اللون والضوء في شعر أمين نخلة
ترك أمين نخلة ثلاثة دواوين: «دفتر الغزل» 1952, «الديوان الجديد» (1962), و«ليالي الرقمتين» (1966), تضم حوالي ألفي بيت ما عدا القصائد التي لم يجمعها في هذه الدواوين, أغلبها من بواكيره التي نظمها في العشرينيات من القرن العشرين. إذا استعرضنا ديوان أمين نخلة «الديوان الجديد» الذي يضم قصائد «دفتر الغزل» نجد أن اللون الأخضر هو الأكثر ورودا فيه، فقد وردت كلمة «أخضر» 44 مرة. واللون الثاني هو الأزرق فقد ورد 15 مرة، وكذلك الأسود الذي ورد 15 مرة، ثم الأحمر أو القاني 10 مرات والأبيض 7 مرات والأسمر 5 مرات.
في ديوان «ليالي الرقمتين» جاء الأخضر في الطليعة، فقد ورد 8 مرات يليه الأسود 5 مرات ثم ورد كل من الألوان الأربعة الباقية مرة واحدة.
بعض هذه الألوان وردت في عناوين القصائد.
نستنتج من هذا الإحصاء أن الشاعر قد تأثر بالطبيعة الجبلية الجميلة فجاء اللون الأخضر الشائع فيها في الطليعة. فلو كان الشاعر قد عاش في صحراء لما كنا ننتظر أن نجد في شعره ذكراً للأخضر والخضرة كما جاء في وصف الثوب الأخضر، والدروب الخضر والهوى، والربيع والضياء، والأغصان، والأحلام. والأخضر يوحي بالبهجة والنضارة والخصب والحيوية والشباب.
والأزرق مستوحى من زرقة السماء الصافية، وزرقة البحر الذي ينبسط أمامه على مد النظر، وفي القميص الأزرق والعيون الزرق.
والأسود الذي يُوحيه الليل والكحل والعيون السود والحبر. والأبيض يستوحيه من الصباح وهو نقيض السواد، سواد الليل، والفتاة السوداء التي يصفها في «القصيدة السوداء»، ومن الأيادي البيض، والشيب... والأحمر الذي يستوحيه من الوردة والفم والشفة والشَفَق ولون القرميد. وهو رمز للنار والدم والشهوة: فالشفة (ياقوتة حمراء) و(شقيقة النعمان).
وتجدر الإشارة هنا إلى أن الألوان مرتبطة بالحالة النفسية عند الإنسان. فاللون الأبيض لون مُريح يدل على الطهارة والبراءة والصفاء - فهو ثوب الزفاف - ولكنه يُصبح مكروها وممقوتا إذا كلل شعرَ الرأس وأصبح رمزا للشيخوخة وقرب انتهاء العمر.
والشاعر يربط بين اللونين الأسود والأخضر، والعرب وصفوا الخُضرة الكثيفة بالسواد، وسموا العراق بلاد السواد لكثافة غابات أشجار النخيل الموجودة فيه، حيث يقول:
طولي، ليلتي، على المرمر الرخـ
ص، وفي اللمح من سواد الزبرجد
فالزبرجد من الحجارة الكريمة التي يغلب عليها اللون الأخضر. واللون الأسود موجود في أغلب أعلام البلدان العربية.
ولنتتبع الآن ذلك في شعره:
ففي قصيدة «الكُحل» (ص29) يقول في مطلعها:
آمنت بالتدقيق، والضبط!
يا واضع الخط على الخط
كحلك أم هذا سواد الدجى،
تحت التماع الغيث، والنقط؟!
هنا أخذ الشاعر السواد من الليل، والكحل الذي يستدعي السواد هو عنوان القصيدة، فهو ينحت القصيدة ويرسمها، حيث تتجلى الروح المبدعة والنفس الخلاقة والمخيلة الموحية والإيحاء المصور، فالشاعر يصف الفتاة التي تتكحل، بل إنه يرسمها رسما.
وإذا كان اللون الأسود يدل على الحزن والحداد والكآبة والانقباض فإن الشاعر استطاع في هذه القصيدة أن يخرج به من تلك الدائرة ويربط بينه وبين الجمال والشهوة والإثارة، فالمرأة الحسناء التي يصفها زنجية، وهي صاحبة جمال آسر.
وفي هذه القصيدة يستحضر الشاعر السواد - الفتاة السوداء التي يصفها - ويدعونا فيها إلى وليمة الجسد الذي يعربد السواد فيه وتنضح منه الشهوة. في هذه القصيدة صراع وتزاحم بين سواد المرأة الزنجية وسواد الليل، فكلما تناقص الليل واقترب بزوغ الفجر تناقصت اللذة التي ستنتهي مع انتهاء الليل فتنتهي لحظات السعادة والمتعة، فكأنه يطلب من الضوء أن يتمهل ولا يعجل!
ظاهر في هذه القصيدة الرائعة دقة الصنعة وحسن انتقاء اللفظ الذي يلائم الجو الشعري، فكأنما هو جو نؤاسي بغدادي زمن بني العباس هيأه لنا الأمين وهو سيد التطريب والترقيص، فكأن ما يفعله في قصيدته هذه هو فت المسك بالكفين ليعبق الطيب ويضُوع، ثم يتركنا نشاوى نرقص طربا مع هذا الدفق من الجمال والموسيقى المرقصة.
