معن بن زائدة مثال الشجاعة والكرم
أبوالوليد معن بن زائدة... كان جواداً شجاعاً جزل العطاء شاعراً. كان في أيام بني أمية متنقلاً في الولايات، ومنقطعاً إلى يزيد بن عمر بن هبيرة الغزاري أمير العراق، فلما انتقلت الدولة إلى بني العباس وجرى بين أبي جعفر المنصور ويزيد بن عمر ما جرى من محاصرته بمدينة واسط، أبلى يومئذ معن مع يزيد بلاء حسناً، فلما قُتل يزيد خاف معن من المنصور فاستتر عنه مدة، فمن ذلك ما حكاه مروان بن أبي حفصة الشاعر قال: أخبرني معن بن زائدة، وهو يومئذ متولي بلاد اليمن، أن المنصور جدّ في طلبي وجعل لمن يحملني إليه مالاً كثيراً، قال: فاضطررت لشدة الطلب إلى أن أتعرض للشمس حتى لوّحت وجهي، وخففت عارضي ولبستُ جبة صوف، وركبت جملاً وخرجت متوجهاً إلى البادية لأقيم بها، ولما خرجت من أحد أبواب بغداد، وكان يدعى «باب حرب»، فتبعني رجل أسود متقلداً سيفاً، حتى إذا غبت عن الحرس، التفت فقبض على خطام الجمل فأناخه، وقبض على يدي، فقلت له: ما بك؟ قال: أنت طلبة أمير المؤمنين. فقلت له: ومَن أنا حتى يطلبني أمير المؤمنين؟ فقال: أنت معن بن زائدة، فقلت: يا أخي اتق الله، وأين أنا من معن بن زائدة?
فقال: دع هذا، فوالله إني لأعرَف بك منك... فلما رأيت منه الجد قلت له: هذا جوهر قد حملته معي بأضعاف ما جعله المنصور لمن يجيء بي، فخذه ولا تكن سبباً في سفك دمي، قال: هاته فأخرجته إليه. فنظر فيه وتأمله ورازه في كفّ يده، قال: صدقت في غلوِّ ثمنه... ولست قابله حتى أسألك عن شيء، فإن صدقتني أطلقتك، فقلت له: قل ما تشاء... قال: إن الناس وصفوك بالجود، فأخبرني: هل وهبتَ مالك كله قط؟ قلت: لا، قال فنصفه؟ قلت: لا، قال: فثلثه? قلت: لا، حتى بلغ العُشر، فاستحييت وقلت: أظن أني قد فعلتُ هذا، قال: وما ذاك بعظيم.
أنا والله رجل رزقي من أبي جعفر المنصور كل شهر عشرون درهماً، وهذا الجوهر قيمته ألوف الدنانير، وقد وهبته لك، ووهبتك لنفسك ولجودك المأثور بين الناس، ولتعلم أن في هذه الدنيا من هو أجود منك، فلا تعجبك نفسك، ولتحقر بعد هذا كل جود فعلته ولا تتوقف عن مكرمة، ثم رمى العقد والجواهر في حجري وترك خطام الجمل وتركني لحريتي وانصرف، فقلت يا هذا، والله فضحتني، ولسفك دمي أهون عليّ مما فعلت، فخذ ما دفعته لك فإني في غنى عنه، فقال: والله لا أخذته، ولا آخذ لمعروف ثمناً أبداً ومضى لسبيله، فوالله لقد طلبته بعد أن أمنت، وبذلت لمن يجيء به ما شاء فما عرفت له خبراً وكأنّ الأرض قد ابتلعته.
