انتصَار الفَرد وهزيمَة الإنسَان

ماذا يعني انهيار الأنظمة الاشتراكية؟ هل هو انتصار للمشروع الفردي على المشروع الشمولي؟. انتصار للقيم الرأسمالية وهزيمة لأنظمة التخطيط المركزي؟. وهل هذا الانتصار حاسم ونهائي أم أن طبيعة الحياة الدائمة التغيير تجعل ما نراه مرحلة عابرة من مراحل التاريخ؟.

وأخيرا، انتصر المشروع الفردي بالضربة القاضية. فقد ظل العالم، طوال ما يربو على سبعين عاما، يعرف نظامين لإدارة أمور المجتمعات البشرية، أحدهما يؤكد أن الطريقة المثلى لهذه الإدارة هي أن يتولى "المجتمع" ككل، ممثلا في "الحكومة" أو "الحزب" تنمية جميع موارده والتخطيط لها وتوزيعها بطريقة مركزية، والآخر يتمسك بترك الأفراد يديرون أمورهم بأنفسهم، ويؤكد أنه كلما قل تدخل الدولة في نشاط الأفراد كان ذلك أدعى إلى حفز هذا النشاط وإطلاق طاقاته الإبداعية. وفجأة انهار النظام الأول وكأنه جبل من ورق، وكان السبب الأساسي لانهياره هو أن الفرصة قد أعطيت للشعوب التي كانت تخضع له، كيما تعبر عن رأيها، للمرة الأولى، بقدر كبير من الحرية، فكانت النتيجة رفضا كاسحا لهذا النظام.

وهكذا أصبحت الساحة خالية أمام "المشروع الفردي" بلا منافس، وأخذت الدول التي كانت تأخذ بالتخطيط المركزي الصارم تتسابق من أجل نفض آثار نظامها القديم، وتتبارى في تأكيد ولائها للنظام الفردي، أو "للاقتصاد الحر"، على حين أن الدول التي كانت تبحث لنفسها عن اختيار بين النظامين، أو كانت تطبق نظاما مختلطا يمزج عناصر كل منهما، قد حسمت أمرها ولم يعد أحد فيها يجرؤ على الوقوف في وجه الاتجاه الذي يدعو إلى الانحياز الكامل للنظام الذي يترك الفرد حرا في إدارة مشروعه الخاص، ويكف يد الدولة أو المجتمع عن توجيه نشاط المؤسسات الفردية أو التخطيط لها.

وها نحن اليوم نرى انتصار المشروع الفردي يبدو للعالم في صورة خلاص من أغلال كانت تثقل كاهل الفرد في المجتمعات "الشمولية". بل لقد انتشر على أوسع نطاق ذلك الرأي الذي يقول إن المشروع الخاص هو "النظام الطبيعي" للإنسان، وإن المحاولة التي بذلت لإيجاد نظام بديل، سواء اتخذت اسم الماركسية أو الشيوعية أو الاشتراكية أو التخطيط المركزي، إنما هي محاولة "مضادة للطبيعة". ومن هنا أصبحت مرحلة الأعوام السبعين التي انقضت منذ الثورة الروسية والتجربة الشيوعية الأولى، تعد مرحلة شاذة، أو جملة اعتراضية خارجة عن السياق ومحاولة فاشلة لمعاندة طبيعة الإنسان.

سقوط البناء الاستبدادي

وفي اعتقادي أن سقوط ذلك النظام الذي شاعت تسميته "بالنظام الشمولي" كان أمرا حتميا. فقد أدت طريقة تطبيقه إلى تباعد تام بين مبادئه المعلنة وبين ما يمارس في المجتمع بالفعل، واتسعت الشقة بين القوة المسيطرة في المجتمع وبين الجماهير التي يفترض - نظريا - أن كل شيء يتم لحسابها، وكانت المسافة شاسعة بين القيم التي تدعو إليها الكتابات والنظريات وبين واقع الحياة التي يعيشها الإنسان. ولكن السيطرة البوليسية المحكمة كانت تحول في معظم الأحيان دون قيام الجماهير بالتعبير عن آرائها الحقيقية، إلى أن فتح جورباتشوف الأبواب والنوافذ - وكان هذا بالفعل كل ما فعله في السنوات الأولى من حكمه - فانطلقت المشاعر المكبوتة، وسقط البناء الاستبدادي في غمضة عين.

