عمر فاخوري ... رائد في المقالة الأدبية
في خريف عام 1913، والدنيا على وشك الانفجار مع الحرب الكونية الأولى، برقت ورعدت في إسطنبول، حين سقطت حكومة الائتلافيين وقبض على ناصية الحكم أعضاء جماعة «الاتحاد والترقي» ذوو الشراسة العثمانية، وهكذا أمطرت في بيروت والياً جديداً يتماشى مع الخط الصارم المتشدد. وكان عمر فاخوري، ابن الثامنة عشرة، قد جمع مقالاته التي نشرها في جريدة «المفيد» في كتاب دعاه «كيف ينهض العرب»، فهو، كما ينبئ عنوانه، مفعم بالكلام علىالقومية العربية التي ينبغي أن تكون العروة الوثقى لقومه إن أرادوا النهوض واعتناق التقدم سبيلاً لمستقبلهم. وجاء من يهمس في أذن الوالي الجديد، أبي بكر حازم بك، أنّ كتاب عمر فيه استهانة بالرابطة العثمانية ويدعو إلى الإصلاح، والحكم بات يعتبر هذا الإصلاح وتلك الاستهانة دساً وخيانة للدولة العليّة. واكفهرّ جو العائلة وخافت على ابنها شر المصير. فانعقد في بيت عمر لقاء عائلي قرّ فيه الرأي على التخلص من نسخ الكتاب. وفي عتمة ليل بيروت حمل طُنْبُرٌ، وهو عربة ذات عجلتين تجرها دابة، نسخ الكتاب إلى بيت قديم للعائلة وأُنزلت غرقى في بئره!
نجح عمر فاخوري خفية في استنقاذ بعض نسخ الكتاب، وأودعها في صندوقة في دكان أبيه بسوق العطارين، مخفياً إياها بين علب البهار والقرفة. واكتشف أخوه هذه الصندوقة التي ما إن أطلّ جمال باشا السفاح على بيروت حتى ألقتها إحدى قريبات العائلة، ليلاً، لتغرق في بئر منزلها، مخافة أن تقع بين أيدي الطاغية الذي أرسل رفاق عمر في الكلية العثمانية إلى أعواد المشانق في السادس من مايو عام 1916، وهم في زهوة الشباب وعرام الوطنية: عمر حمد الشاعر، عبدالغني العريسي صاحب جريدة «المفيد»، محمد ومحمود المحمصاني الأَخَوان. واصطحب بعض أهل عمر ابنهم، عهدذاك، إلى الوالي، مؤكدين إتلاف نسخ الكتاب، فرضي بالعذر وانطوى الأمر. ولقد تميّز عمر فاخوري في شخصه وأدبه بروح الدعابة الراقية اللطيفة، لهذا كان يقول، بعد ما حل بكتابه الأول من غرق مزدوج، إنه سيعاود نشره، إذا عثر على نسخة منه، حاملاً هذه المرة عنوان «كيف يغرق العرب»! وهذه السخرية كانت معلماً بارزاً في أدب عمر، وهي عدا كونها مما تخفي السرائر والطبيعة الإنسانية المرهفة عند بعض المحظوظين من الخلق، فهي تدل، على نحو ساطع، على الثقافة العميقة، عربية وغربية، التي احتشدت طي إهاب أديب لبناني عربي، وتفاعلت بشكل خلاق، أو كما يقول عنه الشيخ عبدالله العلايلي: «استطاع في نثره أن يربط بلاغية القمة العباسية ببلاغية إنسان يعيش عصره وزمانه».
