قضية: من أجل حدّ أدنى من الاتفاق حَول

لعل الطريق الصحيح للوصول إلى الحد الأدنى من الاتفاق حول المستقبل العربي، يبدأ من حق الاختلاف في الرأي، ومن حق المعرفة الصحيحة بما يجري في واقعنا العربي، ومن واجب الفهم الصحيح لما يحدث في عالمنا المعاصر من متغيرات حادة وكثيفة! ما إن بدأت أزمة الخليج، حتى اندفع المفكرون والسياسيون وأصحاب الاهتمام العام في العالم العربي، إلى محاولات متلاحقة للتعرف على مستقبل المنطقة، على ضوء ما حدث. وهذا أمر طبيعي

وفالإنسان لا يفكر في مستقبله بشكل مكثف إلا في مواجهة التغيرات، سواء التي تنبع من داخله، أو التي تجيء من الظروف المحيطة به. أما في حالة الثبات والاستقرار النسبيين، فالأغلب أن تمضي الأمور بنفس منطقها، خاضعة لنفس المقاييس، أو على الأقل بنفس معدلات التغيير المستقرة.

ورغم أن الاندفاع إلى التفكير في المستقبل - بعد أزمة الخليج - يعتبر ظاهرة صحية، وفرصة لإعادة البناء على أساس واقعي جديد، فإن ما تابعته من نشاطات فكرية حول مستقبل المنطقة، بالحضور أو المشاركة أو بالقراءة عنه، لا يوحي بأن العقل العربي قد استوعب التجربة، واستطاع أن يستخلص منها الحقائق التي تساعده على رسم رؤية مستقبلية للشعوب العربية.

أطمع في أن نصل إلى الحد الأدنى من الفهم والوضوح، حول:

  • حقيقة ما يجري في عالم اليوم، وآثاره على المستقبل
  • حقيقة الواقع العربي
  • المنهج الأسلم للتفكير في مستقبلنا، على ضوء الحقيقتين

ضوابط ضرورية

وقبل أن أطرح بالتفصيل ما يتصل بهذه النقاط الثلاث، أحب أن أشير إلى بعض الضوابط التي أرى أن نلتزم بها عند التفكير والمناقشة.

أول هذه الضوابط، وأهمها، يتصل بحالة التغيير المتسارع الذي يسود العالم بأكمله.

ففي كل يوم في كل مكان على الأرض، تتكرر تغيرات غير مسبوقة في جميع مجالات الحياة السياسية والاقتصادية والاجتماعية، تتفاوت حدّتها من مجتمع لآخر، لكنها تسود كل المجتمعات.

لقد أثبتت التجربة العملية أن هذه التغيرات غير المسبوقة، تجعل من الصعب تفسير أي ظاهرة أو حل أي مشكلة، اعتماداً على الأفكار والنظريات والعقائد التي سادت العالم، حتى منتصف القرن الحالي. بل وأثبتت أيضاً أننا في حاجة إلى تعريفات جديدة، نتفق عليها بالنسبة للكلمات والمصطلحات التي اعتدنا استخدامها.

وقد لاحظت أننا عندما نتكلم عن الديمقراطية، مثلاً، يتكلم البعض وهو يقصد الشورى، أو السماح للبعض بإبداء الرأي، ويقصد البعض الآخر إلى مجرد هامش التعبير عن الرأي، بينما يقصد آخرون إلى ديمقراطية التمثيل النيابي بما تتضمنه من أحزاب وانتخابات ومجالس نيابية، والقلة فقط هي التي تلتزم بالفهم المعاصر للكلمة الذي يتفق مع التغيرات التي يمر بها الجنس البشري، والذي يقضي بهبوط قدر من سلطة اتخاذ القرار، بشكل متسلسل، من القمة إلى القواعد، كي تشارك القواعد في اتخاذ القرار في كل ما يمس مصالحها.

الحلول الجزئية

كذلك أثبتت التجربة أنه من الصعب حل المشاكل بطريقة جزئية، والتعامل معها كل على حدة، وأن هذه الصعوبة قد استجدت مع تلاحق التغيرات التي يمر بها العالم.

فيما قبل منتصف هذا القرن، وفي ظل الاستقرار النسبي للأسس والمبادئ والعقائد التي تحكم النشاط البشري، كان من الممكن أن نخطط للتعليم، أو الاقتصاد، أو الأسرة، كل على حدة، نتيجة لانضباط العلاقة بين مجالات النشاط البشري المختلفة، ونتيجة للثبات النسبي في معدلات التغيير لكل مجال على حدة.

المختصون في كل مجال، يشعرون الآن أن الحلول التقليدية لم تعد تقود إلى النتائج الإيجابية التي تعودوا عليها. إصلاح التعليم - مثلاً - على هدي النماذج الناجحة التي كانت سائدة طوال القرن السابق وأوائل القرن الحالي، تؤدي إلى تناقض بين الخريجين وطبيعة الحياة العملية الراهنة، ومن ثم تقود إلى تخريج دفعات من المتعطلين، أو الذين يتنافرون مع طبيعة العمل المسند إليهم.