ولكن القضية التي أود أن أؤكدها، والتي يختلف فيها رأي عن كثير من الآراء الشائعة في هذه الأيام، هي أن سقوط هذه الأنظمة لم يكن راجعا إلى أنها مخالفة "لطبيعة الإنسان". ففي اعتقادي أن من الخطأ الشديد تثبيت مجموعة من السمات أو مبادئ السلوك وتأكيد أنها هي التي تشكل "الطبيعة البشرية"؛ لأن جوهر هذه الطبيعة هو التغير؛ ولأن الدرس البليغ الذي نستخلصه من تلك التقلبات الحادة التي مر بها الإنسان، في طريقة تنظيم حياته وعلاقاته مع الآخرين، هو أن الكلام عن طبيعة بشرية ثابتة إنها هو وهم كبير، وهو في معظم الأحيان اعتقاد باطل بأن وضعا معينا يعيشه الإنسان في مرحلة معينة، هو الوضع الدائم الذي لابد أن تستقر عليه البشرية.

إن المقولة الشائعة منذ أول التسعينيات هي أن تنظيم المجتمع على أسس فردية خالصة - وهو جوهر الفكر الرأسمالي - قد أثبت أنه هو الأصل الثابت، وأن أية محاولة للخروج عليه لابد أن يكتب لها الإخفاق، وأن يعود أصحابها، مهما طال بهم الزمن، إلى "الوضع الطبيعي" ومن المألوف، في هذه الأيام التي يحتفل فيها المشروع الفردي احتفالا صاخبا بانتصاره النهائي، أن نرى هذا المشروع يصور للناس بصورة تجعله يبدو أكثر النظم ملاءمة للطبيعة الحقة للإنسان، وأقدرها على تحقيق كل إمكاناته. فالمشروع الخاص مرتبط بالحرية وهي قيمة عزيزة لا تقدرها إلا الشعوب التي افتقدتها. وهو لا يضع قيودا على نشاط الإنسان، بل يطلق هذا النشاط ويدعه يمضي إلى أبعد مدى تسمح به قدرات كل فرد. وهذا المشروع الفردي هو وحده الذي يقدم للإنسان ذلك الحافز الذي يدفعه إلى العمل بأقصى ما تسمح به طاقاته. ومن ثم فإن المجتمعات التي يسودها هذا المبدأ هي أكثر المجتمعات إنتاجا ورخاء، وأرفعها مستوى في معيشتها.

وعلى هذه المسألة الأخيرة بالذات ينصب تساؤلنا: فهل صحيح أن "من طبيعة الإنسان" ألا يعمل بأقصى طاقته، وألا يحقق في العمل جميع إمكاناته الذهنية والنفسية والجسدية، إلا في نطاق المشروع الفردي الخاص؟. حتى هذه اللحظة، يبدو أن الجواب عن هذا السؤال لابد أن يكون بالإيجاب. فحين طالبت المجتمعات الاشتراكية السابقة مواطنيها بأن يعملوا "من أجل المجتمع"، وحين حددت المهمة التي يقوم بها كل منهم في إطار العمل الاجتماعي العام، وحين وضعت حدودا لما يمكنه أن يربحه، وأن يملكه، ووظفت هذا كله في إطار "المصلحة العامة للمجتمع"، حين حدث ذلك كانت النتيجة هي التراخي والتكاسل في العمل، وفقدان الروح الابتكارية وانعدام الطموح، مما أدى إلى تراجع شامل في مستوى الإنتاج والمعيشة. أما المجتمعات التي تركت مواطنيها يعملون من أجل أنفسهم، أو من أجل مشروعهم الخاص، ولم تفرض قيودا على إمكانات الربح والتملك والتوسع لديهم، فقد انطلقت الطاقات الإنتاجية فيها إلى أقصى مداها.

