أمين نخلة في «المؤلَّفات الكاملة» ربيعُ لبنان وذممٌ الفُصحى

أمين نخلة في «المؤلَّفات الكاملة» ربيعُ لبنان وذممٌ الفُصحى

يخطئ‭ ‬الظانون‭ ‬أن‭ ‬النظرة‭ ‬إلى‭ ‬أمين‭ ‬نخلة‭ ‬تخضع‭ ‬لقياس‭ ‬الأمس‭ ‬واليوم،‭ ‬والتقليد‭ ‬والتجديد،‭ ‬والنهضة‭ ‬والحداثة،‭ ‬وما‭ ‬فات‭ ‬وانطوى‭ ‬وما‭ ‬اتصل‭ ‬بهموم‭ ‬الساحة‭ ‬والساعة‭. ‬يخطئون‭ ‬خطأ‭ ‬عظيماً‭ ‬لأن‭ ‬من‭ ‬مغاني‭ ‬الأدب‭ ‬ومن‭ ‬ثمرات‭ ‬‮«‬الكنز‭ ‬السائل‮»‬‭ ‬و«عطر‭ ‬الدفاتر‮»‬‭ ‬وهو‭ ‬الحبر‭ ‬بعرف‭ ‬أمين‭ ‬نخلة‭ ‬ما‭ ‬لم‭ ‬يعد‭ ‬مطروحاً‭ ‬للجدل‭ ‬في‭ ‬سوق‭ ‬اليوميات‭ ‬وفي‭ ‬حمأة‭ ‬المذاهب‭.‬

من‭ ‬هذه‭ ‬المغاني‭ ‬وهذه‭ ‬الثمرات‭.. ‬وعبقريات‭ ‬القلم‭ ‬هذه‭.. ‬ما‭ ‬صار‭ ‬منتميًا‭ ‬إلى‭ ‬كتابة‭ ‬هي‭ ‬للأمس‭ ‬لليوم‭ ‬للغد‭. ‬أحببتها‭ ‬أم‭ ‬جفوت‭. ‬لاءمت‭ ‬مزاجك‭ ‬أم‭ ‬نفرت‭. ‬انتميت‭ ‬إليها‭ ‬أم‭ ‬ذهبت‭ ‬إلى‭ ‬معقل‭ ‬مواجه‭. ‬افترّ‭ ‬ثغرك‭ ‬لها‭ ‬أم‭ ‬امتنع‭ ‬وامتقع‭! ‬كتابة‭ ‬للأمس‭ ‬لليوم‭ ‬للغد‭ ‬تجعلني‭ ‬أشعر،‭ ‬من‭ ‬زاوية‭ ‬شهادة‭ ‬شخصية‭ ‬خالصة،‭ ‬لماذا‭ ‬أقرأ‭ ‬آثارًا‭ ‬قديمة،‭ ‬ظانا‭- ‬في‭ ‬لحظة‭ ‬من‭ ‬لحظات‭ ‬الانسجام‭ ‬الخفي‭ - ‬أنها‭ ‬مكتوبة‭ ‬لهذا‭ ‬الزمن‭.‬

‮«‬كتابة‭ ‬للأمس‭ ‬لليوم‭ ‬للغد‭. ‬خطوط‭ ‬وألوان‭ ‬متناسقة،‭ ‬خلفها‭ ‬وجوه‭ ‬حياة‭ ‬متصارعة،‭ ‬وخلفها‭ ‬جميعا‭ ‬قرارات‭ ‬نفس‭ ‬تعكس‭ ‬المرايا‭ ‬الخالدة،‭ ‬وعلامات‭ ‬لغة‭ ‬تتحرك‭ ‬باتجاه‭ ‬الأزمنة‭ ‬جميعا‮»‬‭ (‬من‭ ‬كتابي‭: ‬من‭ ‬الشائع‭ ‬إلى‭ ‬الأصيل‭).‬

