شعر الأكباد المقروحة
تمرُّ أوقاتٌ على الشاعر لا ينظم فيها القريض من خلال لسانه أو بنانه, بل يقطر به قلبه, وينزف منه كبده؛ لِما تحمله الحروف من أسىً وحسرةٍ وتفجُّعٍ ونُّدبة؛ ولهذا تجد هذا النوع من الشعر من أصدقِه قولاً, وأخلِصه غرضًا, وأشده تأثيرًا ووقعًا على القلوب.
ما أكثر القصائد التي كتبها أرباب الشّعر بمدادٍ من الدماء لا يزال عبقه أبد الدهر, لا يبيد على مر الأزمنة والعصور, وهذا هو المتعارف عليه عند النقاد بشعر الرّثاء، وهو من أجود الشعر وأصدقه.
قال الباهلي: قيل لأعرابي: ما بال المراثي أجود أشعاركم؟ قال: الأنا نقول وأكبادنا تحترقب, بل كانت رواية مثل هذه الأشعار النازفة سببًا للمجد والفخار, ودخوله عالَم الثقات الكبار؛ قال أبوالحسن: كانت بنو أميّة لا يقبلون الراوية إلا أن يكون راوية للمراثي. قيل: ولم ذاك؟ قال: الأنها تدل على مكارم الأخلاقب، فهذا النوع من الشعر ــ في الغالب ــ يبتعد عن الإسفاف والابتذال والتزلُّف والنفاق, فالممدوح أو المرثي قد فارق الدنيا؛ فلا ينتظر منه جزاءً ولا شكوراً.
وكان هذا الصدق من أسباب ثناء أمير المؤمنين عمر بن الخطاب حكيم الجاهلية زهير بن أبي سُلمى من أنه لا يمدح الرجل إلا بما فيه.
فيبقى دهر الراثي كُلُّه ليلٌ يبث فيه لواعجه, ويشكو بثه وحزنه ونوائبه, حتى ليكاد يشعر بكَبِده تغلي كغلي الماء في المرجل, فيتمنى أن يُبدّل هذه الكبد التي أصابها الكَمَد والكَبَد والكَدَحُ والقُروح, بكَبِدٍ ما عطبت بَعْدُ, ولكن أَنَّى له ذلك! ومن هؤلاء: الشاعر ابن معصوم المدني (ت 1119هـ) الذي صَدَح بهذه الحقيقة دون التفاتٍ أو مواربة, فقال في يأسٍ وقنوط:
ولي كبدٌ مَقْروحةٌ مَن يَبيعُني
بها كَبِدًا ليستْ بذاتِ قُروحِ
لم يتمهل الشاعر قليلًا لينتظر الإجابة والرد على الطلب فهو يعرف الحقيقة, لا ريب؛ فالعرض ليس مُغريًا بل مُنفرا مُبعداً، ولذلك أردف قائلا:
أبى النَّاسُ وَيْبَ الناسِ لا يشْترونها
ومَن يشْتري ذا عِلّةٍ بصحيحِ
ومنه ما جاء عند ديك الجن (161 - 236هـ) يرثي نفسه وكبده الموجوعة:
ولي كبدٌ حرَّى ونفس كأنها
بِكَفَّيْ عدوٍ ما يريد سراحها
يصف الشاعر حال هذه الكبد التي يحملها بين جوانحه, ونفسه المحتبسة كالأسير بيد الخصم يمتنع عن المن أو الفداء.
وأشدُّ ما يكون البكاء والنحيب في بكاء الأمم والحضارات, والقيم والأخلاق, والدعوات والرسالات, فهم أغلى ما يُملك, وأعز ما يُتَحَصَّل, وأخطرُ ما يضيَّع, ومن ذلك ما أنشده الشاعر أبو البقاء الرَّندِي (ت684هـ)، في رثاء الأندلس الخصيب:
يا من لذلّة قومٍ بعد عزهم
أحال حالهم كفرٌ وطغيانُ
فلو تراهمُ حيارَى لا دليل لهم
عليهم من ثياب الذلّ ألوانُ
ولو رأيتَ بكاهُم عندَ بيعهم
لهالَك الأمرُ واستهوتْك أحزانُ
يا ربِّ أمٌ و طفلٌ حِيل بينهما
كما تفرَّق أرواحٌ وأبدانُ
وبعد أن عدد الشَّاعر هذه المآسي والنكبات والمصائب التي حلَّت بهذا البلد الذي جرحه لم يندمل بعد, أخبر بما أصاب قلبه وقلب كل غيور, فيقول:
لمثلِ هذا يذوبُ القلبُ من كَمَدٍ
إنْ كانَ في القلبِ إسلامٌ وإيمانُ
فباتوا في ذُلٍّ وهوان بَعْد أن كانوا يرفلون بثوب الإسلام القشيب, وهذه سنن في الأمم قائمة, وعادة في الملكوت ثابتة، فالخطاب الشعري هنا موجهٌ لكلِ أندلسٍ ضاعت, أو لم يأتِ دورها بعد!
وتستمر الكبد في الجوى والنزيف من فقدان الأحبة وأصناء القلوب, ومن أشهر ذلك في الشعر العربي الخنساء بنت تُماضر (ت24هـ)، في رثاء ذويها في الجاهلية والإسلام مع اختلافٍ في الدافع والتقبُّل, وهو من الشهرة بمكان ما يدفعنا إلى الإشارة إليه فقط.
ونأتي إلى شاعر البؤس والتبرُّم ابن الرومي (ت 283هـ)، الذي قضى عمره متشائمًا من مدلهمات الحياة ونوائبها, فضلًا عن اعتلال في جسده, وسقامٍ في بدنه, وقد طار ذِكْره بسبب مرثيَّته الخالدة في ولده, فقيده وفلذة كبده؛ فسارت بها الركبان, وباتت من عيون الشعر العربي, شاهدةً على أصالته وإنسانيتَّه وذاتيَّته العميقة.
