عمر فاخوري ... رائد في المقالة الأدبية

عمر فاخوري ... رائد في المقالة الأدبية

في‭ ‬خريف‭ ‬عام‭ ‬1913،‭ ‬والدنيا‭ ‬على‭ ‬وشك‭ ‬الانفجار‭ ‬مع‭ ‬الحرب‭ ‬الكونية‭ ‬الأولى،‭ ‬برقت‭ ‬ورعدت‭ ‬في‭ ‬إسطنبول،‭ ‬حين‭ ‬سقطت‭ ‬حكومة‭ ‬الائتلافيين‭ ‬وقبض‭ ‬على‭ ‬ناصية‭ ‬الحكم‭ ‬أعضاء‭ ‬جماعة‭ ‬‮«‬الاتحاد‭ ‬والترقي‮»‬‭ ‬ذوو‭ ‬الشراسة‭ ‬العثمانية،‭ ‬وهكذا‭ ‬أمطرت‭ ‬في‭ ‬بيروت‭ ‬والياً‭ ‬جديداً‭ ‬يتماشى‭ ‬مع‭ ‬الخط‭ ‬الصارم‭ ‬المتشدد‭. ‬وكان‭ ‬عمر‭ ‬فاخوري،‭ ‬ابن‭ ‬الثامنة‭ ‬عشرة،‭ ‬قد‭ ‬جمع‭ ‬مقالاته‭ ‬التي‭ ‬نشرها‭ ‬في‭ ‬جريدة‭ ‬‮«‬المفيد‮»‬‭ ‬في‭ ‬كتاب‭ ‬دعاه‭ ‬‮«‬كيف‭ ‬ينهض‭ ‬العرب‮»‬،‭ ‬فهو،‭ ‬كما‭ ‬ينبئ‭ ‬عنوانه،‭ ‬مفعم‭ ‬بالكلام‭ ‬علىالقومية‭ ‬العربية‭ ‬التي‭ ‬ينبغي‭ ‬أن‭ ‬تكون‭ ‬العروة‭ ‬الوثقى‭ ‬لقومه‭ ‬إن‭ ‬أرادوا‭ ‬النهوض‭ ‬واعتناق‭ ‬التقدم‭ ‬سبيلاً‭ ‬لمستقبلهم‭. ‬وجاء‭ ‬من‭ ‬يهمس‭ ‬في‭ ‬أذن‭ ‬الوالي‭ ‬الجديد،‭ ‬أبي‭ ‬بكر‭ ‬حازم‭ ‬بك،‭ ‬أنّ‭ ‬كتاب‭ ‬عمر‭ ‬فيه‭ ‬استهانة‭ ‬بالرابطة‭ ‬العثمانية‭ ‬ويدعو‭ ‬إلى‭ ‬الإصلاح،‭ ‬والحكم‭ ‬بات‭ ‬يعتبر‭ ‬هذا‭ ‬الإصلاح‭ ‬وتلك‭ ‬الاستهانة‭ ‬دساً‭ ‬وخيانة‭ ‬للدولة‭ ‬العليّة‭. ‬واكفهرّ‭ ‬جو‭ ‬العائلة‭ ‬وخافت‭ ‬على‭ ‬ابنها‭ ‬شر‭ ‬المصير‭. ‬فانعقد‭ ‬في‭ ‬بيت‭ ‬عمر‭ ‬لقاء‭ ‬عائلي‭ ‬قرّ‭ ‬فيه‭ ‬الرأي‭ ‬على‭ ‬التخلص‭ ‬من‭ ‬نسخ‭ ‬الكتاب‭. ‬وفي‭ ‬عتمة‭ ‬ليل‭ ‬بيروت‭ ‬حمل‭ ‬طُنْبُرٌ،‭ ‬وهو‭ ‬عربة‭ ‬ذات‭ ‬عجلتين‭ ‬تجرها‭ ‬دابة،‭ ‬نسخ‭ ‬الكتاب‭ ‬إلى‭ ‬بيت‭ ‬قديم‭ ‬للعائلة‭ ‬وأُنزلت‭ ‬غرقى‭ ‬في‭ ‬بئره‭!‬

نجح‭ ‬عمر‭ ‬فاخوري‭ ‬خفية‭ ‬في‭ ‬استنقاذ‭ ‬بعض‭ ‬نسخ‭ ‬الكتاب،‭ ‬وأودعها‭ ‬في‭ ‬صندوقة‭ ‬في‭ ‬دكان‭ ‬أبيه‭ ‬بسوق‭ ‬العطارين،‭ ‬مخفياً‭ ‬إياها‭ ‬بين‭ ‬علب‭ ‬البهار‭ ‬والقرفة‭. ‬واكتشف‭ ‬أخوه‭ ‬هذه‭ ‬الصندوقة‭ ‬التي‭ ‬ما‭ ‬إن‭ ‬أطلّ‭ ‬جمال‭ ‬باشا‭ ‬السفاح‭ ‬على‭ ‬بيروت‭ ‬حتى‭ ‬ألقتها‭ ‬إحدى‭ ‬قريبات‭ ‬العائلة،‭ ‬ليلاً،‭ ‬لتغرق‭ ‬في‭ ‬بئر‭ ‬منزلها،‭ ‬مخافة‭ ‬أن‭ ‬تقع‭ ‬بين‭ ‬أيدي‭ ‬الطاغية‭ ‬الذي‭ ‬أرسل‭ ‬رفاق‭ ‬عمر‭ ‬في‭ ‬الكلية‭ ‬العثمانية‭ ‬إلى‭ ‬أعواد‭ ‬المشانق‭ ‬في‭ ‬السادس‭ ‬من‭ ‬مايو‭ ‬عام‭ ‬1916،‭ ‬وهم‭ ‬في‭ ‬زهوة‭ ‬الشباب‭ ‬وعرام‭ ‬الوطنية‭: ‬عمر‭ ‬حمد‭ ‬الشاعر،‭ ‬عبدالغني‭ ‬العريسي‭ ‬صاحب‭ ‬جريدة‭ ‬‮«‬المفيد‮»‬،‭ ‬محمد‭ ‬ومحمود‭ ‬المحمصاني‭ ‬الأَخَوان‭. ‬واصطحب‭ ‬بعض‭ ‬أهل‭ ‬عمر‭ ‬ابنهم،‭ ‬عهدذاك،‭ ‬إلى‭ ‬الوالي،‭ ‬مؤكدين‭ ‬إتلاف‭ ‬نسخ‭ ‬الكتاب،‭ ‬فرضي‭ ‬بالعذر‭ ‬وانطوى‭ ‬الأمر‭. ‬ولقد‭ ‬تميّز‭ ‬عمر‭ ‬فاخوري‭ ‬في‭ ‬شخصه‭ ‬وأدبه‭ ‬بروح‭ ‬الدعابة‭ ‬الراقية‭ ‬اللطيفة،‭ ‬لهذا‭ ‬كان‭ ‬يقول،‭ ‬بعد‭ ‬ما‭ ‬حل‭ ‬بكتابه‭ ‬الأول‭ ‬من‭ ‬غرق‭ ‬مزدوج،‭ ‬إنه‭ ‬سيعاود‭ ‬نشره،‭ ‬إذا‭ ‬عثر‭ ‬على‭ ‬نسخة‭ ‬منه،‭ ‬حاملاً‭ ‬هذه‭ ‬المرة‭ ‬عنوان‭ ‬‮«‬كيف‭ ‬يغرق‭ ‬العرب‮»‬‭! ‬وهذه‭ ‬السخرية‭ ‬كانت‭ ‬معلماً‭ ‬بارزاً‭ ‬في‭ ‬أدب‭ ‬عمر،‭ ‬وهي‭ ‬عدا‭ ‬كونها‭ ‬مما‭ ‬تخفي‭ ‬السرائر‭ ‬والطبيعة‭ ‬الإنسانية‭ ‬المرهفة‭ ‬عند‭ ‬بعض‭ ‬المحظوظين‭ ‬من‭ ‬الخلق،‭ ‬فهي‭ ‬تدل،‭ ‬على‭ ‬نحو‭ ‬ساطع،‭ ‬على‭ ‬الثقافة‭ ‬العميقة،‭ ‬عربية‭ ‬وغربية،‭ ‬التي‭ ‬احتشدت‭ ‬طي‭ ‬إهاب‭ ‬أديب‭ ‬لبناني‭ ‬عربي،‭ ‬وتفاعلت‭ ‬بشكل‭ ‬خلاق،‭ ‬أو‭ ‬كما‭ ‬يقول‭ ‬عنه‭ ‬الشيخ‭ ‬عبدالله‭ ‬العلايلي‭: ‬‮«‬استطاع‭ ‬في‭ ‬نثره‭ ‬أن‭ ‬يربط‭ ‬بلاغية‭ ‬القمة‭ ‬العباسية‭ ‬ببلاغية‭ ‬إنسان‭ ‬يعيش‭ ‬عصره‭ ‬وزمانه‮»‬‭.‬