أمين‭ ‬نخلة،‭ ‬من‭ ‬مشارف‭ ‬هذه‭ ‬الرؤية‭ ‬أتوجه‭ ‬إليك‭.. ‬إلى‭ ‬أريكتك‭ ‬العالية‭ ‬وبحرك‭ ‬الخضم‭ ‬وبراعتك‭ ‬الألماسية‭ ‬وخفقات‭ ‬مواجديك‭ ‬وتذكاراتك‭ ‬ولألاء‭ ‬أحرفك‭ ‬والثريات‭ ‬المتدلية‭ ‬في‭ ‬منائر‭ ‬قصائدك‭ ‬ومغامضها،‭ ‬وتخطرك‭ ‬ما‭ ‬بين‭ ‬خيلاء‭ ‬الريشة‭ ‬ولواعج‭ ‬القلب‭ ‬وألفتك‭ ‬مع‭ ‬الصعب‭ ‬والمفرد‭ ‬ومكنتك‭ ‬في‭ ‬جعل‭ ‬اللغة‭ ‬قلعة‭ ‬آن‭ ‬تشاء،‭ ‬وآن‭ ‬تشاء‭ ‬من‭ ‬جعلها‭ ‬جنائن‭ ‬ودورا‭ ‬فيحاء‭ ‬وحينا‭ ‬زمردة‭ ‬وأحيانا‭ ‬دمعة‭ ‬ونسما‭ ‬خفيا‭ ‬يهب‭ ‬من‭ ‬ديار‭ ‬الحبيب‭.‬

ومن‭ ‬على‭ ‬شرفات‭ ‬هذه‭ ‬الرؤية،‭ ‬أخيرا،‭ ‬وقبل‭ ‬انعطافة‭ ‬وجدانية‭ ‬أثارتها‭ ‬لديّ‭ ‬قرابات‭ ‬روح‭ ‬وقلم‭.. ‬وقبل‭ ‬ما‭ ‬قد‭ ‬يلي‭ ‬ذلك‭ ‬من‭ ‬وقفات‭ ‬أدبية‭.. ‬أقول‭ ‬بالفم‭ ‬الملآن،‭ ‬يا‭ ‬طالما‭ ‬رغبت‭ ‬في‭ ‬الكتابة‭ ‬عنك‭ ‬يا‭ ‬أميرا‭ ‬في‭ ‬الشعر،‭ ‬وساحرا‭ ‬في‭ ‬النثر،‭ ‬وصانع‭ ‬جمال‭ ‬تستعير‭ ‬مادته‭ ‬من‭ ‬نقاء‭ ‬الأرياف‭ ‬ومرامي‭ ‬الضفاف،‭ ‬وصوتا‭ ‬كان‭ ‬يحمل‭ ‬من‭ ‬ضجيج‭ ‬الشعر‭ ‬مقدار‭ ‬ما‭ ‬حملته‭ ‬القصائد‭.. ‬وهأنذا‭ ‬الآن،‭ ‬أحار‭ ‬من‭ ‬أين‭ ‬أبدأ‭.. ‬ولكنني‭ ‬مصمم‭ ‬على‭ ‬الغوص‭ ‬لأن‭ ‬اللآلئ‭ ‬في‭ ‬القاع‭ ‬مغرية‭ ‬ولو‭ ‬كانت‭ ‬المشقات‭ ‬أكيدة‭ ‬والمخاطر‭ ‬جلى‭.‬

‭***‬

في‭ ‬دراسة‭ ‬له‭ ‬بعنوان‭ ‬‮«‬الشعر‭ ‬اللبناني‭ ‬باللغة‭ ‬الشعبية‮»‬،‭ ‬يقول‭ ‬والدي‭ ‬الشاعر‭ ‬عبدالله‭ ‬غانم‭: ‬‮«‬أنا‭ ‬معجب‭ ‬برشيد‭ ‬نخلة‭.. ‬ومن‭ ‬أمهات‭ ‬قصائده‭ - ‬وهي‭ ‬من‭ ‬أجود‭ ‬ما‭ ‬قيل‭ ‬في‭ ‬الشعر‭ ‬الشعبي‭:‬

