الشاعر السوداني محمد عبدالحي استدعاء الأسطورة

الشاعر السوداني محمد عبدالحي  استدعاء الأسطورة

يذهب‭ ‬كثير‭ ‬من‭ ‬الباحثين‭ ‬وجادة‭ ‬القراء‭ ‬في‭ ‬السودان‭ ‬إلى‭ ‬أن‭ ‬الشاعر‭ ‬الدكتور‭ ‬محمد‭ ‬عبدالحي‭ (‬1944-‭ ‬1989م‭)‬،‭ ‬يعتبر‭ ‬نسيجاً‭ ‬وحده‭ ‬من‭ ‬حيث‭ ‬الخطاب‭ ‬الشعري‭. ‬ولعلّ‭ ‬صوره‭ ‬الشعرية‭ ‬ظلت‭ ‬فريدة‭ ‬لما‭ ‬حفل‭ ‬به‭ ‬شعره‭ ‬من‭ ‬رموز‭ ‬تستوحي‭ ‬ظلالها‭ ‬من‭ ‬طقس‭ ‬الأسطورة‭. ‬والباحث‭ ‬في‭ ‬الإرث‭ ‬الإبداعي‭ ‬للشاعر‭ ‬محمد‭ ‬عبدالحي‭ ‬لا‭ ‬يداخله‭ ‬الشك‭ ‬أنّ‭ ‬الموهبة‭ ‬الشعرية‭ ‬عنده‭ ‬نهلت‭ ‬من‭ ‬الحصيلة‭ ‬الثقافية‭ ‬الواسعة،‭ ‬فالأكاديمي‭ ‬الشاب‭ ‬الذي‭ ‬حصل‭ ‬على‭ ‬إجازة‭ ‬الدكتوراه‭ ‬من‭ ‬جامعة‭ ‬أوكسفورد‭ ‬الشهيرة‭ ‬ببريطانيا،‭ ‬ثم‭ ‬عمل‭ ‬محاضراً‭ ‬في‭ ‬الأدب‭ ‬الإنجليزي‭ ‬بجامعة‭ ‬الخرطوم‭ ‬حتى‭ ‬صار‭ ‬رئيساً‭ ‬للقسم‭ ‬بكلية‭ ‬الآداب‭ ‬فيها،‭ ‬لم‭ ‬يكتفِ‭ ‬بالتدريس‭ ‬والبحث‭ ‬الأكاديمي،‭ ‬بل‭ ‬ظل‭ ‬يرفد‭ ‬الصحف‭ ‬المحلية‭ ‬والعربية‭ ‬بترجمات‭ ‬في‭ ‬الأدب‭ ‬المقارن،‭ ‬مثل‭ ‬الدراسة‭ ‬التي‭ ‬نشرها‭ ‬بمجلة‭ ‬الدوحة‭ ‬عام‭ ‬1979م‭ ‬حول‭ ‬سمات‭ ‬التشابه‭ ‬بين‭ ‬الأديب‭ ‬والشاعر‭ ‬الإنجليزي‭ ‬الشهير‭ ‬وليام‭ ‬بليك‭  ‬والأديب‭ ‬السوداني‭ ‬معاوية‭ ‬محمد‭ ‬نور،‭ ‬إضافة‭ ‬إلى‭ ‬قراءته‭ ‬للأدب‭ ‬الإفريقي‭ ‬من‭ ‬خلال‭ ‬برنامج‭ ‬إذاعي‭ ‬شهير‭ ‬عنوانه‭ ‬‮«‬أقنعة‭ ‬القبيلة‮»‬‭! ‬كما‭ ‬أنه‭ ‬حقق‭ ‬الأعمال‭ ‬النثرية‭ ‬للشاعر‭ ‬السوداني‭ ‬الذائع‭ ‬الصيت‭ ‬التجاني‭ ‬يوسف‭ ‬بشير‭ (‬1912-1937م‭)‬،‭ ‬كل‭ ‬هذا‭ ‬الحراك‭ ‬الثقافي‭ ‬والأكاديمي‭ ‬المميز‭ ‬جاء‭ ‬في‭ ‬حياة‭ ‬لم‭ ‬تتخطّ‭ ‬الخامسة‭ ‬والأربعين‭.‬

