الخطّاط محمد فاروق الحداد... تجلّيات في حضرة الحرف

الخطّاط محمد فاروق الحداد... تجلّيات في حضرة الحرف

الخط ثمرات أقلام المبدعين على مر العصور... ساهم فيه أبناء العالم الإسلامي، فكان ترجمان الإبداع الفنّي، وفيضاً من عبقريات شتّى تصب في خدمة لغة القرآن الكريم... تلك اللغة المباركة التي نقلت «العربية» إلى آفاق إنسانيّة رحبة واسعة، وجعلت الحضارة تفيض بألق الإبداع، وتنهل منه لتغنيه وترقى به، وتنهج في الحضارة منهجاً أغنى وأسمى وأنبل.

من مدينة حمص السورية التي تحتضن رفات البطل الإسلامــــي الكبــــير خالــــد بن الوليد، ذاك الفارس الذي لم يُهزم في معركة قط، وعجزت الاستراتيجيات الحديثة أن تعطيه حقه في دراسة أساليب القتال وتكتيكات الحروب.
من تلك المدينة خرج الفنان والخطاط محمد فاروق الحداد الذي أخذ على عاتقه مبدأ التميّز والفوز، فما دخل مسابقة ولا ملتقى ولاحدثاً ولا محفلاً لفن الخط العربي إلا كان صاحب الامتياز وحاصداً لمعظم الجوائز في الحقول المتنوعة،  فكان الفارس المبدع في صولات القلم وترانيم القصب ووشاح الحرف المطرز بالجلال والجمال.
فالخط العربي آية في الجمال والروعة، إبداع في غير نهاية، ففي كل اللغات يكون الخط وسيلة لنقل المعاني، بينما الخط العربي وسيلة وغاية، حيث أخذ من الطبيعة نضارته ومن الهندسة دقته ومن العمارة هويته ومن العقيدة الإسلاميّة روحانيته ونورانيته.
تتعلق به الأنظار حيث تراه، بعد أن بلغ من الفن منتهاه، تقف أمامه العيون طويلاً وتتأمل أسراره تفصيلاً.
عمل جميل جليل، تستريح له النفوس والقلوب، زينة وزخرفة للجدران والأبواب، وحُسنٌ ومهابة للمنبر والمحراب.
الخطاط محمد فاروق الحداد الحمصي، سوري الأصل، حاصل على شهادة المعهد الطبي، تعلّم الخط على يد الخطاط عدنان الشيخ عثمان، وبدأ مسيرته في الاحتراف منذ الرابعة عشرة، وفاز بأول جائزة وهو في السابعة عشرة من عمره, ثم تتالت جوائزه حتى وصلت اليوم إلى ما يربو على خمس وعشرين جائزة، كانت آخرها جائزة المهرجان الدولي لفن الخط العربي في الجزائر في مايو عام 2009م، وأصبح عبر مسيرته الفنيّة الحافلة علماً من أعلام الخط العربي المعاصرين بامتلاكه حضوراً فاعلاً في المهرجانات الدولية للخط العربي، ويدفعه عشقه لهذا الفن الجميل إلى المثابرة على تدريسه وتثقيف الناس به عن طريق المساهمة في الورش الفنيّة المختلفة، وقد احتضنه مركز الشارقة لفن الخط العربي والزخرفة التابع لدائرة الثقـــــافة والإعـــلام بالشارقة، فكان منارةً تُحتذى وعَلماً قلَّ نظيره على وجه البسيطة.
يمتلك الخطّاط الحدّاد قدرة واسعة في رسم الحرف العربي بصيغة متقنة وجودة عالية وعملية ترادف وتواؤم وانسجام بكل طواعية وأُلفة.
كما أن لديه طاقة استيعابية هائلة في احترافيّة غير مسبوقة عبر توليفة قادرة على رسم آفاق واسعة لم تكن موجودة في حركات الخط الاعتيادية، وله بصمة خاصة في كل لوحة يعمل فيها ويفرغ في تجاويفها عبق فنّه المدهش وحركات يده المعجزة.
كما أن للحرف العربي هالة مقدّسة ويمثل قيمة رمزية للسان العربي ولخصوصيته الجمالية، فهو يختزل بدلالاته وصوره وإيحاءاته جوهر الثقافة الإسلامية العربية وحضورها البرّاق في الحضارة الإنسانيّة، كما تبدو العلاقة بين أدوات الخطاط محمد فاروق في كتابة اللوحة الفنية وسيرورة الحرف العربي أكثر من علاقة قائمة على التشكيل الفني للحرف، فهو يمتلك مخزوناً هائلاً لجميع جوانب الحرف العربي عبر توليفات مبدعة ومتناسقة مع صميميّة الحرف وجاذبيته ورونقه.
إن المتتبع لمسيرة هذا الخطاط العملاق يكتشف للوهلة الأولى تلك الحميمية الفائقة بينه وبين الحرف من خلال الإحساس الدقيق والترنيمة المدهشة في تراكيب الحروف وتداخلها عبر تجاويف منمقة وبوابات يستريح لها المشاهد في الدخول إلى عوالمها الروحانية المتشبعة بنور البهاء وعبق العظمة.
هذا الفنان يتعامل مع الحرف وكأنه كائن بشري، فيتجاوب مع الحرف ويتحاور معه في حركات اللوحة المختلفة والمتعددة من صعود وهبوط والتفاف وعناق عبر توليفات حديثة، مما يجعل الحرف ينبوعاً للبهاء وخزاناً للعطاء.
من هذه الحالات المتعددة نستنتج ما يكابده هذا الفنان من عناء ومشقة حتى يعطينا اللوحة وقد اكتملت صورتها البديعة، وتكاملت جوانبها، وتوزعت الكــتلة الفنية والتقنية على كل جغرافيتها بحبكة متقنة، واكتست بوشاح الصمت وسرمديّة الألق الباهر .