حيزية... قصيدة شعبية من الجزائر

حيزية... قصيدة شعبية من الجزائر

‮«‬حيزية‮»‬‭... ‬هي‭ ‬قصة‭ ‬حبّ‭ ‬شهيرة‭ ‬في‭ ‬الجزائر،‭ ‬عرفها‭ ‬الناس‭ ‬وتداولوها‭ ‬من‭ ‬خلال‭ ‬قصيدة‭ ‬شعبية‭ ‬رائعة‭ ‬أبدعها‭ ‬الشاعر‭ ‬أحمد‭ ‬بن‭ ‬قيطون؛‭ ‬الذي‭ ‬وشّاها‭ ‬في‭ ‬دفق‭ ‬سردي‭ ‬بشاعرية‭ ‬عذبة؛‭ ‬فحكى‭ ‬من‭ ‬خلالها‭ ‬الإنسان‭ ‬كما‭ ‬قالته‭ ‬نفسه‭ ‬من‭ ‬أعماقها‭ ‬وإنسانيته‭ ‬التي‭ ‬بحجم‭ ‬الكون‭..‬أخذ‭ ‬بن‭ ‬قيطون‭ ‬متن‭ ‬نصه‭ ‬من‭ ‬واقعة‭ ‬في‭ ‬قومه،‭ ‬حيث‭ ‬أحبّ‭ ‬سعيد‭ ‬بلباي‭ ‬ابنة‭ ‬عمّه‭ ‬حيزية‭ ‬وهام‭ ‬في‭ ‬رحاب‭ ‬المرأة‭ ‬الكون‭..‬تزوجها‭ ‬وهي‭ ‬في‭ ‬ريعان‭ ‬شبابها‭ ‬وجمالها،‭ ‬وفي‭ ‬رحلة‭ ‬من‭ ‬سيدي‭ ‬خالد‭ (‬ولاية‭ ‬بسكرة‭ ‬حالياً‭) ‬إلى‭ ‬التّل‭ (‬ولاية‭ ‬سطيف‭ ‬حالياً‭) ‬من‭ ‬أجل‭ ‬الماء‭ ‬والكلأ‭ ‬في‭ ‬ما‭ ‬يعرف‭ ‬برحلة‭ ‬العشّابة،‭ ‬توفيت‭ ‬حيزية‭ ‬بعد‭ ‬مرض‭ ‬قصير‭ ‬وفقد‭ ‬سعيد‭ ‬جاذبية‭ ‬الحياة‭ ‬وهام‭ ‬على‭ ‬وجهه‭ ‬يبكي‭ ‬لوعته‭ ‬ويقطّع‭ ‬أنفاسه‭ ‬في‭ ‬فقدها‭... ‬عاشت‭ ‬حيزية‭ ‬الهلالية‭ ‬في‭ ‬قومها‭ ‬الذواودة‭ ‬من‭ ‬1853‭ ‬إلى‭ ‬1878‭. ‬وما‭ ‬كاد‭ ‬القرن‭ ‬التاسع‭ ‬عشر‭ ‬يتم‭ ‬حتى‭ ‬انتشرت‭ ‬قصتها‭ ‬وحرقة‭ ‬سعيد‭ ‬حبيبها‭ ‬في‭ ‬كل‭ ‬ربوع‭ ‬الجزائر‭ ‬وبلاد‭ ‬المغرب‭ ‬عموما،‭ ‬وذلك‭ ‬بفضل‭ ‬النص‭ ‬الرائع‭ ‬للشاعر‭ ‬أحمد‭ ‬بن‭ ‬قيطون،‭ ‬حتى‭ ‬قيل‭ ‬إن‭ ‬الذي‭ ‬أحبّ‭ ‬حيزية‭ ‬هو‭ ‬ابن‭ ‬قيطون‭ ‬نفسه‭... ‬في‭ ‬النّص‭ ‬زوايا‭ ‬كثيرة‭ ‬للبحث‭ ‬والمقاربة‭.. ‬وقراءتي‭ ‬هذه‭ ‬واحدة‭ ‬من‭ ‬كثير‭.    

في‭ ‬البداية

في‭ ‬البداية‭ ‬تقتضي‭ ‬المنطلقات‭ ‬الواعية‭ ‬منهجة‭ ‬أيّ‭ ‬إنجاز‭ ‬دراسي‭ ‬وفق‭ ‬طرح‭ ‬الإشكالات‭ ‬وصوغها‭ ‬على‭ ‬إيقاع‭ ‬التسلسل‭ ‬البنائي،‭ ‬ولذلك‭ ‬على‭ ‬كل‭ ‬نص‭ ‬أن‭ ‬يقول‭ ‬حركته‭ ‬في‭ ‬أثناء‭ ‬قول‭ ‬محتواه‭. ‬ولعلّ‭ ‬مسار‭ ‬هذا‭ ‬المقال‭ ‬في‭ ‬إنشائه‭ ‬قول‭ ‬يطمح‭ ‬وصف‭ ‬قصيدة‭ ‬‮«‬حيزية‮»‬‭ ‬لـ‭ ‬‮«‬أحمد‭ ‬بن‭ ‬قيطون‮»‬،‭ ‬وإعرابها‭ ‬إعراباً‭ ‬ثقافياً‭ ‬ضمن‭ ‬الجملة‭ ‬الكبرى‭ ‬للهوية‭ ‬والانتماء‭ ‬الجزائريين،‭ ‬وهو‭ ‬الأمر‭ ‬الذي‭ ‬لم‭ ‬تنخرط‭ ‬فيه‭ ‬جهود‭ ‬الدارسين‭ ‬والباحثين‭ ‬إلى‭ ‬العمق‭ ‬المطلوب،‭ ‬ولم‭ ‬يتعدّ‭ ‬بذلك‭ ‬هذا‭ ‬النص،‭ ‬وغيره،‭ ‬تصريحه‭ ‬وخطابه‭ ‬المعياري‭ ‬والإمتاعي،‭ ‬وبقي‭ ‬في‭ ‬مساحاته‭ ‬الخصيبة‭ ‬ثقافة‭ ‬وحضارة‭ ‬جدباً‭ ‬وصامتاً‭.‬

