أمين نخلة في «المؤلَّفات الكاملة» ربيعُ لبنان وذممٌ الفُصحى
يخطئ الظانون أن النظرة إلى أمين نخلة تخضع لقياس الأمس واليوم، والتقليد والتجديد، والنهضة والحداثة، وما فات وانطوى وما اتصل بهموم الساحة والساعة. يخطئون خطأ عظيماً لأن من مغاني الأدب ومن ثمرات «الكنز السائل» و«عطر الدفاتر» وهو الحبر بعرف أمين نخلة ما لم يعد مطروحاً للجدل في سوق اليوميات وفي حمأة المذاهب.
من هذه المغاني وهذه الثمرات.. وعبقريات القلم هذه.. ما صار منتميًا إلى كتابة هي للأمس لليوم للغد. أحببتها أم جفوت. لاءمت مزاجك أم نفرت. انتميت إليها أم ذهبت إلى معقل مواجه. افترّ ثغرك لها أم امتنع وامتقع! كتابة للأمس لليوم للغد تجعلني أشعر، من زاوية شهادة شخصية خالصة، لماذا أقرأ آثارًا قديمة، ظانا- في لحظة من لحظات الانسجام الخفي - أنها مكتوبة لهذا الزمن.
«كتابة للأمس لليوم للغد. خطوط وألوان متناسقة، خلفها وجوه حياة متصارعة، وخلفها جميعا قرارات نفس تعكس المرايا الخالدة، وعلامات لغة تتحرك باتجاه الأزمنة جميعا» (من كتابي: من الشائع إلى الأصيل).
أمين نخلة، من مشارف هذه الرؤية أتوجه إليك.. إلى أريكتك العالية وبحرك الخضم وبراعتك الألماسية وخفقات مواجديك وتذكاراتك ولألاء أحرفك والثريات المتدلية في منائر قصائدك ومغامضها، وتخطرك ما بين خيلاء الريشة ولواعج القلب وألفتك مع الصعب والمفرد ومكنتك في جعل اللغة قلعة آن تشاء، وآن تشاء من جعلها جنائن ودورا فيحاء وحينا زمردة وأحيانا دمعة ونسما خفيا يهب من ديار الحبيب.
ومن على شرفات هذه الرؤية، أخيرا، وقبل انعطافة وجدانية أثارتها لديّ قرابات روح وقلم.. وقبل ما قد يلي ذلك من وقفات أدبية.. أقول بالفم الملآن، يا طالما رغبت في الكتابة عنك يا أميرا في الشعر، وساحرا في النثر، وصانع جمال تستعير مادته من نقاء الأرياف ومرامي الضفاف، وصوتا كان يحمل من ضجيج الشعر مقدار ما حملته القصائد.. وهأنذا الآن، أحار من أين أبدأ.. ولكنني مصمم على الغوص لأن اللآلئ في القاع مغرية ولو كانت المشقات أكيدة والمخاطر جلى.
***
في دراسة له بعنوان «الشعر اللبناني باللغة الشعبية»، يقول والدي الشاعر عبدالله غانم: «أنا معجب برشيد نخلة.. ومن أمهات قصائده - وهي من أجود ما قيل في الشعر الشعبي:
يسعد صباحك كيف ما الدهر انقلب
لو لمحتك مثل ماهون وحلب
عندي أماني كلما تصبحت فيك
لو كان شغلي بالتراب يقلب دهب.
وينتهي قائلا: «وشعر رشيد نخلة أغنية الحقول والطرقات والحفلات».
وفي مقالة بعنوان «الشخصية في الأدب»، كتب أمين نخلة عن السلف الدفاق:
«ترعرع والدي على الماء والضياء، في الجبال. فكان عود شبابه يورق عند ضفة، وتخفق أوراقه على رابية، أو على حافات واد، فيسابق ذلك الصبي الشاعر موجة الصبح حين تندفق على مباسط الهضبة، ويصرخ في عصفة الريح، ويطلق قدميه في حقل السنبل.. فترعرع على الطلاقة في ريف من أجمل أرياف الدنيا.. وإن له «في باب الزجل» ديوانا يزخر، من الدفة إلى الدفة، على خدود الصبايا، وخدود الصباح في الباروك.. كلما حركنا أوراقه، عبق في البيت روائح العرعر، والريح، والشفاه، والوجنات..».
أضمن كلمتي هذه الانعطافة الطيبة وأنا مدرك تمام الإدراك أنني، الساعة، في «ضيافة» مائدة الأمين، دون الرشيد. ولكن ما جاش من خواطر، وما لاح من مودات، وجّه القلم إلى الطراوة وطويات النفس وحلاوة التذكر.
هنا معنّى رشيد نخلة، وهناك عندليب عبدالله غانم.
هنا روائح العرعر، وهناك روائح الصعتر:
«هون اشلحيني بجب هالزعتر
مطرح ما كنا بالهوى نسكر
وشو معدبك تا تحرقي بخّور
الأرض مندل والسما عنبر».
(عبدالله غانم)
هنا النشيد الوطني، وهناك الوله بالحبيب الوطن.
هنا الوفاء، من أمين (وهو ابن الشاعر رشيد نخلة) إلى سعيد (ابن الشاعر أمين نخلة)، وهناك ما جاور ستة عقود من الوفاء ومازلنا نتوكأ على عصا «العندليب».
هنا الأصالات والنهضويات، وهناك مثيلاتها.
