اللون والضوء في شعر أمين نخلة

اللون والضوء في شعر أمين نخلة

ترك‭ ‬أمين‭ ‬نخلة‭ ‬ثلاثة‭ ‬دواوين‭: ‬‮«‬دفتر‭ ‬الغزل‮»‬‭ ‬1952‭, ‬‮«‬الديوان‭ ‬الجديد‮»‬‭ (‬1962‭), ‬و«ليالي‭ ‬الرقمتين‮»‬‭ (‬1966‭), ‬تضم‭ ‬حوالي‭ ‬ألفي‭ ‬بيت‭ ‬ما‭ ‬عدا‭ ‬القصائد‭ ‬التي‭ ‬لم‭ ‬يجمعها‭ ‬في‭ ‬هذه‭ ‬الدواوين‭, ‬أغلبها‭ ‬من‭ ‬بواكيره‭ ‬التي‭ ‬نظمها‭ ‬في‭ ‬العشرينيات‭ ‬من‭ ‬القرن‭ ‬العشرين‭. ‬إذا‭ ‬استعرضنا‭ ‬ديوان‭ ‬أمين‭ ‬نخلة‭ ‬‮«‬الديوان‭ ‬الجديد‮»‬‭ ‬الذي‭ ‬يضم‭ ‬قصائد‭ ‬‮«‬دفتر‭ ‬الغزل‮»‬‭ ‬نجد‭ ‬أن‭ ‬اللون‭ ‬الأخضر‭ ‬هو‭ ‬الأكثر‭ ‬ورودا‭ ‬فيه،‭ ‬فقد‭ ‬وردت‭ ‬كلمة‭ ‬‮«‬أخضر‮»‬‭ ‬44‭ ‬مرة‭. ‬واللون‭ ‬الثاني‭ ‬هو‭ ‬الأزرق‭ ‬فقد‭ ‬ورد‭ ‬15‭ ‬مرة،‭ ‬وكذلك‭ ‬الأسود‭ ‬الذي‭ ‬ورد‭ ‬15‭ ‬مرة،‭ ‬ثم‭ ‬الأحمر‭ ‬أو‭ ‬القاني‭ ‬10‭ ‬مرات‭ ‬والأبيض‭ ‬7‭ ‬مرات‭ ‬والأسمر‭ ‬5‭ ‬مرات‭.‬

في‭ ‬ديوان‭ ‬‮«‬ليالي‭ ‬الرقمتين‮»‬‭ ‬جاء‭ ‬الأخضر‭ ‬في‭ ‬الطليعة،‭ ‬فقد‭ ‬ورد‭ ‬8‭ ‬مرات‭ ‬يليه‭ ‬الأسود‭ ‬5‭ ‬مرات‭ ‬ثم‭ ‬ورد‭ ‬كل‭ ‬من‭ ‬الألوان‭ ‬الأربعة‭ ‬الباقية‭ ‬مرة‭ ‬واحدة‭.‬

بعض‭ ‬هذه‭ ‬الألوان‭ ‬وردت‭ ‬في‭ ‬عناوين‭ ‬القصائد‭.‬

نستنتج‭ ‬من‭ ‬هذا‭ ‬الإحصاء‭ ‬أن‭ ‬الشاعر‭ ‬قد‭ ‬تأثر‭ ‬بالطبيعة‭ ‬الجبلية‭ ‬الجميلة‭ ‬فجاء‭ ‬اللون‭ ‬الأخضر‭ ‬الشائع‭ ‬فيها‭ ‬في‭ ‬الطليعة‭. ‬فلو‭ ‬كان‭ ‬الشاعر‭ ‬قد‭ ‬عاش‭ ‬في‭ ‬صحراء‭ ‬لما‭ ‬كنا‭ ‬ننتظر‭ ‬أن‭ ‬نجد‭ ‬في‭ ‬شعره‭ ‬ذكراً‭ ‬للأخضر‭ ‬والخضرة‭ ‬كما‭ ‬جاء‭ ‬في‭ ‬وصف‭ ‬الثوب‭ ‬الأخضر،‭ ‬والدروب‭ ‬الخضر‭ ‬والهوى،‭ ‬والربيع‭ ‬والضياء،‭ ‬والأغصان،‭ ‬والأحلام‭. ‬والأخضر‭ ‬يوحي‭ ‬بالبهجة‭ ‬والنضارة‭ ‬والخصب‭ ‬والحيوية‭ ‬والشباب‭.‬