وفي قصيدة «القميص الأزرق» (ص40) يصف الشاعر الفتاة ذات الثوب الأزرق ويتغزل فيها، فيورد كلمة (أزرق) خمس مرات، وهي مقطوعة صغيرة تتألف من خمسة أبيات، فتشترك زرقة الثوب هنا بزرقة العيون:
أحببتُ من أجلاك كل غمامة
زرقاء، يا ذات القميص الأزرق
وأحب صاحية السماء، لأنهم
قدوا قميصك من سماء المشرق
أما النجوم فإنها أزراره،
رحماك: حين تفتقين بها اتقى!
إن العيون الزرق، يوم لبسته،
ودت لو أن نسيجه لم يخلق،
كل العيون الزرق، لو جُمعت، فدى
للذيل، أو ما دونه، أو ما بقي...
في هذه الأبيات لطافة وصنعة وكياسة، ولكن ليست فيها عاطفة متأججة. هذا شعر الجمالية والتألق.
إنك تقف حائرا إزاء هذه الزرقة وتتساءل: هل خرجت من أنبوب اللون أم من الدواة؟
وفي قصيدة «الشلال» (ص90) يُجلي الشاعر في دقة الصنعة وروعة الوصف وقوة الرصف وبراعة القول، فكأن الشلال عمود الماء أو عمود الجلال الواقف بين الأرض والسماء، قد جسده الشاعر ورفعه خطيبا فصيحا، يرقص الشعاع ويطرب البلبل ويرفق بالحجر، يشده حبل من الفضة يتدلى في الهواء:
طاول الهضب، يا عمود الماء،
وتمايل بالقامة الهيفاء.
يا أبا الأخضر المخطط في السهل،
كتخطيط معطف الحسناء!
يا أبا الأزرق المصفق في النهر،
لرقص الشعاع في الأفياء!
مِنّة أنت من حياة، وخصب،
سقطت من عل على الأوداء.
تنسجُ الخصب للمروج رداء،
ليت لي منك افضل ذاك الرداء...
وأنا ابن الغمام، مخضوضر الذهن،
وإن كنت ساكن الصحراء!
إلى أن يقول:
يا لسان الجبال في خُطبة العز،
وراوي القصيدة العصماء:
لك تلك الصيحات في كل واد،
مؤذنات بالدولة الخضراء.
نقل البلبل الطروب حديثا
عنك رطب الألفاظ رطب الأداء.
ما تُرى قلت للصخور حواليك،
فرقت في الليلة الزرقاء...
في هذه القصيدة تتزاحم الألوان فالأخضر والأزرق والأبيض، وكأن الشاعر قد أصبح فنانا تشكيليا يرسم الشلال في لوحة بديعة أو ينحته في منحوتة. وهو يشبه الشلال بحرف الألف، وهو الحرف الوحيد في الأبجدية العربية المستقيم، والذي ليس فيه انحناء، يقول مستخدما مراعاة النظير: الألف - الخط - القلم - الصحائف.
ألف أنت خطها قلم الله،
لأحلى الصحائف الزهراء.
وهو مصور بارع في الرسم بالكلمات، يقول في قصيدة «الصورة» (ص128):
غمس الريشة في البحر، الذي
صور العينين كاللج الرقيق،
وانثنى يغمس في رأد الضحى،
مرة أخرى، وفي الأفق العميق.
زرقة حارت بها ريشته،
فهي من صنعة رسام أنيق...
ونصل إلى قصيدته العصماء التي «ألقاها في مهرجان أبي تمام في دمشق يقول في مطلعها (ص304):
أفسحوا في محفل الشعر لنا،
نحن من لبنان، من عليا الدنى!
جيرة الأرز، وضاحي ظله،
والربى الخضر ووشي المنحنى.
وفي حفل تكريم الأخطل الصغير (بشارة عبدالله الخوري) (1890 - 1968) يقول (ص361):
جاءك الشيب بالأزهار بيضا،
فعلى كل شعرة منه نور.
فشبه الشيب بالأزهار البيض، وجعل اشتعال الشعر يضيء فيشع منه النور. وفي «ليالي الرقمتين» يقول في قصيدة عنوانها «ليلة الكويت» (ص40) حيث يمزج بين الموسيقى واللون والضوء والأريج:
أنا بالدف، والمزاهر، والصنج،
وبالورد، والشذا، حييتُ.
كل خد أطل من شقق الخز
أتاني، ونور الياقوت...
أمن الورد أم من الخد، أم من
عبق الكأس طاب ليلي الشتيت؟!
هذا هو الشاعر والأديب أمين نخلة الذي عُرف عنه اهتمامه باللغة العربية وبالفصيح من الكلام، وحبه للبيان، وإيثاره للطبع، ومجاراة الخاطر، ونزوعه للفصاحة، ومهارته في تشقيق الكلام وصناعته، بحيث قل أن يفري في هذا الباب فرية. كما وقف على أسرار البلاغة وعرف كيف يجلو الخاطرة ويختار اللفظة في ذوق خاص مميز عرف به وطبع شعره ونثره.
وهو إلى ذلك، سيد من أسياد الكلمة، ومن أبرع المنشئين في العربية في زماننا، يوفق إلى اختيار اللفظة كما يوفق إلى إنزالها في الجملة فتقع موقعها وتأتي، ومن ثم، في سياق الكلام، وكأنها حفر وتتزيل أو شك لؤلؤ .