  ‬تحاول‭ ‬هذه‭ ‬القراءة‭ ‬استثمار‭ ‬المقولات‭ ‬الثقافية‭ ‬الفكرية‭ ‬والثقافية‭ ‬الحضارية‭ ‬بسبيل‭ ‬توظيف‭ ‬المقاربة‭ ‬التداولية‭ ‬لطبيعة‭ ‬النص‭ ‬الاتّصالية،‭ ‬وربطها‭ ‬بالبعد‭ ‬البنيوي‭ ‬الأنثروبولوجي،‭ ‬وذلك‭ ‬كلّه‭ ‬في‭ ‬سياق‭ ‬ما‭ ‬أصبح‭ ‬يعرف‭ ‬بالنقد‭ ‬الثقافي،‭ ‬الذي‭ ‬تساوق‭ ‬اطّراداً‭ ‬مع‭ ‬مسارات‭ ‬البحث‭ ‬في‭ ‬نظام‭ ‬المعايير‭ ‬اللّغويّة‭ ‬من‭ ‬حيث‭ ‬هي‭ ‬منظام‭ ‬للقول‭ ‬الدّلالي‭ ‬في‭ ‬ارتباطات‭ ‬النصوص‭ ‬بمجالها‭ ‬في‭ ‬الأصل‭ ‬المنشئ‭ ‬وفضائها‭ ‬الحيّ‭ ‬في‭ ‬التواصل‭.‬

  ‬يعتبر‭ ‬الأدب‭ ‬الشعبي‭ ‬في‭ ‬المدوّنة‭ ‬الحديثة‭ ‬للإنجازات‭ ‬الأكاديمية‭ ‬أحد‭ ‬الرّهانات‭ ‬المعرفية‭ ‬والعلمية‭ ‬والفنية‭ ‬التي‭ ‬لم‭ ‬تتأخّر‭ ‬عن‭ ‬الاندماج‭ ‬في‭ ‬سياق‭ ‬بحث‭ ‬الشعوب‭ ‬عن‭ ‬مواقعها‭ ‬الانتمائية،‭ ‬ووجد‭ ‬الفلكلوريون‭ ‬في‭ ‬المدوّنات‭ ‬الجماهيرية‭ ‬نصّاً‭ ‬قويّاً‭ ‬للمنطق‭ ‬التحريضي‭ ‬والتعويضي‭ ‬في‭ ‬اكتشاف‭ ‬الشخصية‭ ‬المنسجمة‭ ‬داخل‭ ‬حدود‭ ‬الوحدة‭ ‬والفاعلة‭ ‬في‭ ‬إطار‭ ‬التماسك،‭ ‬والسجلات‭ ‬التأريخية‭ ‬تدل‭ ‬على‭ ‬هذا‭ ‬التوظيف‭ ‬لمواد‭ ‬التراث‭ ‬الشعبي‭ ‬في‭ ‬تشييد‭ ‬الأيديولوجيات‭ ‬الديمقراطية‭ ‬وبناء‭ ‬الأجهزة‭ ‬السياسية‭ ‬ومؤسّساتها،‭ ‬ليصبح‭ ‬الفلكلور‭ ‬إحدى‭ ‬أهمّ‭ ‬لغات‭ ‬السياسات‭ ‬العملية‭ ‬وأقوى‭ ‬اتجاهاتها،‭ ‬وتعتبر‭ ‬هذه‭ ‬الحقيقة‭ ‬التاريخية‭ ‬كاشفاً‭ ‬لثراء‭ ‬النص‭ ‬الأدبي‭ ‬الشعبي،‭ ‬ودافعاً‭ ‬للمعيارية‭ ‬باتجاه‭ ‬خرق‭ ‬الدراسات‭ ‬المغلقة‭ ‬التي‭ ‬تسجن‭ ‬النص‭ ‬في‭ ‬معياره‭ ‬وتعزله‭ ‬عن‭ ‬مجاله‭ ‬الحيّ‭.‬

  ‬في‭ ‬سياق‭ ‬الوعي‭ ‬المنهجي‭ ‬والتاريخي‭ ‬بخطورة‭ ‬النص‭ ‬الأدبي‭ ‬الشعبي،‭ ‬ترى‭ ‬هذه‭ ‬القراءة‭ ‬فتح‭ ‬المدوّنة‭ ‬على‭ ‬مساحاتها‭ ‬الثقافية‭ ‬والدلالية‭ ‬ذاتاً‭ ‬واجتماعاً‭ ‬داخل‭ ‬محيط‭ ‬الارتباط‭ ‬العضوي‭ ‬للقول‭ ‬بالإطار‭ ‬الزمني‭ ‬والمكاني‭ ‬وما‭ ‬في‭ ‬حدودهما،‭ ‬وبطرح‭ ‬الأسئلة‭ ‬وأشكلتها‭ ‬يقودنا‭ ‬النص‭ ‬المساءل‭ ‬إلى‭ ‬خارج‭ ‬مدارات‭ ‬الانطباعية‭ ‬والذوقية،‭ ‬ليعيد‭ ‬نظرنا‭ ‬في‭ ‬الإسقاطات‭ ‬الجاهزة‭ ‬التي‭ ‬شكّلتها‭ ‬الرّؤى‭ ‬الإنشائيّة،‭ ‬وكذا‭ ‬القصد‭ ‬التعليمي‭ ‬المكرّر‭ ‬بين‭ ‬دفتي‭ ‬المباح‭ ‬واللامباح،‭ ‬والمسموح‭ ‬والمحضور،‭ ‬حتّى‭ ‬ترسب‭ ‬في‭ ‬أغشية‭ ‬وعينا‭ ‬الجمعي‭ ‬المفهوم‭ ‬المحرّم‭ ‬عن‭ ‬الحبّ‭ ‬والخطاب‭ ‬المنجز‭ ‬فيه‭ ‬وحوله،‭ ‬وارتسمت‭ ‬قراءات‭ ‬وثنية‭ ‬للنص‭ ‬فأغلقته‭ ‬وجعلت‭ ‬من‭ ‬يصفه‭ ‬بالمفتوح‭ ‬مارقاً‭ ‬نقدياً‭ ‬ومتمرّداً‭ ‬على‭ ‬الواجب‭.‬