كان طه حسين نزيل لبنان، كما أَلِفَ أن يفعل كلما واتته الفرصة، وكان مغتبطاً أثناء هذه الزيارة في لقائه الخصب مع المثقفين اللبنانيين. وسأل عن صديق أديب كانت له في نفسه مكانة ممتازة، وشاء أن يسعى إليه.وكتب عميد الأدب العربي في مجلة «الكاتب المصري» الشهيرة التي كان يرأس تحريرها: «قلت لصاحبي: كيف حال الأستاذ عمر فاخوري؟ فقال في هدوء حزين: لقد دفنّاه أمس يا أستاذ». كان ذلك في 24 أبريل عام 1946، وكان عمر، المولود في 15 سبتمبر عام 1895، قد ارتحل عن دنيانا ولم يجاوز الخمسين إلا قليلاً. ويعلق طه حسين على الخبر الأسيان قائلاً: «لم أقل شيئاً ولم يقل أصحابي شيئاً، وإنما اتخذت لهذا الأديب اللبناني العظيم قبراً من ناحية من نواحي قلبي، كما اتخذ اللبنانيون له قبوراً في قلوبهم، وكما احتفروا له قبراً في مكان ما من أرض لبنان».
في الكلية العثمانية
علا صراخ الوليد عمر في حي بيروتي يقع على مقربة من الجامع العمري الكبير، في وسط المدينة، وكان ابناً لتاجر متواضع في سوق العطارين، الملاصق عهدذاك للجامع العمريّ، ويبيع فيه الوالد عبدالرحمن التوابل. وقد شاء لابنه أن يخوض في تقليب القرفة والبهارات خلفاً له، ولكنّ الابن لم يكن من هذا الممشى، بل كان راغباً في اكتساب العلم، لهذا دخل الكتّاب لدى الشيخ عيسى قاسم كتُّوعة، كما هو شأن أترابه في ذاك الزمان، ثم ولج مدرسة، طارت لها شهرة في ذاك الزمن، وهي الكلية العثمانية التي كان يدير شؤونها رجل تربية عرفته بيروت وقدّرته هو الشيخ أحمد عباس الأزهري، وقد صار اسمها بعد جلاء الأتراك الكلية الإسلامية. كان الجو في هذه المدرسة مشبعاً بالعلم والوطنية والوعي المنير. كيف لا والشيخ مصطفى الغلاييني، الشاعر القدير واللغوي الضليع ورجل الدين المستنير، هو أحد أساتذتهم، وفي الشيخ الغلاييني يقول عمر فاخوري في كتابه «الحقيقة اللبنانية... خواطر وأحاديث»: «إني - وكثير أمثالي في هذا البلد - مدين للشيخ مصطفى الغلاييني بأفضل ما عندي من معرفة وإيمان بلغة الضاد» (ص82). وهناك التقى عمر الفتى برهط من رفاقه الميامين الذين، كما ألمحنا سابقاً، سيسوقهم طغيان آل عثمان إلى أعواد المشانق.كان عمر سعيداً بالعلم ينهله، وبالصداقة الوطيدة التي تجمعه بإخوانه، فإذا هم جميعاً موكب حماسة ومطامح، خصوصاً أن جمعية الاتحاد والترقي قد أزاحت السلطان عبدالحميد عن العرش وفرضت الدستور عام 1908. وعمّت الفرحة أنحاء الإمبراطورية على نحو لا يوصف، وانطلقت التظاهرات تعلن عن البهجة الكبرى، وسار عمر مع رفاقه في هذه التظاهرات الصخابة المحتفلة بنيل الدستور وما يعد به من مســاعٍ عظام. لكن الاتحاديين سرعان ما كشفوا عن نياتـــهم المبــيَّتة، وقادوها سياسة عنصرية تسعى بالإكراه إلى تتريك العرب لغة وموقفاً. وهكذا تفتحت الفكرة المقاومة الاستقلالية وقوامها الروح العربية، وشقّت فكرة العروبة طريقها إلى الأفئدة والسواعد.