من‭ ‬الطبيعي‭ ‬إذن‭ ‬أن‭ ‬يكتسب‭ ‬شعر‭ ‬محمد‭ ‬عبدالحي‭ ‬زخمه‭ ‬من‭ ‬جراء‭ ‬كل‭ ‬هذا‭ ‬التنوّع‭ ‬الكثيف‭ ‬للحصيلة‭ ‬المعرفية‭. ‬وفي‭ ‬هذا‭ ‬المقال‭ ‬تسليط‭ ‬للضوء‭ ‬على‭ ‬عمل‭ ‬شعري‭ ‬كبير‭ ‬للشاعر‭ ‬محمد‭ ‬عبدالحي‭ ‬رأى‭ ‬النور‭ ‬ضمن‭ ‬أعماله‭ ‬المبكرة،‭ ‬لكن‭ ‬العبقرية‭ ‬كثيراً‭ ‬ما‭ ‬تخطت‭ ‬حيز‭ ‬السن،‭ ‬فعلى‭ ‬الرغم‭ ‬من‭ ‬أنّ‭ ‬قصيدة‭ ‬‮«‬العودة‭ ‬إلى‭ ‬سنّار‮»‬‭ ‬من‭ ‬بواكير‭ ‬شعره،‭ ‬فإنها‭ ‬ظلت‭ ‬واحدة‭ ‬من‭ ‬أرقى‭ ‬أعماله‭ ‬الشعرية،‭ ‬قال‭ ‬فيها‭ ‬الشاعر‭ ‬السوداني‭ ‬الكبير‭ ‬محمد‭ ‬المهدي‭ ‬المجذوب‭: ‬‮«‬فهذا‭ ‬الشعر‭ ‬نسيج‭ ‬ملتحم‭ ‬أصيل،‭ ‬والتوفيق‭ ‬بين‭ ‬التراث‭ ‬وحضارة‭ ‬العصر‭ ‬وتراثها‭ ‬الإنساني‭ ‬أمر‭ ‬دقيق‭ ‬لا‭ ‬يستوي‭ ‬إلا‭ ‬على‭ ‬يد‭ ‬ملكة‭ ‬قاهرة‭ ‬رزق‭ ‬الله‭ ‬بها‭ ‬عبدالحي‮»‬‭. ‬

‭ ‬ولعلّ‭ ‬أهمّ‭ ‬ما‭ ‬في‭ ‬قصيدة‭ ‬‮«‬العودة‭ ‬إلى‭ ‬سنّار‮»‬‭ ‬شفافية‭ ‬الرمز‭ ‬وحسن‭ ‬معالجة‭ ‬المصطلح‭ ‬اللغوي،‭ ‬بل‭ ‬إنّ‭ ‬هنالك‭ ‬تصالحاً‭ ‬بين‭ ‬استخدام‭ ‬الرمز‭ ‬والقاموس‭ ‬اللغوي‭ ‬في‭ ‬القصيدة،‭ ‬ما‭ ‬جعل‭ ‬انسياب‭ ‬الجملة‭ ‬الشعرية‭ ‬فيها‭ ‬سهلاً‭:‬

 