كان‭ ‬طه‭ ‬حسين‭ ‬نزيل‭ ‬لبنان،‭ ‬كما‭ ‬أَلِفَ‭ ‬أن‭ ‬يفعل‭ ‬كلما‭ ‬واتته‭ ‬الفرصة،‭ ‬وكان‭ ‬مغتبطاً‭ ‬أثناء‭ ‬هذه‭ ‬الزيارة‭ ‬في‭ ‬لقائه‭ ‬الخصب‭ ‬مع‭ ‬المثقفين‭ ‬اللبنانيين‭. ‬وسأل‭ ‬عن‭ ‬صديق‭ ‬أديب‭ ‬كانت‭ ‬له‭ ‬في‭ ‬نفسه‭ ‬مكانة‭ ‬ممتازة،‭ ‬وشاء‭ ‬أن‭ ‬يسعى‭ ‬إليه‭.‬وكتب‭ ‬عميد‭ ‬الأدب‭ ‬العربي‭ ‬في‭ ‬مجلة‭ ‬‮«‬الكاتب‭ ‬المصري‮»‬‭ ‬الشهيرة‭ ‬التي‭ ‬كان‭ ‬يرأس‭ ‬تحريرها‭: ‬‮«‬قلت‭ ‬لصاحبي‭: ‬كيف‭ ‬حال‭ ‬الأستاذ‭ ‬عمر‭ ‬فاخوري؟‭ ‬فقال‭ ‬في‭ ‬هدوء‭ ‬حزين‭: ‬لقد‭ ‬دفنّاه‭ ‬أمس‭ ‬يا‭ ‬أستاذ‮»‬‭. ‬كان‭ ‬ذلك‭ ‬في‭ ‬24‭ ‬أبريل‭ ‬عام‭ ‬1946،‭ ‬وكان‭ ‬عمر،‭ ‬المولود‭ ‬في‭ ‬15‭ ‬سبتمبر‭ ‬عام‭ ‬1895،‭ ‬قد‭ ‬ارتحل‭ ‬عن‭ ‬دنيانا‭ ‬ولم‭ ‬يجاوز‭ ‬الخمسين‭ ‬إلا‭ ‬قليلاً‭. ‬ويعلق‭ ‬طه‭ ‬حسين‭ ‬على‭ ‬الخبر‭ ‬الأسيان‭ ‬قائلاً‭: ‬‮«‬لم‭ ‬أقل‭ ‬شيئاً‭ ‬ولم‭ ‬يقل‭ ‬أصحابي‭ ‬شيئاً،‭ ‬وإنما‭ ‬اتخذت‭ ‬لهذا‭ ‬الأديب‭ ‬اللبناني‭ ‬العظيم‭ ‬قبراً‭ ‬من‭ ‬ناحية‭ ‬من‭ ‬نواحي‭ ‬قلبي،‭ ‬كما‭ ‬اتخذ‭ ‬اللبنانيون‭ ‬له‭ ‬قبوراً‭ ‬في‭ ‬قلوبهم،‭ ‬وكما‭ ‬احتفروا‭ ‬له‭ ‬قبراً‭ ‬في‭ ‬مكان‭ ‬ما‭ ‬من‭ ‬أرض‭ ‬لبنان‮»‬‭.‬

 

في‭ ‬الكلية‭ ‬العثمانية

علا‭ ‬صراخ‭ ‬الوليد‭ ‬عمر‭ ‬في‭ ‬حي‭ ‬بيروتي‭ ‬يقع‭ ‬على‭ ‬مقربة‭ ‬من‭ ‬الجامع‭ ‬العمري‭ ‬الكبير،‭ ‬في‭ ‬وسط‭ ‬المدينة،‭ ‬وكان‭ ‬ابناً‭ ‬لتاجر‭ ‬متواضع‭ ‬في‭ ‬سوق‭ ‬العطارين،‭ ‬الملاصق‭ ‬عهدذاك‭ ‬للجامع‭ ‬العمريّ،‭ ‬ويبيع‭ ‬فيه‭ ‬الوالد‭ ‬عبدالرحمن‭ ‬التوابل‭. ‬وقد‭ ‬شاء‭ ‬لابنه‭ ‬أن‭ ‬يخوض‭ ‬في‭ ‬تقليب‭ ‬القرفة‭ ‬والبهارات‭ ‬خلفاً‭ ‬له،‭ ‬ولكنّ‭ ‬الابن‭ ‬لم‭ ‬يكن‭ ‬من‭ ‬هذا‭ ‬الممشى،‭ ‬بل‭ ‬كان‭ ‬راغباً‭ ‬في‭ ‬اكتساب‭ ‬العلم،‭ ‬لهذا‭ ‬دخل‭ ‬الكتّاب‭ ‬لدى‭ ‬الشيخ‭ ‬عيسى‭ ‬قاسم‭ ‬كتُّوعة،‭ ‬كما‭ ‬هو‭ ‬شأن‭ ‬أترابه‭ ‬في‭ ‬ذاك‭ ‬الزمان،‭ ‬ثم‭ ‬ولج‭ ‬مدرسة،‭ ‬طارت‭ ‬لها‭ ‬شهرة‭ ‬في‭ ‬ذاك‭ ‬الزمن،‭ ‬وهي‭ ‬الكلية‭ ‬العثمانية‭ ‬التي‭ ‬كان‭ ‬يدير‭ ‬شؤونها‭ ‬رجل‭ ‬تربية‭ ‬عرفته‭ ‬بيروت‭ ‬وقدّرته‭ ‬هو‭ ‬الشيخ‭ ‬أحمد‭ ‬عباس‭ ‬الأزهري،‭ ‬وقد‭ ‬صار‭ ‬اسمها‭ ‬بعد‭ ‬جلاء‭ ‬الأتراك‭ ‬الكلية‭ ‬الإسلامية‭. ‬كان‭ ‬الجو‭ ‬في‭ ‬هذه‭ ‬المدرسة‭ ‬مشبعاً‭ ‬بالعلم‭ ‬والوطنية‭ ‬والوعي‭ ‬المنير‭. ‬كيف‭ ‬لا‭ ‬والشيخ‭ ‬مصطفى‭ ‬الغلاييني،‭ ‬الشاعر‭ ‬القدير‭ ‬واللغوي‭ ‬الضليع‭ ‬ورجل‭ ‬الدين‭ ‬المستنير،‭ ‬هو‭ ‬أحد‭ ‬أساتذتهم،‭ ‬وفي‭ ‬الشيخ‭ ‬الغلاييني‭ ‬يقول‭ ‬عمر‭ ‬فاخوري‭ ‬في‭ ‬كتابه‭ ‬‮«‬الحقيقة‭ ‬اللبنانية‭... ‬خواطر‭ ‬وأحاديث‮»‬‭: ‬‮«‬إني‭ - ‬وكثير‭ ‬أمثالي‭ ‬في‭ ‬هذا‭ ‬البلد‭ - ‬مدين‭ ‬للشيخ‭ ‬مصطفى‭ ‬الغلاييني‭ ‬بأفضل‭ ‬ما‭ ‬عندي‭ ‬من‭ ‬معرفة‭ ‬وإيمان‭ ‬بلغة‭ ‬الضاد‮»‬‭ (‬ص82‭). ‬وهناك‭ ‬التقى‭ ‬عمر‭ ‬الفتى‭ ‬برهط‭ ‬من‭ ‬رفاقه‭ ‬الميامين‭ ‬الذين،‭ ‬كما‭ ‬ألمحنا‭ ‬سابقاً،‭ ‬سيسوقهم‭ ‬طغيان‭ ‬آل‭ ‬عثمان‭ ‬إلى‭ ‬أعواد‭ ‬المشانق‭.‬كان‭ ‬عمر‭ ‬سعيداً‭ ‬بالعلم‭ ‬ينهله،‭ ‬وبالصداقة‭ ‬الوطيدة‭ ‬التي‭ ‬تجمعه‭ ‬بإخوانه،‭ ‬فإذا‭ ‬هم‭ ‬جميعاً‭ ‬موكب‭ ‬حماسة‭ ‬ومطامح،‭ ‬خصوصاً‭ ‬أن‭ ‬جمعية‭ ‬الاتحاد‭ ‬والترقي‭ ‬قد‭ ‬أزاحت‭ ‬السلطان‭ ‬عبدالحميد‭ ‬عن‭ ‬العرش‭ ‬وفرضت‭ ‬الدستور‭ ‬عام‭ ‬1908‭. ‬وعمّت‭ ‬الفرحة‭ ‬أنحاء‭ ‬الإمبراطورية‭ ‬على‭ ‬نحو‭ ‬لا‭ ‬يوصف،‭ ‬وانطلقت‭ ‬التظاهرات‭ ‬تعلن‭ ‬عن‭ ‬البهجة‭ ‬الكبرى،‭ ‬وسار‭ ‬عمر‭ ‬مع‭ ‬رفاقه‭ ‬في‭ ‬هذه‭ ‬التظاهرات‭ ‬الصخابة‭ ‬المحتفلة‭ ‬بنيل‭ ‬الدستور‭ ‬وما‭ ‬يعد‭ ‬به‭ ‬من‭ ‬مســاعٍ‭ ‬عظام‭. ‬لكن‭ ‬الاتحاديين‭ ‬سرعان‭ ‬ما‭ ‬كشفوا‭ ‬عن‭ ‬نياتـــهم‭ ‬المبــيَّتة،‭ ‬وقادوها‭ ‬سياسة‭ ‬عنصرية‭ ‬تسعى‭ ‬بالإكراه‭ ‬إلى‭ ‬تتريك‭ ‬العرب‭ ‬لغة‭ ‬وموقفاً‭. ‬وهكذا‭ ‬تفتحت‭ ‬الفكرة‭ ‬المقاومة‭ ‬الاستقلالية‭ ‬وقوامها‭ ‬الروح‭ ‬العربية،‭ ‬وشقّت‭ ‬فكرة‭ ‬العروبة‭ ‬طريقها‭ ‬إلى‭ ‬الأفئدة‭ ‬والسواعد‭.‬