وما إن تخرّج عمر في الكلية العثمانية عام 1913 حتى التحق بمكتب الحقوق. وكانت القومية تؤجّ في صدره، فانتسب إلى «حزب الاستقلال»، كذلك إلى «الجمعية العربية الفتاة»، ليقرن الآمال بالأعمال. وأصدر في هذا الجو، المفعم بالتوتر والقلق، كتابه، الذي سبقت الإشارة إليه، وهو «كيف ينهض العرب». وأفلت عمر من الحبل الذي التفّ حول أعناق رفاقه في الكلية العثمانية. ومع إعلان الحرب الكونية الأولى سعى إلى الإفلات ثانية من الجندية التي كانت تعني في الغالب، زمن سفر برلك، ذهاباً من غير أوبة. وهكذا انتسب عمر إلى «المدرسة الطبية العثمانية» لدراسة الصيدلة. وقد ألقى فيها، بمناسبة المولد النبوي عام 1918، محاضرة عنوانها: خواطر في المدنيّة الإسلامية، ومن أسفٍ أن هذه المحاضرة غير متوافرة في كتب عمر ولا في صحافة ذلك الزمان. وقد وضع عمر، فضلاً عن محاضرته هذه، مخططاً لكتاب بعنوان: نشوء الأوضاع الإسلامية، وهذا يشير إلى أن الدراسات الإسلامية ملكت هواه في تلك الحقبة، بعد مطالعاته الجمة في المؤلفات الأجنبية المتصلة بهذا النوع من العلوم، ثم شغلته الحياة عنها إلى حين، لأنه عاود الاشتغال بها عام 1925 في دمشق عندما ترجم طائفة من المباحث الاستشراقية، كما سنرى. ولم يكن عمر راغباً في دراسة الصيدلة، وإنما احتجب وراءها فراراً من الجندية، بدليل أنه ما إن انتهت الحرب عام 1918 حتى بارح المدرسة لساعته وانفتل إلى ميدان الصحافة، يبثها شجونه وأحلامه، تحت إمضاء «مسلم ديمقراطي»، وذلك في جريدة «الحقيقة». ولكن الحلفاء نكثوا بالعهود التي قطعوها للشريف حسين. وعندما دعي عمر إلى دمشق من جانب الملك فيصل، ليشارك في تحرير جريدة «العاصمة»، جاءت معركة ميسلون عام 1920، حيث استبسل القائد يوسف العظمة في محاربة الجيش الفرنسي الزاحف على دمشق، لــتحــطّم آخر طموحاته القومية، إذ هيمن الانتداب الفرنسي على سورية ولبنان، وبات عمر مهزوماً مشلولاً، لا يحلم إلا بأن يعجّل الله في سفره إلى باريس وأن يبعده عن الأوطان المستباحة!
المرحلة الباريسية
وتيسّرت المرحلة الباريسية في حياة عمر، فقصد عاصمة النور عام 1920، ليكمل الدراسة التي سبق له أن بدأها في مكتب الحقوق في بيروت، ولكنها باريس الملأى بأفانين الحضارة وصروح الثقافة، فكما أن القاهرة هي أم الدنيا، فباريس هي عاصمتها البهية. ومن ينزلها ردحاً من الزمن يخرج منها وقد طرأت على عقله تحولات وعلى قلبه خواطر وخلجات. وعبّ عمر من هذا المنهل الحضاري، على أن السياسة التي كانت تجري في دمه منذ الشباب الباكر عاودت الحضور، فإذا به يشارك هناك في تأسيس «جمعية الشبيبة السورية». وانتعشت آماله القومية، وأتيح له في باريس أن يتعرف عن بُعد، إلى الأديب الفرنسي المرموق الذي كان مغرماً بأدبه، وهو أناتول فرانس وفي مقبل الأيام سوف يترجم عمر إلى العربية، على نحو إبداعي، أول كتاب يصدر عن قلمه، إثر عودته من فرنسا، وهو «آراء أناتول فرانس»، الصادر عام 1925، والذي كتب مقدمة له أمين الريحاني. وإن كان مما يبعث على الغرابة أن أميناً يتحدث طوال مقدمته عن أناتول فرانس، وتكوينه الأدبي وجمالية أدبه، الروائي منه بخاصة، لكنه يتجاهل تماماً مترجم الكتاب، عمر فاخوري، إلا من عبارة يتيمة غير مقرونة باسمه الصريح، وهي أن في هذا الكتاب «قد أحسن المترجم الاختيار والتوازن فيه»! في حين أن رئيس خوري، وكان شديد الإعجاب بشخص عمر وبأدبه، وانعقدت بين الاثنين صداقة فريدة من نوعها، يرى في دراسة قيّمة عن عمر عقب وفاته، عنوانها: «عمر فاخوري في خمسين سنة»، وقد نشرها في مجلة «الطريق» عام 1946، أن كتاب عمر فاخوري المترجم «هو نموذج نادر في التعريب الذي سلم من أثر الأصل الأعجمي». ولن ندع هذه المرحلة الباريسية من حياة عمر من غير ذكر ما أورده في إحدى رسائله، هذه الرسائل التي كان يكثر من إرسالها من باريس إلى أفراد عائلته وإلى أصدقائه في بيروت، ويتبدى من خلالها شديد التعلق بالأقارب والخلان، وهي التي ظهرت في مجموعة الأعمال الكاملة لعمر فاخوري، الصادرة عن دار الآفاق الجديدة، عام 1981، تحت عنوان «الرسائل»، وقد وقف على تحقيقها والتقديم لها عبداللطيف فاخوري، الذي ندين له بكتب دراسية رصينة وجميلة عن تاريخ بيروت.