‭ ‬الليلةَ‭ ‬يسْتقبلني‭ ‬أهلي

أهدوني‭ ‬مسْبحةً‭ ‬من‭ ‬أسنانِ‭ ‬الموتى

إبريقاً‭... ‬جمجمةً

ومصلّى‭ ‬من‭ ‬جلدِ‭ ‬الجاموسْ

رمزاً‭ ‬يلمحُ‭ ‬بين‭ ‬النخلةِ‭ ‬والأبنوسْ

لغةً‭ ‬تطلعُ‭ ‬مثل‭ ‬الرُّمحْ

من‭ ‬جسد‭ ‬الأرض

وعبر‭ ‬سماء‭ ‬الجرحْ‭!‬

هذا‭ ‬التصالح‭ ‬بين‭ ‬اللغة‭ ‬كوسيط‭ ‬حي‭,‬‭ ‬والرمز‭ ‬في‭ ‬هذه‭ ‬القصيدة،‭ ‬يستمر‭ ‬دون‭ ‬تكلف‭ ‬من‭ ‬أول‭ ‬القصيدة‭ ‬إلى‭ ‬آخرها،‭ ‬فتغدو‭ ‬القصيدة‭ ‬ذ‭ ‬وهي‭ ‬مطولة‭ ‬شعرية‭ ‬ذ‭ ‬كوناً‭ ‬يفصح‭ ‬عن‭ ‬أغراضه‭ ‬ومراميه‭ ‬في‭ ‬إيقاع‭ ‬شعري‭ ‬منسجم،‭ ‬حيث‭ ‬تخرج‭ ‬القصيدة‭ ‬من‭ ‬غنائية‭ ‬هادئة‭ ‬إلى‭ ‬إيماءات‭ ‬وإشارات‭ ‬تطوف‭ ‬بنا‭ ‬عالم‭ ‬الأسطورة‭ ‬والفانتازيا،‭ ‬لكن‭ ‬بشكل‭ ‬مقنع‭ ‬وممتع‭: ‬

 

سأعودُ‭ ‬اليوم‭ ‬يا‭ ‬سنّارُ

حيث‭ ‬الرّمْزُ‭ ‬خيطٌ‭ ‬من‭ ‬بريقِ‭ ‬أسودٍ

بين‭ ‬الصدى‭ ‬والصوتْ

بين‭ ‬الثّمرِ‭ ‬النّاضجِ‭ ‬والجِذْرِ‭ ‬القديمْ

لغتي‭ ‬أنا‭ ‬وينبوعي‭ ‬الذي‭ ‬

يأوِي‭ ‬نجُومي‭!‬

 

وحينما‭ ‬نقول‭ ‬إنّ‭ ‬قصيدة‭ ‬‮«‬العودة‭ ‬إلى‭ ‬سنّار‮»‬‭ ‬ظلت‭ ‬واحدة‭ ‬من‭ ‬أجود‭ ‬الأعمال‭ ‬الشعرية‭ ‬لمحمد‭ ‬عبدالحي،‭ ‬رغم‭ ‬أنها‭ ‬من‭ ‬بواكير‭ ‬أعماله،‭ ‬فذلك‭ ‬لأنها‭ ‬تتميز‭ - ‬إلى‭ ‬جانب‭ ‬ما‭ ‬ذكرنا‭ ‬آنفاً‭ - ‬بكثير‭ ‬من‭ ‬عناصر‭ ‬العمل‭ ‬الفني‭ ‬الجيد‭. ‬فالقصيدة‭ ‬تتكون‭ ‬من‭ ‬خمسة‭ ‬أناشيد،‭ ‬هي‭ ‬على‭ ‬التوالي‭: ‬‮«‬البحر‮»‬‭ ‬و«المدينة‮»‬‭ ‬و«الليل‮»‬‭ ‬و«الحلم‮»‬‭ ‬و«الصبح‮»‬‭. ‬في‭ ‬القصيدة‭ ‬محاولة‭ ‬جادة‭ ‬للاستفادة‭ ‬من‭ ‬الأسطورة‭ ‬كوسيلة‭ ‬لاستخدام‭ ‬الرمز‭ ‬في‭ ‬ترتيب‭ ‬عالم‭ ‬عصري‭ ‬متشعث‭ ‬وإعادة‭ ‬تسميته‭. ‬تقول‭ ‬الأديبة‭ ‬والأكاديمية‭ ‬والمترجمة‭ ‬الفلسطينية‭ ‬الدكتورة‭ ‬سلمى‭ ‬الخضراء‭ ‬الجيوسي‭ ‬عن‭ ‬هذا‭ ‬العمل‭ ‬الشعري‭: ‬‮«‬في‭ ‬القصيدة‭ ‬استقطاب‭ ‬للعنصر‭ ‬الأسطوري‭ ‬من‭ ‬الشعر‭ ‬في‭ ‬سعي‭ ‬لإيقاظ‭ ‬اللاوعي‭ ‬الجماعي‭ ‬الكامل‭ ‬وراء‭ ‬النموذج‭ ‬الأعلى‭. ‬إن‭ ‬في‭ ‬است0خدام‭ ‬الأسطورة‭ ‬وسيلة‭ ‬للسيطرة‭ ‬على‭ ‬مجال‭ ‬التاريخ‭ ‬المعاصر‭ ‬ومحاولة‭ ‬لإعادة‭ ‬النظام‭ ‬إلى‭ ‬عالم‭ ‬شملت‭ ‬تاريخه‭ ‬الفوضى‭ ‬والعجز‭ ‬واللاجدوى،‭ ‬وتشكيلاً‭ ‬يعطيه‭ ‬معنى‭ ‬قد‭ ‬يتفق‭ ‬حوله‭ ‬العالم‭!‬‮»‬‭.‬