هذه ليست استنتاجات، بل هي شهادة الواقع نفسه في هذه المرحلة من التاريخ وهي شهادة تؤكدها - بمرارة شديدة - طلبات المساعدة التي تتقدم بها في هذه الأيام الدول الاشتراكية السابقة إلى الدول الرأسمالية الغنية، فتتمنع هذه وتتمهل وتفرض شروطها، ولا تعطي غريماتها السابقات شيئا إلا بعد أن توقن بأن كلا منها قد تخلت بصورة لا رجعة فيها عن نمط الإنتاج المركزي الذي كانت تسير عليه من قبل.

هل انهزمت القيم الإنسانية؟

ولكن، إذا كان هذا التحول الحاسم الذي طرأ على العالم في السنتين الأخيرتين إعلانا مدويا عن انتصار القيم الفردية، أليس من المحتمل أن تكون فيه هزيمة للإنسانية؟ إنني أعتقد أن قيما إنسانية رفيعة قد رفعت الراية البيضاء وأعلنت استسلامها دون قيد أو شرط في اللحظة التي تبين فيها أن الإنسان لا يقدم أفضل ما لديه إلا إذا كان يعمل في مشروعه الخاص.ذلك لأن هناك معيارا للسمو الأخلاقي كان يزداد رهافة على مر العصور، هو ذلك الذي يخرج فيه الإنسان عن إطاره الخاص، وعن ذاتيته المطلقة، ويعمل - ولو جزئيا - من أجل الآخرين.

في هذا الاتجاه كانت تسير فلسفات البشر وعقائدهم الدينية الكبرى منذ بداية تاريخها. صحيح أن واقع الناس كان في معظم الأحيان مختلفا عن هذا الأمل، وأن المبادئ السامية التي تذكر الفرد بأن يسلك من أجل غايات تتجاوز نطاقه الخاص، كانت تلقى مقاومة دائمة، بل كان المتشائمون يرون فيها سذاجة بالغة، على حين يراها المتفائلون مثلا أعلى يستحيل بلوغه كاملا وإنما يكفي الاقتراب منه بدرجة أو بأخرى - هذا كله صحيح، غير أن المنحنى العام للتاريخ الأخلاقي والمعنوي للبشرية، قد سجل بالفعل اتجاها عاما، لا تخطئه العين، نحو تجاوز الإنسان لذاتيته، وعمله من أجل أهداف أوسع وأشمل مما يدخل في نطاق مصالحه الخاصة أو مصالح الأقربين إليه.

هذا الاتجاه العام قد سجل، بالطبع، في ميادين السلوك الأخلاقي والاجتماعي، أما السلوك الاقتصادي الإنتاجي فيبدو - في ضوء الشواهد التي كنا نتحدث عنها منذ قليل - أنه لم يرتفع بعد إلى هذا المستوى. فمازال الإنسان، في الميدان الاقتصادي، يعمل وينتج على أفضل نحو حين يعلم أن عائد عمله سيرتد إليه، بينما يتراجع عمله وإنتاجه وقدراته الابتكارية ذاتها، إذا كان يعلم أن المنتفع من عمله، في المحل الأول، هو المجتمع ككل، وأنه سينال من عمله ذلك النصيب الذي تحدده المصلحة الشاملة لذلك المجتمع. فالحافز في الحالة الأولى أقوى ما يكون، أما في الحالة الثانية فإنه يتضاءل إلى أدنى حد.