والأزرق‭ ‬مستوحى‭ ‬من‭ ‬زرقة‭ ‬السماء‭ ‬الصافية،‭ ‬وزرقة‭ ‬البحر‭ ‬الذي‭ ‬ينبسط‭ ‬أمامه‭ ‬على‭ ‬مد‭ ‬النظر،‭ ‬وفي‭ ‬القميص‭ ‬الأزرق‭ ‬والعيون‭ ‬الزرق‭.‬

والأسود‭ ‬الذي‭ ‬يُوحيه‭ ‬الليل‭ ‬والكحل‭ ‬والعيون‭ ‬السود‭ ‬والحبر‭. ‬والأبيض‭ ‬يستوحيه‭ ‬من‭ ‬الصباح‭ ‬وهو‭ ‬نقيض‭ ‬السواد،‭ ‬سواد‭ ‬الليل،‭ ‬والفتاة‭ ‬السوداء‭ ‬التي‭ ‬يصفها‭ ‬في‭ ‬‮«‬القصيدة‭ ‬السوداء‮»‬،‭ ‬ومن‭ ‬الأيادي‭ ‬البيض،‭ ‬والشيب‭... ‬والأحمر‭ ‬الذي‭ ‬يستوحيه‭ ‬من‭ ‬الوردة‭ ‬والفم‭ ‬والشفة‭ ‬والشَفَق‭ ‬ولون‭ ‬القرميد‭. ‬وهو‭ ‬رمز‭ ‬للنار‭ ‬والدم‭ ‬والشهوة‭: ‬فالشفة‭ (‬ياقوتة‭ ‬حمراء‭) ‬و‭(‬شقيقة‭ ‬النعمان‭).‬

وتجدر‭ ‬الإشارة‭ ‬هنا‭ ‬إلى‭ ‬أن‭ ‬الألوان‭ ‬مرتبطة‭ ‬بالحالة‭ ‬النفسية‭ ‬عند‭ ‬الإنسان‭. ‬فاللون‭ ‬الأبيض‭ ‬لون‭ ‬مُريح‭ ‬يدل‭ ‬على‭ ‬الطهارة‭ ‬والبراءة‭ ‬والصفاء‭ - ‬فهو‭ ‬ثوب‭ ‬الزفاف‭ - ‬ولكنه‭ ‬يُصبح‭ ‬مكروها‭ ‬وممقوتا‭ ‬إذا‭ ‬كلل‭ ‬شعرَ‭ ‬الرأس‭ ‬وأصبح‭ ‬رمزا‭ ‬للشيخوخة‭ ‬وقرب‭ ‬انتهاء‭ ‬العمر‭.‬

والشاعر‭ ‬يربط‭ ‬بين‭ ‬اللونين‭ ‬الأسود‭ ‬والأخضر،‭ ‬والعرب‭ ‬وصفوا‭ ‬الخُضرة‭ ‬الكثيفة‭ ‬بالسواد،‭ ‬وسموا‭ ‬العراق‭ ‬بلاد‭ ‬السواد‭ ‬لكثافة‭ ‬غابات‭ ‬أشجار‭ ‬النخيل‭ ‬الموجودة‭ ‬فيه،‭ ‬حيث‭ ‬يقول‭:‬

طولي،‭ ‬ليلتي،‭ ‬على‭ ‬المرمر‭ ‬الرخـ

ص،‭ ‬وفي‭ ‬اللمح‭ ‬من‭ ‬سواد‭ ‬الزبرجد

فالزبرجد‭ ‬من‭ ‬الحجارة‭ ‬الكريمة‭ ‬التي‭ ‬يغلب‭ ‬عليها‭ ‬اللون‭ ‬الأخضر‭. ‬واللون‭ ‬الأسود‭ ‬موجود‭ ‬في‭ ‬أغلب‭ ‬أعلام‭ ‬البلدان‭ ‬العربية‭.‬