وما‭ ‬إن‭ ‬تخرّج‭ ‬عمر‭ ‬في‭ ‬الكلية‭ ‬العثمانية‭ ‬عام‭ ‬1913‭ ‬حتى‭ ‬التحق‭ ‬بمكتب‭ ‬الحقوق‭. ‬وكانت‭ ‬القومية‭ ‬تؤجّ‭ ‬في‭ ‬صدره،‭ ‬فانتسب‭ ‬إلى‭ ‬‮«‬حزب‭ ‬الاستقلال‮»‬،‭ ‬كذلك‭ ‬إلى‭ ‬‮«‬الجمعية‭ ‬العربية‭ ‬الفتاة‮»‬،‭ ‬ليقرن‭ ‬الآمال‭ ‬بالأعمال‭. ‬وأصدر‭ ‬في‭ ‬هذا‭ ‬الجو،‭ ‬المفعم‭ ‬بالتوتر‭ ‬والقلق،‭ ‬كتابه،‭ ‬الذي‭ ‬سبقت‭ ‬الإشارة‭ ‬إليه،‭ ‬وهو‭ ‬‮«‬كيف‭ ‬ينهض‭ ‬العرب‮»‬‭. ‬وأفلت‭ ‬عمر‭ ‬من‭ ‬الحبل‭ ‬الذي‭ ‬التفّ‭ ‬حول‭ ‬أعناق‭ ‬رفاقه‭ ‬في‭ ‬الكلية‭ ‬العثمانية‭. ‬ومع‭ ‬إعلان‭ ‬الحرب‭ ‬الكونية‭ ‬الأولى‭ ‬سعى‭ ‬إلى‭ ‬الإفلات‭ ‬ثانية‭ ‬من‭ ‬الجندية‭ ‬التي‭ ‬كانت‭ ‬تعني‭ ‬في‭ ‬الغالب،‭ ‬زمن‭ ‬سفر‭ ‬برلك،‭ ‬ذهاباً‭ ‬من‭ ‬غير‭ ‬أوبة‭. ‬وهكذا‭ ‬انتسب‭ ‬عمر‭ ‬إلى‭ ‬‮«‬المدرسة‭ ‬الطبية‭ ‬العثمانية‮»‬‭ ‬لدراسة‭ ‬الصيدلة‭. ‬وقد‭ ‬ألقى‭ ‬فيها،‭ ‬بمناسبة‭ ‬المولد‭ ‬النبوي‭ ‬عام‭ ‬1918،‭ ‬محاضرة‭ ‬عنوانها‭: ‬خواطر‭ ‬في‭ ‬المدنيّة‭ ‬الإسلامية،‭ ‬ومن‭ ‬أسفٍ‭ ‬أن‭ ‬هذه‭ ‬المحاضرة‭ ‬غير‭ ‬متوافرة‭ ‬في‭ ‬كتب‭ ‬عمر‭ ‬ولا‭ ‬في‭ ‬صحافة‭ ‬ذلك‭ ‬الزمان‭. ‬وقد‭ ‬وضع‭ ‬عمر،‭ ‬فضلاً‭ ‬عن‭ ‬محاضرته‭ ‬هذه،‭ ‬مخططاً‭ ‬لكتاب‭ ‬بعنوان‭: ‬نشوء‭ ‬الأوضاع‭ ‬الإسلامية،‭ ‬وهذا‭ ‬يشير‭ ‬إلى‭ ‬أن‭ ‬الدراسات‭ ‬الإسلامية‭ ‬ملكت‭ ‬هواه‭ ‬في‭ ‬تلك‭ ‬الحقبة،‭ ‬بعد‭ ‬مطالعاته‭ ‬الجمة‭ ‬في‭ ‬المؤلفات‭ ‬الأجنبية‭ ‬المتصلة‭ ‬بهذا‭ ‬النوع‭ ‬من‭ ‬العلوم،‭ ‬ثم‭ ‬شغلته‭ ‬الحياة‭ ‬عنها‭ ‬إلى‭ ‬حين،‭ ‬لأنه‭ ‬عاود‭ ‬الاشتغال‭ ‬بها‭ ‬عام‭ ‬1925‭ ‬في‭ ‬دمشق‭ ‬عندما‭ ‬ترجم‭ ‬طائفة‭ ‬من‭ ‬المباحث‭ ‬الاستشراقية،‭ ‬كما‭ ‬سنرى‭. ‬ولم‭ ‬يكن‭ ‬عمر‭ ‬راغباً‭ ‬في‭ ‬دراسة‭ ‬الصيدلة،‭ ‬وإنما‭ ‬احتجب‭ ‬وراءها‭ ‬فراراً‭ ‬من‭ ‬الجندية،‭ ‬بدليل‭ ‬أنه‭ ‬ما‭ ‬إن‭ ‬انتهت‭ ‬الحرب‭ ‬عام‭ ‬1918‭ ‬حتى‭ ‬بارح‭ ‬المدرسة‭ ‬لساعته‭ ‬وانفتل‭ ‬إلى‭ ‬ميدان‭ ‬الصحافة،‭ ‬يبثها‭ ‬شجونه‭ ‬وأحلامه،‭ ‬تحت‭ ‬إمضاء‭ ‬‮«‬مسلم‭ ‬ديمقراطي‮»‬،‭ ‬وذلك‭ ‬في‭ ‬جريدة‭ ‬‮«‬الحقيقة‮»‬‭. ‬ولكن‭ ‬الحلفاء‭ ‬نكثوا‭ ‬بالعهود‭ ‬التي‭ ‬قطعوها‭ ‬للشريف‭ ‬حسين‭. ‬وعندما‭ ‬دعي‭ ‬عمر‭ ‬إلى‭ ‬دمشق‭ ‬من‭ ‬جانب‭ ‬الملك‭ ‬فيصل،‭ ‬ليشارك‭ ‬في‭ ‬تحرير‭ ‬جريدة‭ ‬‮«‬العاصمة‮»‬،‭ ‬جاءت‭ ‬معركة‭ ‬ميسلون‭ ‬عام‭ ‬1920،‭ ‬حيث‭ ‬استبسل‭ ‬القائد‭ ‬يوسف‭ ‬العظمة‭ ‬في‭ ‬محاربة‭ ‬الجيش‭ ‬الفرنسي‭ ‬الزاحف‭ ‬على‭ ‬دمشق،‭ ‬لــتحــطّم‭ ‬آخر‭ ‬طموحاته‭ ‬القومية،‭ ‬إذ‭ ‬هيمن‭ ‬الانتداب‭ ‬الفرنسي‭ ‬على‭ ‬سورية‭ ‬ولبنان،‭ ‬وبات‭ ‬عمر‭ ‬مهزوماً‭ ‬مشلولاً،‭ ‬لا‭ ‬يحلم‭ ‬إلا‭ ‬بأن‭ ‬يعجّل‭ ‬الله‭ ‬في‭ ‬سفره‭ ‬إلى‭ ‬باريس‭ ‬وأن‭ ‬يبعده‭ ‬عن‭ ‬الأوطان‭ ‬المستباحة‭!‬

 