يسعد‭ ‬صباحك‭ ‬كيف‭ ‬ما‭ ‬الدهر‭ ‬انقلب

لو‭ ‬لمحتك‭ ‬مثل‭ ‬ماهون‭ ‬وحلب

عندي‭ ‬أماني‭ ‬كلما‭ ‬تصبحت‭ ‬فيك

لو‭ ‬كان‭ ‬شغلي‭ ‬بالتراب‭ ‬يقلب‭ ‬دهب‭.‬

وينتهي‭ ‬قائلا‭: ‬‮«‬وشعر‭ ‬رشيد‭ ‬نخلة‭ ‬أغنية‭ ‬الحقول‭ ‬والطرقات‭ ‬والحفلات‮»‬‭.‬

وفي‭ ‬مقالة‭ ‬بعنوان‭ ‬‮«‬الشخصية‭ ‬في‭ ‬الأدب‮»‬،‭ ‬كتب‭ ‬أمين‭ ‬نخلة‭ ‬عن‭ ‬السلف‭ ‬الدفاق‭:‬

‮«‬ترعرع‭ ‬والدي‭ ‬على‭ ‬الماء‭ ‬والضياء،‭ ‬في‭ ‬الجبال‭. ‬فكان‭ ‬عود‭ ‬شبابه‭ ‬يورق‭ ‬عند‭ ‬ضفة،‭ ‬وتخفق‭ ‬أوراقه‭ ‬على‭ ‬رابية،‭ ‬أو‭ ‬على‭ ‬حافات‭ ‬واد،‭ ‬فيسابق‭ ‬ذلك‭ ‬الصبي‭ ‬الشاعر‭ ‬موجة‭ ‬الصبح‭ ‬حين‭ ‬تندفق‭ ‬على‭ ‬مباسط‭ ‬الهضبة،‭ ‬ويصرخ‭ ‬في‭ ‬عصفة‭ ‬الريح،‭ ‬ويطلق‭ ‬قدميه‭ ‬في‭ ‬حقل‭ ‬السنبل‭.. ‬فترعرع‭ ‬على‭ ‬الطلاقة‭ ‬في‭ ‬ريف‭ ‬من‭ ‬أجمل‭ ‬أرياف‭ ‬الدنيا‭.. ‬وإن‭ ‬له‭ ‬‮«‬في‭ ‬باب‭ ‬الزجل‮»‬‭ ‬ديوانا‭ ‬يزخر،‭ ‬من‭ ‬الدفة‭ ‬إلى‭ ‬الدفة،‭ ‬على‭ ‬خدود‭ ‬الصبايا،‭ ‬وخدود‭ ‬الصباح‭ ‬في‭ ‬الباروك‭.. ‬كلما‭ ‬حركنا‭ ‬أوراقه،‭ ‬عبق‭ ‬في‭ ‬البيت‭ ‬روائح‭ ‬العرعر،‭ ‬والريح،‭ ‬والشفاه،‭ ‬والوجنات‭..‬‮»‬‭.‬

أضمن‭ ‬كلمتي‭ ‬هذه‭ ‬الانعطافة‭ ‬الطيبة‭ ‬وأنا‭ ‬مدرك‭ ‬تمام‭ ‬الإدراك‭ ‬أنني،‭ ‬الساعة،‭ ‬في‭ ‬‮«‬ضيافة‮»‬‭ ‬مائدة‭ ‬الأمين،‭ ‬دون‭ ‬الرشيد‭. ‬ولكن‭ ‬ما‭ ‬جاش‭ ‬من‭ ‬خواطر،‭ ‬وما‭ ‬لاح‭ ‬من‭ ‬مودات،‭ ‬وجّه‭ ‬القلم‭ ‬إلى‭ ‬الطراوة‭ ‬وطويات‭ ‬النفس‭ ‬وحلاوة‭ ‬التذكر‭.‬

