شعر الأكباد المقروحة

شعر الأكباد المقروحة

  ‬تمرُّ‭ ‬أوقاتٌ‭ ‬على‭ ‬الشاعر‭ ‬لا‭ ‬ينظم‭ ‬فيها‭ ‬القريض‭ ‬من‭ ‬خلال‭ ‬لسانه‭ ‬أو‭ ‬بنانه‭,‬‭ ‬بل‭ ‬يقطر‭ ‬به‭ ‬قلبه‭,‬‭ ‬وينزف‭ ‬منه‭ ‬كبده؛‭ ‬لِما‭ ‬تحمله‭ ‬الحروف‭ ‬من‭ ‬أسىً‭ ‬وحسرةٍ‭ ‬وتفجُّعٍ‭ ‬ونُّدبة؛‭ ‬ولهذا‭ ‬تجد‭ ‬هذا‭ ‬النوع‭ ‬من‭ ‬الشعر‭ ‬من‭ ‬أصدقِه‭ ‬قولاً‭,‬‭ ‬وأخلِصه‭ ‬غرضًا‭,‬‭ ‬وأشده‭ ‬تأثيرًا‭ ‬ووقعًا‭ ‬على‭ ‬القلوب‭.‬

‭ ‬ما‭ ‬أكثر‭ ‬القصائد‭ ‬التي‭ ‬كتبها‭ ‬أرباب‭ ‬الشّعر‭ ‬بمدادٍ‭ ‬من‭ ‬الدماء‭ ‬لا‭ ‬يزال‭ ‬عبقه‭ ‬أبد‭ ‬الدهر‭, ‬لا‭ ‬يبيد‭ ‬على‭ ‬مر‭ ‬الأزمنة‭ ‬والعصور‭, ‬وهذا‭ ‬هو‭ ‬المتعارف‭ ‬عليه‭ ‬عند‭ ‬النقاد‭ ‬بشعر‭ ‬الرّثاء،‭ ‬وهو‭ ‬من‭ ‬أجود‭ ‬الشعر‭ ‬وأصدقه‭.‬

  ‬قال‭ ‬الباهلي‭: ‬قيل‭ ‬لأعرابي‭: ‬ما‭ ‬بال‭ ‬المراثي‭ ‬أجود‭ ‬أشعاركم؟‭ ‬قال‭: ‬الأنا‭ ‬نقول‭ ‬وأكبادنا‭ ‬تحترقب‭, ‬بل‭ ‬كانت‭ ‬رواية‭ ‬مثل‭ ‬هذه‭ ‬الأشعار‭ ‬النازفة‭ ‬سببًا‭ ‬للمجد‭ ‬والفخار‭, ‬ودخوله‭ ‬عالَم‭ ‬الثقات‭ ‬الكبار؛‭ ‬قال‭ ‬أبوالحسن‭: ‬كانت‭ ‬بنو‭ ‬أميّة‭ ‬لا‭ ‬يقبلون‭ ‬الراوية‭ ‬إلا‭ ‬أن‭ ‬يكون‭ ‬راوية‭ ‬للمراثي‭. ‬قيل‭: ‬ولم‭ ‬ذاك؟‭ ‬قال‭: ‬الأنها‭ ‬تدل‭ ‬على‭ ‬مكارم‭ ‬الأخلاقب،‭ ‬فهذا‭ ‬النوع‭ ‬من‭ ‬الشعر‭ ‬ــ‭ ‬في‭ ‬الغالب‭ ‬ــ‭ ‬يبتعد‭ ‬عن‭ ‬الإسفاف‭ ‬والابتذال‭ ‬والتزلُّف‭ ‬والنفاق‭, ‬فالممدوح‭ ‬أو‭ ‬المرثي‭ ‬قد‭ ‬فارق‭ ‬الدنيا؛‭ ‬فلا‭ ‬ينتظر‭ ‬منه‭ ‬جزاءً‭ ‬ولا‭ ‬شكوراً‭.‬

  ‬وكان‭ ‬هذا‭ ‬الصدق‭ ‬من‭ ‬أسباب‭ ‬ثناء‭ ‬أمير‭ ‬المؤمنين‭ ‬عمر‭ ‬بن‭ ‬الخطاب‭ ‬‭ ‬حكيم‭ ‬الجاهلية‭ ‬زهير‭ ‬بن‭ ‬أبي‭ ‬سُلمى‭ ‬من‭ ‬أنه‭ ‬لا‭ ‬يمدح‭ ‬الرجل‭ ‬إلا‭ ‬بما‭ ‬فيه‭.‬