و«سنّار‮»‬‭ ‬في‭ ‬هذه‭ ‬القصيدة‭ ‬تشكّل‭ ‬محاولة‭ ‬لترتيب‭  ‬شكل‭ ‬جديد‭ ‬للأمة‭ ‬السودانية،‭ ‬أُخذ‭ ‬من‭ ‬ماضيها‭ ‬الذي‭ ‬يستحيل‭ ‬الإبحار‭ ‬نحوه‭ ‬إلا‭ ‬عبر‭ ‬استدعاء‭ ‬الأسطورة،‭ ‬حيث‭ ‬تبدأ‭ ‬القصيدة‭ ‬بغناء‭ ‬مريح،‭ ‬وصورة‭ ‬لعالم‭ ‬هو‭ ‬خليط‭ ‬من‭ ‬عتمة‭ ‬النور‭ ‬وأصابع‭ ‬الشمس‭ ‬على‭ ‬سطح‭ ‬المياه‭ ‬مع‭ ‬وقت‭ ‬المغيب‭. ‬عالــم‭ ‬يبـحر‭ ‬في‭ ‬الذاكرة‭ ‬ليخبر‭ ‬عن‭ ‬تكوين‭ ‬جزيئاته‭ ‬مستمداً‭ ‬عناصره‭ ‬من‭  ‬الأسطورة‭ ‬في‭ ‬محاولة‭ ‬لترتيب‭ ‬الحاضر‭ ‬المتشــعث‭ ‬والمبعثر‭:‬

 

أبصرُ‭ ‬كيف‭ ‬مرّ‭ ‬أوّلُ‭ ‬الطيورِ‭ ‬فوقنا‭ ‬

ودار‭ ‬دورتيْنِ‭ ‬قبل‭ ‬أن‭ ‬يغيبْ

وكانتِ‭ ‬الشمْسُ‭ ‬على‭ ‬المياه‭...‬

أمشاجاً‭ ‬من‭ ‬الفوسفور‭ ‬واللهيبْ‭!‬

تغربُ‭ ‬من‭ ‬قلبِ‭ ‬مياهِ‭ ‬الأفقِ‭ ‬الغربي

حديقةً‭ ‬وهمية‭ ‬الثمار‭ ‬

جمالُها‭ ‬الجني‭ ‬ثمرٌ‭ ‬ورمّانٌ‭...‬

وتفّاحٌ‭ ‬بلا‭ ‬أشجارْ‭ ‬

يولدُ‭ ‬بغتةً‭ ‬لكيْ‭ ‬يغيبَ‭ ‬في‭ ‬الشرارْ‭!‬

 

وتتولد‭ ‬من‭ ‬تلك‭ ‬الصورة‭ ‬صور‭ ‬أخرى‭ ‬رائعات‭ ‬لعالم‭ ‬خرافي‭ ‬هو‭ ‬في‭ ‬الغالب‭ ‬بعض‭ ‬أمنيات‭ ‬الشاعر‭ ‬في‭ ‬لاوعيه،‭ ‬وهي‭ ‬أيضاً‭ ‬محاولة‭ ‬يلم‭ ‬بها‭ ‬الأشلاء‭ ‬المبعثرة‭ ‬لحاضر‭ ‬مليء‭ ‬بالفوضى‭:‬

 

