هنري روسو... لوحـة شخصـية لطفـولة متعثرة
أكان هنري روسـو Henri Rousseau فناناً فطرياً أم طفلاً متمرداً؟
أكان تلقائياً أم صاحب قدرة عجيبة على رسم الحياة عن قصديةِ وعي سريالي عميق منح لوحاته بعداً أكثر وضوحاً وأكثر تأثراً بالأشياء، لنكتشف معه المتعة البصرية التي تزودنا بها الطبيعة في لوحة فنية خالصة؟
هذه اللوحة التي تكرس للطبيعة وتنهل منها بصبغة ألوان حادة وصارمة، اختلفت بلا شك عن آليات الفن التشكيلي الحديث وتصنيفاته، ولا شك أيضاً في أنها أثرت في جوهر الحداثة وروحها، وظلت وفيةً لعالمها الفني التقليدي الساذج، وسحرها الطفولي الصاخب، الذي يعبر عادةً عما يضج بالحركة والسكون معاً.
ارتبط اسمه بالمدرسة الوحشية التي أُسست مطلع القرن العشرين، وهي اتجاه فني عميق اعتمد على التبسيط وأعطى للفنان التشكيلي مساحةً من الحرية أكثر اتساعاً في خلق اللوحة الفنية، بحيث تعبر هذه الألوان الصارمة ببراءة وسذاجة عن الفنان وعن تلك الأحاسيس والمشاعر وعلاقاتها الأكثر تداخلاً وتشابكاً وانفعالاً، فاللون في لوحة هنري روسو هو الوسيلة الأساسية في التعـــــبير.
في عام 1906 شاهد الناقد الفني الكبير لويس فوكسيل تمثالاً منحوتاً لـ«دوناتللو» معروضاً في صالون الفنانين المستقلين في باريس ضمن أعمال مجموعة من الفنانين الشباب يطلق عليهم «الشعبيون» لإيمانهم الشديد بفكرة التبسيط في الفن والاعتماد على البديهية في رسم الأشكال، والتحرر من كل القيود الفنية كالمنظور والقيم اللونية المتعارف عليها (الظل والنور) وتعبيرهم بسذاجة وفطرية عن موضوعات بعينها، وكذلك اعتمادهم في معالجة لوحاتهم على ألوان صاخبة كالأحمر القاني والأخضر والأزرق والبنفسجي والأصفر وغيرها، ساعتها قال لويس فوكسيل: «دوناتللو بين الوحوش» فسميت بعد ذلك بالمدرسة الوحشــية.
يعـــد هنــــري روسو واحـــــداً من كبار قادة هذا الاتجاه الفني مع هنري ماتيــــس وجــــورج رووه ومريس فلمنج وراؤول دومي، كما أَطلق عليه عدد من النقاد ودارسي فنه ومجايليه «رائد الفن الساذج» بلا منازع، فغالباً ما يقع فنانو هذه المدرسة في شرك التقليد، ويغلب على الشكل الفني في لوحاتهم شكل ساذج وعفوي بسيط لكنه لا يخلو من توظيف سريالي شديد التعقيد وشديد الحضور بشكل أو بآخر كما هي الحال في أعمال ذلك الفنان التشكيلي.
هنري- جولين- فيلكس روسو الاستثنائي في مخيلته وألوانه وانفعالاته لم يدرس الفن أكاديمياً نتيجة فقر أسرته ذات الأصول الفرنسية، ولد في بليس هاردي بلافال عام 1844 شمال غرب فرنسا، والده كان سمكرياً وأمه امرأة بسيطة ابنة موظف صغير، عاشَ روسو طفولة بائسة ومــــا لبــــث أن التـــحق مبكراً بالجيش في الثامنة عشرة من عمره مشاركاً في الحملة العسكرية على المكسيك إبان الحملات الفرنسية، ليؤدي خدمته العسكرية جنــــدياً عازف ساكسفون ماهراً بفرقــــة مشاة موسيقية، وهذه الفترة التي قضاها في المكسيك أثرت في جُلّ تجربته، على حد تعبيره، إذ اعتبر روسو أن «تجربته كجندي في المكســــيك كانت مصدراً للوحاته»، رغم انقــسام النقاد حول ذلك الرأي الذي قال به روسو نفسه، وأغلبهم ذهب إلى القول إن مصدر لوحات هـــذا الفنان كان الحدائق النباتية في باريس والحيوانات البرية، وبعض كتب الأطفال، والكتب المصورة للدرجة التي جعلته يبالغ في حجم الطبيعة مقابل حجم الإنسان، كما في لوحته الشهيرة «العربة» التي رسمها بعفوية وصدق كبير، فالعربة هي الخلفية العريضة التي تجمعت حولها الأسرة المبتهجة بوضوح في هذه اللوحة، لقد قال روسو: «لا شيء يجلب لي السعادة أكثر من تأمّل الطبيعة ورسمها»، كذلك صور الطفولة الغـائرة.