ولنتتبع‭ ‬الآن‭ ‬ذلك‭ ‬في‭ ‬شعره‭:‬

ففي‭ ‬قصيدة‭ ‬‮«‬الكُحل‮»‬‭ (‬ص29‭) ‬يقول‭ ‬في‭ ‬مطلعها‭:‬

آمنت‭ ‬بالتدقيق،‭ ‬والضبط‭!‬

يا‭ ‬واضع‭ ‬الخط‭ ‬على‭ ‬الخط

كحلك‭ ‬أم‭ ‬هذا‭ ‬سواد‭ ‬الدجى،

تحت‭ ‬التماع‭ ‬الغيث،‭ ‬والنقط؟‭!‬

هنا‭ ‬أخذ‭ ‬الشاعر‭ ‬السواد‭ ‬من‭ ‬الليل،‭ ‬والكحل‭ ‬الذي‭ ‬يستدعي‭ ‬السواد‭ ‬هو‭ ‬عنوان‭ ‬القصيدة،‭ ‬فهو‭ ‬ينحت‭  ‬القصيدة‭ ‬ويرسمها،‭ ‬حيث‭ ‬تتجلى‭ ‬الروح‭ ‬المبدعة‭ ‬والنفس‭ ‬الخلاقة‭ ‬والمخيلة‭ ‬الموحية‭ ‬والإيحاء‭ ‬المصور،‭ ‬فالشاعر‭ ‬يصف‭ ‬الفتاة‭ ‬التي‭ ‬تتكحل،‭ ‬بل‭ ‬إنه‭ ‬يرسمها‭ ‬رسما‭.‬

وإذا‭ ‬كان‭ ‬اللون‭ ‬الأسود‭ ‬يدل‭ ‬على‭ ‬الحزن‭ ‬والحداد‭ ‬والكآبة‭ ‬والانقباض‭ ‬فإن‭ ‬الشاعر‭  ‬استطاع‭ ‬في‭ ‬هذه‭ ‬القصيدة‭ ‬أن‭ ‬يخرج‭ ‬به‭ ‬من‭ ‬تلك‭ ‬الدائرة‭ ‬ويربط‭ ‬بينه‭ ‬وبين‭ ‬الجمال‭ ‬والشهوة‭ ‬والإثارة،‭ ‬فالمرأة‭ ‬الحسناء‭ ‬التي‭ ‬يصفها‭ ‬زنجية،‭ ‬وهي‭ ‬صاحبة‭ ‬جمال‭ ‬آسر‭.‬

وفي‭ ‬هذه‭ ‬القصيدة‭ ‬يستحضر‭ ‬الشاعر‭ ‬السواد‭ - ‬الفتاة‭ ‬السوداء‭ ‬التي‭ ‬يصفها‭ - ‬ويدعونا‭ ‬فيها‭ ‬إلى‭ ‬وليمة‭ ‬الجسد‭ ‬الذي‭ ‬يعربد‭ ‬السواد‭ ‬فيه‭ ‬وتنضح‭ ‬منه‭ ‬الشهوة‭. ‬في‭ ‬هذه‭ ‬القصيدة‭ ‬صراع‭ ‬وتزاحم‭ ‬بين‭ ‬سواد‭ ‬المرأة‭ ‬الزنجية‭ ‬وسواد‭ ‬الليل،‭ ‬فكلما‭ ‬تناقص‭ ‬الليل‭ ‬واقترب‭ ‬بزوغ‭ ‬الفجر‭ ‬تناقصت‭ ‬اللذة‭ ‬التي‭ ‬ستنتهي‭ ‬مع‭ ‬انتهاء‭ ‬الليل‭ ‬فتنتهي‭ ‬لحظات‭ ‬السعادة‭ ‬والمتعة،‭ ‬فكأنه‭ ‬يطلب‭ ‬من‭ ‬الضوء‭ ‬أن‭ ‬يتمهل‭ ‬ولا‭ ‬يعجل‭!‬

ظاهر‭ ‬في‭ ‬هذه‭ ‬القصيدة‭ ‬الرائعة‭ ‬دقة‭ ‬الصنعة‭ ‬وحسن‭ ‬انتقاء‭ ‬اللفظ‭ ‬الذي‭ ‬يلائم‭ ‬الجو‭ ‬الشعري،‭ ‬فكأنما‭ ‬هو‭ ‬جو‭ ‬نؤاسي‭ ‬بغدادي‭ ‬زمن‭ ‬بني‭ ‬العباس‭ ‬هيأه‭ ‬لنا‭ ‬الأمين‭ ‬وهو‭ ‬سيد‭ ‬التطريب‭ ‬والترقيص،‭ ‬فكأن‭ ‬ما‭ ‬يفعله‭ ‬في‭ ‬قصيدته‭ ‬هذه‭ ‬هو‭ ‬فت‭ ‬المسك‭ ‬بالكفين‭ ‬ليعبق‭ ‬الطيب‭ ‬ويضُوع،‭ ‬ثم‭ ‬يتركنا‭ ‬نشاوى‭ ‬نرقص‭ ‬طربا‭ ‬مع‭ ‬هذا‭ ‬الدفق‭ ‬من‭ ‬الجمال‭ ‬والموسيقى‭ ‬المرقصة‭.‬

