معن بن زائدة مثال الشجاعة والكرم

معن بن زائدة مثال الشجاعة والكرم

أبوالوليد‭ ‬معن‭ ‬بن‭ ‬زائدة‭... ‬كان‭ ‬جواداً‭ ‬شجاعاً‭ ‬جزل‭ ‬العطاء‭ ‬شاعراً‭. ‬كان‭ ‬في‭ ‬أيام‭ ‬بني‭ ‬أمية‭ ‬متنقلاً‭ ‬في‭ ‬الولايات،‭ ‬ومنقطعاً‭ ‬إلى‭ ‬يزيد‭ ‬بن‭ ‬عمر‭ ‬بن‭ ‬هبيرة‭ ‬الغزاري‭ ‬أمير‭ ‬العراق،‭ ‬فلما‭ ‬انتقلت‭ ‬الدولة‭ ‬إلى‭ ‬بني‭ ‬العباس‭ ‬وجرى‭ ‬بين‭ ‬أبي‭ ‬جعفر‭ ‬المنصور‭ ‬ويزيد‭ ‬بن‭ ‬عمر‭ ‬ما‭ ‬جرى‭ ‬من‭ ‬محاصرته‭ ‬بمدينة‭ ‬واسط،‭ ‬أبلى‭ ‬يومئذ‭ ‬معن‭ ‬مع‭ ‬يزيد‭ ‬بلاء‭ ‬حسناً،‭ ‬فلما‭ ‬قُتل‭ ‬يزيد‭ ‬خاف‭ ‬معن‭ ‬من‭ ‬المنصور‭ ‬فاستتر‭ ‬عنه‭ ‬مدة،‭ ‬فمن‭ ‬ذلك‭ ‬ما‭ ‬حكاه‭ ‬مروان‭ ‬بن‭ ‬أبي‭ ‬حفصة‭ ‬الشاعر‭ ‬قال‭: ‬أخبرني‭ ‬معن‭ ‬بن‭ ‬زائدة،‭ ‬وهو‭ ‬يومئذ‭ ‬متولي‭ ‬بلاد‭ ‬اليمن،‭ ‬أن‭ ‬المنصور‭ ‬جدّ‭ ‬في‭ ‬طلبي‭ ‬وجعل‭ ‬لمن‭ ‬يحملني‭ ‬إليه‭ ‬مالاً‭ ‬كثيراً،‭ ‬قال‭: ‬فاضطررت‭ ‬لشدة‭ ‬الطلب‭ ‬إلى‭ ‬أن‭ ‬أتعرض‭ ‬للشمس‭ ‬حتى‭ ‬لوّحت‭ ‬وجهي،‭ ‬وخففت‭ ‬عارضي‭ ‬ولبستُ‭ ‬جبة‭ ‬صوف،‭ ‬وركبت‭ ‬جملاً‭ ‬وخرجت‭ ‬متوجهاً‭ ‬إلى‭ ‬البادية‭ ‬لأقيم‭ ‬بها،‭ ‬ولما‭ ‬خرجت‭ ‬من‭ ‬أحد‭ ‬أبواب‭ ‬بغداد،‭ ‬وكان‭ ‬يدعى‭ ‬‮«‬باب‭ ‬حرب‮»‬،‭ ‬فتبعني‭ ‬رجل‭ ‬أسود‭ ‬متقلداً‭ ‬سيفاً،‭ ‬حتى‭ ‬إذا‭ ‬غبت‭ ‬عن‭ ‬الحرس،‭ ‬التفت‭ ‬فقبض‭ ‬على‭ ‬خطام‭ ‬الجمل‭ ‬فأناخه،‭ ‬وقبض‭ ‬على‭ ‬يدي،‭ ‬فقلت‭ ‬له‭: ‬ما‭ ‬بك؟‭ ‬قال‭: ‬أنت‭ ‬طلبة‭ ‬أمير‭ ‬المؤمنين‭. ‬فقلت‭ ‬له‭: ‬ومَن‭ ‬أنا‭ ‬حتى‭ ‬يطلبني‭ ‬أمير‭ ‬المؤمنين؟‭ ‬فقال‭: ‬أنت‭ ‬معن‭ ‬بن‭ ‬زائدة،‭ ‬فقلت‭: ‬يا‭ ‬أخي‭ ‬اتق‭ ‬الله،‭ ‬وأين‭ ‬أنا‭ ‬من‭ ‬معن‭ ‬بن‭ ‬زائدة‭?‬