المرحلة‭ ‬الباريسية

وتيسّرت‭ ‬المرحلة‭ ‬الباريسية‭ ‬في‭ ‬حياة‭ ‬عمر،‭ ‬فقصد‭ ‬عاصمة‭ ‬النور‭ ‬عام‭ ‬1920،‭ ‬ليكمل‭ ‬الدراسة‭ ‬التي‭ ‬سبق‭ ‬له‭ ‬أن‭ ‬بدأها‭ ‬في‭ ‬مكتب‭ ‬الحقوق‭ ‬في‭ ‬بيروت،‭ ‬ولكنها‭ ‬باريس‭ ‬الملأى‭ ‬بأفانين‭ ‬الحضارة‭ ‬وصروح‭ ‬الثقافة،‭ ‬فكما‭ ‬أن‭ ‬القاهرة‭ ‬هي‭ ‬أم‭ ‬الدنيا،‭ ‬فباريس‭ ‬هي‭ ‬عاصمتها‭ ‬البهية‭. ‬ومن‭ ‬ينزلها‭ ‬ردحاً‭ ‬من‭ ‬الزمن‭ ‬يخرج‭ ‬منها‭ ‬وقد‭ ‬طرأت‭ ‬على‭ ‬عقله‭ ‬تحولات‭ ‬وعلى‭ ‬قلبه‭ ‬خواطر‭ ‬وخلجات‭. ‬وعبّ‭ ‬عمر‭ ‬من‭ ‬هذا‭ ‬المنهل‭ ‬الحضاري،‭ ‬على‭ ‬أن‭ ‬السياسة‭ ‬التي‭ ‬كانت‭ ‬تجري‭ ‬في‭ ‬دمه‭ ‬منذ‭ ‬الشباب‭ ‬الباكر‭ ‬عاودت‭ ‬الحضور،‭ ‬فإذا‭ ‬به‭ ‬يشارك‭ ‬هناك‭ ‬في‭ ‬تأسيس‭ ‬‮«‬جمعية‭ ‬الشبيبة‭ ‬السورية‮»‬‭. ‬وانتعشت‭ ‬آماله‭ ‬القومية،‭ ‬وأتيح‭ ‬له‭ ‬في‭ ‬باريس‭ ‬أن‭ ‬يتعرف‭ ‬عن‭ ‬بُعد،‭ ‬إلى‭ ‬الأديب‭ ‬الفرنسي‭ ‬المرموق‭ ‬الذي‭ ‬كان‭ ‬مغرماً‭ ‬بأدبه،‭ ‬وهو‭ ‬أناتول‭ ‬فرانس‭ ‬وفي‭ ‬مقبل‭ ‬الأيام‭ ‬سوف‭ ‬يترجم‭ ‬عمر‭ ‬إلى‭ ‬العربية،‭ ‬على‭ ‬نحو‭ ‬إبداعي،‭ ‬أول‭ ‬كتاب‭ ‬يصدر‭ ‬عن‭ ‬قلمه،‭ ‬إثر‭ ‬عودته‭ ‬من‭ ‬فرنسا،‭ ‬وهو‭ ‬‮«‬آراء‭ ‬أناتول‭ ‬فرانس‮»‬،‭ ‬الصادر‭ ‬عام‭ ‬1925،‭ ‬والذي‭ ‬كتب‭ ‬مقدمة‭ ‬له‭ ‬أمين‭ ‬الريحاني‭. ‬وإن‭ ‬كان‭ ‬مما‭ ‬يبعث‭ ‬على‭ ‬الغرابة‭ ‬أن‭ ‬أميناً‭ ‬يتحدث‭ ‬طوال‭ ‬مقدمته‭ ‬عن‭ ‬أناتول‭ ‬فرانس،‭ ‬وتكوينه‭ ‬الأدبي‭ ‬وجمالية‭ ‬أدبه،‭ ‬الروائي‭ ‬منه‭ ‬بخاصة،‭ ‬لكنه‭ ‬يتجاهل‭ ‬تماماً‭ ‬مترجم‭ ‬الكتاب،‭ ‬عمر‭ ‬فاخوري،‭ ‬إلا‭ ‬من‭ ‬عبارة‭ ‬يتيمة‭ ‬غير‭ ‬مقرونة‭ ‬باسمه‭ ‬الصريح،‭ ‬وهي‭ ‬أن‭ ‬في‭ ‬هذا‭ ‬الكتاب‭ ‬‮«‬قد‭ ‬أحسن‭ ‬المترجم‭ ‬الاختيار‭ ‬والتوازن‭ ‬فيه‮»‬‭! ‬في‭ ‬حين‭ ‬أن‭ ‬رئيس‭ ‬خوري،‭ ‬وكان‭ ‬شديد‭ ‬الإعجاب‭ ‬بشخص‭ ‬عمر‭ ‬وبأدبه،‭ ‬وانعقدت‭ ‬بين‭ ‬الاثنين‭ ‬صداقة‭ ‬فريدة‭ ‬من‭ ‬نوعها،‭ ‬يرى‭ ‬في‭ ‬دراسة‭ ‬قيّمة‭ ‬عن‭ ‬عمر‭ ‬عقب‭ ‬وفاته،‭ ‬عنوانها‭: ‬‮«‬عمر‭ ‬فاخوري‭ ‬في‭ ‬خمسين‭ ‬سنة‮»‬،‭ ‬وقد‭ ‬نشرها‭ ‬في‭ ‬مجلة‭ ‬‮«‬الطريق‮»‬‭ ‬عام‭ ‬1946،‭ ‬أن‭ ‬كتاب‭ ‬عمر‭ ‬فاخوري‭ ‬المترجم‭ ‬‮«‬هو‭ ‬نموذج‭ ‬نادر‭ ‬في‭ ‬التعريب‭ ‬الذي‭ ‬سلم‭ ‬من‭ ‬أثر‭ ‬الأصل‭ ‬الأعجمي‮»‬‭. ‬ولن‭ ‬ندع‭ ‬هذه‭ ‬المرحلة‭ ‬الباريسية‭ ‬من‭ ‬حياة‭ ‬عمر‭ ‬من‭ ‬غير‭ ‬ذكر‭ ‬ما‭ ‬أورده‭ ‬في‭ ‬إحدى‭ ‬رسائله،‭ ‬هذه‭ ‬الرسائل‭ ‬التي‭ ‬كان‭ ‬يكثر‭ ‬من‭ ‬إرسالها‭ ‬من‭ ‬باريس‭ ‬إلى‭ ‬أفراد‭ ‬عائلته‭ ‬وإلى‭ ‬أصدقائه‭ ‬في‭ ‬بيروت،‭ ‬ويتبدى‭ ‬من‭ ‬خلالها‭ ‬شديد‭ ‬التعلق‭ ‬بالأقارب‭ ‬والخلان،‭ ‬وهي‭ ‬التي‭ ‬ظهرت‭ ‬في‭ ‬مجموعة‭ ‬الأعمال‭ ‬الكاملة‭ ‬لعمر‭ ‬فاخوري،‭ ‬الصادرة‭ ‬عن‭ ‬دار‭ ‬الآفاق‭ ‬الجديدة،‭ ‬عام‭ ‬1981،‭ ‬تحت‭ ‬عنوان‭ ‬‮«‬الرسائل‮»‬،‭ ‬وقد‭ ‬وقف‭ ‬على‭ ‬تحقيقها‭ ‬والتقديم‭ ‬لها‭ ‬عبداللطيف‭ ‬فاخوري،‭ ‬الذي‭ ‬ندين‭ ‬له‭ ‬بكتب‭ ‬دراسية‭ ‬رصينة‭ ‬وجميلة‭ ‬عن‭ ‬تاريخ‭ ‬بيروت‭. ‬

يذكر‭ ‬عمر‭ ‬في‭ ‬إحدى‭ ‬رسائله،‭ ‬أن‭ ‬في‭ ‬باريس‭ ‬جمعية‭ ‬تدعى‭ ‬Groupe‭ ‬Clarté،‭ ‬وهي‭ ‬رابطة‭ ‬أو‭ ‬حزب‭ ‬يسعى‭ ‬إلى‭ ‬التنوير‭ ‬الفكري،‭ ‬وله‭ ‬جريدة‭ ‬ناطقة‭ ‬باسمه‭: ‬Clarté،‭ ‬ومن‭ ‬أبرز‭ ‬رجالاته‭: ‬أناتول‭ ‬فرانس‭ (‬1924‭) ‬وقد‭ ‬نال‭ ‬جائزة‭ ‬نوبل‭ ‬عام‭ ‬1921،‭ ‬وهنري‭ ‬بربوس‭ (‬1935‭) ‬صاحب‭ ‬الكتاب‭ ‬الشهير‭ ‬Le‭ ‬Feu،‭ ‬أي‭ ‬النار‭ ‬أو‭ ‬الجحيم،‭ ‬الذي‭ ‬يذكر‭ ‬عمر‭ ‬في‭ ‬رسالته‭ ‬أنه‭ ‬طبع‭ ‬منه‭ ‬في‭ ‬3‭ ‬سنوات‭ ‬ثلاثمائة‭ ‬ألف‭ ‬نسخة‭. ‬ولهذا‭ ‬التجمع‭ ‬فروع‭ ‬في‭ ‬كثير‭ ‬من‭ ‬الدول‭ ‬الأوربية‭. ‬والمهم‭ ‬ما‭ ‬أتى‭ ‬عليه‭ ‬عمر‭ ‬في‭ ‬رسالته‭ (‬ص54‭): ‬‮«‬أسسنا‭ ‬هنا‭ ‬شعبة‭ ‬دعوناها‭: ‬الشعبة‭ ‬الشرقية،‭ ‬أو‭ ‬شعبة‭ ‬أهل‭ ‬النور،‭ ‬انضم‭ ‬إليها‭ ‬كل‭ ‬إخواننا‭ ‬من‭ ‬السوريين‭ ‬هنا،‭ ‬وبعض‭ ‬من‭ ‬جالية‭ ‬المصريين‭ ‬والتونسيين‭. ‬وقد‭ ‬كتبت‭ ‬الجريدة‭ ‬قطعة‭ ‬حسنة‭ ‬في‭ ‬هذا‭ ‬الموضوع‮»‬‭.‬