هنا‭ ‬معنّى‭ ‬رشيد‭ ‬نخلة،‭ ‬وهناك‭ ‬عندليب‭ ‬عبدالله‭ ‬غانم‭.‬

هنا‭ ‬روائح‭ ‬العرعر،‭ ‬وهناك‭ ‬روائح‭ ‬الصعتر‭:‬

‮«‬هون‭ ‬اشلحيني‭ ‬بجب‭ ‬هالزعتر

مطرح‭ ‬ما‭ ‬كنا‭ ‬بالهوى‭ ‬نسكر

وشو‭ ‬معدبك‭ ‬تا‭ ‬تحرقي‭ ‬بخّور

الأرض‭ ‬مندل‭ ‬والسما‭ ‬عنبر‮»‬‭.‬

‭(‬عبدالله‭ ‬غانم‭)‬

هنا‭ ‬النشيد‭ ‬الوطني،‭ ‬وهناك‭ ‬الوله‭ ‬بالحبيب‭ ‬الوطن‭.‬

هنا‭ ‬الوفاء،‭ ‬من‭ ‬أمين‭ (‬وهو‭ ‬ابن‭ ‬الشاعر‭ ‬رشيد‭ ‬نخلة‭) ‬إلى‭ ‬سعيد‭ (‬ابن‭ ‬الشاعر‭ ‬أمين‭ ‬نخلة‭)‬،‭ ‬وهناك‭ ‬ما‭ ‬جاور‭ ‬ستة‭ ‬عقود‭ ‬من‭ ‬الوفاء‭ ‬ومازلنا‭ ‬نتوكأ‭ ‬على‭ ‬عصا‭ ‬‮«‬العندليب‮»‬‭.‬

هنا‭ ‬الأصالات‭ ‬والنهضويات،‭ ‬وهناك‭ ‬مثيلاتها‭.‬

كأنما‭ ‬بيننا،‭ ‬وهم‭ ‬من‭ ‬حيث‭ ‬الروابي‭ ‬الشم‭ ‬ومدافق‭ ‬الماء،‭ ‬ونحن‭ ‬من‭ ‬مقلب‭ ‬آخر‭ ‬في‭ ‬الجبل،‭ ‬خضيب‭ ‬خصيب‭.. ‬كأنما‭ ‬بيننا‭ ‬عصبة‭ ‬عمومة‭ ‬يا‭ ‬أخي‭ ‬‮«‬سعيد‮»‬‭. ‬وما‭ ‬أحيلاها‭ ‬قرابة‭ ‬تكون‭ ‬فيها‭ ‬الكلمة‭ ‬أما‭ ‬والبيان‭ ‬أبا‭ ‬وجنائن‭ ‬الريف‭ ‬بعرعرها‭ ‬وصعترها‭ ‬مسرح‭ ‬مواعيد‭ ‬ومواجيد‭!‬

‭***‬

أول‭ ‬ما‭ ‬يلفت‭ ‬في‭ ‬موقف‭ ‬الأمين‭ ‬من‭ ‬المجادلة‭ ‬الرائجة‭ ‬حول‭ ‬القديم‭ ‬والجديد،‭ ‬وحول‭ ‬‮«‬العزل‮»‬‭ ‬الأدبي‭ ‬المتبادل‭ ‬وصراع‭ ‬المذاهب،‭ ‬هو‭ ‬اختراقه‭ ‬القشور‭ ‬وبحثه‭ ‬عن‭ ‬حقيقة‭ ‬الإبداع‭ ‬في‭ ‬كيان‭ ‬الإبداع‭ ‬ذاته،‭ ‬وإقراره‭ ‬بأن‭ ‬في‭ ‬كل‭ ‬جديد‭ ‬متأصل‭ ‬ذخائر‭ ‬من‭ ‬القديم‭ ‬المؤسس‭ ‬أو‭ ‬السباق‭ ‬أو‭ ‬العابر‭ ‬الأزمنة‭.‬