  ‬نص‭ ‬قصيدة‭ ‬‮«‬حيزية‮»‬‭ ‬الخالد‭ ‬والرائع‭ ‬تدور‭ ‬الإجابات‭ ‬بشأنه‭ ‬مثل‭ ‬الصّدى‭ ‬الذي‭ ‬يسكن‭ ‬كهف‭ ‬عقولنا‭ ‬ووجداننا‭ ‬قبل‭ ‬مدّة‭ ‬طويلة،‭ ‬فنجد‭ ‬التجاوب‭ ‬حين‭ ‬تناوله‭ ‬نمطيّاً‭ ‬حتّى‭ ‬وإن‭ ‬كان‭ ‬السؤال‭ ‬مختلفاً،‭ ‬فالجميع‭ ‬بمن‭ ‬فيهم‭ ‬الأكاديميون‭ ‬يتحدّثون‭ ‬عن‭ ‬النص‭ ‬وحمرة‭ ‬تعلو‭ ‬وجوههم‭ ‬خجلاً‭ ‬ليقولوا‭: ‬‮«‬قصّة‭ ‬حبّ‮»‬‭ ‬أو‭ ‬‮«‬بكاء‭ ‬هستيري‭ ‬لرجل‭ ‬فقد‭ ‬أنثاه‮»‬‭ ‬أو‭ ‬‮«‬غزل‭ ‬فاضح‭ ‬يضيء‭ ‬زوايا‭ ‬الفراش‮»‬،‭ ‬والغريب‭ ‬أنّ‭ ‬البعض‭ ‬يحاكم‭ ‬النص‭ ‬وصاحبه‭ ‬حين‭ ‬يقول‭: ‬‮«‬ابن‭ ‬قيطون‭ ‬سينمائي‭ ‬بارع‭ ‬ونصه‭ ‬جريء،‭ ‬صوّر‭ ‬ما‭ ‬حجبته‭ ‬أخلاق‭ ‬الحياء‮»‬،‭ ‬وكثيرة‭ ‬هي‭ ‬الأقوال،‭ ‬لكنّها‭ ‬لا‭ ‬تخرج‭ ‬في‭ ‬جملتها‭ ‬عن‭ ‬عقدة‭ ‬الجنس‭ ‬ومدار‭ ‬‮«‬الذكر‭ ‬والأنثى‮»‬‭. ‬وقد‭ ‬ذكرت‭ ‬هذا‭ ‬من‭ ‬باب‭ ‬التدليل‭ ‬على‭ ‬أن‭ ‬النص‭ ‬ظلم،‭ ‬وأن‭ ‬رفع‭ ‬الظلم‭ ‬عنه‭ ‬يعني‭ ‬التجول‭ ‬في‭ ‬خصبه‭ ‬واستنطاق‭ ‬ثرائه‭.‬

  ‬فهل‭ ‬فعلاً‭ ‬نص‭ ‬قصيدة‭ ‬‮«‬حيزية‮»‬‭ ‬ليس‭ ‬إلا‭ ‬قصة‭ ‬حب؟‭ ‬وهل‭ ‬حقيقة‭ ‬‮«‬حيزية‮»‬‭ ‬هي‭ ‬المثير‭ ‬الأنثوي‭ ‬الذي‭ ‬فجّر‭ ‬مأساة‭ ‬الفقد‭ ‬الذكوري؟‭. ‬وهل‭ ‬‮«‬ابن‭ ‬قيطون‮»‬‭ ‬لم‭ ‬يضمّن‭ ‬قوله‭ ‬غير‭ ‬تاء‭ ‬الأنثى؟‭ ‬

لا‭ ‬ترى‭ ‬القراءة‭ ‬المنهجيّة‭ ‬شيئا‭ ‬مما‭ ‬سبق،‭ ‬لأنها‭ ‬تدفع‭ ‬بالنص‭ ‬إلى‭ ‬مجرته‭ ‬الواسعة‭ ‬وخطابه‭ ‬الناطق‭ ‬والساكت،‭ ‬وتستثمر‭ ‬الدال‭ ‬والمدلول‭ ‬في‭ ‬اجتماعهما‭ ‬المعياري‭ (‬اللغوي‭) ‬والتأويلي‭ ‬المحدّد‭ ‬بالنص‭ ‬الثقافي‭ ‬ولغته‭ ‬وعلاماته‭ ‬ومعالمه،‭ ‬والقراءة‭ ‬في‭ ‬إنجازها‭ ‬تحدّد‭ ‬خطوات‭ ‬تلتزمها‭ ‬لمقاربة‭ ‬النص،‭ ‬وترى‭ ‬في‭ ‬اسم‭ ‬العلم‭ ‬عتبة‭ ‬لا‭ ‬بدّ‭ ‬منها‭:‬

 

حيزيّة‭.. ‬المرأة‭ ‬والدّلالة

كلّ‭ ‬الأمم‭ ‬والشعوب‭ ‬تختم‭ ‬هوياتها‭ ‬بذكر‭ ‬الخالدات‭ ‬من‭ ‬النساء‭ ‬اللّواتي‭ ‬فوضهن‭ ‬وانتدبهن‭ ‬الشعب‭ ‬سفيرات‭ ‬لدى‭ ‬التاريخ،‭ ‬فلايزال‭ ‬ذكرهنّ‭ ‬راسخاً‭ ‬باقياً،‭ ‬بل‭ ‬بعض‭ ‬الشعوب‭ ‬لا‭ ‬تُذكر‭ ‬إلا‭ ‬بنسائها،‭ ‬فمن‭ ‬لا‭ ‬يعرف‭ ‬‮«‬كليوباترا‭.. ‬زنوبيا‭.. ‬إيزيس‭.. ‬تاج‭ ‬محل‭.. ‬الخنساء‭.. ‬عشتار‭..‬‮»‬‭ ‬وغيرهنّ،‭ ‬فالمرأة‭ ‬رحم‭ ‬البقاء‭ ‬الآبد،‭ ‬والنص‭ ‬الذي‭ ‬لا‭ ‬ينتهي،‭ ‬والماء‭ ‬الذي‭ ‬لا‭ ‬يجفّ،‭ ‬وكلّ‭ ‬النصوص‭ ‬التي‭ ‬انتسج‭ ‬قولها‭ ‬وخطابها‭ ‬كانت‭ ‬المرأة‭ ‬نواتها‭ ‬الأصل‭ ‬أو‭ ‬المشاركة،‭ ‬فمن‭ ‬أقدم‭ ‬الملاحم‭ ‬والأساطير‭ ‬إلى‭ ‬أحدث‭ ‬النصوص،‭ ‬تفجّرت‭ ‬هذه‭ ‬البؤرة‭ ‬الدّفاقة‭ ‬وصنعت‭ ‬الخالد‭ ‬في‭ ‬مواجهة‭ ‬الفاني،‭ ‬منذ‭ ‬‮«‬جلجامش‮»‬‭ ‬الملحمة‭ ‬الآشورية‭ ‬التي‭ ‬سجّلت‭ ‬البطل‭ ‬الخالد‭ ‬ولداً‭ ‬على‭ ‬صفحات‭ ‬الأم‭ ‬الآلهة،‭ ‬إلى‭ ‬هاجر‭ ‬وسارة‭ ‬الأم‭ ‬الرّبانية‭ ‬للرّجل‭ ‬النبي،‭ ‬انتقالاً‭ ‬إلى‭ ‬‮«‬هيلانة‮»‬‭ ‬الحبيبة‭ ‬المسالمة‭ ‬التي‭ ‬أوقدت‭ ‬الحرب‭ ‬وأطفأتها‭ ‬على‭ ‬أرض‭ ‬يونان،‭ ‬إلى‭ ‬عبلة‭ ‬وليلى،‭ ‬وتاج‭ ‬محل‭ ‬التي‭ ‬نبت‭ ‬من‭ ‬جسارتها‭ ‬العمران‭ ‬والحضارة،‭ ‬و«إيزيس‮»‬‭ ‬القبر‭ ‬الذي‭ ‬ضم‭ ‬في‭ ‬دفء‭ ‬صدره‭ ‬الإله‭ ‬والحبيب‭ ‬‮«‬أوزوريس‮»‬‭ ‬الفرعوني،‭ ‬إلى‭ ‬‮«‬جولييت‮»‬‭ ‬التي‭ ‬كسّرت‭ ‬حصون‭ ‬الطبقية‭ ‬بين‭ ‬القلوب‭.. ‬ولعلّنا‭ ‬نختم‭ ‬في‭ ‬السياق‭ ‬بعد‭ ‬أن‭ ‬نعترف‭ ‬باستحالة‭ ‬الإحاطة‭ ‬بالذكر‭ ‬لجميعهنّ‭ ‬بالملحمة‭ ‬الحديثة‭ ‬‮«‬تيتانيك‮»‬،‭ ‬التي‭ ‬تموقعت‭ ‬مثلاً‭ ‬ومعلماً‭ ‬ومرجعاً‭ ‬للخطاب‭ ‬الإنساني‭ ‬الوجداني‭ ‬في‭ ‬عالمنا‭ ‬المعاصر‭.‬