فقال‭: ‬دع‭ ‬هذا،‭ ‬فوالله‭ ‬إني‭ ‬لأعرَف‭ ‬بك‭ ‬منك‭... ‬فلما‭ ‬رأيت‭ ‬منه‭ ‬الجد‭ ‬قلت‭ ‬له‭: ‬هذا‭ ‬جوهر‭ ‬قد‭ ‬حملته‭ ‬معي‭ ‬بأضعاف‭ ‬ما‭ ‬جعله‭ ‬المنصور‭ ‬لمن‭ ‬يجيء‭ ‬بي،‭ ‬فخذه‭ ‬ولا‭ ‬تكن‭ ‬سبباً‭ ‬في‭ ‬سفك‭ ‬دمي،‭ ‬قال‭: ‬هاته‭ ‬فأخرجته‭ ‬إليه‭. ‬فنظر‭ ‬فيه‭ ‬وتأمله‭ ‬ورازه‭ ‬في‭ ‬كفّ‭ ‬يده،‭ ‬قال‭: ‬صدقت‭ ‬في‭ ‬غلوِّ‭ ‬ثمنه‭... ‬ولست‭ ‬قابله‭ ‬حتى‭ ‬أسألك‭ ‬عن‭ ‬شيء،‭ ‬فإن‭ ‬صدقتني‭ ‬أطلقتك،‭ ‬فقلت‭ ‬له‭: ‬قل‭ ‬ما‭ ‬تشاء‭... ‬قال‭: ‬إن‭ ‬الناس‭ ‬وصفوك‭ ‬بالجود،‭ ‬فأخبرني‭: ‬هل‭ ‬وهبتَ‭ ‬مالك‭ ‬كله‭ ‬قط؟‭ ‬قلت‭: ‬لا،‭ ‬قال‭ ‬فنصفه؟‭ ‬قلت‭: ‬لا،‭ ‬قال‭: ‬فثلثه‭?‬‭ ‬قلت‭: ‬لا،‭ ‬حتى‭ ‬بلغ‭ ‬العُشر،‭ ‬فاستحييت‭ ‬وقلت‭: ‬أظن‭ ‬أني‭ ‬قد‭ ‬فعلتُ‭ ‬هذا،‭ ‬قال‭: ‬وما‭ ‬ذاك‭ ‬بعظيم‭.‬

أنا‭ ‬والله‭ ‬رجل‭ ‬رزقي‭ ‬من‭ ‬أبي‭ ‬جعفر‭ ‬المنصور‭ ‬كل‭ ‬شهر‭ ‬عشرون‭ ‬درهماً،‭ ‬وهذا‭ ‬الجوهر‭ ‬قيمته‭ ‬ألوف‭ ‬الدنانير،‭ ‬وقد‭ ‬وهبته‭ ‬لك،‭ ‬ووهبتك‭ ‬لنفسك‭ ‬ولجودك‭ ‬المأثور‭ ‬بين‭ ‬الناس،‭ ‬ولتعلم‭ ‬أن‭ ‬في‭ ‬هذه‭ ‬الدنيا‭ ‬من‭ ‬هو‭ ‬أجود‭ ‬منك،‭ ‬فلا‭ ‬تعجبك‭ ‬نفسك،‭ ‬ولتحقر‭ ‬بعد‭ ‬هذا‭ ‬كل‭ ‬جود‭ ‬فعلته‭ ‬ولا‭ ‬تتوقف‭ ‬عن‭ ‬مكرمة،‭ ‬ثم‭ ‬رمى‭ ‬العقد‭ ‬والجواهر‭ ‬في‭ ‬حجري‭ ‬وترك‭ ‬خطام‭ ‬الجمل‭ ‬وتركني‭ ‬لحريتي‭ ‬وانصرف،‭ ‬فقلت‭ ‬يا‭ ‬هذا،‭ ‬والله‭ ‬فضحتني،‭ ‬ولسفك‭ ‬دمي‭ ‬أهون‭ ‬عليّ‭ ‬مما‭ ‬فعلت،‭ ‬فخذ‭ ‬ما‭ ‬دفعته‭ ‬لك‭ ‬فإني‭ ‬في‭ ‬غنى‭ ‬عنه،‭ ‬فقال‭: ‬والله‭ ‬لا‭ ‬أخذته،‭ ‬ولا‭ ‬آخذ‭ ‬لمعروف‭ ‬ثمناً‭ ‬أبداً‭ ‬ومضى‭ ‬لسبيله،‭ ‬فوالله‭ ‬لقد‭ ‬طلبته‭ ‬بعد‭ ‬أن‭ ‬أمنت،‭ ‬وبذلت‭ ‬لمن‭ ‬يجيء‭ ‬به‭ ‬ما‭ ‬شاء‭ ‬فما‭ ‬عرفت‭ ‬له‭ ‬خبراً‭ ‬وكأنّ‭ ‬الأرض‭ ‬قد‭ ‬ابتلعته‭.‬