يذكر عمر في إحدى رسائله، أن في باريس جمعية تدعى Groupe Clarté، وهي رابطة أو حزب يسعى إلى التنوير الفكري، وله جريدة ناطقة باسمه: Clarté، ومن أبرز رجالاته: أناتول فرانس (1924) وقد نال جائزة نوبل عام 1921، وهنري بربوس (1935) صاحب الكتاب الشهير Le Feu، أي النار أو الجحيم، الذي يذكر عمر في رسالته أنه طبع منه في 3 سنوات ثلاثمائة ألف نسخة. ولهذا التجمع فروع في كثير من الدول الأوربية. والمهم ما أتى عليه عمر في رسالته (ص54): «أسسنا هنا شعبة دعوناها: الشعبة الشرقية، أو شعبة أهل النور، انضم إليها كل إخواننا من السوريين هنا، وبعض من جالية المصريين والتونسيين. وقد كتبت الجريدة قطعة حسنة في هذا الموضوع».
ذهب عمر إلى باريس مرسلاً من عمه الذي أنفق عليه، ودرس الحقوق، ولكنه كان أميل إلى الآداب، لهذا رغب غير مرة في الانتساب أيضاً إلى كلية الآداب. فهو يُمضي سحابة نهاره في قراءة الآثار الأدبية، ولم يكن يكب على دراسة الحقوق إلا في المساء وهو جالس في المقهى، وكان به غرام إلى هذه الآثار الأدبية، لهذا كان يضعف عندما تقع بين يديه في المكتبات، التي يكثر من التردد عليـــها، كُتُب فاتنات، لذا كان يؤثرها، والمال في جيبه قليل، مستعيضاً بها عن عشائه، كما يخبرنا صديقه السوري هناك إحسان الشريف.
العمل في سورية
في عام 1924 قفل عمر فاخوري إلى ربوع الوطن محتفياً درجة مجاز في الحقوق، ومنفعلاً بهذا التنوير الفكري الذي أتينا عليه منذ هنيهة، وهو التنوير الذي لا يصيبه إلا من فتح عقله لرياح التغيير، فعاد غير ما كان عليه، لأن هذه الحضارة الغربية فعلت فعلها في نظرته التجديدية إلى شؤون الحياة، ولم يمكث عمر طويلاً في بيروت، وإنما سلك طريق دمشق، وهناك انغمس في الكتابة لجريدة «الفيحاء»، كما كان عوناً لأحمد شاكر الكرمي في إصدار مجلة «الميزان»، وكان هناك تجاوب روحي وفكري كبير بين عمر والكرمي، ولقد شاءا من مجلتهما أن تكون «المعول لتهدم بقوة هذه الأصنام الخاوية التي تعرقل سير الأدب وسير الحركة الفكرية بآرائها العتيقة وضلالاتها البالية».