بعد‭ ‬هذا،‭ ‬أليست‭ ‬‮«‬حيزية‮»‬‭ ‬هي‭ ‬عشتار‭ ‬الجزائر،‭ ‬و«هيلانة‮»‬‭ ‬في‭ ‬بساط‭ ‬الصّحراء،‭ ‬و«جولييت‮»‬‭ ‬و«روز‮»‬‭ ‬التيتانيك؟‭ ‬وهي‭ ‬التي‭ ‬يدل‭ ‬اسمها‭ ‬على‭ ‬حيازتها‭ ‬المحاسن‭ ‬كلّها‭ ‬خَلقاً‭ ‬وخُلقاً،‭ ‬إنّي‭ ‬أراها‭ ‬امرأة‭ ‬تمتدّ‭ ‬في‭ ‬كل‭ ‬شيء،‭ ‬وتسمح‭ ‬بانسيابنا‭ ‬في‭ ‬العبارة‭ ‬من‭ ‬الحب‭ ‬إلى‭ ‬الحرب،‭ ‬نعبر‭ ‬فيها‭ ‬من‭ ‬القول‭ ‬‮«‬شعب‭ ‬يحبّ‮»‬‭ ‬إلى‭ ‬‮«‬شعب‭ ‬يحارب‮»‬،‭ ‬وتلكم‭ ‬هي‭ ‬هوية‭ ‬الوجود‭ ‬والبقاء‭ ‬والاستمرار‭. ‬حيزية‭ ‬هي‭ ‬الرّحم‭ ‬المتناسل‭ ‬منه‭ ‬خطاب‭ ‬التمسّك‭ ‬بالأرض‭ ‬ولون‭ ‬الزّمن‭ ‬الرّاسم‭ ‬كينونة‭ ‬السّائرين‭ ‬معه‭ ‬وفيه،‭ ‬إنّها‭ ‬الكتاب‭ ‬الذي‭ ‬حجز‭ ‬لنا‭ ‬على‭ ‬رفوف‭ ‬مكتبة‭ ‬التاريخ‭ ‬ذكراً،‭ ‬ونحن‭ ‬الذين‭ ‬نزل‭ ‬بساحتنا‭ ‬أعنف‭ ‬وأشرس‭ ‬استدمار‭ ‬في‭ ‬العصر‭ ‬الحديث،‭ ‬وبدخولنا‭ ‬في‭ ‬لحظة‭ ‬تذهّن‭ ‬للوعي‭ ‬الذي‭ ‬فاض‭ ‬منه‭ ‬وعنه‭ ‬الشاعر‭ ‬الجزائري‭ ‬‮«‬بن‭ ‬قيطون‮»‬‭ ‬نسمعه‭ ‬يقول‭ ‬في‭ ‬ثنايا‭ ‬المسكوت‭ ‬بين‭ ‬كلمات‭ ‬المنطوق‭: ‬‮«‬نحن‭ ‬شعب‭ ‬متمسّك‭ ‬بأرضه‭ ‬وعرضه،‭ ‬يحبّ‭ ‬ويحارب،‭ ‬كان‭ ‬وسيبقى‮»‬،‭ ‬لذلك‭ ‬فـ«حيزية‮»‬‭ ‬هي‭ ‬هذا‭ ‬الخطاب‭ ‬المتحضّر‭ ‬الدفّاق‭ ‬في‭ ‬مجاري‭ ‬نهر‭ ‬الهوية‭ ‬والتميّز،‭ ‬ينكتب‭ ‬في‭ ‬لغة‭ ‬أوسع‭ ‬من‭ ‬الكلمات‭ ‬وأبعد‭ ‬دلالة‭ ‬من‭ ‬الحروف،‭ ‬يتشارك‭ ‬في‭ ‬نصه‭ ‬الجميع‭ ‬أفقياً‭ ‬عند‭ ‬لحظات‭ ‬الانتشار‭ ‬وعمودياً‭ ‬على‭ ‬مسار‭ ‬التجايل‭ ‬والتّوارث‭.‬

  ‬تتصف‭ ‬‮«‬حيزية‮»‬‭ ‬كما‭ ‬قالها‭ ‬النص‭ ‬بالجمال‭ ‬والنسب‭ ‬الشريف‭:‬

بنـــــــــــــــــت‭ ‬حــــــــــميــــــــــدة‭ ‬تــــــــــــــبان

كـــــــــــــــي‭ ‬ضــــــــــــــــــــــي‭ ‬الــــــــــومــــــــــــان‭ ‬

نخــــــــــــــــــــلـــــــــــــــــــة‭ ‬الــــــــــــــــبــــــــــــسـتان