كانت‭ ‬مصابيحُ‭ ‬القرى‭ ‬

على‭ ‬التّلالِ‭ ‬السُّودِ‭ ‬والأشجارْ

تطفو‭ ‬وتدنو‭ ‬مرةً

ومرّة‭ ‬تنأى‭...‬

‭ ‬تغُوصُ‭ ‬في‭ ‬الضّبابِ‭ ‬والبُخارْ

تسقط‭ ‬مثلَ‭ ‬الثمرِ‭ ‬الناضجِ‭...‬

‭ ‬في‭ ‬الصمْتِ‭ ‬الكثيفِ،

بين‭ ‬حدِّ‭ ‬الحلم‭ ‬الموحشِ‭...‬

‭ ‬وابتداءِ‭ ‬الانتظارْ‭!‬

 

في‭ ‬‮«‬العودة‭ ‬إلى‭ ‬سنّار‮»‬‭ ‬ذ‭ ‬كما‭ ‬تقول‭ ‬الدكتورة‭ ‬سلمى‭ ‬الجيوشي‭ - ‬استقطاب‭ ‬للعنصر‭ ‬الأسطوري‭ ‬من‭ ‬الشعر‭ ‬في‭ ‬سعى‭ ‬لإيقاظ‭ ‬اللاوعي‭ ‬الجمعي‭ ‬الكامل‭ ‬وراء‭ ‬النموذج‭ ‬الأعلى‭. ‬ويبدو‭ ‬ذلك‭ ‬واضحاً‭ ‬في‭ ‬محاولة‭ ‬لإيقاظ‭ ‬اللاوعي‭ ‬الجمعي‭ ‬عبر‭ ‬الأسطورة‭ ‬المتفرقة‭ ‬الأذرع،‭ ‬مترامية‭ ‬بين‭ ‬صحراء‭ ‬جزيرة‭ ‬العرب‭ ‬وغابات‭ ‬الاستواء‭ ‬في‭ ‬إفريقيا‭. ‬هذا‭ ‬التكوين‭ ‬الثقافي‭ ‬لأمة‭ ‬من‭ ‬الأمم‭ ‬يبدأ‭ ‬بعلامة‭ ‬التعجب‭ ‬وينتهي‭ ‬بعلامة‭ ‬الاستفهام‭:‬

 

وكانتِ‭ ‬الغابةُ‭ ‬والصحراءْ‭ ‬

امرأةً‭ ‬عاريةً‭ ‬تنامْ

على‭ ‬سريرِ‭ ‬البرق‭ ‬في‭ ‬انتظار‭ ‬

ثورِها‭ ‬الإلهيِّ‭ ‬الذي‭ ‬يزورُ‭ ‬في‭ ‬الظلامْ

وكان‭ ‬أفُقُ‭ ‬الوجْهِ‭ ‬والقناعِ‭ ‬شكلاً‭ ‬واحداً

يُزْهِرُ‭ ‬في‭ ‬سلطنةِ‭ ‬البراءة‭!‬

 

إنّ‭ ‬محاولة‭ ‬محمد‭ ‬عبدالحي‭ ‬وآخرين‭ ‬التنصُّل‭ ‬في‭ ‬وقت‭ ‬لاحق‭ ‬من‭ ‬تيار‭ ‬‮«‬الغابة‭ ‬والصحراء‮»‬،‭ ‬الذي‭ ‬كان‭ ‬على‭ ‬رأس‭ ‬دعاته‭ ‬الشاعر‭ ‬النور‭ ‬عثمان‭ ‬أبكر‭ ‬والشاعر‭ ‬محمد‭ ‬المكي‭ ‬إبراهيم،‭ ‬لا‭ ‬تعني‭ ‬كثيراً‭ ‬في‭ ‬معيار‭ ‬قراءتنا‭ ‬لما‭ ‬كتبه‭ ‬أولئك‭ ‬النفر‭ ‬في‭ ‬بداية‭ ‬الستينيات،‭ ‬حيث‭ ‬كانت‭ ‬أطروحة‭ ‬‮«‬الغابة‭ ‬والصحراء‮»‬‭ ‬سؤالاً‭ ‬وجودياً‭ ‬مشروعاً‭. ‬ولعلّ‭ ‬‮«‬العودة‭ ‬إلى‭ ‬سنّار‮»‬‭ ‬ذ‭ ‬إلى‭ ‬جانب‭ ‬أنها‭ ‬تمثل‭ ‬عالماً‭ ‬سحرياً‭ ‬وهلامياً‭ ‬يحلم‭ ‬به‭ ‬الشاعر‭ ‬ويبحث‭ ‬عنه‭ ‬في‭ ‬شبابه‭ ‬الباكر‭ - ‬كانت‭ ‬محاولة‭ ‬للإجابة‭ ‬عن‭ ‬سؤال‭ ‬ما‭ ‬زال‭ ‬يطرح‭ ‬نفسه‭ ‬عند‭ ‬بعض‭ ‬السودانيين‭: ‬من‭ ‬نحن؟‭ ‬أعربٌ‭ ‬نحن‭ ‬أم‭ ‬أفارقة؟

