء الجرحْ!
هذا التصالح بين اللغة كوسيط حي, والرمز في هذه القصيدة، يستمر دون تكلف من أول القصيدة إلى آخرها، فتغدو القصيدة ذ وهي مطولة شعرية ذ كوناً يفصح عن أغراضه ومراميه في إيقاع شعري منسجم، حيث تخرج القصيدة من غنائية هادئة إلى إيماءات وإشارات تطوف بنا عالم الأسطورة والفانتازيا، لكن بشكل مقنع وممتع:
سأعودُ اليوم يا سنّارُ
حيث الرّمْزُ خيطٌ من بريقِ أسودٍ
بين الصدى والصوتْ
بين الثّمرِ النّاضجِ والجِذْرِ القديمْ
لغتي أنا وينبوعي الذي
يأوِي نجُومي!
وحينما نقول إنّ قصيدة «العودة إلى سنّار» ظلت واحدة من أجود الأعمال الشعرية لمحمد عبدالحي، رغم أنها من بواكير أعماله، فذلك لأنها تتميز - إلى جانب ما ذكرنا آنفاً - بكثير من عناصر العمل الفني الجيد. فالقصيدة تتكون من خمسة أناشيد، هي على التوالي: «البحر» و«المدينة» و«الليل» و«الحلم» و«الصبح». في القصيدة محاولة جادة للاستفادة من الأسطورة كوسيلة لاستخدام الرمز في ترتيب عالم عصري متشعث وإعادة تسميته. تقول الأديبة والأكاديمية والمترجمة الفلسطينية الدكتورة سلمى الخضراء الجيوسي عن هذا العمل الشعري: «في القصيدة استقطاب للعنصر الأسطوري من الشعر في سعي لإيقاظ اللاوعي الجماعي الكامل وراء النموذج الأعلى. إن في است0خدام الأسطورة وسيلة للسيطرة على مجال التاريخ المعاصر ومحاولة لإعادة النظام إلى عالم شملت تاريخه الفوضى والعجز واللاجدوى، وتشكيلاً يعطيه معنى قد يتفق حوله العالم!».
و«سنّار» في هذه القصيدة تشكّل محاولة لترتيب شكل جديد للأمة السودانية، أُخذ من ماضيها الذي يستحيل الإبحار نحوه إلا عبر استدعاء الأسطورة، حيث تبدأ القصيدة بغناء مريح، وصورة لعالم هو خليط من عتمة النور وأصابع الشمس على سطح المياه مع وقت المغيب. عالــم يبـحر في الذاكرة ليخبر عن تكوين جزيئاته مستمداً عناصره من الأسطورة في محاولة لترتيب الحاضر المتشــعث والمبعثر:
أبصرُ كيف مرّ أوّلُ الطيورِ فوقنا
ودار دورتيْنِ قبل أن يغيبْ
وكانتِ الشمْسُ على المياه...
أمشاجاً من الفوسفور واللهيبْ!
تغربُ من قلبِ مياهِ الأفقِ الغربي
حديقةً وهمية الثمار
جمالُها الجني ثمرٌ ورمّانٌ...
وتفّاحٌ بلا أشجارْ
يولدُ بغتةً لكيْ يغيبَ في الشرارْ!
وتتولد من تلك الصورة صور أخرى رائعات لعالم خرافي هو في الغالب بعض أمنيات الشاعر في لاوعيه، وهي أيضاً محاولة يلم بها الأشلاء المبعثرة لحاضر مليء بالفوضى:
كانت مصابيحُ القرى
على التّلالِ السُّودِ والأشجارْ
تطفو وتدنو مرةً
ومرّة تنأى...
تغُوصُ في الضّبابِ والبُخارْ
تسقط مثلَ الثمرِ الناضجِ...
في الصمْتِ الكثيفِ،
بين حدِّ الحلم الموحشِ...
وابتداءِ الانتظارْ!
في «العودة إلى سنّار» ذ كما تقول الدكتورة سلمى الجيوشي - استقطاب للعنصر الأسطوري من الشعر في سعى لإيقاظ اللاوعي الجمعي الكامل وراء النموذج الأعلى. ويبدو ذلك واضحاً في محاولة لإيقاظ اللاوعي الجمعي عبر الأسطورة المتفرقة الأذرع، مترامية بين صحراء جزيرة العرب وغابات الاستواء في إفريقيا. هذا التكوين الثقافي لأمة من الأمم يبدأ بعلامة التعجب وينتهي بعلامة الاستفهام:
وكانتِ الغابةُ والصحراءْ
امرأةً عاريةً تنامْ
على سريرِ البرق في انتظار
ثورِها الإلهيِّ الذي يزورُ في الظلامْ
وكان أفُقُ الوجْهِ والقناعِ شكلاً واحداً
يُزْهِرُ في سلطنةِ البراءة!