طـــــــــــــــــــــويــــــــــــلة‭ ‬شــــــــــعــــــــــــــــــــــــــويـا

  ‬وفيها‭ ‬قوة‭ ‬أخاذة،‭ ‬في‭ ‬شخصها‭ ‬رزانة‭ ‬وعقل‭ ‬وعفّة،‭ ‬وعلو‭ ‬في‭ ‬نفسها‭ ‬يطاول‭ ‬قمم‭ ‬الأبطال‭:‬

إذا‭ ‬تــــــــــمــــــــشـــــــي‭ ‬قــــــــــــــــــــــــــــبــــــــــال

تــــــــــــــــــــسلـــــــــــــــب‭ ‬الــــــــــــــــــــعـــــــــــقــــّال

أخـــــــــــــــــــــــتي‭ ‬بــــــــــــاي‭ ‬لـــــــمـــــــــــحال

راشــــــــــــــــــق‭ ‬كـــــــــــــــــــــــــــم‭ ‬مــــــــــــــــــــيّا

‭ ‬وفي‭ ‬خصب‭ ‬هذه‭ ‬الأرض‭ ‬الحيزية‭ ‬استنبت‭ ‬الشاعر‭ ‬قوله،‭ ‬وحكى‭ ‬زرع‭ ‬الحبيب‭ ‬الشريك،‭ ‬حيث‭ ‬رأى‭ ‬واستيقن‭ ‬فيها‭ ‬مودّة‭ ‬ورحمة،‭ ‬ورحماً‭ ‬يخرج‭ ‬منه‭ ‬الشرفاء‭ ‬والشجعان‭ ‬قلماً‭ ‬وسيفاً،‭ ‬وكانت‭ ‬بذلك‭ ‬مثالاً‭ ‬للمرأة‭ ‬في‭ ‬أعزّ‭ ‬ما‭ ‬تكون‭ ‬حواؤها،‭ ‬بل‭ ‬هي‭ ‬أيقونة‭ ‬للمرأة‭ ‬الجزائرية‭ ‬الساكنة‭ ‬في‭ ‬لهيب‭ ‬بركان‭ ‬الرجل‭ ‬الجزائري،‭ ‬تسقي‭ ‬فيه‭ ‬الغضب‭ ‬النبيل‭ ‬للشرف،‭ ‬وتبذر‭ ‬فيه‭ ‬عزّة‭ ‬الحرب‭ ‬وهدوء‭ ‬السلام،‭ ‬وما‭ ‬‮«‬سي‭ ‬محند‭ ‬أو‭ ‬محند‭ ‬الجزائري‮»‬‭ ‬القبائلي‭ ‬إلا‭ ‬سطر‭ ‬آخر‭ ‬في‭ ‬عظيم‭ ‬نصّ‭ ‬اسمه‭ ‬‮«‬المرأة‭ ‬الجزائرية‮»‬،‭ ‬وغيره‭ ‬كثير‭ ‬تلّاً‭ ‬وصحراء،‭ ‬غرباً‭ ‬وشرقاً‭.‬

‮«‬حيزيّة‮»‬‭ ‬هي‭ ‬الوطن،‭ ‬وهي‭ ‬مسكن‭ ‬الوجود‭ ‬كما‭ ‬يقاس‭ ‬على‭ ‬فلسفة‭ ‬التأويل،‭ ‬إنّها‭ ‬وثيقة‭ ‬الهوية‭ ‬وجواز‭ ‬سفر‭ ‬في‭ ‬المكان‭ ‬والزمان،‭ ‬ومقعد‭ ‬دائم‭ ‬في‭ ‬جمعية‭ ‬هذا‭ ‬العالم‭ ‬الذي‭ ‬أصبح‭ ‬فيه‭ ‬كلّ‭ ‬شعب‭ ‬يسكن‭ ‬في‭ ‬نصّه،‭ ‬وشعب‭ ‬الجزائر‭ ‬قال‭ ‬ثورته‭ ‬وعزّته‭ ‬في‭ ‬المرأة‭ ‬والأرض،‭ ‬وحيزية‭ ‬هي‭ ‬اسم‭ ‬آخر‭ ‬لـ«لالا‭ ‬فاطمة‭ ‬نسومر‮»‬‭ ‬و«حسيبة‭ ‬بن‭ ‬بوعلي‮»‬،‭ ‬عاشقها‭ ‬الأكبر‭ ‬التاريخ،‭ ‬وألوانها‭ ‬الفنّ‭ ‬والعلم،‭ ‬معطاءة‭ ‬متواصلة‭ ‬متّصلة‭ ‬من‭ ‬جذرها‭ ‬البعيد‭ ‬إلى‭ ‬أعلى‭ ‬قمم‭ ‬الأهقار‭ ‬وجرجرة‭ ‬والأوراس‭ ‬والونشريس،‭ ‬صفحات‭ ‬وجهها‭ ‬زرق‭ ‬بلون‭ ‬المتوسّط،‭ ‬وخجلها‭ ‬شفق‭ ‬أحمر‭ ‬لأجمل‭ ‬غروب‭ ‬في‭ ‬صحراء‭ ‬الجزائر‭.‬

 

ما‭ ‬قاله‭ ‬منطوق‭ ‬النص‭ 

    ‬نص‭ ‬قصيدة‭ ‬‮«‬حيزية‮»‬‭ ‬وثيقة‭ ‬أنثروبولوجية‭ ‬ثقافية‭ ‬تتكلّم‭ ‬عبر‭ ‬التاريخ‭ ‬والاجتماع‭ ‬والجغرافيا،‭ ‬وينطق‭ ‬النص‭ ‬عبر‭ ‬جمال‭ ‬اللغة‭ ‬البليغة‭ ‬في‭ ‬مفردها‭ ‬وجملها‭ ‬وقوّة‭ ‬نسيجها‭ ‬بعالم‭ ‬من‭ ‬العناصر‭ ‬الحية،‭ ‬بل‭ ‬الخالدة،‭ ‬ومن‭ ‬عجيب‭ ‬هذا‭ ‬النص‭ ‬وفرادته‭ ‬الإبداعية‭ ‬قبوله‭ ‬كل‭ ‬اتجاهات‭ ‬القراءة‭ ‬كأنّه‭ ‬على‭ ‬قول‭ ‬الناقد‭ ‬‮«‬حنا‭ ‬عبّود‮»‬‭ ‬في‭ ‬مقاربته‭ ‬الشائقة‭ ‬‮«‬القصيدة‭ ‬والجسد‮»‬،‭ ‬جزيرة‭ ‬غناء‭ ‬في‭ ‬محيط‭ ‬من‭ ‬النثر،‭ ‬فلك‭ ‬أيها‭ ‬المتلقي‭ ‬أن‭ ‬تبدأ‭ ‬من‭ ‬حيث‭ ‬شئت،‭ ‬والنص‭ ‬يقبل‭ ‬تحديك‭ ‬ويقول‭ ‬عالمه‭ ‬ودلالته‭ ‬على‭ ‬أي‭ ‬وجه‭ ‬تختار،‭ ‬فمن‭ ‬الاقتدار‭ ‬الإبداعي‭ ‬ألا‭ ‬اعتبار‭ ‬لترتيب‭ ‬معيّن‭ ‬في‭ ‬النص‭ ‬الشعري‭ ‬الرصين،‭ ‬وهو‭ ‬ما‭ ‬يسمح‭ ‬لهذه‭ ‬القراءة‭ ‬بأن‭ ‬تشغل‭ ‬مفتاحها‭ ‬في‭ ‬قول‭ ‬الشاعر‭:‬