ولم يزل معن مستتراً حتى يوم هاشمية وهو يوم مشهور ثار فيه جماعة من أهل خراسان على المنصور فوثبوا عليه، وجرت مقتلة بينهم وبين أصحاب المنصور بالهاشمية، وهي مدينة بناها السفّاح بالقرب من الكوفة، جاء في كتاب «الهفوات» لغرس النعمة بن الصابى أنه لما فرغ السفاح من بناء الأنبار في سنة أربع وثلاثين ومائة، كان معن متوارياً بالقرب منهم، فخرج متنكراً معتماً ملثماً وتقدم إلى القوم وقاتل قدّام المنصور قتالاً أبان فيه عن نجدة وشهامة ففرّق المعتدين، وهم قوم من الراوندية، وكان المنصور راكباً فرسه ولجامها في يد الربيع حاجبه، فأتى معن وقال له: تنحّ فأنا أحق بهذا اللجام في هذا الوقت، فقال المنصور: صدق والله ادفع له اللجام، فسأله المنصور مَن أنت؟ فقال: أنا طلبتك يا أمير المؤمنين معن بن زائدة، فقال المنصور: أمنتك الله على نفسك ومالك وأهلك ومثلك يصنع هذا، فقربه وأكرمه.
ثم دخل عليه ذات يوم فقال له الخليفة المنصور:
هيه يا معن، أتعطي مروان بن أبي حفصة مائة ألف درهم على قوله:
معن بن زائدة الذي زيدت به
شرفاً على شرف بنو شيبان
فقال معن: كلا يا أمير المؤمنين، أنا أعطيته على قوله في القصيدة:
مازلت يوم الهاشمية معلناً
بالسيفِ دون خليفة الرحمنِ
فمنعت حوزتَه وكنتُ وقاءَه
من وقع كلّ مهنّد وسنان
قال المنصور: أحسنت يا معن... وقال له: ما أكثر وقوع الناس في قومك! فقال: يا أمير المؤمنين:
إن العرّافين تلقاها محسّدة
ولا ترى للئام الناس حسّادا
***
قال مروان بن أبي حفصة في مدح معن بن زائدة:
هم القوم إن قالوا أصابوا، وإن دُعوا
أجابوا، وإن أعطوا أطابوا وأجزلوا
وما يستطيع الفاعلون فعالهم
وإن أحسنوا في النائبات وأجملوا
بهاليل في الإسلام سادوا ولم يكن
كأولهم في الجاهلية أول
ولما مات معن بن زائدة رثاه كثير من الشعراء، منهم مروان بن أبي حفصة بمرثية بليغة منها:
مضى لسبيله معنٌ وأبقى
مكارم لن تبيد ولن تُنالا
كأن الشمس يوم أُصيب معن
من الإظلام مُلبَّسةٌ جلالا
هو الجبل الذي كانت نزار
تهد من العدوّ به الجبالا
وأظلمت العراق وأورثتها
مصيبته المجلّلة اختلالا
وظل الشام يرجف جانباه
لركن العزّ حين وهى فمالا
وكادت من تهامة كل أرض
ومن نجد تزول غداة زالا
أصاب الموتُ يوم أصاب معناً
من الأحياءِ أكرمهم فعالا
مضى لسبيلِه من كنت ترجو
به عثرات دهرك أن تُقالا
وأيام المنون لها صروف
تقلب بالفتى حالاً فحالا
وألقى رحله أسفاً وآلى
يميناً لا يشد له حبالا
فلستُ بمالك عبرات عينٍ
أبت بدموعها إلا انهمالا
قال الفضل بن الربيع: رأيت مروان بن أبي حفصة وقد دخل على الخليفة المهدي بعد موت معن بن زائدة في جماعة من الشعراء فأنشده مديحاً، فقال له: مَن أنت؟ فقال: أنا شاعرك مروان بن أبي حفصة، فقال له المهدي: ألست القائل:
وقلنا أين نرحل بعد معن
وقد ذهب النوال فلا نوالا
وقد جئتَ تطلب نوالاً وقد ذهب النوال.
لا شيء عندنا لك، وأمر بأن يُجر من رجله ليقذف به في الشارع فجرّوه من رجله حتى أخرجوه.