التحدي‭ ‬الصحيح‭ ‬الذي‭ ‬يلازم‭ ‬الكتابة‭ ‬الأدبية‭ ‬في‭ ‬كل‭ ‬عصر‭ ‬هو‭ ‬الشيوع‭ ‬والأصالة‭.. ‬الأمحاء‭ ‬في‭ ‬العمومية‭ ‬والتميز‭  ‬في‭ ‬الخصوصية‭.. ‬التبعية‭ ‬والفرادة‭.. ‬الاكتفاء‭ ‬بالهين‭ ‬وإغراء‭ ‬العصي‭.. ‬السهولة‭ ‬والوعورة‭.. ‬عنيت‭ ‬وعر‭ ‬الأصيل،‭ ‬أي‭ ‬الوعر‭ ‬الذي‭ ‬لا‭ ‬وصول‭ ‬لكاتب‭ ‬لم‭ ‬يسلكه‭.. ‬الوعر‭ ‬الذي‭ ‬تبدأ‭ ‬طريقه‭ ‬بالأعماق‭ ‬وتنتهي‭ ‬بالآفاق‭!‬

القديم‭ ‬والجديد‭ ‬قد‭ ‬يكونان‭ ‬جاهليين‭ ‬وقد‭ ‬يكونان‭ ‬حديثين‭. ‬أصيلين‭ ‬أو‭ ‬هشّين‭.. ‬سهلين‭ ‬بمعنى‭ ‬ملازمة‭ ‬السطوح‭ ‬ووعرين‭ ‬بمعنى‭ ‬الذهاب‭ ‬إلى‭ ‬حيث‭ ‬الكنز‭ ‬وبساط‭ ‬الريح‭ ‬وسر‭ ‬العقدة‭ ‬في‭ ‬السجادة‭ ‬الشرقية‭ ‬ومنازل‭ ‬الرخاء‭ ‬أو‭ ‬الشقاء‭ ‬في‭ ‬القصيدة‭! ‬وقد‭ ‬يكونان‭ ‬مرين‭ ‬كل‭ ‬المرارة‭ ‬أو‭ ‬طيبين‭ ‬كل‭ ‬الطيب‭.‬

عن‭ ‬فوزي‭ ‬المعلوف‭ ‬يقول‭ ‬أمين‭ ‬نخلة‭:‬

لم‭ ‬يزر‭ ‬فوزي‭ ‬بالجديد‭ ‬الذي

طاب،‭ ‬ولم‭ ‬يزر‭ ‬بطيب‭ ‬العتيق‭.‬

وله‭ ‬في‭ ‬الطرح‭ ‬الذي‭ ‬نعالجه‭ ‬آراء‭ ‬شتى،‭ ‬وأبيات‭ ‬منثورة،‭ ‬وقصيدة‭ ‬تحمل‭ ‬عنوان‭ ‬‮«‬القديم‭ ‬والجديد‮»‬،‭ ‬منها‭ ‬هذا‭ ‬المقتطف‭:‬