  ‬فيبقى‭ ‬دهر‭ ‬الراثي‭ ‬كُلُّه‭ ‬ليلٌ‭ ‬يبث‭ ‬فيه‭ ‬لواعجه‭, ‬ويشكو‭ ‬بثه‭ ‬وحزنه‭ ‬ونوائبه‭, ‬حتى‭ ‬ليكاد‭ ‬يشعر‭ ‬بكَبِده‭ ‬تغلي‭ ‬كغلي‭ ‬الماء‭ ‬في‭ ‬المرجل‭, ‬فيتمنى‭ ‬أن‭ ‬يُبدّل‭ ‬هذه‭ ‬الكبد‭ ‬التي‭ ‬أصابها‭ ‬الكَمَد‭ ‬والكَبَد‭ ‬والكَدَحُ‭ ‬والقُروح‭, ‬بكَبِدٍ‭ ‬ما‭ ‬عطبت‭ ‬بَعْدُ‭, ‬ولكن‭ ‬أَنَّى‭ ‬له‭ ‬ذلك‭! ‬ومن‭ ‬هؤلاء‭: ‬الشاعر‭ ‬ابن‭ ‬معصوم‭ ‬المدني‭ (‬ت‭ ‬1119هـ‭) ‬الذي‭ ‬صَدَح‭ ‬بهذه‭ ‬الحقيقة‭ ‬دون‭ ‬التفاتٍ‭ ‬أو‭ ‬مواربة‭, ‬فقال‭ ‬في‭ ‬يأسٍ‭ ‬وقنوط‭: 

ولي‭ ‬كبدٌ‭ ‬مَقْروحةٌ‭ ‬مَن‭ ‬يَبيعُني‭ ‬

بها‭ ‬كَبِدًا‭ ‬ليستْ‭ ‬بذاتِ‭ ‬قُروحِ

لم‭ ‬يتمهل‭ ‬الشاعر‭ ‬قليلًا‭ ‬لينتظر‭ ‬الإجابة‭ ‬والرد‭ ‬على‭ ‬الطلب‭ ‬فهو‭ ‬يعرف‭ ‬الحقيقة‭, ‬لا‭ ‬ريب؛‭ ‬فالعرض‭ ‬ليس‭ ‬مُغريًا‭ ‬بل‭ ‬مُنفرا‭ ‬مُبعداً،‭ ‬ولذلك‭ ‬أردف‭ ‬قائلا‭:‬

أبى‭ ‬النَّاسُ‭ ‬وَيْبَ‭ ‬الناسِ‭ ‬لا‭ ‬يشْترونها‭ ‬

ومَن‭ ‬يشْتري‭ ‬ذا‭ ‬عِلّةٍ‭ ‬بصحيحِ

ومنه‭ ‬ما‭ ‬جاء‭ ‬عند‭ ‬ديك‭ ‬الجن‭ (‬161‭ - ‬236هـ‭)  ‬يرثي‭ ‬نفسه‭ ‬وكبده‭ ‬الموجوعة‭: 

ولي‭ ‬كبدٌ‭ ‬حرَّى‭ ‬ونفس‭ ‬كأنها‭ 

‭ ‬بِكَفَّيْ‭ ‬عدوٍ‭ ‬ما‭ ‬يريد‭ ‬سراحها

يصف‭ ‬الشاعر‭ ‬حال‭ ‬هذه‭ ‬الكبد‭ ‬التي‭ ‬يحملها‭ ‬بين‭ ‬جوانحه‭, ‬ونفسه‭ ‬المحتبسة‭ ‬كالأسير‭ ‬بيد‭ ‬الخصم‭ ‬يمتنع‭ ‬عن‭ ‬المن‭ ‬أو‭ ‬الفداء‭.‬