ولم‭ ‬يزل‭ ‬معن‭ ‬مستتراً‭ ‬حتى‭ ‬يوم‭ ‬هاشمية‭ ‬وهو‭ ‬يوم‭ ‬مشهور‭ ‬ثار‭ ‬فيه‭ ‬جماعة‭ ‬من‭ ‬أهل‭ ‬خراسان‭ ‬على‭ ‬المنصور‭ ‬فوثبوا‭ ‬عليه،‭ ‬وجرت‭ ‬مقتلة‭ ‬بينهم‭ ‬وبين‭ ‬أصحاب‭ ‬المنصور‭ ‬بالهاشمية،‭ ‬وهي‭ ‬مدينة‭ ‬بناها‭ ‬السفّاح‭ ‬بالقرب‭ ‬من‭ ‬الكوفة،‭ ‬جاء‭ ‬في‭ ‬كتاب‭ ‬‮«‬الهفوات‮»‬‭ ‬لغرس‭ ‬النعمة‭ ‬بن‭ ‬الصابى‭ ‬أنه‭ ‬لما‭ ‬فرغ‭ ‬السفاح‭ ‬من‭ ‬بناء‭ ‬الأنبار‭ ‬في‭ ‬سنة‭ ‬أربع‭ ‬وثلاثين‭ ‬ومائة،‭ ‬كان‭ ‬معن‭ ‬متوارياً‭ ‬بالقرب‭ ‬منهم،‭ ‬فخرج‭ ‬متنكراً‭ ‬معتماً‭ ‬ملثماً‭ ‬وتقدم‭ ‬إلى‭ ‬القوم‭ ‬وقاتل‭ ‬قدّام‭ ‬المنصور‭ ‬قتالاً‭ ‬أبان‭ ‬فيه‭ ‬عن‭ ‬نجدة‭ ‬وشهامة‭ ‬ففرّق‭ ‬المعتدين،‭ ‬وهم‭ ‬قوم‭ ‬من‭ ‬الراوندية،‭ ‬وكان‭ ‬المنصور‭ ‬راكباً‭ ‬فرسه‭ ‬ولجامها‭ ‬في‭ ‬يد‭ ‬الربيع‭ ‬حاجبه،‭ ‬فأتى‭ ‬معن‭ ‬وقال‭ ‬له‭: ‬تنحّ‭ ‬فأنا‭ ‬أحق‭ ‬بهذا‭ ‬اللجام‭ ‬في‭ ‬هذا‭ ‬الوقت،‭ ‬فقال‭ ‬المنصور‭: ‬صدق‭ ‬والله‭ ‬ادفع‭ ‬له‭ ‬اللجام،‭ ‬فسأله‭ ‬المنصور‭ ‬مَن‭ ‬أنت؟‭ ‬فقال‭: ‬أنا‭ ‬طلبتك‭ ‬يا‭ ‬أمير‭ ‬المؤمنين‭ ‬معن‭ ‬بن‭ ‬زائدة،‭ ‬فقال‭ ‬المنصور‭: ‬أمنتك‭ ‬الله‭ ‬على‭ ‬نفسك‭ ‬ومالك‭ ‬وأهلك‭ ‬ومثلك‭ ‬يصنع‭ ‬هذا،‭ ‬فقربه‭ ‬وأكرمه‭.‬