وفي‭ ‬قصيدة‭ ‬‮«‬القميص‭ ‬الأزرق‮»‬‭ (‬ص40‭) ‬يصف‭ ‬الشاعر‭ ‬الفتاة‭ ‬ذات‭ ‬الثوب‭ ‬الأزرق‭ ‬ويتغزل‭ ‬فيها،‭ ‬فيورد‭ ‬كلمة‭ (‬أزرق‭) ‬خمس‭ ‬مرات،‭ ‬وهي‭ ‬مقطوعة‭ ‬صغيرة‭ ‬تتألف‭ ‬من‭ ‬خمسة‭ ‬أبيات،‭ ‬فتشترك‭ ‬زرقة‭ ‬الثوب‭ ‬هنا‭ ‬بزرقة‭ ‬العيون‭:‬

أحببتُ‭ ‬من‭ ‬أجلاك‭ ‬كل‭ ‬غمامة

زرقاء،‭ ‬يا‭ ‬ذات‭ ‬القميص‭ ‬الأزرق

وأحب‭ ‬صاحية‭ ‬السماء،‭ ‬لأنهم

قدوا‭ ‬قميصك‭ ‬من‭ ‬سماء‭ ‬المشرق

أما‭ ‬النجوم‭ ‬فإنها‭ ‬أزراره،

رحماك‭: ‬حين‭ ‬تفتقين‭ ‬بها‭ ‬اتقى‭!‬

إن‭ ‬العيون‭ ‬الزرق،‭ ‬يوم‭ ‬لبسته،

ودت‭ ‬لو‭ ‬أن‭ ‬نسيجه‭ ‬لم‭ ‬يخلق،

كل‭ ‬العيون‭ ‬الزرق،‭ ‬لو‭ ‬جُمعت،‭ ‬فدى

للذيل،‭ ‬أو‭ ‬ما‭ ‬دونه،‭ ‬أو‭ ‬ما‭ ‬بقي‭...‬

في‭ ‬هذه‭ ‬الأبيات‭ ‬لطافة‭ ‬وصنعة‭ ‬وكياسة،‭ ‬ولكن‭ ‬ليست‭ ‬فيها‭ ‬عاطفة‭ ‬متأججة‭. ‬هذا‭ ‬شعر‭ ‬الجمالية‭ ‬والتألق‭.‬

إنك‭ ‬تقف‭ ‬حائرا‭ ‬إزاء‭ ‬هذه‭ ‬الزرقة‭ ‬وتتساءل‭: ‬هل‭ ‬خرجت‭ ‬من‭ ‬أنبوب‭ ‬اللون‭ ‬أم‭ ‬من‭ ‬الدواة؟

وفي‭ ‬قصيدة‭ ‬‮«‬الشلال‮»‬‭ (‬ص90‭) ‬يُجلي‭ ‬الشاعر‭ ‬في‭ ‬دقة‭ ‬الصنعة‭ ‬وروعة‭ ‬الوصف‭ ‬وقوة‭ ‬الرصف‭ ‬وبراعة‭ ‬القول،‭ ‬فكأن‭ ‬الشلال‭ ‬عمود‭ ‬الماء‭ ‬أو‭ ‬عمود‭ ‬الجلال‭ ‬الواقف‭ ‬بين‭ ‬الأرض‭ ‬والسماء،‭ ‬قد‭ ‬جسده‭ ‬الشاعر‭ ‬ورفعه‭ ‬خطيبا‭ ‬فصيحا،‭ ‬يرقص‭ ‬الشعاع‭ ‬ويطرب‭ ‬البلبل‭ ‬ويرفق‭ ‬بالحجر،‭ ‬يشده‭ ‬حبل‭ ‬من‭ ‬الفضة‭ ‬يتدلى‭ ‬في‭ ‬الهواء‭:‬