وها أنّ محمد كرد علي، رئيس المجمع العلمي العربي بدمشق، وهو مجمع عريق في صون اللغة العربية وقديم النشأة، يكتب إلى عمر، في نهاية عام 1927، أن المجمع بإجماع أعضائه اختاروا عمر عضواً مؤازراً فيه «بالنظر لما عهده المجمع العلمي العربي فيك من غزارة الفضل وسعة الاطّلاع وتفانيك في خدمة الأدب العربي»، ولم يكن عمر فاخوري في هذا العام (1927)، بعيداً عن سورية، بل إنه أمضى أشهراً فيها برفقة أحد المستشرقين الألمان، وهو أوبنهايم، الذي كان متخصصاً في موضوع الحثيين. وهؤلاء ازدهرت حضارة لهم قبل الميلاد عند الألف الثاني، وامتدت إمبراطوريتهم حتى شمال سورية، وقد قضى عليهم الأشوريون، وتبدّت مدينتهم من خلال التنقيبات، ومنها في جرابلس السورية. لكن هذا المستشرق كان حفياً، هذه المرّة، بزيارة المدن والأماكن فوق حلب، أي رأس العين والرقة ونصيبين ودير الزور والحسكة، كما استخلصنا من بعض رسائل عمر إلى أهله عهدذاك، وذلك لدراسة البدو، وقد أصدر بعد ذلك، بالعربية، عملاً ضخماً يقع في ستّة مجلّدات حول هذا الموضوع، وذكر فيه أن عمر فاخوري قد عاونه وكتب له.
الاستقرار في بيروت
عاد عمر إلى بيروت بعد هذه الإقامة السورية، وأخذ ينشط في الكتابة لمجلة «الكشاف»، كما أنه شارك في النشاطات الكشفية. على أنه سعى إلى تحويل هذه المجلة إلى منبر أدبي ودعا أعلاماً للكتابة على صفحاتها، نظير: أمين الريحاني والفنّان الكبير مصطفى فرّوخ، الذي رسم بورتريهاً لعمر فاخوري بالغ التعبير عن مكنون شخصيته. وكان عمر مشاركاً، في تأسيس مكتب للمحاماة، الأديب صلاح لبابيدي، والشاعر عمر الزعني، الذي سيغدو في مقبل الأيام شاعراً شعبياً مرموقاً، وقد كتب عنه عمر مشيداً معجباً، غير أن عمر، الذي كان كارهاً لمهنته هذه، سرعان ما تركها، عام 1929، عندما أضحى موظفاً في الدولة أميناً للسجل العقاري. وعندما وقعت تحت ناظري سندات ملكية قديمة لفتني أنها ممهورة باسم عمر فاخوري. وودّع عمر المحاماة غير آسف، بل كان محبوراً، كما ذكر ذلك في كتابه «الحقيقة اللبنانية».
كما كان عمر يلقي الأحاديث الأدبية من إذاعة الشرق التي أنشأها الفرنسيون، والتي صارت بعدئذٍ الإذاعة اللبنانية. كذلك كان يدرّس في مدرسة الآداب الفرنسية العليا، الواقعة على طريق الشام، التي نشأت في موضعها الآن السفارة الفرنسية في لبنان، لأن هذه المدرسة التي كانت تابعة لجامعة ليون في فرنسا، والتي أدت لزمن دوراً تعليمياً مرموقاً، قد زالت من الوجود. كما أن عمر كان يشارك في تصحيح امتحانات البكالوريا اللبنانية.
ولئن جلبت لعمر وظيفته الجديدة ومشاغله التعليمية والثقافية، استقراراً مالياً، فإن الأقدار فجعته بموت من أحبّها واقترن بها، بالرغم من فارق العمر بينهما، فهي في السابعة عشرة وهو في الرابعة والثلاثين، إنها ابنة خالته، سلوى طيّاره، التي غيّبها الموت الزؤام عام 1931، كما غيّب طفلها، إذ دهمتها حمى النفاس. ودخل عمر في حزن سوداوي عميق، وأغلق غرفة سلوى لدى أهله، كما أغلق خزانتها سنوات، إلى أن بليت الثياب التي تحتويها! ولكن الحياة مهما قست فلا مفرّ من معاودة الانغماس فيها. ويبدو أن عمر، ردّ فعل على الطعنة النجلاء التي أصابته، خرج منها متمرّداً مهووساً ومنغمساً في اللهو والملذات. وها هو يعاقر الحياة بلهفة، ويتعرّف إلى فنانة هنغارية، تدعى مرغريت كينز، كانت آتية لتوّها مع شقيقتها إلى لبنان، وتعمل في ملهى الكيت كات الذائع الصيت، فتحابّا وتزوّجا، عام 1937، بالرغم من معارضة أهله. وكان يمازحها، كجاري عادته في السخرية، قائلاً لها: أنا بودا، وإنتِ بست، من اسم عاصمة هنغاريا.