‭ ‬وأشدُّ‭ ‬ما‭ ‬يكون‭ ‬البكاء‭ ‬والنحيب‭ ‬في‭ ‬بكاء‭ ‬الأمم‭ ‬والحضارات‭, ‬والقيم‭ ‬والأخلاق‭, ‬والدعوات‭ ‬والرسالات‭, ‬فهم‭ ‬أغلى‭ ‬ما‭ ‬يُملك‭, ‬وأعز‭ ‬ما‭ ‬يُتَحَصَّل‭, ‬وأخطرُ‭ ‬ما‭ ‬يضيَّع‭, ‬ومن‭ ‬ذلك‭ ‬ما‭ ‬أنشده‭ ‬الشاعر‭ ‬أبو‭ ‬البقاء‭ ‬الرَّندِي‭ (‬ت684هـ‭)‬،‭ ‬في‭ ‬رثاء‭ ‬الأندلس‭ ‬الخصيب‭:‬

يا‭ ‬من‭ ‬لذلّة‭ ‬قومٍ‭ ‬بعد‭ ‬عزهم

أحال‭ ‬حالهم‭ ‬كفرٌ‭ ‬وطغيانُ

فلو‭ ‬تراهمُ‭ ‬حيارَى‭ ‬لا‭ ‬دليل‭ ‬لهم

عليهم‭ ‬من‭ ‬ثياب‭ ‬الذلّ‭ ‬ألوانُ

ولو‭ ‬رأيتَ‭ ‬بكاهُم‭ ‬عندَ‭ ‬بيعهم

لهالَك‭ ‬الأمرُ‭ ‬واستهوتْك‭ ‬أحزانُ

يا‭ ‬ربِّ‭ ‬أمٌ‭ ‬و‭ ‬طفلٌ‭ ‬حِيل‭ ‬بينهما‭ ‬

كما‭ ‬تفرَّق‭ ‬أرواحٌ‭ ‬وأبدانُ

وبعد‭ ‬أن‭ ‬عدد‭ ‬الشَّاعر‭ ‬هذه‭ ‬المآسي‭ ‬والنكبات‭ ‬والمصائب‭ ‬التي‭ ‬حلَّت‭ ‬بهذا‭ ‬البلد‭ ‬الذي‭ ‬جرحه‭ ‬لم‭ ‬يندمل‭ ‬بعد‭, ‬أخبر‭ ‬بما‭ ‬أصاب‭ ‬قلبه‭ ‬وقلب‭ ‬كل‭ ‬غيور‭, ‬فيقول‭: ‬

لمثلِ‭ ‬هذا‭ ‬يذوبُ‭ ‬القلبُ‭ ‬من‭ ‬كَمَدٍ‭ ‬

إنْ‭ ‬كانَ‭ ‬في‭ ‬القلبِ‭ ‬إسلامٌ‭ ‬وإيمانُ

فباتوا‭ ‬في‭ ‬ذُلٍّ‭ ‬وهوان‭ ‬بَعْد‭ ‬أن‭ ‬كانوا‭ ‬يرفلون‭ ‬بثوب‭ ‬الإسلام‭ ‬القشيب‭, ‬وهذه‭ ‬سنن‭ ‬في‭ ‬الأمم‭ ‬قائمة‭, ‬وعادة‭ ‬في‭ ‬الملكوت‭ ‬ثابتة،‭ ‬فالخطاب‭ ‬الشعري‭ ‬هنا‭ ‬موجهٌ‭ ‬لكلِ‭ ‬أندلسٍ‭ ‬ضاعت‭, ‬أو‭ ‬لم‭ ‬يأتِ‭ ‬دورها‭ ‬بعد‭!‬

    ‬وتستمر‭ ‬الكبد‭ ‬في‭ ‬الجوى‭ ‬والنزيف‭ ‬من‭ ‬فقدان‭ ‬الأحبة‭ ‬وأصناء‭ ‬القلوب‭, ‬ومن‭ ‬أشهر‭ ‬ذلك‭ ‬في‭ ‬الشعر‭ ‬العربي‭ ‬الخنساء‭ ‬بنت‭ ‬تُماضر‭ (‬ت24هـ‭)‬،‭ ‬في‭ ‬رثاء‭ ‬ذويها‭ ‬في‭ ‬الجاهلية‭ ‬والإسلام‭ ‬مع‭ ‬اختلافٍ‭ ‬في‭ ‬الدافع‭ ‬والتقبُّل‭, ‬وهو‭ ‬من‭ ‬الشهرة‭ ‬بمكان‭ ‬ما‭ ‬يدفعنا‭ ‬إلى‭ ‬الإشارة‭ ‬إليه‭ ‬فقط‭. 

