الإيقاع في الثّقافة العربيّة تجلٍّ دائم بين الشّعر والموسيقى والرّقص

الإيقاع في الثّقافة العربيّة تجلٍّ دائم بين الشّعر والموسيقى والرّقص

إنّ الحديث عن مصطلح ما، أو ظاهرة معيّنة يدفعنا، عادة، إلى التّعريف بها لغويّاً واصطلاحيّاً قبل التّطرّق إلى إشكاليّاتنا وفرضيّاتنا ندرسها ونتمحّص صحّتها من خطئها... ولعلّ هذه الخطوة تحديداً هي التي برّرت كتابتنا لهذه المقالة، نظراً لحجم الصّعوبات التي تعترضنا إذا ما رمنا تقديم تعريف واضح للإيقاع. إذ هو ذلك الشّيء الذي لطالما عزفنا عن دراسته، و«لم يضِرْنا جهلنا بحقيقته، لأنّنا لم ندركه بالفكر وإنّما أدركناه بالحساسيّة والحدس». فغاب تعريفه المانع عن دراساتنا وأدبيّاتنا وبقي إلى يوم النّاس هذا واحداً من المفاهيم التي نستعملها على الإجمال. غير أننا لا ننتقل إلى التعريف والضّبط العلمي حتّى نجد تراث هذا المفهوم وأدبيّاته تأبى الانصياع لأي تعريف مانع.

ولعلّ السّبب الذي يقف وراء عزوفنا هذا هو حضوره الدّائم في كلّ تفاصيل حياتنا، فلا يمكن أن نحدّده في الموسيقى ولا في الشّعر أو بقيّة الإبداعات الفنّيّة الأخرى، إذ هو ظاهرة متجلّية في الحياة بأسرها، حاضرة في الطّبيعة، ملازمة للكون والحياة. فـ«الإيقاع هو خطوتنا، وهو تعاقب الأيّام والليالي وحركة النّجوم والكواكب، ونظام الكون وما فيه من تناسب... الشّكل البدائي للموسيقى ذاك الذي طوّر فنّ الرّقص شيئاً فشيئاً، وكذلك الذي نشأت منه الموسيقى الآليّة».
ولعلّ حضوره الدّائم هو الذي يبرّر اشتراك كلّ من اللّغة العربيّة والفرنسيّة وحتّى الإنجليزية، وهي اللّغات التي نتقنها، في استعمال مصطلح واحد، للدّلالة على ذلك الشّيء المنتظم الذي يحكم الموسيقى والشّعر والرّقص وذلك التّعاقب الطّبيعي المتّزن... مصطلح واحد، ذو حدود مفتوحة غير واضحة لعلّنا تعمّدنا أن نوردها بتلك الشّاكلة، خشية من المحاسبة أو سهواً منّا عن ضبابيّته، اعتقاداً منّا بأنّ مصطلح «الإيقاع» واضح بطبعه لا يحتاج إلى البحث والتّفسير. ولم يمنعنا هذا وذاك عن محاولة إيجاد تفسير لهذا المصطلح قبل الخوض في حضوره الدّائم في جلّ التّمظهرات الحياتيّة وخاصّة الفنّيّة منها.

تعريف الإيقاع
إن مجرّد التذكير ببعض خصوصيات لغة الضّاد يجعلنا في غنى عن كلّ إجابة، فيكفي أن نعلم أنّها لغة اشتقاق حتى نقول إن إمكانات التوليد بلا نهاية، وإن كل إمكانية تجود بها تلك اللغة تفتح الباب على مصراعيه للتّأويل والتّفسير.
ويكفي أن نعلم أيضاً أنّ فعل «وقع» مثلا يدل على أكثر من معنى. فقد يُستعمل في سياق ليدل على الحدوث، كأن نقول «وقع الأمر: حدث». وربّما استعملناه في سياق آخر ليدلّ على السقوط فتقول «وقع الصّبي: سقط».
إذا كان هذا المصطلح رافضاً للضّبط اللّغوي الدّلالي، فكيف عساه أن يكون تعريفه الاصطلاحي؟ فهل تكفي صيغة المفرد لتحديد الماهية فتلحق بها أداة التعريف  «الـ» لتُصيّر اللّفظة «اسم جنس» على شاكلة «الإنسان» و«الطبيعة» و«الحياة» و«الموسيقى»؟ أم أنّنا في حاجة إلى صيغة الجمع، لأنّ المعنى لا يستقيم إلاّ بها على غرار بعض المفردات في اللّغات الأنجلوسكسونية، ككلمة «vacances» مثلاً في اللّغة الفرنسيّة، التي لا يجوز فيها إلاّ الجمع وتصير بلا معنى إذا كانت مفرداً؟ 
وإذا أقررنا بضرورة صيغة الجمع هذه، فهل سنرجع ذلك إلى حضوره في مجالات عدّة متنوّع بعضها عن بعض، أم لأنّه يتغيّر بتغيّر أطر حضوره؟ ثمّ ما الفرق بين هذه المجالات؟ وما الفرق الذي يشوب الإيقاع؟ ولعلّ هذه التّساؤلات جعلتنا نختار دراسة حضور هذا المصطلح في مجالات فنّيّة متنوّعة، اخترنا أن نخصّصها في الشّعر والموسيقى والرّقص.