ذهب‭ ‬عمر‭ ‬إلى‭ ‬باريس‭ ‬مرسلاً‭ ‬من‭ ‬عمه‭ ‬الذي‭ ‬أنفق‭ ‬عليه،‭ ‬ودرس‭ ‬الحقوق،‭ ‬ولكنه‭ ‬كان‭ ‬أميل‭ ‬إلى‭ ‬الآداب،‭ ‬لهذا‭ ‬رغب‭ ‬غير‭ ‬مرة‭ ‬في‭ ‬الانتساب‭ ‬أيضاً‭ ‬إلى‭ ‬كلية‭ ‬الآداب‭. ‬فهو‭ ‬يُمضي‭ ‬سحابة‭ ‬نهاره‭ ‬في‭ ‬قراءة‭ ‬الآثار‭ ‬الأدبية،‭ ‬ولم‭ ‬يكن‭ ‬يكب‭ ‬على‭ ‬دراسة‭ ‬الحقوق‭ ‬إلا‭ ‬في‭ ‬المساء‭ ‬وهو‭ ‬جالس‭ ‬في‭ ‬المقهى،‭ ‬وكان‭ ‬به‭ ‬غرام‭ ‬إلى‭ ‬هذه‭ ‬الآثار‭ ‬الأدبية،‭ ‬لهذا‭ ‬كان‭ ‬يضعف‭ ‬عندما‭ ‬تقع‭ ‬بين‭ ‬يديه‭ ‬في‭ ‬المكتبات،‭ ‬التي‭ ‬يكثر‭ ‬من‭ ‬التردد‭ ‬عليـــها،‭ ‬كُتُب‭ ‬فاتنات،‭ ‬لذا‭ ‬كان‭ ‬يؤثرها،‭ ‬والمال‭ ‬في‭ ‬جيبه‭ ‬قليل،‭ ‬مستعيضاً‭ ‬بها‭ ‬عن‭ ‬عشائه،‭ ‬كما‭ ‬يخبرنا‭ ‬صديقه‭ ‬السوري‭ ‬هناك‭ ‬إحسان‭ ‬الشريف‭.‬

 

العمل‭ ‬في‭ ‬سورية

في‭ ‬عام‭ ‬1924‭ ‬قفل‭ ‬عمر‭ ‬فاخوري‭ ‬إلى‭ ‬ربوع‭ ‬الوطن‭ ‬محتفياً‭ ‬درجة‭ ‬مجاز‭ ‬في‭ ‬الحقوق،‭ ‬ومنفعلاً‭ ‬بهذا‭ ‬التنوير‭ ‬الفكري‭ ‬الذي‭ ‬أتينا‭ ‬عليه‭ ‬منذ‭ ‬هنيهة،‭ ‬وهو‭ ‬التنوير‭ ‬الذي‭ ‬لا‭ ‬يصيبه‭ ‬إلا‭ ‬من‭ ‬فتح‭ ‬عقله‭ ‬لرياح‭ ‬التغيير،‭ ‬فعاد‭ ‬غير‭ ‬ما‭ ‬كان‭ ‬عليه،‭ ‬لأن‭ ‬هذه‭ ‬الحضارة‭ ‬الغربية‭ ‬فعلت‭ ‬فعلها‭ ‬في‭ ‬نظرته‭ ‬التجديدية‭ ‬إلى‭ ‬شؤون‭ ‬الحياة،‭ ‬ولم‭ ‬يمكث‭ ‬عمر‭ ‬طويلاً‭ ‬في‭ ‬بيروت،‭ ‬وإنما‭ ‬سلك‭ ‬طريق‭ ‬دمشق،‭ ‬وهناك‭ ‬انغمس‭ ‬في‭ ‬الكتابة‭ ‬لجريدة‭ ‬‮«‬الفيحاء‮»‬،‭ ‬كما‭ ‬كان‭ ‬عوناً‭ ‬لأحمد‭ ‬شاكر‭ ‬الكرمي‭ ‬في‭ ‬إصدار‭ ‬مجلة‭ ‬‮«‬الميزان‮»‬،‭ ‬وكان‭ ‬هناك‭ ‬تجاوب‭ ‬روحي‭ ‬وفكري‭ ‬كبير‭ ‬بين‭ ‬عمر‭ ‬والكرمي،‭ ‬ولقد‭ ‬شاءا‭ ‬من‭ ‬مجلتهما‭ ‬أن‭ ‬تكون‭ ‬‮«‬المعول‭ ‬لتهدم‭ ‬بقوة‭ ‬هذه‭ ‬الأصنام‭ ‬الخاوية‭ ‬التي‭ ‬تعرقل‭ ‬سير‭ ‬الأدب‭ ‬وسير‭ ‬الحركة‭ ‬الفكرية‭ ‬بآرائها‭ ‬العتيقة‭ ‬وضلالاتها‭ ‬البالية‮»‬‭.‬

وها‭ ‬أنّ‭ ‬محمد‭ ‬كرد‭ ‬علي،‭ ‬رئيس‭ ‬المجمع‭ ‬العلمي‭ ‬العربي‭ ‬بدمشق،‭ ‬وهو‭ ‬مجمع‭ ‬عريق‭ ‬في‭ ‬صون‭ ‬اللغة‭ ‬العربية‭ ‬وقديم‭ ‬النشأة،‭ ‬يكتب‭ ‬إلى‭ ‬عمر،‭ ‬في‭ ‬نهاية‭ ‬عام‭ ‬1927،‭ ‬أن‭ ‬المجمع‭ ‬بإجماع‭ ‬أعضائه‭ ‬اختاروا‭ ‬عمر‭ ‬عضواً‭ ‬مؤازراً‭ ‬فيه‭ ‬‮«‬بالنظر‭ ‬لما‭ ‬عهده‭ ‬المجمع‭ ‬العلمي‭ ‬العربي‭ ‬فيك‭ ‬من‭ ‬غزارة‭ ‬الفضل‭ ‬وسعة‭ ‬الاطّلاع‭ ‬وتفانيك‭ ‬في‭ ‬خدمة‭ ‬الأدب‭ ‬العربي‮»‬،‭ ‬ولم‭ ‬يكن‭ ‬عمر‭ ‬فاخوري‭ ‬في‭ ‬هذا‭ ‬العام‭ (‬1927‭)‬،‭ ‬بعيداً‭ ‬عن‭ ‬سورية،‭ ‬بل‭ ‬إنه‭ ‬أمضى‭ ‬أشهراً‭ ‬فيها‭ ‬برفقة‭ ‬أحد‭ ‬المستشرقين‭ ‬الألمان،‭ ‬وهو‭ ‬أوبنهايم،‭ ‬الذي‭ ‬كان‭ ‬متخصصاً‭ ‬في‭ ‬موضوع‭ ‬الحثيين‭. ‬وهؤلاء‭ ‬ازدهرت‭ ‬حضارة‭ ‬لهم‭ ‬قبل‭ ‬الميلاد‭ ‬عند‭ ‬الألف‭ ‬الثاني،‭ ‬وامتدت‭ ‬إمبراطوريتهم‭ ‬حتى‭ ‬شمال‭ ‬سورية،‭ ‬وقد‭ ‬قضى‭ ‬عليهم‭ ‬الأشوريون،‭ ‬وتبدّت‭ ‬مدينتهم‭ ‬من‭ ‬خلال‭ ‬التنقيبات،‭ ‬ومنها‭ ‬في‭ ‬جرابلس‭ ‬السورية‭. ‬لكن‭ ‬هذا‭ ‬المستشرق‭ ‬كان‭ ‬حفياً،‭ ‬هذه‭ ‬المرّة،‭ ‬بزيارة‭ ‬المدن‭ ‬والأماكن‭ ‬فوق‭ ‬حلب،‭ ‬أي‭ ‬رأس‭ ‬العين‭ ‬والرقة‭ ‬ونصيبين‭ ‬ودير‭ ‬الزور‭ ‬والحسكة،‭ ‬كما‭ ‬استخلصنا‭ ‬من‭ ‬بعض‭ ‬رسائل‭ ‬عمر‭ ‬إلى‭ ‬أهله‭ ‬عهدذاك،‭ ‬وذلك‭ ‬لدراسة‭ ‬البدو،‭ ‬وقد‭ ‬أصدر‭ ‬بعد‭ ‬ذلك،‭ ‬بالعربية،‭ ‬عملاً‭ ‬ضخماً‭ ‬يقع‭ ‬في‭ ‬ستّة‭ ‬مجلّدات‭ ‬حول‭ ‬هذا‭ ‬الموضوع،‭ ‬وذكر‭ ‬فيه‭ ‬أن‭ ‬عمر‭ ‬فاخوري‭ ‬قد‭ ‬عاونه‭ ‬وكتب‭ ‬له‭.‬

 