كأنما بيننا، وهم من حيث الروابي الشم ومدافق الماء، ونحن من مقلب آخر في الجبل، خضيب خصيب.. كأنما بيننا عصبة عمومة يا أخي «سعيد». وما أحيلاها قرابة تكون فيها الكلمة أما والبيان أبا وجنائن الريف بعرعرها وصعترها مسرح مواعيد ومواجيد!
***
أول ما يلفت في موقف الأمين من المجادلة الرائجة حول القديم والجديد، وحول «العزل» الأدبي المتبادل وصراع المذاهب، هو اختراقه القشور وبحثه عن حقيقة الإبداع في كيان الإبداع ذاته، وإقراره بأن في كل جديد متأصل ذخائر من القديم المؤسس أو السباق أو العابر الأزمنة.
التحدي الصحيح الذي يلازم الكتابة الأدبية في كل عصر هو الشيوع والأصالة.. الأمحاء في العمومية والتميز في الخصوصية.. التبعية والفرادة.. الاكتفاء بالهين وإغراء العصي.. السهولة والوعورة.. عنيت وعر الأصيل، أي الوعر الذي لا وصول لكاتب لم يسلكه.. الوعر الذي تبدأ طريقه بالأعماق وتنتهي بالآفاق!
القديم والجديد قد يكونان جاهليين وقد يكونان حديثين. أصيلين أو هشّين.. سهلين بمعنى ملازمة السطوح ووعرين بمعنى الذهاب إلى حيث الكنز وبساط الريح وسر العقدة في السجادة الشرقية ومنازل الرخاء أو الشقاء في القصيدة! وقد يكونان مرين كل المرارة أو طيبين كل الطيب.
عن فوزي المعلوف يقول أمين نخلة:
لم يزر فوزي بالجديد الذي
طاب، ولم يزر بطيب العتيق.
وله في الطرح الذي نعالجه آراء شتى، وأبيات منثورة، وقصيدة تحمل عنوان «القديم والجديد»، منها هذا المقتطف:
البلبل الطرب النظيم
وافى وغرد في الكروم
هو لابس الريش الجديد
وصاحب الشدو القديم
والحبة العذراء، وهي
خبيئة الزرع الكريم
كنز من الماضي إلى
آت من الخير العميم..
كأنه يصف نفسه في هذه الأبيات! كبير الشداة في الشعر صوغا وصوتا وأجراسا داخلية، عواد العوادين يوم تتغاوى الأوتار في مواسم الدلال.. ألبس نظيمه الشعري والنثري حللا جديدة لم تتنكّر لأصالة السلف العبقري ولكنها أضافت إليها كثيرا من الماء والرونق، ومن الريش الجديد، ومن ربيع لبنان.. فبات البيان وترا على وتر، وسحرا على سحر:
أيقولون: في البيان قديم
وجديد، ونغتدي في حواره!
إنّ ذاك القديم قيثارة العذب
وهذا الجديد من أوتاره.
***
في نظيمه بعض من ربيع لبنان، من ذاتية الكلمة اللبنانية في الشعر التي لي حولها قول مستفيض (يراجع كتابي: من الشائع إلى الأصيل). إن النعم التي سكبتها اليد العليا على أرضنا نقع على مثلها في قصيدتنا:
الثوب البهي، والسياق الحر، وعمق الاتصال بين المصدر والمظهر، وغلال الكلمات، وهاجس النظام والضوابط، واجتناب الذوبان في الآخر المشرّق أو المغرّب، وقطف الصور، واحتواء الهموم والمؤالفة الذكية بين الأركان المتجاورة، ومحاذرة الثرثرة والفراغ... هذه كلها، يمكن أن تشكل منطلقا أول للدخول إلى ذاتيات الكلمة اللبنانية الشعرية.
صاحب «المفكرة الريفية» و«دفتر الغزل»، وسائر المذهبّات، كان في صدارة الآباء النهضويين الذين نقلوا الحالة اللبنانية من بهاء الطبيعة وأناقة الحياة ولعبة الأنوار والظلال وشمخة الربى إلى سهول الورق، ولكنه كان أيضا في صدارة من رعوا ذمم الفصحى. من منا لم يحفظ هذه الأبيات في ذاكرته وفي دائرة اعتزازه بلبنان:
افسحوا في محفل الشعر لنا،
نحن من لبنان، من عليا الدنى!
جيرة الأرز، وضاحي ظله
والربى الخضر، ووشي المنحنى.
في الجمال الزهو، والحق الهدى،
مكّن الله لنا ما مكّنا
نحن في الفصحى رعينا ذمما
وشرعنا دونها سمر القنا.
ويا مالئ العصر، واللغة وأجاجين الجمال! أمام ميزتين من ميزات مسارك الأدبي الباهر توقفت، وتركت منها أغمارا... رجوناك ألا تترك الساح لخيلاء الفراغ، وخواء الكلمات. «فامسح الأرض عشبا، وورقا أخضر، وأطلق حياض الماء، واملأ الصهاريج ومد بساط الظل في أذى الهواجر» (من المفكرة الريفية)... وخذ بيدنا... ويد الأجيال الجديدة... ويد كل شغوف بالجمال، وبلبنان، وبالعربية.
سلام عليك، وبارك الله أعمالك الكاملة، ومن سهر على إصدارها إنها مخزون الذهب يوم لا يعود للأوراق المتداولة في السوق الأدبي قيمة أو شيمة أو سبب للبقاء .