طاول‭ ‬الهضب،‭ ‬يا‭ ‬عمود‭ ‬الماء،

وتمايل‭ ‬بالقامة‭ ‬الهيفاء‭.‬

يا‭ ‬أبا‭ ‬الأخضر‭ ‬المخطط‭ ‬في‭ ‬السهل،

كتخطيط‭ ‬معطف‭ ‬الحسناء‭!‬

يا‭ ‬أبا‭ ‬الأزرق‭ ‬المصفق‭ ‬في‭ ‬النهر،

لرقص‭ ‬الشعاع‭ ‬في‭ ‬الأفياء‭!‬

مِنّة‭ ‬أنت‭ ‬من‭ ‬حياة،‭ ‬وخصب،

سقطت‭ ‬من‭ ‬عل‭ ‬على‭ ‬الأوداء‭.‬

تنسجُ‭ ‬الخصب‭ ‬للمروج‭ ‬رداء،

ليت‭ ‬لي‭ ‬منك‭ ‬افضل‭ ‬ذاك‭ ‬الرداء‭...‬

وأنا‭ ‬ابن‭ ‬الغمام،‭ ‬مخضوضر‭ ‬الذهن،

وإن‭ ‬كنت‭ ‬ساكن‭ ‬الصحراء‭!‬

إلى‭ ‬أن‭ ‬يقول‭:‬

يا‭ ‬لسان‭ ‬الجبال‭ ‬في‭ ‬خُطبة‭ ‬العز،

وراوي‭ ‬القصيدة‭ ‬العصماء‭:‬

لك‭ ‬تلك‭ ‬الصيحات‭ ‬في‭ ‬كل‭ ‬واد،

مؤذنات‭ ‬بالدولة‭ ‬الخضراء‭.‬

نقل‭ ‬البلبل‭ ‬الطروب‭ ‬حديثا

عنك‭ ‬رطب‭ ‬الألفاظ‭ ‬رطب‭ ‬الأداء‭.‬

ما‭ ‬تُرى‭ ‬قلت‭ ‬للصخور‭ ‬حواليك،

فرقت‭ ‬في‭ ‬الليلة‭ ‬الزرقاء‭...‬

في‭ ‬هذه‭ ‬القصيدة‭ ‬تتزاحم‭ ‬الألوان‭ ‬فالأخضر‭ ‬والأزرق‭ ‬والأبيض،‭ ‬وكأن‭ ‬الشاعر‭ ‬قد‭ ‬أصبح‭ ‬فنانا‭ ‬تشكيليا‭ ‬يرسم‭ ‬الشلال‭ ‬في‭ ‬لوحة‭ ‬بديعة‭ ‬أو‭ ‬ينحته‭ ‬في‭ ‬منحوتة‭. ‬وهو‭ ‬يشبه‭ ‬الشلال‭ ‬بحرف‭ ‬الألف،‭ ‬وهو‭ ‬الحرف‭ ‬الوحيد‭ ‬في‭ ‬الأبجدية‭ ‬العربية‭ ‬المستقيم،‭ ‬والذي‭ ‬ليس‭ ‬فيه‭ ‬انحناء،‭ ‬يقول‭ ‬مستخدما‭ ‬مراعاة‭ ‬النظير‭: ‬الألف‭ - ‬الخط‭ - ‬القلم‭ - ‬الصحائف‭.‬

ألف‭ ‬أنت‭ ‬خطها‭ ‬قلم‭ ‬الله،

لأحلى‭ ‬الصحائف‭ ‬الزهراء‭.‬

وهو‭ ‬مصور‭ ‬بارع‭ ‬في‭ ‬الرسم‭ ‬بالكلمات،‭ ‬يقول‭ ‬في‭ ‬قصيدة‭ ‬‮«‬الصورة‮»‬‭ (‬ص128‭):‬

غمس‭ ‬الريشة‭ ‬في‭ ‬البحر،‭ ‬الذي

صور‭ ‬العينين‭ ‬كاللج‭ ‬الرقيق،

وانثنى‭ ‬يغمس‭ ‬في‭ ‬رأد‭ ‬الضحى،

مرة‭ ‬أخرى،‭ ‬وفي‭ ‬الأفق‭ ‬العميق‭.‬

زرقة‭ ‬حارت‭ ‬بها‭ ‬ريشته،

فهي‭ ‬من‭ ‬صنعة‭ ‬رسام‭ ‬أنيق‭...‬

ونصل‭ ‬إلى‭ ‬قصيدته‭ ‬العصماء‭ ‬التي‭ ‬‮«‬ألقاها‭ ‬في‭ ‬مهرجان‭ ‬أبي‭ ‬تمام‭ ‬في‭ ‬دمشق‭ ‬يقول‭ ‬في‭ ‬مطلعها‭ (‬ص304‭):‬