الاستقرار‭ ‬في‭ ‬بيروت

عاد‭ ‬عمر‭ ‬إلى‭ ‬بيروت‭ ‬بعد‭ ‬هذه‭ ‬الإقامة‭ ‬السورية،‭ ‬وأخذ‭ ‬ينشط‭ ‬في‭ ‬الكتابة‭ ‬لمجلة‭ ‬‮«‬الكشاف‮»‬،‭ ‬كما‭ ‬أنه‭ ‬شارك‭ ‬في‭ ‬النشاطات‭ ‬الكشفية‭. ‬على‭ ‬أنه‭ ‬سعى‭ ‬إلى‭ ‬تحويل‭ ‬هذه‭ ‬المجلة‭ ‬إلى‭ ‬منبر‭ ‬أدبي‭ ‬ودعا‭ ‬أعلاماً‭ ‬للكتابة‭ ‬على‭ ‬صفحاتها،‭ ‬نظير‭: ‬أمين‭ ‬الريحاني‭ ‬والفنّان‭ ‬الكبير‭ ‬مصطفى‭ ‬فرّوخ،‭ ‬الذي‭ ‬رسم‭ ‬بورتريهاً‭ ‬لعمر‭ ‬فاخوري‭ ‬بالغ‭ ‬التعبير‭ ‬عن‭ ‬مكنون‭ ‬شخصيته‭. ‬وكان‭ ‬عمر‭ ‬مشاركاً،‭ ‬في‭ ‬تأسيس‭ ‬مكتب‭ ‬للمحاماة،‭ ‬الأديب‭ ‬صلاح‭ ‬لبابيدي،‭ ‬والشاعر‭ ‬عمر‭ ‬الزعني،‭ ‬الذي‭ ‬سيغدو‭ ‬في‭ ‬مقبل‭ ‬الأيام‭ ‬شاعراً‭ ‬شعبياً‭ ‬مرموقاً،‭ ‬وقد‭ ‬كتب‭ ‬عنه‭ ‬عمر‭ ‬مشيداً‭ ‬معجباً،‭ ‬غير‭ ‬أن‭ ‬عمر،‭ ‬الذي‭ ‬كان‭ ‬كارهاً‭ ‬لمهنته‭ ‬هذه،‭ ‬سرعان‭ ‬ما‭ ‬تركها،‭ ‬عام‭ ‬1929،‭ ‬عندما‭ ‬أضحى‭ ‬موظفاً‭ ‬في‭ ‬الدولة‭ ‬أميناً‭ ‬للسجل‭ ‬العقاري‭. ‬وعندما‭ ‬وقعت‭ ‬تحت‭ ‬ناظري‭ ‬سندات‭ ‬ملكية‭ ‬قديمة‭ ‬لفتني‭ ‬أنها‭ ‬ممهورة‭ ‬باسم‭ ‬عمر‭ ‬فاخوري‭. ‬وودّع‭ ‬عمر‭ ‬المحاماة‭ ‬غير‭ ‬آسف،‭ ‬بل‭ ‬كان‭ ‬محبوراً،‭ ‬كما‭ ‬ذكر‭ ‬ذلك‭ ‬في‭ ‬كتابه‭ ‬‮«‬الحقيقة‭ ‬اللبنانية‮»‬‭. ‬

كما‭ ‬كان‭ ‬عمر‭ ‬يلقي‭ ‬الأحاديث‭ ‬الأدبية‭ ‬من‭ ‬إذاعة‭ ‬الشرق‭ ‬التي‭ ‬أنشأها‭ ‬الفرنسيون،‭ ‬والتي‭ ‬صارت‭ ‬بعدئذٍ‭ ‬الإذاعة‭ ‬اللبنانية‭. ‬كذلك‭ ‬كان‭ ‬يدرّس‭ ‬في‭ ‬مدرسة‭ ‬الآداب‭ ‬الفرنسية‭ ‬العليا،‭ ‬الواقعة‭ ‬على‭ ‬طريق‭ ‬الشام،‭ ‬التي‭ ‬نشأت‭ ‬في‭ ‬موضعها‭ ‬الآن‭ ‬السفارة‭ ‬الفرنسية‭ ‬في‭ ‬لبنان،‭ ‬لأن‭ ‬هذه‭ ‬المدرسة‭ ‬التي‭ ‬كانت‭ ‬تابعة‭ ‬لجامعة‭ ‬ليون‭ ‬في‭ ‬فرنسا،‭ ‬والتي‭ ‬أدت‭ ‬لزمن‭ ‬دوراً‭ ‬تعليمياً‭ ‬مرموقاً،‭ ‬قد‭ ‬زالت‭ ‬من‭ ‬الوجود‭. ‬كما‭ ‬أن‭ ‬عمر‭ ‬كان‭ ‬يشارك‭ ‬في‭ ‬تصحيح‭ ‬امتحانات‭ ‬البكالوريا‭ ‬اللبنانية‭.‬

ولئن‭ ‬جلبت‭ ‬لعمر‭ ‬وظيفته‭ ‬الجديدة‭ ‬ومشاغله‭ ‬التعليمية‭ ‬والثقافية،‭ ‬استقراراً‭ ‬مالياً،‭ ‬فإن‭ ‬الأقدار‭ ‬فجعته‭ ‬بموت‭ ‬من‭ ‬أحبّها‭ ‬واقترن‭ ‬بها،‭ ‬بالرغم‭ ‬من‭ ‬فارق‭ ‬العمر‭ ‬بينهما،‭ ‬فهي‭ ‬في‭ ‬السابعة‭ ‬عشرة‭ ‬وهو‭ ‬في‭ ‬الرابعة‭ ‬والثلاثين،‭ ‬إنها‭ ‬ابنة‭ ‬خالته،‭ ‬سلوى‭ ‬طيّاره،‭ ‬التي‭ ‬غيّبها‭ ‬الموت‭ ‬الزؤام‭ ‬عام‭ ‬1931،‭ ‬كما‭ ‬غيّب‭ ‬طفلها،‭ ‬إذ‭ ‬دهمتها‭ ‬حمى‭ ‬النفاس‭. ‬ودخل‭ ‬عمر‭ ‬في‭ ‬حزن‭ ‬سوداوي‭ ‬عميق،‭ ‬وأغلق‭ ‬غرفة‭ ‬سلوى‭ ‬لدى‭ ‬أهله،‭ ‬كما‭ ‬أغلق‭ ‬خزانتها‭ ‬سنوات،‭ ‬إلى‭ ‬أن‭ ‬بليت‭ ‬الثياب‭ ‬التي‭ ‬تحتويها‭! ‬ولكن‭ ‬الحياة‭ ‬مهما‭ ‬قست‭ ‬فلا‭ ‬مفرّ‭ ‬من‭ ‬معاودة‭ ‬الانغماس‭ ‬فيها‭. ‬ويبدو‭ ‬أن‭ ‬عمر،‭ ‬ردّ‭ ‬فعل‭ ‬على‭ ‬الطعنة‭ ‬النجلاء‭ ‬التي‭ ‬أصابته،‭ ‬خرج‭ ‬منها‭ ‬متمرّداً‭ ‬مهووساً‭ ‬ومنغمساً‭ ‬في‭ ‬اللهو‭ ‬والملذات‭. ‬وها‭ ‬هو‭ ‬يعاقر‭ ‬الحياة‭ ‬بلهفة،‭ ‬ويتعرّف‭ ‬إلى‭ ‬فنانة‭ ‬هنغارية،‭ ‬تدعى‭ ‬مرغريت‭ ‬كينز،‭ ‬كانت‭ ‬آتية‭ ‬لتوّها‭ ‬مع‭ ‬شقيقتها‭ ‬إلى‭ ‬لبنان،‭ ‬وتعمل‭ ‬في‭ ‬ملهى‭ ‬الكيت‭ ‬كات‭ ‬الذائع‭ ‬الصيت،‭ ‬فتحابّا‭ ‬وتزوّجا،‭ ‬عام‭ ‬1937،‭ ‬بالرغم‭ ‬من‭ ‬معارضة‭ ‬أهله‭. ‬وكان‭ ‬يمازحها،‭ ‬كجاري‭ ‬عادته‭ ‬في‭ ‬السخرية،‭ ‬قائلاً‭ ‬لها‭: ‬أنا‭ ‬بودا،‭ ‬وإنتِ‭ ‬بست،‭ ‬من‭ ‬اسم‭ ‬عاصمة‭ ‬هنغاريا‭.‬