لقد توصل المفكرون منذ قرنين إلى فهم طبيعة ومتطلبات المجتمع الصناعي الذي كان في أوج ازدهاره في ذلك الوقت، ومن ثم وضعوا أساساً للتعليم والإدارة والأسرة والعمل والإنتاج والثقافة، ينبع من هذا الفهم، فكان التعليم يخدم الإنتاج، والإدارة تخدم الاقتصاد، والأسرة تخدم السياسة.

لهذا، كان من الممكن أن يتصدى أحد المفكرين لإصلاح التعليم، معتمداً على ذلك الفهم المتبادل، فلا يخطئ في استخلاصاته. لكن التغيير المتسارع الشامل في جميع مجالات حياتنا، يكشف عن حاجتنا إلى فهم جديد للمجتمع الجديد والذي نعيش فيه، ويعيش فيه أولادنا. وهذا يعني صعوبة - وربما استحالة - البحث عن حلول في أي مجال من مجالات النشاط بشكل جزئي، قبل أن نفهم المبادئ والأسس الجديدة، التي يقوم عليها المجتمع الجديد، وقبل أن نتوصل إلى رؤية شاملة تنبع منها تصوراتنا في كل مجال.

العالمية بعد الدولية

ومن الأمور المستجدة، التي يجب أن نأخذها في الاعتبار عند التفكير في حل مشاكل أي مجتمع عربي، تآكل الحدود والحواجز بين الدول والمجتمعات، وسيادة واقع عالمي جديد.

لقد قادت التطورات التكنولوجية المتلاحقة في مجال المعلومات (الكمبيوتر - الاتصالات) إلى تأسيس واقع جديد يتجاوز مجرد العلاقات المتبادلة بين الدول، سواء في النواحي السياسية أم الاقتصادية أم الاجتماعية، ويوحي بكيان كلي جديد، يمكن أن نطلق عليه "العالمية".

المهم، أن العالم يتحول، كما يقال، إلى قرية صغيرة واحدة. ما يحدث في اليابان يتأثر به شعب أمريكا، بسرعة انتقال النبضات الألكترونية. وأقرب دليل على ذلك، مدى تشابك التأثيرات وردود الفعل خلال أزمة الخليج على العالم بأكمله.

المهمة الصعبة

من هذا، يمكننا أن نتبين صعوبة مهمة المفكر في هذا الزمان، في العالم العربي وفي العالم أجمع.

ومن هذا، يمكننا أن نعرف السرّ في أن جهودنا للتفكير في حل مشاكلنا، ورسم إطار مستقبلنا لا تتراكم، ولا تصل بنا إلى نتيجة ملموسة.

الموقف يمكن تلخيصه في التالي: أننا وسط دوامة من التغيرات المتلاحقة، مطلوب منا أن نرصدها، ونحاول التعرف على قوانينها، بينما هي في أوج حركتها العنيفة.

مطلوب منا أن نتعرف على حقيقة ما يحدث من أمور مستجدة، دون أن نعتمد على المعايير والمقاييس التي اعتدنا الاعتماد عليها، وأن نحاول استنباط المعايير والمقاييس النابعة من حركة التغيير.

وبشكل عام، مطلوب منا أن نمارس ما يمكن أن نطلق عليه "التشكك التأملي"، بأن نعيد النظر في الفروض والبديهيات والأفكار والعقائد، أياً كان مدى انتشارها، وأياً كان عمر الأخذ بها على مدى الزمن. كما أن علينا أن ننتبه إلى السياق الذي تنبع منه أفكارنا، لكي نرى إذا ما كانت مصادر هذا الفكر ما زالت قائمة، أم أنها انقضت، وأخلت مكانها لفكر جديد.

بهذا المنطق علينا أن ننظر إلى "تراثنا"، وأن نرى السياق الذي نبعت منه جزئيات ذلك التراث، وأن نتأمل الأسس والمبادئ المجتمعية التي خرجت منها حقائق هذا التراث، حتى يمكن أن نحصر عناصره الإيجابية البناءة التي يجب أن نتمسك بها، وعناصره السلبية المكرّسة لتخلفنا التي يجب أن نتخلص منها.

إلا أن صعوبة هذه المهمة لا تعني بأي حال من الأحوال عجز المفكر العربي عن التصدي لها. ومن تجربتي الشخصية، أرى أن العالم العربي حافل بالعقول المستنيرة القادرة على مواجهة هذه المهمة الصعبة، والفاهمة للضوابط المعاصرة للتفكير، والواعية بالمسار السليم لدراسة الواقع المحلي والعالمي الجدد. إلا أن هذه العقول مازالت أشبه بالجزر المنعزلة، لا يجمعها جامع، ولا يربطها رابط، ولهذا لا تتراكم جهودها، بما يصنع أساس حركة فكرية عربية معاصرة.

المسار الفكري السليم

إنجاز هذه المهمة الصعبة يحتاج إلى أن نسلك المسار السليم في التفكير. والاتفاق على هذا المسار سيوفر الكثير من العناء، ويصل بالاختلافات الحالية بين المفكرين إلى حدها الأدنى. والنقاط الثلاث التي أشرت إليها في مطلع الحديث، تتضمن - بتتابعها الذي أوردته - الهيكل الأساسي للمسار الفكري المطلوب.