ثم‭ ‬دخل‭ ‬عليه‭ ‬ذات‭ ‬يوم‭ ‬فقال‭ ‬له‭ ‬الخليفة‭ ‬المنصور‭:‬

هيه‭ ‬يا‭ ‬معن،‭ ‬أتعطي‭ ‬مروان‭ ‬بن‭ ‬أبي‭ ‬حفصة‭ ‬مائة‭ ‬ألف‭ ‬درهم‭ ‬على‭ ‬قوله‭:‬

معن‭ ‬بن‭ ‬زائدة‭ ‬الذي‭ ‬زيدت‭ ‬به

شرفاً‭ ‬على‭ ‬شرف‭ ‬بنو‭ ‬شيبان

فقال‭ ‬معن‭: ‬كلا‭ ‬يا‭ ‬أمير‭ ‬المؤمنين،‭ ‬أنا‭ ‬أعطيته‭ ‬على‭ ‬قوله‭ ‬في‭ ‬القصيدة‭:‬

مازلت‭ ‬يوم‭ ‬الهاشمية‭ ‬معلناً

بالسيفِ‭ ‬دون‭ ‬خليفة‭ ‬الرحمنِ

فمنعت‭ ‬حوزتَه‭ ‬وكنتُ‭ ‬وقاءَه

من‭ ‬وقع‭ ‬كلّ‭ ‬مهنّد‭ ‬وسنان

قال‭ ‬المنصور‭: ‬أحسنت‭ ‬يا‭ ‬معن‭... ‬وقال‭ ‬له‭: ‬ما‭ ‬أكثر‭ ‬وقوع‭ ‬الناس‭ ‬في‭ ‬قومك‭! ‬فقال‭: ‬يا‭ ‬أمير‭ ‬المؤمنين‭:‬

إن‭ ‬العرّافين‭ ‬تلقاها‭ ‬محسّدة

ولا‭ ‬ترى‭ ‬للئام‭ ‬الناس‭ ‬حسّادا

‭***‬

قال‭ ‬مروان‭ ‬بن‭ ‬أبي‭ ‬حفصة‭ ‬في‭ ‬مدح‭ ‬معن‭ ‬بن‭ ‬زائدة‭:‬

هم‭  ‬القوم‭ ‬إن‭ ‬قالوا‭ ‬أصابوا،‭ ‬وإن‭ ‬دُعوا

أجابوا،‭ ‬وإن‭ ‬أعطوا‭ ‬أطابوا‭ ‬وأجزلوا‭ ‬

وما‭ ‬يستطيع‭ ‬الفاعلون‭ ‬فعالهم

وإن‭ ‬أحسنوا‭ ‬في‭ ‬النائبات‭ ‬وأجملوا

بهاليل‭ ‬في‭ ‬الإسلام‭ ‬سادوا‭ ‬ولم‭ ‬يكن

كأولهم‭ ‬في‭ ‬الجاهلية‭ ‬أول

ولما‭ ‬مات‭ ‬معن‭ ‬بن‭ ‬زائدة‭ ‬رثاه‭ ‬كثير‭ ‬من‭ ‬الشعراء،‭ ‬منهم‭ ‬مروان‭ ‬بن‭ ‬أبي‭ ‬حفصة‭ ‬بمرثية‭ ‬بليغة‭ ‬منها‭:‬