‭ ‬ونأتي‭ ‬إلى‭ ‬شاعر‭ ‬البؤس‭ ‬والتبرُّم‭ ‬ابن‭ ‬الرومي‭ (‬ت‭ ‬283هـ‭)‬،‭ ‬الذي‭ ‬قضى‭ ‬عمره‭ ‬متشائمًا‭ ‬من‭ ‬مدلهمات‭ ‬الحياة‭ ‬ونوائبها‭, ‬فضلًا‭ ‬عن‭ ‬اعتلال‭ ‬في‭ ‬جسده‭, ‬وسقامٍ‭ ‬في‭ ‬بدنه‭, ‬وقد‭  ‬طار‭ ‬ذِكْره‭ ‬بسبب‭ ‬مرثيَّته‭ ‬الخالدة‭ ‬في‭ ‬ولده‭, ‬فقيده‭ ‬وفلذة‭ ‬كبده؛‭ ‬فسارت‭ ‬بها‭ ‬الركبان‭, ‬وباتت‭ ‬من‭ ‬عيون‭ ‬الشعر‭ ‬العربي‭, ‬شاهدةً‭ ‬على‭ ‬أصالته‭ ‬وإنسانيتَّه‭ ‬وذاتيَّته‭ ‬العميقة‭.‬

  ‬يستهل‭ ‬الشاعر‭ ‬قصيدته‭ ‬بمقدمة‭ ‬باكية‭ ‬تقطر‭ ‬شوقًا‭ ‬وحنينًا‭ ‬إلى‭ ‬الفقيد‭, ‬فيخاطب‭ ‬مقلتيه‭ ‬راجيًا‭ ‬منها‭ ‬التكرم‭ ‬بانهطال‭ ‬العبرات‭ ‬والدموع‭ ‬مدرارا؛‭ ‬علَّها‭ ‬تكون‭ ‬شفاءً‭ ‬له‭ ‬وعزاء‭, ‬فيقول‭:‬

بُكَاؤكُمَا‭ ‬يَشْفِيْ‭ ‬وَإنْ‭ ‬كَانَ‭ ‬لاَ‭ ‬يُجْــــدِيْ

فجُــــوْدَا‭ ‬فَقَدْ‭ ‬أوْدَى‭ ‬نَظِيْرُكُمَا‭ ‬عِنْــــدِي

وينطلق‭ ‬الشاعر‭ ‬في‭ ‬مرثيته‭ ‬الباكية‭, ‬فيصف‭ ‬كيف‭ ‬قضى‭ ‬الوليد‭ ‬الفقيد‭ ‬وهو‭ ‬يعالج‭ ‬السكرات‭ ‬والأنفاس‭ ‬الأخيرة‭ ‬وتحوُّل‭ ‬لونه‭ ‬من‭ ‬اللون‭ ‬الورديّ‭ ‬الأحمر‭ ‬الذي‭ ‬يسُرُّ‭ ‬الناظرين‭ ‬إلى‭ ‬الصفرة‭ ‬المُفزعة‭ ‬التي‭ ‬تُنبئ‭ ‬بالرحيل‭ ‬إلى‭ ‬غير‭ ‬ذِي‭ ‬عودة‭, ‬مندهشًا‭ ‬من‭ ‬قلبه‭ ‬الذي‭ ‬تحمَّل‭ ‬هذه‭ ‬الصَّدمة‭ ‬من‭ ‬دون‭ ‬أن‭ ‬ينفطر‭ ‬كمدًا‭, ‬فيقول‭: ‬

ألحَّ‭ ‬عليه‭ ‬النَّزفُ‭ ‬حتى‭ ‬أحالهُ‭ 

‭ ‬إلى‭ ‬صُفرة‭ ‬الجاديّ‭ ‬عن‭ ‬حُمرَةِ‭ ‬الوردِ

عجبتُ‭ ‬لقلبي‭ ‬كيف‭ ‬لم‭ ‬ينفطرْ‭ ‬لهُ‭  

ولو‭ ‬أنَّهُ‭ ‬أقسى‭ ‬من‭ ‬الحجر‭ ‬الصَّلدِ

ثم‭ ‬يستطرد‭ ‬في‭ ‬تصوير‭ ‬حالته‭ ‬التي‭ ‬صار‭ ‬إليها‭, ‬فصار‭ ‬لا‭  ‬يتأثر‭ ‬بعزاءٍ‭ ‬أو‭ ‬سَلْوة‭, ‬بل‭ ‬إن‭ ‬رؤيته‭ ‬لولديه‭ ‬الباقِيَين؛‭ ‬تزيد‭ ‬من‭ ‬عنائه‭ ‬وتلذع‭ ‬فؤاده‭ ‬الذي‭ ‬كاد‭ ‬يذوب‭ ‬من‭ ‬طول‭ ‬الجوى‭, ‬فيقول‭:‬