طلــــــــقـــت‭ ‬ممـــــــــشــــــــوط‭ ‬طــــــــــــاح

بـــــــــــــروايــــــــــح‭ ‬كــــــــــــــــي‭ ‬فــــــــــــــــــــاح

حــــاجــــــــب‭ ‬فـــــــــوق‭ ‬اللـــــــــــمــــــــــــــاح

نــــــــــــــونـــــــــــيـــن‭ ‬بــــــــــــريــــــــــــــــــــــــــــــــــــــه

  ‬ففي‭ ‬البيت‭ ‬الثاني‭ ‬العينان‭ ‬نونان‭ ‬حرفان‭ ‬متكلّمان‭ ‬يحكيان‭ ‬لغة‭ ‬القول،‭ ‬بل‭ ‬اللّغة‭ ‬هي‭ ‬التي‭ ‬تحاكي‭ ‬هذا‭ ‬الجمال‭ ‬المنغرس‭ ‬في‭ ‬آية‭ ‬عزّ‭ ‬مثيلها،‭ ‬حين‭ ‬نجد‭ ‬الشاعر‭ ‬يأتي‭ ‬محطّة‭ ‬الإحباط‭ ‬من‭ ‬القول‭ ‬في‭ ‬موضع‭ ‬التّصريح‭:‬

هــــــــــــــاذا‭ ‬درتــــــــــــــــــــو‭ ‬مـــــــــــــــــــــــــثيل

عـــــــــــن‭ ‬رايــــــــــــــــــــــســــــــة‭ ‬الجــــــــــــيل

فلنتأمّل‭ ‬هذا‭ ‬التماهي‭ ‬العجيب‭ ‬بين‭ ‬اللّغة‭ ‬والمرأة‭ ‬في‭ ‬محضن‭ ‬القصيدة،‭ ‬وكيف‭ ‬اتّفق‭ ‬أن‭ ‬الثلاث‭ ‬إناث‭ ‬لا‭ ‬يعيش‭ ‬الرجل‭ (‬الذكر‭) ‬إلا‭ ‬في‭ ‬اتصالهن،‭ ‬لأن‭ ‬الانقطاع‭ ‬يصنع‭ ‬خللاً‭ ‬عظيماً‭ ‬في‭ ‬توازن‭ ‬الرجل‭ ‬والخطاب،‭ ‬وما‭ ‬بكاء‭ ‬الحبيب‭ ‬إلا‭ ‬على‭ ‬فقد‭ ‬المرأة،‭ ‬وما‭ ‬اللغة‭ ‬التي‭ ‬قالت‭ ‬الألم‭ ‬والحزن‭ ‬إلا‭ ‬حكاية‭ ‬قيدتها‭ ‬اللغة،‭ ‬بل‭ ‬اللغة‭ ‬هي‭ ‬التي‭ ‬انتظمت‭ ‬في‭ ‬الحكاية‭ ‬وعبرها،‭ ‬فكل‭ ‬ما‭ ‬طواه‭ ‬القلب‭ ‬في‭ ‬رحلته‭ ‬وكرّره‭ ‬في‭ ‬دورته‭ ‬الوجدانية‭ ‬انفلت‭ ‬خارج‭ ‬طور‭ ‬العقل،‭ ‬كما‭ ‬يقول‭ ‬الفلاسفة،‭ ‬ليؤكّد‭ ‬أنّ‭ ‬للعقل‭ ‬عقلاً‭ ‬على‭ ‬حدّ‭ ‬تعبير‭ ‬‮«‬غادامير‮»‬،‭ ‬فالنص‭ ‬يقول‭ ‬في‭ ‬افتتاحه‭:‬

قلــــــــــــــــــــــــــــــــــــــبي‭ ‬ســـــــــــــافر‭ ‬مــــــــــــع

الــــــــــــضـــــــــامــــــــــــر‭ ‬حـــــــيــــــــزيـــــــــــــــــة

  ‬وهي‭ ‬اللازمة‭ ‬التي‭ ‬تتكرّر‭ ‬من‭ ‬أول‭ ‬بيت‭ ‬وعند‭ ‬فواصل‭ ‬المقاطع،‭ ‬ولولا‭ ‬أن‭ ‬الشاعر‭ ‬انتزع‭ ‬نفسه‭ ‬من‭ ‬نص‭ ‬الحزن‭ ‬لما‭ ‬أطاعه‭ ‬المعيار‭ ‬الشعري‭ ‬في‭ ‬القول‭ ‬وكانت‭ ‬هذه‭ ‬العبارة‭ ‬نصاً‭ ‬وحدها،‭ ‬ذلك‭ ‬أنّه‭ ‬مشارك‭ ‬حبيب‭ ‬‮«‬حيزية‮»‬‭ ‬فجيعته،‭ ‬ومسافر‭ ‬معه‭ ‬في‭ ‬حزنه،‭ ‬وإن‭ ‬رأى‭ ‬بعض‭ ‬الدارسين‭ ‬أن‭ ‬‮«‬ابن‭ ‬قيطون‮»‬‭ ‬هو‭ ‬المعني‭ ‬الأوّل‭ ‬بما‭ ‬قاله‭.‬