مضى‭ ‬لسبيله‭ ‬معنٌ‭ ‬وأبقى

مكارم‭ ‬لن‭ ‬تبيد‭ ‬ولن‭ ‬تُنالا

كأن‭ ‬الشمس‭ ‬يوم‭ ‬أُصيب‭ ‬معن

من‭ ‬الإظلام‭ ‬مُلبَّسةٌ‭ ‬جلالا

هو‭ ‬الجبل‭ ‬الذي‭ ‬كانت‭ ‬نزار

تهد‭ ‬من‭ ‬العدوّ‭ ‬به‭ ‬الجبالا

وأظلمت‭ ‬العراق‭ ‬وأورثتها

مصيبته‭ ‬المجلّلة‭ ‬اختلالا

وظل‭ ‬الشام‭ ‬يرجف‭ ‬جانباه

لركن‭ ‬العزّ‭ ‬حين‭ ‬وهى‭ ‬فمالا

وكادت‭ ‬من‭ ‬تهامة‭ ‬كل‭ ‬أرض

ومن‭ ‬نجد‭ ‬تزول‭ ‬غداة‭ ‬زالا

أصاب‭ ‬الموتُ‭ ‬يوم‭ ‬أصاب‭ ‬معناً

من‭ ‬الأحياءِ‭ ‬أكرمهم‭ ‬فعالا

مضى‭ ‬لسبيلِه‭ ‬من‭ ‬كنت‭ ‬ترجو

به‭ ‬عثرات‭ ‬دهرك‭ ‬أن‭ ‬تُقالا

وأيام‭ ‬المنون‭ ‬لها‭ ‬صروف

تقلب‭ ‬بالفتى‭ ‬حالاً‭ ‬فحالا

وألقى‭ ‬رحله‭ ‬أسفاً‭ ‬وآلى

يميناً‭ ‬لا‭ ‬يشد‭ ‬له‭ ‬حبالا

فلستُ‭ ‬بمالك‭ ‬عبرات‭ ‬عينٍ

أبت‭ ‬بدموعها‭ ‬إلا‭ ‬انهمالا

قال‭ ‬الفضل‭ ‬بن‭ ‬الربيع‭: ‬رأيت‭ ‬مروان‭ ‬بن‭ ‬أبي‭ ‬حفصة‭ ‬وقد‭ ‬دخل‭ ‬على‭ ‬الخليفة‭ ‬المهدي‭ ‬بعد‭ ‬موت‭ ‬معن‭ ‬بن‭ ‬زائدة‭ ‬في‭ ‬جماعة‭ ‬من‭ ‬الشعراء‭ ‬فأنشده‭ ‬مديحاً،‭ ‬فقال‭ ‬له‭: ‬مَن‭ ‬أنت؟‭ ‬فقال‭: ‬أنا‭ ‬شاعرك‭ ‬مروان‭ ‬بن‭ ‬أبي‭ ‬حفصة،‭ ‬فقال‭ ‬له‭ ‬المهدي‭: ‬ألست‭ ‬القائل‭:‬

وقلنا‭ ‬أين‭ ‬نرحل‭ ‬بعد‭ ‬معن

وقد‭ ‬ذهب‭ ‬النوال‭ ‬فلا‭ ‬نوالا

وقد‭ ‬جئتَ‭ ‬تطلب‭ ‬نوالاً‭ ‬وقد‭ ‬ذهب‭ ‬النوال‭.‬

لا‭ ‬شيء‭ ‬عندنا‭ ‬لك،‭ ‬وأمر‭ ‬بأن‭ ‬يُجر‭ ‬من‭ ‬رجله‭ ‬ليقذف‭ ‬به‭ ‬في‭ ‬الشارع‭ ‬فجرّوه‭ ‬من‭ ‬رجله‭ ‬حتى‭ ‬أخرجوه‭.‬

وللخليفة‭ ‬يوم‭ ‬في‭ ‬العام‭ ‬للشعراء،‭ ‬ولما‭ ‬كان‭ ‬العام‭ ‬الآخر‭ ‬قدم‭ ‬مع‭ ‬الشعراء،‭ ‬ولما‭ ‬مثل‭ ‬أمام‭ ‬المهدي‭ ‬وهو‭ ‬الخليفة‭ ‬العباسي‭ ‬الثالث،‭ ‬قال‭ ‬قصيدته‭:‬

طرقتك‭ ‬زائرةٌ‭ ‬فحيّ‭ ‬خيالها

بيضاء‭ ‬تخلطُ‭ ‬بالحياءِ‭ ‬دلالها

قادت‭ ‬فؤادك‭ ‬فاستقاد‭ ‬ومثلها

قاد‭ ‬القلوب‭ ‬إلى‭ ‬الصبا‭ ‬فأمالها

فأنصتَ‭ ‬المهدي‭ ‬حتى‭ ‬بلغ‭ ‬إلى‭ ‬قوله‭:‬

هل‭ ‬تطمسون‭ ‬من‭ ‬السماء‭ ‬نجومها

بأكفكم‭ ‬أو‭ ‬تسترون‭ ‬هلالها؟

وكان‭ ‬المهدي‭ ‬يخبّط‭ ‬برجليه‭ ‬الأرض‭ ‬ويزحف‭ ‬كلّما‭ ‬سمع‭ ‬شيئاً‭ ‬حتى‭ ‬جاوز‭ ‬البساط‭ ‬طرباً‭ ‬لما‭ ‬سمع‭...‬