البلبل‭ ‬الطرب‭ ‬النظيم

وافى‭ ‬وغرد‭ ‬في‭ ‬الكروم

هو‭ ‬لابس‭ ‬الريش‭ ‬الجديد

وصاحب‭ ‬الشدو‭ ‬القديم

والحبة‭ ‬العذراء،‭ ‬وهي

خبيئة‭ ‬الزرع‭ ‬الكريم

كنز‭ ‬من‭ ‬الماضي‭ ‬إلى

آت‭ ‬من‭ ‬الخير‭ ‬العميم‭..‬

كأنه‭ ‬يصف‭ ‬نفسه‭ ‬في‭ ‬هذه‭ ‬الأبيات‭! ‬كبير‭ ‬الشداة‭ ‬في‭ ‬الشعر‭ ‬صوغا‭ ‬وصوتا‭ ‬وأجراسا‭ ‬داخلية،‭ ‬عواد‭ ‬العوادين‭ ‬يوم‭ ‬تتغاوى‭ ‬الأوتار‭ ‬في‭ ‬مواسم‭ ‬الدلال‭..‬‭ ‬ألبس‭ ‬نظيمه‭ ‬الشعري‭ ‬والنثري‭ ‬حللا‭ ‬جديدة‭ ‬لم‭ ‬تتنكّر‭ ‬لأصالة‭ ‬السلف‭ ‬العبقري‭ ‬ولكنها‭ ‬أضافت‭ ‬إليها‭ ‬كثيرا‭ ‬من‭ ‬الماء‭ ‬والرونق،‭ ‬ومن‭ ‬الريش‭ ‬الجديد،‭ ‬ومن‭ ‬ربيع‭ ‬لبنان‭.. ‬فبات‭ ‬البيان‭ ‬وترا‭ ‬على‭ ‬وتر،‭ ‬وسحرا‭ ‬على‭ ‬سحر‭:‬

أيقولون‭: ‬في‭ ‬البيان‭ ‬قديم

وجديد،‭ ‬ونغتدي‭ ‬في‭ ‬حواره‭!‬

إنّ‭ ‬ذاك‭ ‬القديم‭ ‬قيثارة‭ ‬العذب

وهذا‭ ‬الجديد‭ ‬من‭ ‬أوتاره‭.‬

‭***‬

في‭ ‬نظيمه‭ ‬بعض‭ ‬من‭ ‬ربيع‭ ‬لبنان،‭ ‬من‭ ‬ذاتية‭ ‬الكلمة‭ ‬اللبنانية‭ ‬في‭ ‬الشعر‭ ‬التي‭ ‬لي‭ ‬حولها‭ ‬قول‭ ‬مستفيض‭ (‬يراجع‭ ‬كتابي‭: ‬من‭ ‬الشائع‭ ‬إلى‭ ‬الأصيل‭). ‬إن‭ ‬النعم‭ ‬التي‭ ‬سكبتها‭ ‬اليد‭ ‬العليا‭ ‬على‭ ‬أرضنا‭ ‬نقع‭ ‬على‭ ‬مثلها‭ ‬في‭ ‬قصيدتنا‭:‬

الثوب‭ ‬البهي،‭ ‬والسياق‭ ‬الحر،‭ ‬وعمق‭ ‬الاتصال‭ ‬بين‭ ‬المصدر‭ ‬والمظهر،‭ ‬وغلال‭ ‬الكلمات،‭ ‬وهاجس‭ ‬النظام‭ ‬والضوابط،‭ ‬واجتناب‭ ‬الذوبان‭ ‬في‭ ‬الآخر‭ ‬المشرّق‭ ‬أو‭ ‬المغرّب،‭ ‬وقطف‭ ‬الصور،‭ ‬واحتواء‭ ‬الهموم‭ ‬والمؤالفة‭ ‬الذكية‭ ‬بين‭ ‬الأركان‭ ‬المتجاورة،‭ ‬ومحاذرة‭ ‬الثرثرة‭ ‬والفراغ‭... ‬هذه‭ ‬كلها،‭ ‬يمكن‭ ‬أن‭ ‬تشكل‭ ‬منطلقا‭ ‬أول‭ ‬للدخول‭ ‬إلى‭ ‬ذاتيات‭ ‬الكلمة‭ ‬اللبنانية‭ ‬الشعرية‭.‬