إن التسليم بهذا الواقع الذي نراه من حولنا مجسدا ملموسا، هو في الوقت ذاته اعتراف بأن الدوافع الذاتية - وأكاد أقول الأنانية - ما زالت هي الأقدر على حفز الإنسان إلى بذل المجهود، وهي حقيقة مؤلمة، ولكن لا سبيل إلى إنكارها. ويؤدي الاعتراف بهذه الحقيقة إلى إعادة تقييم أساسية لذلك الانتصار الساحق الذي أحرزه المشروع الفردي، والذي يهلل له العالم في هذه الأيام. ففي رأيي أن هذا المشروع الفردي قد أحرز انتصاره هذا، ليس فقط لأن تجربة التنظيم الجماعي للعمل قد طبقت بأسوأ الطرق وأبعدها عن الإنسانية، بل أيضا - وهذا هو الأهم - لأن هذه التجربة قد جاءت سابقة لأوانها. وأنا أعني بذلك أن المحاولة التي بذلت لبناء مجتمعات على أساس العمل الموجه لصالح المجموع، لا لصالح الأفراد، قد استخدمت في تطبيقها أساليب قمعية منفرة، ولكن الأهم من ذلك، والذي جعل فشلها أمرا محتوما هو أن الإنسانية، حين طبقت هذه التجربة، لم تكن قد نضجت بعد إلى الحد الذي يجعل الأفراد يضعون مصلحة الجماعة ككل قبل مصالحهم الخاصة، وقبل التفكير في نفعهم الذاتي.

لقد كانت المحاولة من حيث المبدأ العام، وبغض النظر عن التفاصيل الفلسفية الدقيقة والتطبيق الشديد الغباء، سعيا نبيلا إلى تحقيق مصالحة بين التطور الأخلاقي للإنسان وسلوكه الفعلي في ميدان العمل والإنتاج، وإلى سد الفجوة بينهما.ولكن من الواضح، في ضوء ما حدث، أن الإنسان لا يزال في حاجة إلى وقت طويل وتجارب كثيرة لكي يحقق هذه المصالحة ويسد هذه الفجوة.

الفرد وحلم الحرية المطلقة

لقد كشفت الأحداث الأخيرة عن خلل أساسي في الفكر الأيديولوجي الذي سيطر على البشرية ردحا طويلا من الزمان، ولكن هذا الخلل في رأي مزدوج، ولا يقتصر على ما يطلق عليه اسم "الأيديولوجية الشمولية" وحدها.

فقد مارست الأنظمة الاشتراكية، والشيوعية منها بوجه خاص، تجربة حاولت فيها أن تؤكد أولوية القيم الاجتماعية على الفردية، وكانت هذه السمة فيها تبدو متماشية مع المنحنى العام لتطور البشرية، الذي يسير نحو العلو على الاهتمامات الذاتية، ويستهدف توسيع نطاق الدوافع التي تحرك الإنسان بما يتجاوز مصالحه الفردية. ولكن الخطأ القاتل الذي وقعت فيه هذه الأيديولوجية هو أنها تصورت أنها، في سبيل تحقيق هذا الهدف، ينبغي أن تسحق الفرد، فترفض مبدأ التعدد والتباين في الآراء، وتنكر الحريات الأساسية، وتجعل السلطة الحاكمة في المجتمع أداة للقمع تقوم على إملاء الأوامر، لا على التعبير الصادق عن آراء القاعدة الواسعة من المواطنين. وهكذا كانت تلك روحا جماعية مفروضة من أعلى، ولم تكن تمثل تطورا طبيعيا تعلو فيه الإنسانية على مستوى الفردية المتمركزة حول ذاتها. ومن هنا جاء رد الفعل عنيفا، فور أن سنحت الفرصة، وعادت الفردية المسحوقة لكي تؤكد نفسها بإصرار، وبمبالغة شديدة في بعض الأحيان (وهو أمر متوقع في كل رد فعل ينتقل من النقيض إلى النقيض).

غير أن الأمر الذي لا ينتبه إليه الكثيرون، في غمرة أعياد النصر الصاخبة التي تستمتع بها الأيديولوجية الرأسمالية في هذه الأيام، هو أن الحرية - وهي القيمة الأساسية التي يرتكز عليها بناء تلك الأيديولوجية، والتي تكسب بواسطتها العدد الأكبر من أنصارها - هي مفهوم يستخدم هنا بطريقة تنطوي على خلط أساسي. فالحرية في المجال الاجتماعي والسياسي هدف رفيع يسعى إليه الجميع، والدعوة إلى حرية التعبير عن الرأي وحرية المعرفة وحرية الاختيار والرفض والانتماء، هذه الدعوة كانت مكمن القوة في النظم الليبرالية التي خلقتها الأيديولوجية الرأسمالية وكان الافتقار إليها هو نقطة الضعف الكبرى في الأيديولوجية المضادة.