محمَّدُ‭ ‬ما‭ ‬شيءٌ‭ ‬تُوهّم‭ ‬سلوةً‭ ‬

‭ ‬لقلبي‭ ‬إلاَّ‭ ‬زاد‭ ‬قلبي‭ ‬من‭ ‬الوجدِ

أرى‭ ‬أخويكَ‭ ‬الباقِيَيْنِ‭ ‬فإنما

  ‬يكونان‭ ‬للأحزَانِ‭ ‬أورى‭ ‬من‭ ‬الزَّندِ

إذا‭ ‬لعِبا‭ ‬في‭ ‬ملعب‭ ‬لك‭ ‬لذَّعا

  فؤادي‭ ‬بمثلِ‭ ‬النارِ‭ ‬عن‭ ‬غيرِ‭ ‬ما‭ ‬قَصدِ

  ‬ويسير‭ ‬على‭ ‬درب‭ ‬الوفاء‭ ‬والحنين‭ ‬والبكاء‭ ‬والندبة‭ ‬صاحب‭ ‬االعقد‭ ‬الفريدب‭ ‬الشاعر‭ ‬ابن‭ ‬عبد‭ ‬ربه‭ ‬الأندلسي‭ (‬ت‭ ‬328هـ‭)‬،‭ ‬الذي‭ ‬قضى‭ ‬ولده‭ ‬فرثاه‭ ‬وبكاه‭, ‬فهي‭ ‬فَجعة‭ ‬ما‭ ‬بعدها‭ ‬فجعة‭, ‬وكيف‭ ‬لا‭ ‬والأوبة‭ ‬لن‭ ‬تكون‭ ‬إلا‭ ‬يوم‭ ‬البعث‭ ‬والنشور‭, ‬يقول‭: 

على‭ ‬مِثلِها‭ ‬من‭ ‬فَجْعةٍ‭ ‬خانَني‭ ‬الصبرُ‭ 

فِراقُ‭ ‬حبيبٍ‭ ‬دونَ‭ ‬أَوْبَتِهِ‭ ‬الحَشْرُ‭ ‬

وليِ‭ ‬كبِدٌ‭ ‬مشطورةٌ‭ ‬في‭ ‬يَدِ‭ ‬الأسى‭ ‬

فتَحْتَ‭ ‬الثَّرى‭ ‬شَطْرٌ‭ ‬وفوقَ‭ ‬الثرى‭ ‬شَطرُ

يصور‭ ‬الشاعر‭ ‬رَزيَّته‭ ‬في‭ ‬ولده‭, ‬مقرًّا‭ ‬بالحقيقة‭ ‬الثابتة‭: ‬أنه‭ ‬لا‭ ‬لُقيا‭ ‬إلا‭ ‬يوم‭ ‬اللقاء‭ ‬العظيم‭, ‬ولهذا‭ ‬فقد‭ ‬أودع‭ ‬مع‭ ‬ولده‭ - ‬حين‭ ‬واراه‭ ‬الثَّرَى‭ - ‬نصف‭ ‬كبده؛‭ ‬ليؤنسه‭ ‬من‭ ‬وحشة‭ ‬القبور‭ ‬وصمتها‭, ‬مُبقيًا‭ ‬معه‭ ‬النصف‭ ‬الآخر‭, ‬لا‭ ‬ليعيش‭ ‬به‭ ‬فحسب‭, ‬بل‭ ‬ليكون‭ ‬أداة‭ ‬اتصالٍ‭ ‬للشطر‭ ‬الآخر‭ ‬الذي‭ ‬يؤنس‭ ‬الفقيد‭ ‬الوحيد‭ ‬تحت‭ ‬تراب‭ ‬الأجداث‭. 