ما‭ ‬طواه‭ ‬القلب‭ ‬نشره‭ ‬القول،‭ ‬فاستوت‭ ‬القصيدة‭ ‬بين‭ ‬الحكي‭ ‬والوصف،‭ ‬والخطاب‭ ‬الموجّه‭ ‬بالأمر‭ ‬والدعاء،‭ ‬والحكي‭ ‬الذي‭ ‬لم‭ ‬يكن‭ ‬على‭ ‬سبيل‭ ‬الحبك‭ ‬السردي‭ ‬وإنّما‭ ‬امتطى‭ ‬الخبر‭ ‬في‭ ‬اتجاه‭ ‬المعايشة‭ ‬النفسية،‭ ‬وجملة‭ ‬الأفعال‭ ‬في‭ ‬سياق‭ ‬الإخبار‭ ‬مسندة‭ ‬إلى‭ ‬هيئة‭ ‬الفاعل‭ ‬‮«‬حيزية‭... ‬تمشي،‭ ‬طلقت‭.. ‬وفات‭..‬‮»‬‭ ‬في‭ ‬ملكوت‭ ‬الجمال،‭ ‬وترتبط‭ ‬بعد‭ ‬ذلك‭ ‬تاء‭ ‬التّأنيث‭ ‬في‭ ‬معجم‭ ‬الجماعة‭ ‬حين‭ ‬نرصد‭ ‬نون‭ ‬المتكلّم‭ ‬أو‭ ‬الغائب‭ ‬بما‭ ‬يتساوق‭ ‬مع‭ ‬البنية‭ ‬القبلية،‭ ‬حيث‭ ‬الفرد‭ ‬عنصر‭ ‬في‭ ‬المجموعة‭ ‬متناغم‭ ‬المكانية‭ ‬والزمانية‭ ‬مع‭ ‬قبيلة‭ ‬الموضوع‭ ‬‮«‬حيزية‮»‬‭ ‬التي‭ ‬هي‭ ‬فضاء‭ ‬انتماء‭ ‬المتكلّم‭ (‬الشاعر‭) ‬كذلك،‭ ‬أما‭ ‬الوصف‭ ‬فكله‭ ‬كان‭ ‬لهيئة‭ ‬الموصوف‭ ‬‮«‬حيزية‮»‬‭ ‬وذكر‭ ‬مبدع‭ ‬لدلائل‭ ‬آيات‭ ‬التميّز‭ ‬والجمال‭ ‬المنتهى،‭ ‬وقد‭ ‬تحكّمت‭ ‬فيه‭ ‬بنية‭ ‬تشبيهية‭ ‬عقد‭ ‬فيها‭ ‬الشاعر‭ ‬علاقة‭ ‬إنسانية‭ ‬بين‭ ‬تضاريس‭ ‬الجمال‭ ‬لدى‭ ‬‮«‬حيزية‮»‬‭ ‬وما‭ ‬يمكن‭ ‬أن‭ ‬يكون‭ ‬مرجعاً‭ ‬لاستنطاقه،‭ ‬حيث‭ ‬وظّف‭ ‬الشاعر‭ ‬عالم‭ ‬الأشياء‭ ‬والوقائع‭ ‬ليخصب‭ ‬خيال‭ ‬المتلقي‭ ‬ويستولد‭ ‬دهشته،‭ ‬فنجد‭ ‬الطبيعة‭ ‬بنباتها‭ ‬وحيوانها،‭ ‬والفلك‭ ‬بسماواته‭ ‬وأجرامه‭ ‬ونجومه،‭ ‬وأشياء‭ ‬الفعل‭ ‬والإنجاز،‭ ‬ونظرة‭ ‬في‭ ‬المعجم‭ ‬تبسط‭ ‬هذا‭ ‬وتشرحه‭ (‬النور،‭ ‬الرصاص،‭ ‬قرطاس‭).‬

  ‬كما‭ ‬أخذت‭ ‬القصيدة‭ ‬في‭ ‬انبنائها‭ ‬النصي‭ ‬بظفيرة‭ ‬من‭ ‬النصوص‭ ‬على‭ ‬سبيل‭ ‬المرجعة‭ ‬وتجديد‭ ‬المعلوم‭ ‬في‭ ‬صيغ‭ ‬التوظيف‭ ‬الجمالي،‭ ‬واستطاع‭ ‬نصها‭ ‬تفريد‭ ‬وتغريب‭ ‬النصوص‭ ‬المعروفة‭ ‬بطرق‭ ‬جعلها‭ ‬طارئاً‭ ‬إحالياً‭ ‬في‭ ‬الخطاب‭ ‬بين‭ ‬الألفة‭ ‬والغرابة؛‭ ‬ألفة‭ ‬العلامات‭ ‬النصية‭ ‬في‭ ‬مرجعيتها‭ ‬وغرابتها‭ ‬في‭ ‬سياقها‭ ‬الوظيفي،‭ ‬ولعل‭ ‬أكثر‭ ‬النصوص‭ ‬تجلية‭ ‬لهذه‭ ‬الحقيقة‭ ‬كان‭ ‬النص‭ ‬الدّيني،‭ ‬ونذكر‭ ‬منه‭ ‬المواضع‭ ‬التالية‭:‬

شــــــــــــــــــوف‭ ‬الــــــــــــــــسـيـــــــــــــــــقـــــــــــــــان

بــــــــــخـــــــــــلاخـــــــــــــل‭ ‬يا‭ ‬فـــــــــــــــطان

تـــــــــــسمـــــــــــــــع‭ ‬حــــــــــــــــــسّ‭ ‬الــــقرآن

فــــــــــــوق‭ ‬الـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــرّيحيـــــــــــــــــــه

  ‬فالأليف‭ ‬في‭ ‬هذا‭ ‬النص‭ ‬أن‭ ‬القرآن‭ ‬هو‭ ‬النص‭ ‬المريح‭ ‬كما‭ ‬تواتر،‭ ‬مقدس‭ ‬بلفظه‭ ‬ومعانيه‭ ‬والإنصات‭ ‬إليه‭ ‬سبيل‭ ‬إدراكه،‭ ‬غير‭ ‬أن‭ ‬الشاعر‭ ‬دعا‭ ‬إلى‭ ‬الفطنة‭ ‬بعد‭ ‬فعل‭ ‬الأمر‭ ‬‮«‬شوف‮»‬‭ ‬الذي‭ ‬يعني‭ ‬النظر‭ ‬العقلي‭ ‬في‭ ‬المعجم‭ ‬الشعبي،‭ ‬لتصل‭ ‬لحظة‭ ‬التماهي‭ ‬في‭ ‬دفقة‭ ‬صوفية‭ ‬صوت‭ ‬الخلاخل‭ ‬برجلي‭ ‬حيزية‭ ‬بنغم‭ ‬القرآن‭ ‬اعتباراً‭ ‬لمقدار‭ ‬القداسة‭ ‬والتناهي‭ ‬في‭ ‬الغرابة‭ ‬المعجزة‭.‬