وحكى‭ ‬أبو‭ ‬الفرج‭ ‬الأصفهاني‭ ‬في‭ ‬كتابه‭ ‬الأغاني‭ ‬عن‭ ‬محمد‭ ‬البيذق‭ ‬النديم‭ ‬أنه‭ ‬دخل‭ ‬على‭ ‬هارون‭ ‬الرشيد،‭ ‬فقال‭ ‬له‭: ‬أنشدني‭ ‬مرثية‭ ‬مروان‭ ‬بن‭ ‬أبي‭ ‬حفصة‭ ‬في‭ ‬معن‭ ‬بن‭ ‬زائدة‭ ‬فأنشده‭ ‬بعض‭ ‬هذه‭ ‬القصيدة،‭ ‬فبكى‭ ‬الرشيد‭ ‬متأثراً‭ ‬ومتعظاً‭.‬

والمراثي‭ ‬التي‭ ‬انهالت‭ ‬بعد‭ ‬موت‭ ‬معن‭ ‬بن‭ ‬زائدة‭ ‬كثيرة،‭ ‬منها‭ ‬قصيدة‭ ‬الحسين‭ ‬بن‭ ‬حطير‭ ‬بن‭ ‬الأشيم‭ ‬وهي‭ ‬منتقاة‭ ‬في‭ ‬‮«‬الحماسة‮»‬‭:‬

أَلماً‭ ‬على‭ ‬معن‭ ‬وقولاً‭ ‬لقبره

سقتك‭ ‬الغوادي‭ ‬مربعاً‭ ‬ثم‭ ‬مربعا

فيا‭ ‬قبر‭ ‬معنٍ‭ ‬كيف‭ ‬واريتَ‭ ‬جوده

وقد‭ ‬كان‭ ‬منه‭ ‬البر‭ ‬والبحر‭ ‬مُتْرعا

ويا‭ ‬قبر‭ ‬معن‭ ‬أنت‭ ‬أول‭ ‬حفرةٍ

من‭ ‬الأرض‭ ‬خُطت‭ ‬للمكارم‭ ‬مضجعا

بلى‭ ‬قد‭ ‬وسعت‭ ‬الجودَ،‭ ‬والجودُ‭ ‬ميت‭ ‬

ولو‭ ‬كان‭ ‬حيّا‭ ‬ضقتَ‭ ‬حتى‭ ‬تصدَّعا

فتى‭ ‬عيش‭ ‬في‭ ‬معروفه‭ ‬بعد‭ ‬موته

كما‭ ‬كان‭ ‬بعد‭ ‬السيل‭ ‬مجراه‭ ‬مرتعا

ولما‭ ‬مضى‭ ‬معن‭ ‬مضى‭ ‬الجود‭ ‬وانقضى

وأصبح‭ ‬عرنين‭ ‬المكارم‭ ‬أجدعا‭...‬

وجرت‭ ‬مع‭ ‬معن‭ ‬بن‭ ‬زائدة‭ ‬حوادث‭ ‬تُروى‭ ‬منها‭ ‬حكاية‭ ‬الأعرابي‭ ‬الذي‭ ‬خاطبه‭ ‬برعونة‭ ‬وجفوة،‭ ‬فقال‭:‬

أتذكر‭ ‬إذ‭ ‬لحافك‭ ‬جلد‭ ‬شاة

وإذ‭ ‬نعلاك‭ ‬من‭ ‬جلد‭ ‬البعير

قال‭ ‬له‭: ‬نعم‭ ‬أتذكر‭ ‬ولله‭ ‬الحمد‭.‬

فقال‭: ‬فجُد‭ ‬لي‭ ‬يا‭ ‬ابن‭ ‬ناقصة‭ ‬بشيء‭ ‬فإني‭ ‬قد‭ ‬عزمتُ‭ ‬على‭ ‬الرحيل‭.‬