استعاد عمر نشاطه الأدبيّ بعد هجرانٍ واعتكاف، وكان لمرغريت سهم في هذا التبدّل، وسكنا في بيت تظلّله السعادة، على مقربة من كلية الطب اليسوعية. وكانت مجلة «المكشوف» حاضرة في الساحة لذاك العهد، يكتب فيها رهط مميّز من الأدباء: مارون عبّود، أمين الريحاني، سعيد عقل، يوسف غصوب، توفيق يوسف عوّاد... وتأتيها من البلدان العربية مقالات وأقاصيص، ومحمود تيمور مجرّد مثال. وانخرط عمر فاخوري في ورشة «المكشوف»، كما أصدر، عام 1938، عن دار المكشوف كتابه «الباب المرصود»، يضم نخبة من مقالاته التي سبق له نشرها، تتناول باستفاضة عمر الزعنّي، شاعر الشعب «هذا النموذج العالي لا للأغاني الشعبية، بل للأدب على الإطلاق» (ص37). كما في الكتاب الذي غلبت عليه المقالات حول الشعر والشعراء، مقالة في «الشاعر الشهيد»، يقصد به صديقه عمر حمد، يقدّم بها ديوانه الذي نُشر إثر رحيله شهيداً على أعواد المشانق العثمانية مع رفاقه في الاستشهاد، وذلك في السادس من مايو 1916 في الساحة التي حملت اسمهم، أي ساحة الشهداء في بيروت: «فكان ميتاً أبلغ منه حياً، ولعل شهادة عمر حمد لإعلاء كلمة أمّته أشجى قصيدة ينظمها شاعر وأروع نشيد ترفعه الأرض إلى السماء» (ص118).
في المقالة الأدبية
كان عمر يحفل بالجمال وأفانينه، ولعلّ الصفحات التي عقدها حول شطر بيتٍ للمتنبي «تناهى سكون الحُسن في حركاتها» هي من ألطف وأعمق محاولاته النقديّة، وذلك في كتابه «الفصول الأربعة» الصادر عام 1941 (ص117). مع العلم بأن عمر لم يكن ناقداً بالمعنى المتعارف عليه، كما لم يكن قاصّاً كما يحاول بعضهم إدخاله في جنة هذا النوع الأدبي، وإنما عمر صاحب خواطر نقديّة وملامح قصصية، وهو في سويدائه كاتب مقالة أدبية من النوع الراقي والرفيع. وحتى في مرحلته الأخيرة حينما هبط إلى دنيا الناس في «أديب في السوق» (1944) ضجّت حياته بصخب الكتابة وبمعاركة الأحداث، حيث إنه ترشّح في الانتخابات النيابيّة عن بيروت عام 1943، ونال عدداً وافراً من الأصوات حتى أنه خاض معركة البالوتاج، أي تعادل الأصوات، ولكنه لم يفز. وفي خاتمة كتابه «أديب في السوق» خطبة انتخابية غاية في الطرافة والاستنارة، ويأتي فيها على الذين يشترون أصوات الناخبين ليفوزوا، فيسخر منهم ويقول: «لو كانت، على الأقل، أصوات المغنين والمغنيات، الحلوة الرقيقة المطربة، إذاً كنت أتصوّر أنها تُشرى كي تُعبّأ في الصندوق، لا صندوق الاقتراع بل الفنغراف!» (ص146-154). وفي هذه المرحلة الختامية من حياته مارس عمر السياسة حتى الثّمالة، ولكنه لم يكتب المقالات السياسية المألوفة، بل ظلّ أديباً حتى أعماقه، ونفحنا المقالة الأدبية، كما اعتدنا أن نقرأ له، بيد أنها هذه المرة المقالة الأدبية السياسية نظراً لمحتواها. وما كتاب عمر فاخوري «لا هوادة» سوى نموذج لهذا الضرب من الأدب السياسي البالغ الروعة والدسامة، مع أنه غارق في الموضوعات السياسية التي تتكشّف من عناوين الفصول. ويشتمل الكتاب على جمالات لا سبيل إلى تعدادها واستحضارها، لكننا نكتفي منها بمقالة نفيسة هي «رسالة لبنان الثقافية»، حيث يورد أن لبنان، بالرغم من صغر حجمه وضيق مساحته، هو مَلْقى للثقافات وصلة وصل تاريخية بين الشرق والغرب. ويختم مقالته البديعة قائلاً: «ولعل أكرم ما يصدّر لبنان من بضاعةٍ، أبناؤه في النواحي الأربع من الأرض، بناة المدن والسُّفن، المخاطرون غير مغامرين، المثقفون طبعاً وتطبّعاً، المحافظون في غير تزمّتٍ، المجدّدون دون تعسّف، مخترعو الأبجدية قديماً، وحضنة العربية حديثاً، أبناؤه السّمر الميامين، حَمَلة رسالته الثقافية في العالم» (ص116).