غير أن الجاذبية الهائلة لمبدأ الحرية في هذه المجالات، تستغل من أجل الدعوة إلى الحرية الاقتصادية، وإضفاء هالة من التكريم على هذه الأخيرة وكأنها وجه آخر لكل الحريات الاجتماعية والسياسية والفكرية. وحقيقة الأمر أن معنى الحرية في مجال الاقتصاد يختلف كلية عن معناها في مجال العلاقات الاجتماعية والسياسية، ويصل هذا الاختلاف إلى حد نستطيع معه القول إن حصول المرء على حريته في التفكير والتعبير والنقد واختيار ممثليه الحقيقيين، هو عنصر أساسي لا تكتمل بدونه حقوقه كإنسان، على حين أن الحرية الاقتصادية، بما تفترضه من ترك الإنسان تحت رحمة قوى السوق الطاغية، وبما ترتكز عليه من منافسة طاحنة تسحق كل ما يقف في سبيلها، وبما تؤدي إليه عمليا من تأكيد الحرية للحيتان الضخمة في المجتمع، وضياعها لدى الكثرة الباقية، هذه الحرية الاقتصادية يمكن أن تكون عقبة خطيرة في وجه كثير من الحقوق الأساسية للإنسان.

هناك إذن خطأ جوهري في كلتا الأيديولوجيتين المتنافستين: الاشتراكية حين طبقت على نحو يؤدي إلى سحق الفرد بحجة الحرص على المصلحة الجماعية، والرأسمالية حين أوهمت الناس، الذين يعشقون الحرية، بأن عليهم أن يقبلوا الحرية الاقتصادية بدورها، وكأنها جزء لا يتجزأ من تلك القيمة النبيلة.

انقشاع الوهم

ونحن اليوم نشهد، في قصة التطور الأيديولوجي للبشرية، ذلك الفصل الذي اكتشف فيه الناس الخطأ الأول اكتشافا مدويا. فالعصر الذي نعيشه هو عصر انقشاع وهم كبير، فرضت على الناس فيه سياسات كبتت كل نزوع خلاق للفرد نحو الخروج عما هو نمطي ومألوف، وأوهمه القائمون بالحكم - في مجموعة البلاد التي كانت اشتراكية حتى عامين مضيا - بأنه لن يستطيع أن يخدم مصلحة المجموع إلا إذا أصبح مطيعا للنظام، ولم يحد عن الخط المرسوم.

هذه هي المرحلة التي نعيشها الآن، والتي تمثل تحولا أساسيا في تاريخ الأيديولوجيات البشرية. غير أن هذه ليست المرحلة الأخيرة. فمازال في القصة، على الأقل، فصل واحد، هو ذلك الذي يكتشف فيه الناس، بالطريقة المدوية نفسها، خطأ الأيديولوجية الرأسمالية، ويثورون على ترك الإنسان ريشة في مهب الريح التي تدفعها قوى السوق الآلية. وربما كانت المظاهرات الضخمة للألمان الشرقيين، بعد أقل من عام من اختيارهم الوحدة والطريق الرأسمالي بحماسة منقطعة النظير، علامة مبكرة على هذا الطريق، وتجربة أولى لأحداث هذا الفصل التالي في القصة. ولكن المهم أن نتجنب الحكم على المستقبل البعيد من خلال ما حدث في فترة قصيرة، ساخنة ومفاجئة، كالسنتين الأخيرتين. فقد أحرزت النزعة الفردية، بلا شك، انتصارها الحاسم، ولكن الإنسان الذي استعاد فرديته سيكتشف، عاجلا أو آجلا، أن عناصر أساسية في إنسانيته قد هزمت، وسيتمرد على هذا الوضع بدوره، ساعيا إلى استرداد العناصر الضائعة من كيانه.

فالقصة لم تتم فصولها بعد، وأغلب الظن أننا سنشهد، بعد زمن يطول أو يقصر، فصلا آخر يرتفع فيه الصراع من أجل تأكيد إنسانية الإنسان إلى مستويات لم يشهدها التاريخ البشري من قبل.