في «لوحة الغجرية النائمة» أو الغابة الفاضلة التي وصفها باونيس بأنها «تحفة تعذر تفسيرها لرسامي ذلك العصر من الشبان، ندركُ الحلم ووحشية الطبيعة وسذاجتها على السطح، ويظهر الإنسان كخلفية للوحة تسيطر عليها الطبيعة، ونمسك بالتلقائية المحضة وشدة الغرابة في رسم الموقف، فالأسد قريباً على اللوحة من امرأة ذات ثياب أكثر غرابة مستلقية على الأرض يصفها روسو قائلاً: «لدينا في هذه اللوحة زنجية نزقة متكئة على الأرض عازفة على آلة الماندولين بجانبها جرة ماء، لم تتوقف عن التجول وبعدما أنهكها تعب التجول نامت قليلاً، وبالمصادفة يمر بجوارها أسد، لكنه لا يهتم لالتهامها، نجد حركة الإنسان المتوحد مع الطبيعة، هذا التوحد الذي يعكسه تصرف الأسد وكأنه متمرد مع الغجري ضد نمط الحياة».
في «لوحة شخصية»، الرسام في منتصف اللوحة بكامل هيئته حاملاً أدواته الفنية بثقة غير مبال بالتفاصيل حوله، كأنه الأسد في «لوحة امرأة غجرية»، إنها من دون شك صورته الشخصية أو لوحته الشخصية المليئة بالتفاصيل التي لا تزعج الفنان على اللوحة، لكنها تحتفي به وتظل صامتة أمامه، هي خلفية لشخصية تملأ الكادر تماماً على السطح.
الطبيعة مصدر اللذة
كان روسو فناناً فطرياً مشغولاً بالحياة والبحث في تفاصيل الماضي الفوضوية، وما خلَّفته هذه التفاصيل من خصوصية ممهورة باسمه حتى الآن، لقد أبدع في تصوير حياة فنية تشكيلية من الغابات، صاخبة وبريئة كما في لوحاته التي ذكرناها، بل في أغلب ما رسم هذا الفنان تظل الطبيعة هي لغة الألوان وصدر المشهد ومصدر اللذة وحسه الفني الفريد «مَنتجتها» ريشة فنان كبير وغلَّفتها قيم البراءة وقوة المشاعر الفياضة، وهي قيم مطلوبة لآلية الفن المعاصر، حققها روسو في رسوماته من دون أن يكترث بها.
نعم، كان فناناً فطرياً وليدَ دهشته وصخبه ومخيلته الطفولية البائسة «لقد اتخذت في عديد من المناسبات وضعاً لروسو الجمركي، وقبل البدء كان قد قاس أنفي، فمي، أذني، جبهتي وكل جسدي، نقل هذه القياسات بأمانة شديدة إليّ ثم إلى مقياس للصورة، بينما يقوم روسو بهذا كان يسليني، لأن الجلوس الطويل مضجر، بإنشاد أغان عن أيام شبابه».
هكذا يصفه أبولنير أحد عمالقة عصره: هنري روسو الذي لم يستطع أن يتفرغ للفن قبل سن الأربعين ابتكر معلمه بنفســه، والمعلم هو الطبيعة في عنفوانها وعفــــويتـــــها وملامـــحها الصاخـــبة الـــتي بالغ كـــثــيراً في الاحتـــفاء بها، رسمها بعنـــف طفـــولي باهــــر، متمثــــلة في غاباته وحيواناته المفعمـــة بالمرمز والبــــسيط في تجربة فنية تشكيلية كبــــيرة لتظل الطبيعة رغم خشونتها «الأكثر رفقاً بعــالم الإنسان والأكثر قدرة على احتوائه، والوفاء بأحلامه البريئة وربما الساذجة بعالم تسوده قيم التعاطف والتسامح والعدل والسلام».
لوحته الشهيرة «الحلم» هي لوحة كبيرة يصل حجم أبعادها إلى 2.4× 2.099 متر، اشتغل عليها روسو لأكثر من ثلاثة أشهر كاملة بدءاً من أعلى اللوحة إلى الأجزاء السفلية، وكان يبدأ الرسم بلون واحد فقط هو الأخضر ثم الذي يليه ليحتوي عمل لوحة «الحلم» على أكثر من خمسين درجة من درجات اللون الأخضر وحده.
تأمل
«أنا هنــــري روســو، باريسيّ مثل فنانين آخرين، واقــــف بثبات على ضفة نهر الــسين، وثَمَّ أيضاً برج إيــــفل»، عالم الحلم يبدو جلياً وبسيطاً من دون مواربة يُحيــلنا رغـــم ذلك إلى ذكاء سريالى متشابك ومزيج رائع من البساطة والدقة المتناهية في رسم الطبيعة الخلابة الخاصة بوضوح لغة لونية صارخة، نعم كانت تجربة متمردة وظلت مختلفــــة منــــذ مطلع القرن العشرين بتوظيفها السريالي المشاكس وعوالمها المألوفة للعين وألوانها الصاخبة ووضوحها المتناهي، لقد رسم لوحته بطريقته ولم يلتفت كثيراً لتلك التصنيفات ولا التعقيدات التي تشوب محاولات الفنانين التشكيليين من خلال النقد الأكاديمي، بل نجــــح نجـــــاحاً باهراً دفع بكبار السرياليين والانطباعيين وغيرهم إلى الإعجاب بفنه ولغته الفنية الفطرية وقدرته التشكيلية العميقة على اللوحة.
يقول أندريه مالــــرو «إن هــــنري روســو يمتلك نوعاً من السلطة ولكـــن بطفــــولية ماكـرة، إن الشعراء غالباً ما يمتلكون مثل هذا الحس» .