أفسحوا‭ ‬في‭ ‬محفل‭ ‬الشعر‭ ‬لنا،

نحن‭ ‬من‭ ‬لبنان،‭ ‬من‭ ‬عليا‭ ‬الدنى‭!‬

جيرة‭ ‬الأرز،‭ ‬وضاحي‭ ‬ظله،

والربى‭ ‬الخضر‭ ‬ووشي‭ ‬المنحنى‭.‬

وفي‭ ‬حفل‭ ‬تكريم‭ ‬الأخطل‭ ‬الصغير‭ (‬بشارة‭ ‬عبدالله‭ ‬الخوري‭) (‬1890‭ - ‬1968‭) ‬يقول‭ (‬ص361‭):‬

جاءك‭ ‬الشيب‭ ‬بالأزهار‭ ‬بيضا،

فعلى‭ ‬كل‭ ‬شعرة‭ ‬منه‭ ‬نور‭.‬

فشبه‭ ‬الشيب‭ ‬بالأزهار‭ ‬البيض،‭ ‬وجعل‭ ‬اشتعال‭ ‬الشعر‭ ‬يضيء‭ ‬فيشع‭ ‬منه‭ ‬النور‭. ‬وفي‭ ‬‮«‬ليالي‭ ‬الرقمتين‮»‬‭ ‬يقول‭ ‬في‭ ‬قصيدة‭ ‬عنوانها‭ ‬‮«‬ليلة‭ ‬الكويت‮»‬‭ (‬ص40‭)‬‭ ‬حيث‭ ‬يمزج‭ ‬بين‭ ‬الموسيقى‭ ‬واللون‭ ‬والضوء‭ ‬والأريج‭:‬

 

أنا‭ ‬بالدف،‭ ‬والمزاهر،‭ ‬والصنج،

وبالورد،‭ ‬والشذا،‭ ‬حييتُ‭.‬

كل‭ ‬خد‭ ‬أطل‭ ‬من‭ ‬شقق‭ ‬الخز

أتاني،‭ ‬ونور‭ ‬الياقوت‭...‬

أمن‭ ‬الورد‭ ‬أم‭ ‬من‭ ‬الخد،‭ ‬أم‭ ‬من

عبق‭ ‬الكأس‭ ‬طاب‭ ‬ليلي‭ ‬الشتيت؟‭!‬

هذا‭ ‬هو‭ ‬الشاعر‭ ‬والأديب‭ ‬أمين‭ ‬نخلة‭ ‬الذي‭ ‬عُرف‭ ‬عنه‭ ‬اهتمامه‭ ‬باللغة‭ ‬العربية‭ ‬وبالفصيح‭ ‬من‭ ‬الكلام،‭ ‬وحبه‭ ‬للبيان،‭ ‬وإيثاره‭ ‬للطبع،‭ ‬ومجاراة‭ ‬الخاطر،‭ ‬ونزوعه‭ ‬للفصاحة،‭ ‬ومهارته‭ ‬في‭ ‬تشقيق‭ ‬الكلام‭ ‬وصناعته،‭ ‬بحيث‭ ‬قل‭ ‬أن‭ ‬يفري‭ ‬في‭ ‬هذا‭ ‬الباب‭ ‬فرية‭. ‬كما‭ ‬وقف‭ ‬على‭ ‬أسرار‭ ‬البلاغة‭ ‬وعرف‭ ‬كيف‭ ‬يجلو‭ ‬الخاطرة‭ ‬ويختار‭ ‬اللفظة‭ ‬في‭ ‬ذوق‭ ‬خاص‭ ‬مميز‭ ‬عرف‭ ‬به‭ ‬وطبع‭ ‬شعره‭ ‬ونثره‭.‬

وهو‭ ‬إلى‭ ‬ذلك،‭ ‬سيد‭ ‬من‭ ‬أسياد‭ ‬الكلمة،‭ ‬ومن‭ ‬أبرع‭ ‬المنشئين‭ ‬في‭ ‬العربية‭ ‬في‭ ‬زماننا،‭ ‬يوفق‭ ‬إلى‭ ‬اختيار‭ ‬اللفظة‭ ‬كما‭ ‬يوفق‭ ‬إلى‭ ‬إنزالها‭ ‬في‭ ‬الجملة‭ ‬فتقع‭ ‬موقعها‭ ‬وتأتي،‭ ‬ومن‭ ‬ثم،‭ ‬في‭ ‬سياق‭ ‬الكلام،‭ ‬وكأنها‭ ‬حفر‭ ‬وتتزيل‭ ‬أو‭ ‬شك‭ ‬لؤلؤ‭ .