  ‬وتمضي‭ ‬المسيرة‭ ‬ويتصل‭ ‬الخلف‭ ‬بالسلف،‭ ‬وينظم‭ ‬الشاعر‭ ‬المعاصر‭ ‬أيمن‭ ‬العتوم‭ ‬دُرَرَه‭ ‬الشعريَّة‭, ‬فقصائده‭ ‬ذ‭ ‬كما‭ ‬يقول‭ - ‬تجمع‭ ‬بين‭ ‬النور‭ ‬والنار‭, ‬دفع‭ ‬في‭ ‬سبيل‭ ‬الحفاظ‭ ‬على‭ ‬المبادئ‭ ‬والثوابت‭ ‬ضرائبَ‭ ‬باهظةٍ‭, ‬طيبة‭ ‬بها‭ ‬نفسه‭, ‬فيقول‭:‬

لي‭ ‬في‭ ‬الحَياةِ‭ ‬قَصائِدُ

كُتِبَتْ‭ ‬بِماءِ‭ ‬الحُبِّ‭ ‬حينًا‭...‬

أَوْ‭ ‬بِماءِ‭ ‬النَّارِ‭ ‬أَحْيانًا‭...‬

وفِي‭ ‬الحالَيْنِ‭... ‬هُنَّ‭ ‬فَرائِدُ

ما‭ ‬بِعْتُهُنّ‭... ‬ولا‭ ‬اشْتَرَيْتُ‭ ‬بِهِنَّ‭...‬

تارِيخِي‭ ‬على‭ ‬بُرْئِي‭ ‬وَصِدْقِي‭ ‬شاهِدُ

وَأَنا‭ ‬دَفَعْتُ‭ ‬لأَجْلِهِنَّ‭ ‬مِنَ‭ ‬الحَياةِ‭ ‬ضَرِيبةً؛

فَمِنَ‭ ‬السُّجُونِ‭ ‬إِلى‭ ‬السُّجُونِ‭...‬

قَضَيْتُ‭ ‬زَهْرةَ‭ ‬عُمْرِيَ‭ ‬المَنْفِيِّ‭ ‬في‭ ‬الدُّنيا‭...‬

لأنّي‭ ‬واحِدُ

ثم‭ ‬يذكر‭ ‬الشاعر‭ ‬سبب‭ ‬ذلك‭ ‬في‭ ‬إيجاز‭ ‬واقتضاب‭: ‬أن‭ ‬شعره‭ ‬ليس‭ ‬كالآخرين‭ ‬يباع‭ ‬ويشترى‭, ‬ينقضي‭ ‬بانقضائه‭ ‬أو‭ ‬يموت‭ ‬قبله،‭ ‬بل‭ ‬لأنه‭ ‬كما‭ ‬يقول‭: ‬

حَسْبِي‭ ‬إذا‭ ‬رُمَّتْ‭ ‬عِظامِي‭ ‬بَعْدَ‭ ‬مَوْتِي

أَنَّ‭ ‬شِعْرِي‭ ‬خَالِدُ

فَخُذُوا‭ ‬القَصائِدَ‭ ‬مِنْ‭ ‬دَمِي‭...‬

فَدَمِي‭ ‬إِلَيْكُمْ‭ ‬بِالرَّوائِعِ‭ ‬صاعِدُ

هذا‭ ‬المداد‭ ‬الذي‭ ‬يسل‭ ‬على‭ ‬الأوراق‭ ‬ليس‭ ‬من‭ ‬المحابر،‭ ‬بل‭ ‬من‭ ‬نزف‭ ‬الشاعر‭ ‬الذي‭ ‬يسجل‭ ‬به‭ ‬أروع‭ ‬القصائد‭, ‬التي‭ ‬يتلقفها‭ ‬المتلقي‭ ‬بالإعجاب‭ ‬والإكبار؛‭ ‬فما‭ ‬أبدع‭ ‬هذه‭ ‬النصوص‭ ‬التي‭ ‬خرجت‭ ‬من‭ ‬صدرٍ‭ ‬مكلوم‭, ‬وفؤادٍ‭ ‬قلقٍ‭ ‬نازف‭: ‬باتت‭ - ‬يا‭ ‬لجمالها‭ ‬وعظيم‭ ‬أثرها‭ - ‬من‭ ‬التراث‭ ‬الشعري‭ ‬الذي‭ ‬لا‭ ‬يبيد‭ ‬أبد‭ ‬الدهر‭, ‬ولا‭ ‬يمل‭ ‬تكراره‭, ‬ويصدق‭ ‬عليه‭ ‬قول‭ ‬من‭ ‬قال‭: ‬وجيّده‭ ‬يبقَى‭ ‬وإن‭ ‬مات‭ ‬قائلُه‭ .