ولئن قلنا إن عمر فاخوري رائد ومجلّ في فن المقالة الأدبية، ومن خلالها سطع أدبه وانماز، عبر مختلف الموضوعات التي تناولها، فلقد وضعنا اليد على الجيل الأدبي الذي انتمى إليه عمر، بل يمكن القول إنه بامتياز جيل المقالة الأدبية، فطه حسين (ت1973) تجلّى أسلوبه المميز جداً من خلال مقالاته، بل هو أسلوب نعتبره محطة في تاريخ النثر العربي. ولقد نشر طه طائفة من الكتب التي تضم نخبة من هذه المقالات الدالّة على الجمال الأسلوبي عند عميد الأدب العربي، نكتفي منها كمجرد مثال بذكر كتابه «من لغو الصيف إلى جدّ الشتاء» (1961). وهذا أحمد أمين (ت1954)، كتب في الإسلاميات كما كتب طه، ولكنه اشتهر أيضاً بمقالاته التي احتواها كتابه الحافل «فيض الخاطر». وشاء أن يكون أسلوبه، كما ذكر في مقدمة الأجزاء العشرة كـ«الغانية تستغني بطبيعة جمالها عن كثرة حليّها».
هذا الكاتب الساخر الأديب عمر، وليس كل كاتب أديباً، ينماز بعبارته المشغولة المنحوتة المولّدة، وكذلك كان شأن عمر فاخوري، الذي كان في دنياه متحفّظاً في كلامه، لا يكرّ به كراً، وإنما ينقّطه تنقيطاً، وتتخلّله سخرية دفينة وابتسامة تشعّ في جنبات هذا المحيّا الذي يكلّله بياض في أعلاه وينسدل تحته جبين مرتفع، وتغطّي العينين نظّارات طبية على شيء من السماكة، فكأنها الحاجب لعينيه الحاذقتين الحانيتين. وهذه الابتسامة التي كانت عنوان وجه عمر وسرّ طويته، تغنّى بها غير أديب من أصدقائه، فهذا مارون عبّود يقول في كتابه «جُدُد وقدماء» (1954): «من الخير أن نفي هذه الابتسامة الشاحبة حقّها من التصوير، فقد كانت تشعّ في العينين والجفون والأنف والفم، حتى تخالها تطلّ عليك من شرفات الحاجبين» (ص185). وكان مارون عبّود الذوّاقة، يرى في كتابة عمر أنها خارجة من يد صائغ صَنّاع: «قرأت بعد موته صفحة من إنشائه فكدت أنكرها، لو لم يثبت لي ذلك خطّه. تسمعون، ولا شك، بالعملية القيصرية، هكذا كان عمر يضع مواليده» (ص195). وهناك فكرة ختامية لهذه الصفحات المنعقدة حول أحد أدباء لبنان الكبار، وهي أن المقالة الأدبية العُمرية باتت في أيامنا في أقطار الوطن العربي شبه نادرة، تَرِد على أسلات قلة من الأدباء، وذلك لأننا نحيا عموماً زمن القصة والرواية، لا زمن الشعر والمقالة الأدبية ■