أولى هذه النقاط، أعني بذلك التعرف على حقيقة ما يجري في عالم اليوم، تشغل موقعها هذا بين باقي النقاط، باعتبار أن تحديد وفهم المتغيرات الطارئة، يسبق نظرنا إلى واقعنا، وحلمنا بها نريد. والسر في التخبط الفكري الحالي، أن البعض يغرق في تقييم الواقع على أسس تقليدية نابعة من ظروف أو قياسات سابقة زمنياً، فيصل إلى نتائج وحلول لا تتفق مع الواقع الجديد الذي تفرضه المتغيرات. وينطلق البعض الآخر من أحلام تاريخية، أو مدن فاضلة، تقوده إلى تصور حلول متناقضة مع الواقع ومع ما تمضي إليه أوضاع الجنس البشري، ومن ثم فهي حلول مستحيلة، تعتمد على قدرتنا على إعادة عجلة التاريخ إلى الوراء.

هذا الذي أدعو إليه، أمر طبيعي، تؤكده الآليات التي تحكم حركة الإنسان، كلما استجد تغير على واقعه الخاص أو العام. فالإنسان يمضي في حياته على نفس النسق الذي سبق له أن التزمه، حتى يطرأ جديد، داخله، أو في محيطه. هنا فقط، يبدأ الإنسان في تأمل ذلك الوضع الجديد، وما يترتب عليه من إجراءات، لابد أن يتخذها حتى يتوافق معه، أو يقاومه بوعي. يصدق هذا على أصغر الأمور وأكبرها. في جميع الأحوال، يبدأ الأمر بتأمل الواقع الجديد، والسعي الجاد للتعرف على طبيعته وأبعاده، وآثاره المحتملة قريباً وبعيداً. ثم يكون الانتقال إلى تأمل الواقع ودراسة الإمكانات، والاستعداد للواقع الجديد بأقل جهد، وأدنى خسائر مادية أو معنوية.

انفصال أم كيانات كبيرة؟

لهذا، تكون مهمتنا الأولى أن نسعى إلى فهم معنى ما يستجد في العالم، ويبدأ هذا برصد مؤشرات التغير الأساسية، التي تؤثر بشكل مطرد في المجتمع البشري هذه الأيام. ومع ضخامة هذه المهمة وتشعبها، فإنها أكثر عناصر البحث سهولة، وهي تعني رصد الظواهر اليومية واستخلاص معدلات نموها أو تراجعها. والمكتبة المستقبلية حافلة بالكتب التي ترصد هذه المؤشرات، اعتماداً على عملية (تحليل المضمون).

ومن أسباب تخبطنا في العالم العربي، أن بعض المفكرين يتناولون واحداً من هذه المؤشرات، ثم يقفزون مباشرة إلى محاولة تصور الحلول لمشاكل مجتمعاتهم، فيقعون في تناقضات مستمرة. مثال ذلك، مؤشر يقول إن العالم يتجه إلى الكيانات الكبيرة، السياسية والاقتصادية، فيتصور البعض أن الحل هو الوحدة العربية الشاملة، دون أن ينظر إلى باقي المؤشرات التي توضح طبيعة هذه الكيانات الكبيرة، وكيف تختلف عن عمليات الدمج التي عرفها عصر الصناعة على يد غاريبا لدي في إيطاليا، وبسمارك في ألمانيا، فإذا تأمل هذا البعض مؤشراً آخر من هذه المؤشرات المستقبلية، والذي يتضمن حق الأقليات العرقية والعقائدية في التعبير عن ذاتها، دون إرغام من الأغلبية، وإذا تابعوا الحركات الانفصالية، من الاتحاد السوفييتي إلى الهند، ومن التبت إلى أيرلندا، إذا تأملوا هذا أدركوا أن الكيانات الكبرى الجديدة، كالوحدة الأوربية، أو بمعنى أدق السوق الأوربية المشتركة، تقوم على أساس جديد، لا يمنع الطوائف والأعراق المختلفة داخل كل دولة من الدول الأوربية أن تعبر عن ذاتها.

لا أريد الآن أن أدخل في طرح تفاصيل هذه المؤشرات، ودلالة كل منها، لكن ما أريد أن ألفت إليه الانتباه، هو عدم جدوى الاعتماد على هذه المؤشرات، كل على حدة، دون أن يسبق ذلك:

1 - فهم العلاقات المتبادلة بينها.

2 - محاولة استنباط القوانين التي تحكمها، والأسس والمبادئ التي تقوم عليها.

بعد أن نصل إلى هذا، يمكننا أن نعتمد على الفهم الذي توصلنا إليه في تأمل واقعنا، في كل دولة عربية على حدة، ثم تأمل ما يمكن أن يقوم بين الدول العربية من وشائج وروابط.

وعندما نصل إلى هذا الحد الأدنى من الاتفاق، نستطيع - عندئذ فقط - أن نبدأ في رسم رؤانا الاستراتيجية في كل بلد عربي، ثم رؤيتنا الاستراتيجية العربية العامة.