استعاد‭ ‬عمر‭ ‬نشاطه‭ ‬الأدبيّ‭ ‬بعد‭ ‬هجرانٍ‭ ‬واعتكاف،‭ ‬وكان‭ ‬لمرغريت‭ ‬سهم‭ ‬في‭ ‬هذا‭ ‬التبدّل،‭ ‬وسكنا‭ ‬في‭ ‬بيت‭ ‬تظلّله‭ ‬السعادة،‭ ‬على‭ ‬مقربة‭ ‬من‭ ‬كلية‭ ‬الطب‭ ‬اليسوعية‭. ‬وكانت‭ ‬مجلة‭ ‬‮«‬المكشوف‮»‬‭ ‬حاضرة‭ ‬في‭ ‬الساحة‭ ‬لذاك‭ ‬العهد،‭ ‬يكتب‭ ‬فيها‭ ‬رهط‭ ‬مميّز‭ ‬من‭ ‬الأدباء‭: ‬مارون‭ ‬عبّود،‭ ‬أمين‭ ‬الريحاني،‭ ‬سعيد‭ ‬عقل،‭ ‬يوسف‭ ‬غصوب،‭ ‬توفيق‭ ‬يوسف‭ ‬عوّاد‭... ‬وتأتيها‭ ‬من‭ ‬البلدان‭ ‬العربية‭ ‬مقالات‭ ‬وأقاصيص،‭ ‬ومحمود‭ ‬تيمور‭ ‬مجرّد‭ ‬مثال‭. ‬وانخرط‭ ‬عمر‭ ‬فاخوري‭ ‬في‭ ‬ورشة‭ ‬‮«‬المكشوف‮»‬،‭ ‬كما‭ ‬أصدر،‭ ‬عام‭ ‬1938،‭ ‬عن‭ ‬دار‭ ‬المكشوف‭ ‬كتابه‭ ‬‮«‬الباب‭ ‬المرصود‮»‬،‭ ‬يضم‭ ‬نخبة‭ ‬من‭ ‬مقالاته‭ ‬التي‭ ‬سبق‭ ‬له‭ ‬نشرها،‭ ‬تتناول‭ ‬باستفاضة‭ ‬عمر‭ ‬الزعنّي،‭ ‬شاعر‭ ‬الشعب‭ ‬‮«‬هذا‭ ‬النموذج‭ ‬العالي‭ ‬لا‭ ‬للأغاني‭ ‬الشعبية،‭ ‬بل‭ ‬للأدب‭ ‬على‭ ‬الإطلاق‮»‬‭ (‬ص37‭). ‬كما‭ ‬في‭ ‬الكتاب‭ ‬الذي‭ ‬غلبت‭ ‬عليه‭ ‬المقالات‭ ‬حول‭ ‬الشعر‭ ‬والشعراء،‭ ‬مقالة‭ ‬في‭ ‬‮«‬الشاعر‭ ‬الشهيد‮»‬،‭ ‬يقصد‭ ‬به‭ ‬صديقه‭ ‬عمر‭ ‬حمد،‭ ‬يقدّم‭ ‬بها‭ ‬ديوانه‭ ‬الذي‭ ‬نُشر‭ ‬إثر‭ ‬رحيله‭ ‬شهيداً‭ ‬على‭ ‬أعواد‭ ‬المشانق‭ ‬العثمانية‭ ‬مع‭ ‬رفاقه‭ ‬في‭ ‬الاستشهاد،‭ ‬وذلك‭ ‬في‭ ‬السادس‭ ‬من‭ ‬مايو‭ ‬1916‭ ‬في‭ ‬الساحة‭ ‬التي‭ ‬حملت‭ ‬اسمهم،‭ ‬أي‭ ‬ساحة‭ ‬الشهداء‭ ‬في‭ ‬بيروت‭: ‬‮«‬فكان‭ ‬ميتاً‭ ‬أبلغ‭ ‬منه‭ ‬حياً،‭ ‬ولعل‭ ‬شهادة‭ ‬عمر‭ ‬حمد‭ ‬لإعلاء‭ ‬كلمة‭ ‬أمّته‭ ‬أشجى‭ ‬قصيدة‭ ‬ينظمها‭ ‬شاعر‭ ‬وأروع‭ ‬نشيد‭ ‬ترفعه‭ ‬الأرض‭ ‬إلى‭ ‬السماء‮»‬‭ (‬ص118‭).‬

 

في‭ ‬المقالة‭ ‬الأدبية

كان‭ ‬عمر‭ ‬يحفل‭ ‬بالجمال‭ ‬وأفانينه،‭ ‬ولعلّ‭ ‬الصفحات‭ ‬التي‭ ‬عقدها‭ ‬حول‭ ‬شطر‭ ‬بيتٍ‭ ‬للمتنبي‭ ‬‮«‬تناهى‭ ‬سكون‭ ‬الحُسن‭ ‬في‭ ‬حركاتها‮»‬‭ ‬هي‭ ‬من‭ ‬ألطف‭ ‬وأعمق‭ ‬محاولاته‭ ‬النقديّة،‭ ‬وذلك‭ ‬في‭ ‬كتابه‭ ‬‮«‬الفصول‭ ‬الأربعة‮»‬‭ ‬الصادر‭ ‬عام‭ ‬1941‭ (‬ص117‭). ‬مع‭ ‬العلم‭ ‬بأن‭ ‬عمر‭ ‬لم‭ ‬يكن‭ ‬ناقداً‭ ‬بالمعنى‭ ‬المتعارف‭ ‬عليه،‭ ‬كما‭ ‬لم‭ ‬يكن‭ ‬قاصّاً‭ ‬كما‭ ‬يحاول‭ ‬بعضهم‭ ‬إدخاله‭ ‬في‭ ‬جنة‭ ‬هذا‭ ‬النوع‭ ‬الأدبي،‭ ‬وإنما‭ ‬عمر‭ ‬صاحب‭ ‬خواطر‭ ‬نقديّة‭ ‬وملامح‭ ‬قصصية،‭ ‬وهو‭ ‬في‭ ‬سويدائه‭ ‬كاتب‭ ‬مقالة‭ ‬أدبية‭ ‬من‭ ‬النوع‭ ‬الراقي‭ ‬والرفيع‭. ‬وحتى‭ ‬في‭ ‬مرحلته‭ ‬الأخيرة‭ ‬حينما‭ ‬هبط‭ ‬إلى‭ ‬دنيا‭ ‬الناس‭ ‬في‭ ‬‮«‬أديب‭ ‬في‭ ‬السوق‮»‬‭ (‬1944‭) ‬ضجّت‭ ‬حياته‭ ‬بصخب‭ ‬الكتابة‭ ‬وبمعاركة‭ ‬الأحداث،‭ ‬حيث‭ ‬إنه‭ ‬ترشّح‭ ‬في‭ ‬الانتخابات‭ ‬النيابيّة‭ ‬عن‭ ‬بيروت‭ ‬عام‭ ‬1943،‭ ‬ونال‭ ‬عدداً‭ ‬وافراً‭ ‬من‭ ‬الأصوات‭ ‬حتى‭ ‬أنه‭ ‬خاض‭ ‬معركة‭ ‬البالوتاج،‭ ‬أي‭ ‬تعادل‭ ‬الأصوات،‭ ‬ولكنه‭ ‬لم‭ ‬يفز‭. ‬وفي‭ ‬خاتمة‭ ‬كتابه‭ ‬‮«‬أديب‭ ‬في‭ ‬السوق‮»‬‭ ‬خطبة‭ ‬انتخابية‭ ‬غاية‭ ‬في‭ ‬الطرافة‭ ‬والاستنارة،‭ ‬ويأتي‭ ‬فيها‭ ‬على‭ ‬الذين‭ ‬يشترون‭ ‬أصوات‭ ‬الناخبين‭ ‬ليفوزوا،‭ ‬فيسخر‭ ‬منهم‭ ‬ويقول‭: ‬‮«‬لو‭ ‬كانت،‭ ‬على‭ ‬الأقل،‭ ‬أصوات‭ ‬المغنين‭ ‬والمغنيات،‭ ‬الحلوة‭ ‬الرقيقة‭ ‬المطربة،‭ ‬إذاً‭ ‬كنت‭ ‬أتصوّر‭ ‬أنها‭ ‬تُشرى‭ ‬كي‭ ‬تُعبّأ‭ ‬في‭ ‬الصندوق،‭ ‬لا‭ ‬صندوق‭ ‬الاقتراع‭ ‬بل‭ ‬الفنغراف‭!‬‮»‬‭ (‬ص146‭-‬154‭). ‬وفي‭ ‬هذه‭ ‬المرحلة‭ ‬الختامية‭ ‬من‭ ‬حياته‭ ‬مارس‭ ‬عمر‭ ‬السياسة‭ ‬حتى‭ ‬الثّمالة،‭ ‬ولكنه‭ ‬لم‭ ‬يكتب‭ ‬المقالات‭ ‬السياسية‭ ‬المألوفة،‭ ‬بل‭ ‬ظلّ‭ ‬أديباً‭ ‬حتى‭ ‬أعماقه،‭ ‬ونفحنا‭ ‬المقالة‭ ‬الأدبية،‭ ‬كما‭ ‬اعتدنا‭ ‬أن‭ ‬نقرأ‭ ‬له،‭ ‬بيد‭ ‬أنها‭ ‬هذه‭ ‬المرة‭ ‬المقالة‭ ‬الأدبية‭ ‬السياسية‭ ‬نظراً‭ ‬لمحتواها‭. ‬وما‭ ‬كتاب‭ ‬عمر‭ ‬فاخوري‭ ‬‮«‬لا‭ ‬هوادة‮»‬‭ ‬سوى‭ ‬نموذج‭ ‬لهذا‭ ‬الضرب‭ ‬من‭ ‬الأدب‭ ‬السياسي‭ ‬البالغ‭ ‬الروعة‭ ‬والدسامة،‭ ‬مع‭ ‬أنه‭ ‬غارق‭ ‬في‭ ‬الموضوعات‭ ‬السياسية‭ ‬التي‭ ‬تتكشّف‭ ‬من‭ ‬عناوين‭ ‬الفصول‭. ‬ويشتمل‭ ‬الكتاب‭ ‬على‭ ‬جمالات‭ ‬لا‭ ‬سبيل‭ ‬إلى‭ ‬تعدادها‭ ‬واستحضارها،‭ ‬لكننا‭ ‬نكتفي‭ ‬منها‭ ‬بمقالة‭ ‬نفيسة‭ ‬هي‭ ‬‮«‬رسالة‭ ‬لبنان‭ ‬الثقافية‮»‬،‭ ‬حيث‭ ‬يورد‭ ‬أن‭ ‬لبنان،‭ ‬بالرغم‭ ‬من‭ ‬صغر‭ ‬حجمه‭ ‬وضيق‭ ‬مساحته،‭ ‬هو‭ ‬مَلْقى‭ ‬للثقافات‭ ‬وصلة‭ ‬وصل‭ ‬تاريخية‭ ‬بين‭ ‬الشرق‭ ‬والغرب‭. ‬ويختم‭ ‬مقالته‭ ‬البديعة‭ ‬قائلاً‭: ‬‮«‬ولعل‭ ‬أكرم‭ ‬ما‭ ‬يصدّر‭ ‬لبنان‭ ‬من‭ ‬بضاعةٍ،‭ ‬أبناؤه‭ ‬في‭ ‬النواحي‭ ‬الأربع‭ ‬من‭ ‬الأرض،‭ ‬بناة‭ ‬المدن‭ ‬والسُّفن،‭ ‬المخاطرون‭ ‬غير‭ ‬مغامرين،‭ ‬المثقفون‭ ‬طبعاً‭ ‬وتطبّعاً،‭ ‬المحافظون‭ ‬في‭ ‬غير‭ ‬تزمّتٍ،‭ ‬المجدّدون‭ ‬دون‭ ‬تعسّف،‭ ‬مخترعو‭ ‬الأبجدية‭ ‬قديماً،‭ ‬وحضنة‭ ‬العربية‭ ‬حديثاً،‭ ‬أبناؤه‭ ‬السّمر‭ ‬الميامين،‭ ‬حَمَلة‭ ‬رسالته‭ ‬الثقافية‭ ‬في‭ ‬العالم‮»‬‭ (‬ص116‭).‬