يستهل الشاعر قصيدته بمقدمة باكية تقطر شوقًا وحنينًا إلى الفقيد, فيخاطب مقلتيه راجيًا منها التكرم بانهطال العبرات والدموع مدرارا؛ علَّها تكون شفاءً له وعزاء, فيقول:
بُكَاؤكُمَا يَشْفِيْ وَإنْ كَانَ لاَ يُجْــــدِيْ
فجُــــوْدَا فَقَدْ أوْدَى نَظِيْرُكُمَا عِنْــــدِي
وينطلق الشاعر في مرثيته الباكية, فيصف كيف قضى الوليد الفقيد وهو يعالج السكرات والأنفاس الأخيرة وتحوُّل لونه من اللون الورديّ الأحمر الذي يسُرُّ الناظرين إلى الصفرة المُفزعة التي تُنبئ بالرحيل إلى غير ذِي عودة, مندهشًا من قلبه الذي تحمَّل هذه الصَّدمة من دون أن ينفطر كمدًا, فيقول:
ألحَّ عليه النَّزفُ حتى أحالهُ
إلى صُفرة الجاديّ عن حُمرَةِ الوردِ
عجبتُ لقلبي كيف لم ينفطرْ لهُ
ولو أنَّهُ أقسى من الحجر الصَّلدِ
ثم يستطرد في تصوير حالته التي صار إليها, فصار لا يتأثر بعزاءٍ أو سَلْوة, بل إن رؤيته لولديه الباقِيَين؛ تزيد من عنائه وتلذع فؤاده الذي كاد يذوب من طول الجوى, فيقول:
محمَّدُ ما شيءٌ تُوهّم سلوةً
لقلبي إلاَّ زاد قلبي من الوجدِ
أرى أخويكَ الباقِيَيْنِ فإنما
يكونان للأحزَانِ أورى من الزَّندِ
إذا لعِبا في ملعب لك لذَّعا
فؤادي بمثلِ النارِ عن غيرِ ما قَصدِ
ويسير على درب الوفاء والحنين والبكاء والندبة صاحب االعقد الفريدب الشاعر ابن عبد ربه الأندلسي (ت 328هـ)، الذي قضى ولده فرثاه وبكاه, فهي فَجعة ما بعدها فجعة, وكيف لا والأوبة لن تكون إلا يوم البعث والنشور, يقول:
على مِثلِها من فَجْعةٍ خانَني الصبرُ
فِراقُ حبيبٍ دونَ أَوْبَتِهِ الحَشْرُ
وليِ كبِدٌ مشطورةٌ في يَدِ الأسى
فتَحْتَ الثَّرى شَطْرٌ وفوقَ الثرى شَطرُ
يصور الشاعر رَزيَّته في ولده, مقرًّا بالحقيقة الثابتة: أنه لا لُقيا إلا يوم اللقاء العظيم, ولهذا فقد أودع مع ولده - حين واراه الثَّرَى - نصف كبده؛ ليؤنسه من وحشة القبور وصمتها, مُبقيًا معه النصف الآخر, لا ليعيش به فحسب, بل ليكون أداة اتصالٍ للشطر الآخر الذي يؤنس الفقيد الوحيد تحت تراب الأجداث.
وتمضي المسيرة ويتصل الخلف بالسلف، وينظم الشاعر المعاصر أيمن العتوم دُرَرَه الشعريَّة, فقصائده ذ كما يقول - تجمع بين النور والنار, دفع في سبيل الحفاظ على المبادئ والثوابت ضرائبَ باهظةٍ, طيبة بها نفسه, فيقول:
لي في الحَياةِ قَصائِدُ
كُتِبَتْ بِماءِ الحُبِّ حينًا...
أَوْ بِماءِ النَّارِ أَحْيانًا...
وفِي الحالَيْنِ... هُنَّ فَرائِدُ
ما بِعْتُهُنّ... ولا اشْتَرَيْتُ بِهِنَّ...
تارِيخِي على بُرْئِي وَصِدْقِي شاهِدُ
وَأَنا دَفَعْتُ لأَجْلِهِنَّ مِنَ الحَياةِ ضَرِيبةً؛
فَمِنَ السُّجُونِ إِلى السُّجُونِ...
قَضَيْتُ زَهْرةَ عُمْرِيَ المَنْفِيِّ في الدُّنيا...
لأنّي واحِدُ
ثم يذكر الشاعر سبب ذلك في إيجاز واقتضاب: أن شعره ليس كالآخرين يباع ويشترى, ينقضي بانقضائه أو يموت قبله، بل لأنه كما يقول:
حَسْبِي إذا رُمَّتْ عِظامِي بَعْدَ مَوْتِي
أَنَّ شِعْرِي خَالِدُ
فَخُذُوا القَصائِدَ مِنْ دَمِي...
فَدَمِي إِلَيْكُمْ بِالرَّوائِعِ صاعِدُ
هذا المداد الذي يسل على الأوراق ليس من المحابر، بل من نزف الشاعر الذي يسجل به أروع القصائد, التي يتلقفها المتلقي بالإعجاب والإكبار؛ فما أبدع هذه النصوص التي خرجت من صدرٍ مكلوم, وفؤادٍ قلقٍ نازف: باتت - يا لجمالها وعظيم أثرها - من التراث الشعري الذي لا يبيد أبد الدهر, ولا يمل تكراره, ويصدق عليه قول من قال: وجيّده يبقَى وإن مات قائلُه .