وللخليفة يوم في العام للشعراء، ولما كان العام الآخر قدم مع الشعراء، ولما مثل أمام المهدي وهو الخليفة العباسي الثالث، قال قصيدته:
طرقتك زائرةٌ فحيّ خيالها
بيضاء تخلطُ بالحياءِ دلالها
قادت فؤادك فاستقاد ومثلها
قاد القلوب إلى الصبا فأمالها
فأنصتَ المهدي حتى بلغ إلى قوله:
هل تطمسون من السماء نجومها
بأكفكم أو تسترون هلالها؟
وكان المهدي يخبّط برجليه الأرض ويزحف كلّما سمع شيئاً حتى جاوز البساط طرباً لما سمع...
وحكى أبو الفرج الأصفهاني في كتابه الأغاني عن محمد البيذق النديم أنه دخل على هارون الرشيد، فقال له: أنشدني مرثية مروان بن أبي حفصة في معن بن زائدة فأنشده بعض هذه القصيدة، فبكى الرشيد متأثراً ومتعظاً.
والمراثي التي انهالت بعد موت معن بن زائدة كثيرة، منها قصيدة الحسين بن حطير بن الأشيم وهي منتقاة في «الحماسة»:
أَلماً على معن وقولاً لقبره
سقتك الغوادي مربعاً ثم مربعا
فيا قبر معنٍ كيف واريتَ جوده
وقد كان منه البر والبحر مُتْرعا
ويا قبر معن أنت أول حفرةٍ
من الأرض خُطت للمكارم مضجعا
بلى قد وسعت الجودَ، والجودُ ميت
ولو كان حيّا ضقتَ حتى تصدَّعا
فتى عيش في معروفه بعد موته
كما كان بعد السيل مجراه مرتعا
ولما مضى معن مضى الجود وانقضى
وأصبح عرنين المكارم أجدعا...
وجرت مع معن بن زائدة حوادث تُروى منها حكاية الأعرابي الذي خاطبه برعونة وجفوة، فقال:
أتذكر إذ لحافك جلد شاة
وإذ نعلاك من جلد البعير
قال له: نعم أتذكر ولله الحمد.
فقال: فجُد لي يا ابن ناقصة بشيء فإني قد عزمتُ على الرحيل.
فأظهر معن حلماً وسماحة.
فقال الأعرابي:
سبحان الذي أعطاك مُلكاً
وعلّمك الجلوس على السريرِ
فقال معن سبحان الله وبحمده.
فقال الأعرابي:
فلست مسلّماً إن عشت دهراً
على معن بتسليم الأمير
قال معن: يا أخي السلام سُنّة وهذا شأنك.
فقال الأعرابي:
سأرحل عن بلادٍ أنت فيها
ولو جار الزّمان على الفقير
قال معن: إن جاورتنا فمرحباً بك... وإن رحلت فمصحوب بالسلامة
فقال الأعرابي معيداً قوله السابق
فجُد لي يا ابن ناقصة بشيءٍ
فإني قد عزمتُ على الرحيلِ
فقال معن: أعطوه ألف دينار يستعين بها على سفره...
فأخذها، وقال:
قليلٌ ما أتيت به وإنّي
لأطمعُ منك بالمالِ الكثير
فقال معن: أعطوه ألفاً أخرى، فقال الأعرابي:
سألتُ اللهَ أن يُبقيكَ ذُخراً
فما لك في البرية من نظيرِ
فأمر له بألف دينار، ثم قال: يا أمير ما جئتُ إلاّ مختبراً حلمكَ لما بلغني عنك، فقد جمع الله فيك من الحلمِ ما لو قسم على أهل الأرض لكفاهم.
فقال معن: يا غلام كم أعطيته على نظمه؟ قال: ثلاثة آلاف دينار، فقال: أعطه على نثره مثلها.
(هذه الحكاية وردت في كتاب: وفيات الأعيان لابن خلكان، المجلد السادس تحت رقم 732 وكتاب: مواقف في الحياة ج2/ص 255 عبدالله خلف) ■