في إيقاع الموسيقى والشّعر والرّقص
لعلّ الجمع بين هذه المفردات الفنّيّة الثّلاث (الشّعر والموسيقى والرّقص) لا يمثّل خياراً بقدر ما يمثّل ضرورة فرضها ذلك الارتباط التاريخي الذي يربطها بعضها ببعض منذ ابتدعت. فالمتمعّن في أبحاث المختصّين من القدماء والمحدثين، يلاحظ بشكل ملموس تأكيدهم أنّ الشّعر العربيّ هو شعر غنائيّ بالأساس، «فالقصيدة العربيّة قبل الإسلام كانت أغنية شعبيّة وشاعرها كان مغنّياً شعبياً». وأنّ الموسيقى، بالتّالي، كانت مرتبطة بهذا الشّعر توضّحه وتزيد من شيوعه ورواجه، إذ تعدّ المادّة النّغميّة، الموقّعة، «إحدى خصائص انتشار الشّعر وتداوله على ألسنة العامّة من النّاس، فالغناء في هذه الحالة يسهم في انتشار القصيدة، ويضمن شهرتها واستمرار تداولها بين الأجيال ضمن ممارساتهم الاجتماعيّة في أفراحهم وأتراحهم». وأنّ هذه القدرة على الإبلاغ تتعمّق إذا ما أضفنا إليها كلّ تلك الحركات والأفعال التي تحفّ بعمليّة إلقائها، فجاء الرّقص ملازماً لذلك الحدث الموسيقي بامتياز. ولعلّ الإيقاع هو الذي يربط بين هذه الأفعال الفنّيّة الثّلاثة. فهل هو مشترك فيها كلّها أم أنّ لكلٍّ إيقاعه الخاصّ به؟

الإيقاع الشّعري
إنّ الشّعر هو ذلك «الكلام المفصّل قطعاً قطعاً المتساوية في الوزن المتّحدة في الحرف الأخير من كلّ قطعة من هذه القطع، الذي يسمّى عندهم (العرب) بيتاً، ويسمّى الحرف الأخير الذي تتّفق فيه رويّاً وقافية، ويسمّى جملة الكلام إلى آخره قصيدة».
ولعلّ أوّل من تناول موضوع الإيقاع الشّعري، فوصلنا في كتابات واضحة ودراسات معمّقة، هو الخليل بن أحمد الفراهيدي، الذي قام باستخراج تفعيلات إيقاعيّة تحكم صياغة الشّعر وتضبط حركاته، وتحقّق ذلك الانسجام الإيقاعي بفضل تكرارها المنتظم، فيكون الإيقاع الشّعريّ ويتحقّق بفضل هذه الأوزان لا بفضل القوافي التي تمثّل عنصراً من عناصره، إذ يعتبر «الوزن أعظم أركان حدّ الشّعر وأولاها به خصوصيّة، وهو مشتمل على القافية، فإن اختلفت القوافي كان عيباً في التّقفية لا في الوزن».
ولعلّنا لا نغالي إن قلنا إن الإيقاع في الشّعر هو سرّ تميّزه عن الكلام المنثور، وهو ما أكّده شهاب الدّين الأبشيهي، الذي قال «إن العرب ما جعلت الشّعر موزونا إلاّ لمدّ الصّوت والدّندنة، ولولا ذلك لكان الشّعر المنظوم كالخبز المنثور».