إنّ محاولة محمد عبدالحي وآخرين التنصُّل في وقت لاحق من تيار «الغابة والصحراء»، الذي كان على رأس دعاته الشاعر النور عثمان أبكر والشاعر محمد المكي إبراهيم، لا تعني كثيراً في معيار قراءتنا لما كتبه أولئك النفر في بداية الستينيات، حيث كانت أطروحة «الغابة والصحراء» سؤالاً وجودياً مشروعاً. ولعلّ «العودة إلى سنّار» ذ إلى جانب أنها تمثل عالماً سحرياً وهلامياً يحلم به الشاعر ويبحث عنه في شبابه الباكر - كانت محاولة للإجابة عن سؤال ما زال يطرح نفسه عند بعض السودانيين: من نحن؟ أعربٌ نحن أم أفارقة؟
إنّ مصطلح الثور الإلهي مثلاً - وهو الثور المقدس عند قبيلة الدينكا - يأتي في صلب القصيدة ليندمج مع إشارات عدة مأخوذة من كتب مثل: «طبقات ود ضيف الله» للفقيه محمد النور ابن ضيف الله، و«الفتوحات المكية» لمحيي الدين بن عربي، و«سقط الزند» للمعري:
فافتحوا حُرّاس سنّار
افتحوا للعائد أبواب المدينة
بدويٌّ أنت؟ لا
من بلاد الزنج؟ لا
أنا منكم...
تائهٌ عادَ يغنِّي بلسانْ
ويصلّي بلسانْ!
ويقول في موضع آخر:
أنا منكمْ
جُرْحُكمْ جُرحِي وقوسي قوسُكم
وثنيٌّ مجّد الأرضَ وصوفيٌّ ضريرْ
مجّد الرُّؤيا ونيرانَ الإلهْ!
نلاحظ في «العودة إلى سنّار» أنّ الشاعر عمد إلى خلق وتركيب الصورة وترتيبها ترتيباً يخلق في الذهن حالة نفسية وطقوساً لها دلالتها، مثل أن يبدأ القصيدة بمنظر الشمس وهي تغرب، ثم يندس في البحر والليل مخاطباً كوناً من الأسطورة والرموز الوهمية، ثم يخرج بنا إلى الشمس في نهاية القصيدة، وضجة الآدميين، فكأنه يدخل اللاوعي الجمعي في إضاءة حلم يبصر فيها أمته وتكوينها الثقافي من العمق، ويخاطب بصراحة مطلقة ماضيها وحاضرها ثم يعود إلى حاضر أمته، إلى عالمها الواقعي المتشعّث:
مرْحَى تطلُّ الشمسُ هذا الصبح
من أفقِ القبولْ
لغةً على جسدِ المياهِ
ووهْج مصباحٍ من البلّور في ليْلِ الجذورْ
وبعْضَ إيماءٍ ورمْزٍ مستحيلْ!
أفاد محمد عبدالحي كثيراً من استخدام الأسطورة ورموزها في هذه المطولة الشعرية في ما يتعلق بقراءة واقع أمته الثقافي وفي ممارسة حقه كشاعر ينفذ عبر اللغة والإشارة إلى كونٍ من صنعه، إلى كون في مخيلته، لكنه ليس بعيداً عن مفردات تاريخ وتكوين أمته الاجتماعي والثقافي:
رجعتْ طيورُ البحْرِ فجراً
من مسافاتِ الغيابْ
البحر يحلُمُ وحْدَهُ أحلامَهُ الخضراءْ
في فوْضَى العُبابْ
البحرُ؟ إنّ البحْرَ فينا خضْرةٌ
حلُمٌ هيولي
في انتظارِ طلوعها الأبديْ
في لغة الترابْ!
صحيح أنّ أشعار عبدالحي الأخيرة تفصح عن نضج فني ومحاولة لابتكار عبارة شعرية جديدة، لكن تظل قصيدة «العودة إلى سنّار» عملاً جريئاً متميزاً يكشف عن شاعرية مبكرة، وعن تحصيل معرفي هائل لواحدٍ من طليعة العلماء والباحثين السودانيين وأحد كبار شعراء السودان ■