صاحب‭ ‬‮«‬المفكرة‭ ‬الريفية‮»‬‭ ‬و«دفتر‭ ‬الغزل‮»‬،‭ ‬وسائر‭ ‬المذهبّات،‭ ‬كان‭ ‬في‭ ‬صدارة‭ ‬الآباء‭ ‬النهضويين‭ ‬الذين‭ ‬نقلوا‭ ‬الحالة‭ ‬اللبنانية‭ ‬من‭ ‬بهاء‭ ‬الطبيعة‭ ‬وأناقة‭ ‬الحياة‭ ‬ولعبة‭ ‬الأنوار‭ ‬والظلال‭ ‬وشمخة‭ ‬الربى‭ ‬إلى‭ ‬سهول‭ ‬الورق،‭ ‬ولكنه‭ ‬كان‭ ‬أيضا‭ ‬في‭ ‬صدارة‭ ‬من‭ ‬رعوا‭ ‬ذمم‭ ‬الفصحى‭. ‬من‭ ‬منا‭ ‬لم‭ ‬يحفظ‭ ‬هذه‭ ‬الأبيات‭ ‬في‭ ‬ذاكرته‭ ‬وفي‭ ‬دائرة‭ ‬اعتزازه‭ ‬بلبنان‭:‬

افسحوا‭ ‬في‭ ‬محفل‭ ‬الشعر‭ ‬لنا،

نحن‭ ‬من‭ ‬لبنان،‭ ‬من‭ ‬عليا‭ ‬الدنى‭!‬

جيرة‭ ‬الأرز،‭ ‬وضاحي‭ ‬ظله

والربى‭ ‬الخضر،‭ ‬ووشي‭ ‬المنحنى‭.‬

في‭ ‬الجمال‭ ‬الزهو،‭ ‬والحق‭ ‬الهدى،

مكّن‭ ‬الله‭ ‬لنا‭ ‬ما‭ ‬مكّنا

نحن‭ ‬في‭ ‬الفصحى‭ ‬رعينا‭ ‬ذمما

وشرعنا‭ ‬دونها‭ ‬سمر‭ ‬القنا‭.‬

ويا‭ ‬مالئ‭ ‬العصر،‭ ‬واللغة‭ ‬وأجاجين‭ ‬الجمال‭! ‬أمام‭ ‬ميزتين‭ ‬من‭ ‬ميزات‭ ‬مسارك‭ ‬الأدبي‭ ‬الباهر‭ ‬توقفت،‭ ‬وتركت‭ ‬منها‭ ‬أغمارا‭... ‬رجوناك‭ ‬ألا‭ ‬تترك‭ ‬الساح‭ ‬لخيلاء‭ ‬الفراغ،‭ ‬وخواء‭ ‬الكلمات‭. ‬‮«‬فامسح‭ ‬الأرض‭ ‬عشبا،‭ ‬وورقا‭ ‬أخضر،‭ ‬وأطلق‭ ‬حياض‭ ‬الماء،‭ ‬واملأ‭ ‬الصهاريج‭ ‬ومد‭ ‬بساط‭ ‬الظل‭ ‬في‭ ‬أذى‭ ‬الهواجر‮»‬‭ (‬من‭ ‬المفكرة‭ ‬الريفية‭)... ‬وخذ‭ ‬بيدنا‭... ‬ويد‭ ‬الأجيال‭ ‬الجديدة‭... ‬ويد‭ ‬كل‭ ‬شغوف‭ ‬بالجمال،‭ ‬وبلبنان،‭ ‬وبالعربية‭.‬

سلام‭ ‬عليك،‭ ‬وبارك‭ ‬الله‭ ‬أعمالك‭ ‬الكاملة،‭ ‬ومن‭ ‬سهر‭ ‬على‭ ‬إصدارها‭ ‬إنها‭ ‬مخزون‭ ‬الذهب‭ ‬يوم‭ ‬لا‭ ‬يعود‭ ‬للأوراق‭ ‬المتداولة‭ ‬في‭ ‬السوق‭ ‬الأدبي‭ ‬قيمة‭ ‬أو‭ ‬شيمة‭ ‬أو‭ ‬سبب‭ ‬للبقاء‭ .