ولئن‭ ‬قلنا‭ ‬إن‭ ‬عمر‭ ‬فاخوري‭ ‬رائد‭ ‬ومجلّ‭ ‬في‭ ‬فن‭ ‬المقالة‭ ‬الأدبية،‭ ‬ومن‭ ‬خلالها‭ ‬سطع‭ ‬أدبه‭ ‬وانماز،‭ ‬عبر‭ ‬مختلف‭ ‬الموضوعات‭ ‬التي‭ ‬تناولها،‭ ‬فلقد‭ ‬وضعنا‭ ‬اليد‭ ‬على‭ ‬الجيل‭ ‬الأدبي‭ ‬الذي‭ ‬انتمى‭ ‬إليه‭ ‬عمر،‭ ‬بل‭ ‬يمكن‭ ‬القول‭ ‬إنه‭ ‬بامتياز‭ ‬جيل‭ ‬المقالة‭ ‬الأدبية،‭ ‬فطه‭ ‬حسين‭ (‬ت1973‭) ‬تجلّى‭ ‬أسلوبه‭ ‬المميز‭ ‬جداً‭ ‬من‭ ‬خلال‭ ‬مقالاته،‭ ‬بل‭ ‬هو‭ ‬أسلوب‭ ‬نعتبره‭ ‬محطة‭ ‬في‭ ‬تاريخ‭ ‬النثر‭ ‬العربي‭. ‬ولقد‭ ‬نشر‭ ‬طه‭ ‬طائفة‭ ‬من‭ ‬الكتب‭ ‬التي‭ ‬تضم‭ ‬نخبة‭ ‬من‭ ‬هذه‭ ‬المقالات‭ ‬الدالّة‭ ‬على‭ ‬الجمال‭ ‬الأسلوبي‭ ‬عند‭ ‬عميد‭ ‬الأدب‭ ‬العربي،‭ ‬نكتفي‭ ‬منها‭ ‬كمجرد‭ ‬مثال‭ ‬بذكر‭ ‬كتابه‭ ‬‮«‬من‭ ‬لغو‭ ‬الصيف‭ ‬إلى‭ ‬جدّ‭ ‬الشتاء‮»‬‭ (‬1961‭). ‬وهذا‭ ‬أحمد‭ ‬أمين‭ (‬ت1954‭)‬،‭ ‬كتب‭ ‬في‭ ‬الإسلاميات‭ ‬كما‭ ‬كتب‭ ‬طه،‭ ‬ولكنه‭ ‬اشتهر‭ ‬أيضاً‭ ‬بمقالاته‭ ‬التي‭ ‬احتواها‭ ‬كتابه‭ ‬الحافل‭ ‬‮«‬فيض‭ ‬الخاطر‮»‬‭. ‬وشاء‭ ‬أن‭ ‬يكون‭ ‬أسلوبه،‭ ‬كما‭ ‬ذكر‭ ‬في‭ ‬مقدمة‭ ‬الأجزاء‭ ‬العشرة‭ ‬كـ«الغانية‭ ‬تستغني‭ ‬بطبيعة‭ ‬جمالها‭ ‬عن‭ ‬كثرة‭ ‬حليّها‮»‬‭.‬

هذا‭ ‬الكاتب‭ ‬الساخر‭ ‬الأديب‭ ‬عمر،‭ ‬وليس‭ ‬كل‭ ‬كاتب‭ ‬أديباً،‭ ‬ينماز‭ ‬بعبارته‭ ‬المشغولة‭ ‬المنحوتة‭ ‬المولّدة،‭ ‬وكذلك‭ ‬كان‭ ‬شأن‭ ‬عمر‭ ‬فاخوري،‭ ‬الذي‭ ‬كان‭ ‬في‭ ‬دنياه‭ ‬متحفّظاً‭ ‬في‭ ‬كلامه،‭ ‬لا‭ ‬يكرّ‭ ‬به‭ ‬كراً،‭ ‬وإنما‭ ‬ينقّطه‭ ‬تنقيطاً،‭ ‬وتتخلّله‭ ‬سخرية‭ ‬دفينة‭ ‬وابتسامة‭ ‬تشعّ‭ ‬في‭ ‬جنبات‭ ‬هذا‭ ‬المحيّا‭ ‬الذي‭ ‬يكلّله‭ ‬بياض‭ ‬في‭ ‬أعلاه‭ ‬وينسدل‭ ‬تحته‭ ‬جبين‭ ‬مرتفع،‭ ‬وتغطّي‭ ‬العينين‭ ‬نظّارات‭ ‬طبية‭ ‬على‭ ‬شيء‭ ‬من‭ ‬السماكة،‭ ‬فكأنها‭ ‬الحاجب‭ ‬لعينيه‭ ‬الحاذقتين‭ ‬الحانيتين‭. ‬وهذه‭ ‬الابتسامة‭ ‬التي‭ ‬كانت‭ ‬عنوان‭ ‬وجه‭ ‬عمر‭ ‬وسرّ‭ ‬طويته،‭ ‬تغنّى‭ ‬بها‭ ‬غير‭ ‬أديب‭ ‬من‭ ‬أصدقائه،‭ ‬فهذا‭ ‬مارون‭ ‬عبّود‭ ‬يقول‭ ‬في‭ ‬كتابه‭ ‬‮«‬جُدُد‭ ‬وقدماء‮»‬‭ (‬1954‭): ‬‮«‬من‭ ‬الخير‭ ‬أن‭ ‬نفي‭ ‬هذه‭ ‬الابتسامة‭ ‬الشاحبة‭ ‬حقّها‭ ‬من‭ ‬التصوير،‭ ‬فقد‭ ‬كانت‭ ‬تشعّ‭ ‬في‭ ‬العينين‭ ‬والجفون‭ ‬والأنف‭ ‬والفم،‭ ‬حتى‭ ‬تخالها‭ ‬تطلّ‭ ‬عليك‭ ‬من‭ ‬شرفات‭ ‬الحاجبين‮»‬‭ (‬ص185‭). ‬وكان‭ ‬مارون‭ ‬عبّود‭ ‬الذوّاقة،‭ ‬يرى‭ ‬في‭ ‬كتابة‭ ‬عمر‭ ‬أنها‭ ‬خارجة‭ ‬من‭ ‬يد‭ ‬صائغ‭ ‬صَنّاع‭: ‬‮«‬قرأت‭ ‬بعد‭ ‬موته‭ ‬صفحة‭ ‬من‭ ‬إنشائه‭ ‬فكدت‭ ‬أنكرها،‭ ‬لو‭ ‬لم‭ ‬يثبت‭ ‬لي‭ ‬ذلك‭ ‬خطّه‭. ‬تسمعون،‭ ‬ولا‭ ‬شك،‭ ‬بالعملية‭ ‬القيصرية،‭ ‬هكذا‭ ‬كان‭ ‬عمر‭ ‬يضع‭ ‬مواليده‮»‬‭ (‬ص195‭). ‬وهناك‭ ‬فكرة‭ ‬ختامية‭ ‬لهذه‭ ‬الصفحات‭ ‬المنعقدة‭ ‬حول‭ ‬أحد‭ ‬أدباء‭ ‬لبنان‭ ‬الكبار،‭ ‬وهي‭ ‬أن‭ ‬المقالة‭ ‬الأدبية‭ ‬العُمرية‭ ‬باتت‭ ‬في‭ ‬أيامنا‭ ‬في‭ ‬أقطار‭ ‬الوطن‭ ‬العربي‭ ‬شبه‭ ‬نادرة،‭ ‬تَرِد‭ ‬على‭ ‬أسلات‭ ‬قلة‭ ‬من‭ ‬الأدباء،‭ ‬وذلك‭ ‬لأننا‭ ‬نحيا‭ ‬عموماً‭ ‬زمن‭ ‬القصة‭ ‬والرواية،‭ ‬لا‭ ‬زمن‭ ‬الشعر‭ ‬والمقالة‭ ‬الأدبية‭ ‬