الإيقاع الموسيقي
لعلّه من الضّروريّ، قبل الحديث عن الإيقاع الموسيقي، التّساؤل عن كيفيّة دراسة الإيقاع في عمل موسيقيّ ما، فهل يكفي أن نعزله عن بقية مكوّنات الأثر الفنّي ونمارس عليه ما تتيحه قوانين العلوم وأحكامها مجتمعة لنفهم نظامه؟ أو بالأحرى هل يمكن أن نقوم بذلك أصلاً؟
طبعاً لا، فالعمل الإبداعيّ مركّب معقّد لا يمكن إدراك أسراره إلاّ إذا تناولناه كاملاً لا متجزّئاً، لأنّ في ذلك مسخاً له واستلاباً لخصوصيّته وجودته بما أنّ الجودة لا تتحقّق إلاّ بتآلف العناصر والأجزاء في العمل الإبداعي. وإذا أخذنا بهذه الحقيقة، يصحّ أن نقول إنّ دراسة الإيقاع في العمل الموسيقي لابدّ أن تكون شاملة، بحيث لا تعزله عن اللّحن والكلمة والرّقص، ولا عن الأطر الثّقافيّة والاجتماعيّة التي تحفّ بممارسته.
ولعلّ ما يجب تداركه من الدّراسات القديمة هو مطبّ الفصل والتّجزيء أثناء تناول الإيقاع في الموسيقى، ودراسته بمعزل عن العمل في كلّيّته، من دون اعتباره مكوّناً من صلب اللّحن لا يستحقّ الإفاضة في الدّرس والتّحليل. وهي حال التّفطّن إلى ضرورة القطع مع دراسة الموسيقى في معزل عن واقعها الثّقافي، ومن دون تهميش دورها الاجتماعي أو الإنقاص منه. فمثل هذا التّعامل قد يحطّ من العمل الإبداعي بصفة عامّة، خاصّة أنّه رهين تضافر الإيقاع والصّورة والعبارة واللّحن وتناغمها في ما بينها. إنّها متلازمة تلازم الوجه و«القفا»، ويكون استقلال كلّ طرف عن الآخر استقلالاً منقوصاً فيه كثير من التّرابط والتّكامل.

إيقاع الرّقص
يعتبر الرّقص «تعبيراً حركيّاً من أقدم أشكال الكلام»، وهو «بكر الفنون، حيث تختصّ الموسيقى والشّعر بانسيابهما الزّمني، في حين تصمّم الفنون التّشكيليّة وفنّ العمارة الفضاء، أمّا الرّقص فهو يحيا في الفضاء وبالزّمن في الوقت ذاته». 
إنّ الحديث عن الرّقص يجلب معه حديثاً عن الظّاهر والباطن، إذ تمثّل هذه الحركات في ظاهرها تعبيرة ثقافيّة غير كلاميّة، ولكنّها في باطنها تتبّع لإيقاع هو جوهرها وروحها. فالإيقاع هو المكوّن الأساسي للرّقص، إذ من خلال تتبّع إيقاع الألحان، يقوم الرّاقص، بحركات موقّعة في انسجام تامّ بعضها مع بعض. بل أكثر من ذلك، فقد تقوم بعض الرّقصات (تحديداً الرّقص النّقري) بتطبيق الإيقاع أثناء الرّقص عليه، فيصطبغ كلّ منهما بالآخر لتشكيل التّناغم والتّجانس. وحتّى التّصفيق الذي يؤثّث بعض الرّقصات، إمّا من قبل الفاعلين فيها وإما المتفرّجين عليها، فإنّه يتبع الإيقاع وحركاته ومواطن نبره.
من هنا نتوصّل إلى أنّ الإيقاع هو بنية تتضمّن العديد من المكوّنات والعناصر المتنوّعة التي تتفاعل في ما بينها وتتضافر في انسجام بديع، وهو ما يصعّب عمليّة الفصل بين مكوّن وآخر، خاصّة أنّ إحساسنا بالإيقاع نستشعره جملة، فلا يفصّل ولا يجزّأ. فهو الحاضر الدّائم ليس فقط في كلّ مظاهر الحياة، وهو ما أكّدنا عليه في مقدّمة حديثنا، وإنّما في جلّ الأفعال الفنّيّة التي ابتدعها الإنسان مذ خلق على وجه البسيطة. ولعلّه الرّافد المشترك الذي تقدّ فوقه هذه الأفعال، فتختلف في ما بينها باختلاف ما قدّ، وتشترك لاشتراك ذلك الحاضر الدّائم في صميمها. وهو ما يفسّر قيام الشّعر العمودي والحرّ على الإيقاع في كلّ لغات العالم وضرورة الاعتماد عليه في الموسيقى، سواء في الغناء الموزون أو حتّى غيره من العزف بانسياب «adlib»، وخضوع الرّاقص له مهما كانت مدرسته شرقيّة أو غربيّة، تقليديّة أو معاصرة... إنّه العمود الفقري لكلّ هذه الفنون ولفنون أخرى، ولعلّه العمود الفقري للحياة بأسرها، باعتباره يمثّل جوهر انتظامها والضّامن له.