فأظهر‭ ‬معن‭ ‬حلماً‭ ‬وسماحة‭.‬

فقال‭ ‬الأعرابي‭:‬

سبحان‭ ‬الذي‭ ‬أعطاك‭ ‬مُلكاً

وعلّمك‭ ‬الجلوس‭ ‬على‭ ‬السريرِ

فقال‭ ‬معن‭ ‬سبحان‭ ‬الله‭ ‬وبحمده‭.‬

فقال‭ ‬الأعرابي‭:‬

فلست‭ ‬مسلّماً‭ ‬إن‭ ‬عشت‭ ‬دهراً

على‭ ‬معن‭ ‬بتسليم‭ ‬الأمير

قال‭ ‬معن‭: ‬يا‭ ‬أخي‭ ‬السلام‭ ‬سُنّة‭ ‬وهذا‭ ‬شأنك‭.‬

فقال‭ ‬الأعرابي‭:‬

سأرحل‭ ‬عن‭ ‬بلادٍ‭ ‬أنت‭ ‬فيها

ولو‭ ‬جار‭ ‬الزّمان‭ ‬على‭ ‬الفقير

قال‭ ‬معن‭: ‬إن‭ ‬جاورتنا‭ ‬فمرحباً‭ ‬بك‭... ‬وإن‭ ‬رحلت‭ ‬فمصحوب‭ ‬بالسلامة

فقال‭ ‬الأعرابي‭ ‬معيداً‭ ‬قوله‭ ‬السابق

فجُد‭ ‬لي‭ ‬يا‭ ‬ابن‭ ‬ناقصة‭ ‬بشيءٍ

فإني‭ ‬قد‭ ‬عزمتُ‭ ‬على‭ ‬الرحيلِ

فقال‭ ‬معن‭: ‬أعطوه‭ ‬ألف‭ ‬دينار‭ ‬يستعين‭ ‬بها‭ ‬على‭ ‬سفره‭...‬

‭ ‬فأخذها،‭ ‬وقال‭:‬

قليلٌ‭ ‬ما‭ ‬أتيت‭ ‬به‭ ‬وإنّي

لأطمعُ‭ ‬منك‭ ‬بالمالِ‭ ‬الكثير

فقال‭ ‬معن‭: ‬أعطوه‭ ‬ألفاً‭ ‬أخرى،‭ ‬فقال‭ ‬الأعرابي‭:‬

سألتُ‭ ‬اللهَ‭ ‬أن‭ ‬يُبقيكَ‭ ‬ذُخراً

فما‭ ‬لك‭ ‬في‭ ‬البرية‭ ‬من‭ ‬نظيرِ

فأمر‭ ‬له‭ ‬بألف‭ ‬دينار،‭ ‬ثم‭ ‬قال‭: ‬يا‭ ‬أمير‭ ‬ما‭ ‬جئتُ‭ ‬إلاّ‭ ‬مختبراً‭ ‬حلمكَ‭ ‬لما‭ ‬بلغني‭ ‬عنك،‭ ‬فقد‭ ‬جمع‭ ‬الله‭ ‬فيك‭ ‬من‭ ‬الحلمِ‭ ‬ما‭ ‬لو‭ ‬قسم‭ ‬على‭ ‬أهل‭ ‬الأرض‭ ‬لكفاهم‭.‬

‭ ‬فقال‭ ‬معن‭: ‬يا‭ ‬غلام‭ ‬كم‭ ‬أعطيته‭ ‬على‭ ‬نظمه؟‭ ‬قال‭: ‬ثلاثة‭ ‬آلاف‭ ‬دينار،‭ ‬فقال‭: ‬أعطه‭ ‬على‭ ‬نثره‭ ‬مثلها‭.‬

‭(‬هذه‭ ‬الحكاية‭ ‬وردت‭ ‬في‭ ‬كتاب‭: ‬وفيات‭ ‬الأعيان‭ ‬لابن‭ ‬خلكان،‭ ‬المجلد‭ ‬السادس‭ ‬تحت‭ ‬رقم‭ ‬732‭ ‬وكتاب‭: ‬مواقف‭ ‬في‭ ‬الحياة‭ ‬ج2‭/‬ص‭ ‬255‭ ‬عبدالله‭ ‬خلف‭) ‬