‭ ‬إنّ‭ ‬مصطلح‭ ‬الثور‭ ‬الإلهي‭ ‬مثلاً‭ - ‬وهو‭ ‬الثور‭ ‬المقدس‭ ‬عند‭ ‬قبيلة‭ ‬الدينكا‭ - ‬يأتي‭ ‬في‭ ‬صلب‭ ‬القصيدة‭ ‬ليندمج‭ ‬مع‭ ‬إشارات‭ ‬عدة‭ ‬مأخوذة‭ ‬من‭ ‬كتب‭ ‬مثل‭: ‬‮«‬طبقات‭ ‬ود‭ ‬ضيف‭ ‬الله‮»‬‭ ‬للفقيه‭ ‬محمد‭ ‬النور‭ ‬ابن‭ ‬ضيف‭ ‬الله،‭ ‬و«الفتوحات‭ ‬المكية‮»‬‭ ‬لمحيي‭ ‬الدين‭ ‬بن‭ ‬عربي،‭ ‬و«سقط‭ ‬الزند‮»‬‭ ‬للمعري‭:‬

 

فافتحوا‭ ‬حُرّاس‭ ‬سنّار

افتحوا‭ ‬للعائد‭ ‬أبواب‭ ‬المدينة

بدويٌّ‭ ‬أنت؟‭ ‬لا

من‭ ‬بلاد‭ ‬الزنج؟‭ ‬لا

أنا‭ ‬منكم‭...‬

تائهٌ‭ ‬عادَ‭ ‬يغنِّي‭ ‬بلسانْ‭ ‬

ويصلّي‭ ‬بلسانْ‭!‬

ويقول‭ ‬في‭ ‬موضع‭ ‬آخر‭:‬

 

أنا‭ ‬منكمْ‭ ‬

جُرْحُكمْ‭ ‬جُرحِي‭ ‬وقوسي‭ ‬قوسُكم

وثنيٌّ‭ ‬مجّد‭ ‬الأرضَ‭ ‬وصوفيٌّ‭ ‬ضريرْ

مجّد‭ ‬الرُّؤيا‭ ‬ونيرانَ‭ ‬الإلهْ‭!‬

 

نلاحظ‭ ‬في‭ ‬‮«‬العودة‭ ‬إلى‭ ‬سنّار‮»‬‭ ‬أنّ‭ ‬الشاعر‭ ‬عمد‭ ‬إلى‭ ‬خلق‭ ‬وتركيب‭ ‬الصورة‭ ‬وترتيبها‭ ‬ترتيباً‭ ‬يخلق‭ ‬في‭ ‬الذهن‭ ‬حالة‭ ‬نفسية‭ ‬وطقوساً‭ ‬لها‭ ‬دلالتها،‭ ‬مثل‭ ‬أن‭ ‬يبدأ‭ ‬القصيدة‭ ‬بمنظر‭ ‬الشمس‭ ‬وهي‭ ‬تغرب،‭ ‬ثم‭ ‬يندس‭ ‬في‭ ‬البحر‭ ‬والليل‭ ‬مخاطباً‭ ‬كوناً‭ ‬من‭ ‬الأسطورة‭ ‬والرموز‭ ‬الوهمية،‭ ‬ثم‭ ‬يخرج‭ ‬بنا‭ ‬إلى‭ ‬الشمس‭ ‬في‭ ‬نهاية‭ ‬القصيدة،‭ ‬وضجة‭ ‬الآدميين،‭ ‬فكأنه‭ ‬يدخل‭ ‬اللاوعي‭ ‬الجمعي‭ ‬في‭ ‬إضاءة‭ ‬حلم‭ ‬يبصر‭ ‬فيها‭ ‬أمته‭ ‬وتكوينها‭ ‬الثقافي‭ ‬من‭ ‬العمق،‭ ‬ويخاطب‭ ‬بصراحة‭ ‬مطلقة‭ ‬ماضيها‭ ‬وحاضرها‭ ‬ثم‭ ‬يعود‭ ‬إلى‭ ‬حاضر‭ ‬أمته،‭ ‬إلى‭ ‬عالمها‭ ‬الواقعي‭ ‬المتشعّث‭:‬

 

مرْحَى‭ ‬تطلُّ‭ ‬الشمسُ‭ ‬هذا‭ ‬الصبح

من‭ ‬أفقِ‭ ‬القبولْ

لغةً‭ ‬على‭ ‬جسدِ‭ ‬المياهِ

ووهْج‭ ‬مصباحٍ‭ ‬من‭ ‬البلّور‭ ‬في‭ ‬ليْلِ‭ ‬الجذورْ

وبعْضَ‭ ‬إيماءٍ‭ ‬ورمْزٍ‭ ‬مستحيلْ‭!‬

أفاد‭ ‬محمد‭ ‬عبدالحي‭ ‬كثيراً‭ ‬من‭ ‬استخدام‭ ‬الأسطورة‭ ‬ورموزها‭ ‬في‭ ‬هذه‭ ‬المطولة‭ ‬الشعرية‭ ‬في‭ ‬ما‭ ‬يتعلق‭ ‬بقراءة‭ ‬واقع‭ ‬أمته‭ ‬الثقافي‭ ‬وفي‭ ‬ممارسة‭ ‬حقه‭ ‬كشاعر‭ ‬ينفذ‭ ‬عبر‭ ‬اللغة‭ ‬والإشارة‭ ‬إلى‭ ‬كونٍ‭ ‬من‭ ‬صنعه،‭ ‬إلى‭ ‬كون‭ ‬في‭ ‬مخيلته،‭ ‬لكنه‭ ‬ليس‭ ‬بعيداً‭ ‬عن‭ ‬مفردات‭ ‬تاريخ‭ ‬وتكوين‭ ‬أمته‭ ‬الاجتماعي‭ ‬والثقافي‭:‬

 

رجعتْ‭ ‬طيورُ‭ ‬البحْرِ‭ ‬فجراً

من‭ ‬مسافاتِ‭ ‬الغيابْ

البحر‭ ‬يحلُمُ‭ ‬وحْدَهُ‭ ‬أحلامَهُ‭ ‬الخضراءْ

في‭ ‬فوْضَى‭ ‬العُبابْ

البحرُ؟‭ ‬إنّ‭ ‬البحْرَ‭ ‬فينا‭ ‬خضْرةٌ

حلُمٌ‭ ‬هيولي‭ ‬

في‭ ‬انتظارِ‭ ‬طلوعها‭ ‬الأبديْ

في‭ ‬لغة‭ ‬الترابْ‭!‬

 

صحيح‭ ‬أنّ‭ ‬أشعار‭ ‬عبدالحي‭ ‬الأخيرة‭ ‬تفصح‭ ‬عن‭ ‬نضج‭ ‬فني‭ ‬ومحاولة‭ ‬لابتكار‭ ‬عبارة‭ ‬شعرية‭ ‬جديدة،‭ ‬لكن‭ ‬تظل‭ ‬قصيدة‭ ‬‮«‬العودة‭ ‬إلى‭ ‬سنّار‮»‬‭ ‬عملاً‭ ‬جريئاً‭ ‬متميزاً‭ ‬يكشف‭ ‬عن‭ ‬شاعرية‭ ‬مبكرة،‭ ‬وعن‭ ‬تحصيل‭ ‬معرفي‭ ‬هائل‭ ‬لواحدٍ‭ ‬من‭ ‬طليعة‭ ‬العلماء‭ ‬والباحثين‭ ‬السودانيين‭ ‬وأحد‭  ‬كبار‭ ‬شعراء‭ ‬السودان‭ ‬