  ‬ونجد‭ ‬أيضاً‭:‬

مـــــــــــاتـــــت‭ ‬مـــــــــوت‭ ‬لجــــــــــــــــــــــــهاد

مصـــــــــــــــبـــــــــوغـــــة‭ ‬لــــــــــــــــــــــــــــــــــــثماد

قـــــــــصــــــــــــــدو‭ ‬بـــــيـــــــــــها‭ ‬بـــــــــــــــــلاد

خـــــــــــالــــــــــــــــــد‭ ‬مــــــــــســــــمـــــــيـــــــــــــــــــه

ففي‭ ‬هذا‭ ‬البيت‭ ‬ليس‭ ‬الموت‭ ‬إلا‭ ‬شهادة،‭ ‬والشهيد‭ ‬نهى‭ ‬الشّرع‭ ‬عن‭ ‬احتسابه‭ ‬مع‭ ‬الأموات،‭ ‬وللجهاد‭ ‬أسبابه‭ ‬وشروطه‭ ‬عمّى‭ ‬الشاعر‭ ‬هنا‭ ‬ذكرها،‭ ‬واكتفى‭ ‬بالنتيجة‭ (‬الشهادة‭) ‬مما‭ ‬خلق‭ ‬غرابة‭ ‬صنعها‭ ‬غياب‭ ‬مقدّمات‭ ‬هذا‭ ‬الاعتبار،‭ ‬فكان‭ ‬الموت‭ ‬ميلاد‭ ‬تقاطب‭ ‬مع‭ ‬المعتقد‭ ‬الراسخ‭ ‬في‭ ‬الإيمان،‭ ‬ويسترسل‭ ‬القول‭ ‬دفاقاً‭:‬

واثــــــــرنــــــــــــــيـــــــــــــت‭ ‬لـمـــــــــــــــــلـــــــــــــيــح

دارلــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــها‭ ‬تــــــــــــســـــــــــــــــريح

حـــــــــــــــرفـــــــــــــــها‭ ‬للـــــــــــمــــــــسيـــــــــــــــح

ربــــــــــــــــــــــــــي‭ ‬مـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــولايـــــــــــا

فالله‭ ‬سرّح‭ ‬الروح‭ ‬من‭ ‬جسدها‭ ‬وأطلقها‭ ‬للخلود،‭ ‬الذي‭ ‬حجّته‭ ‬قول‭ ‬الشاعر‭:‬

عـــــــــــاشت‭ ‬تــــــــــــــحت‭ ‬الإلــــــــــــــــحاد

مــــــوشـــــومــــــــة‭ ‬لــــــــــعــــــــــــــــــــــضــــــــــاد

عـــــــــــــــــــــــــين‭ ‬الـــــــــــــــــشــّــــــــــــــــــــــــــــــــــراد

غـــــــــــابت‭ ‬عـــــــــــلـــــــــــى‭ ‬عــــيـــنـــــيـــــــا

  ‬فهي‭ ‬‮«‬عاشت‮»‬‭ ‬ولم‭ ‬يقل‭ ‬هنا‭ ‬‮«‬ماتت‮»‬،‭ ‬فكل‭ ‬ما‭ ‬في‭ ‬الأمر‭ ‬أنّها‭ ‬غابت‭ ‬عن‭ ‬العين‭ ‬التي‭ ‬في‭ ‬الدنيا،‭ ‬مما‭ ‬يعضد‭ ‬القول‭ ‬على‭ ‬لسان‭ ‬الحبيب‭:‬

صبــــــــــــــــري‭ ‬صــــبري‭ ‬عــــــــــــــــــــــليك

نصـــــــــــــــــــــــــــــبر‭ ‬أن‭ ‬نـــــــــــــاتـــــــــــــــــــيك

 

للوصف‭ ‬سحره

تمنيت‭ ‬لو‭ ‬أن‭ ‬رساماً‭ ‬فنّاناً‭ ‬أطلق‭ ‬اللّون‭ ‬لريشته‭ ‬حتّى‭ ‬يصف‭ ‬سطح‭ ‬اللّون‭ ‬المهندس‭ ‬‮«‬حيزية‮»‬‭ ‬وتترجم‭ ‬لغة‭ ‬التشكيل‭ ‬لغة‭ ‬الشاعر،‭ ‬ولنا‭ ‬في‭ ‬تاريخ‭ ‬الفن‭ ‬مثال‭ ‬بارع‭ ‬حين‭ ‬رسم‭ ‬‮«‬فيرباس‮»‬‭ ‬بورتريه‭ ‬لـ«الإله‭ ‬زيوس‮»‬‭ ‬من‭ ‬بيت‭ ‬واحد‭ ‬تلقاه‭ ‬بحسّه‭ ‬الفنّي‭ ‬من‭ ‬‮«‬إلياذة‭ ‬هوميروس‮»‬‭. ‬

اللّوحة‭ ‬التي‭ ‬رسمها‭ ‬ابن‭ ‬قيطون‭ ‬في‭ ‬نصّه‭ ‬لـ«حيزية‮»‬‭ ‬بارعة‭ ‬مكتملة‭ ‬الاستـطيقيا،‭ ‬حيث‭ ‬يـسافر‭ ‬بنا‭ ‬القول‭ ‬في‭ ‬طبوغرافيا‭ ‬الفانطاستيك‭ ‬الجمالي،‭ ‬فمن‭ ‬الشعر‭ ‬المعطّر‭ ‬إلى‭ ‬العينين‭ ‬الكوكبين،‭ ‬نزولاً‭ ‬إلى‭ ‬الخدّ‭ ‬المورّد‭ ‬الدّامي‭ ‬المضيء،‭ ‬ثم‭ ‬إلى‭ ‬زاوية‭ ‬الفم‭ ‬الضاحك‭ ‬البراق‭ ‬بالعاج‭ ‬وبليل‭ ‬ريقه‭ ‬العذب‭ ‬والحلو‭ ‬المعسّل،‭ ‬إلى‭ ‬الرقبة‭ ‬الباسقة‭ ‬بلون‭ ‬نسغ‭ ‬النّيل‭ ‬كمثل‭ ‬زجاجة‭ ‬في‭ ‬طرفيها‭ ‬الذهب‭ ‬الخالص،‭ ‬نزولاً‭ ‬إلى‭ ‬الصدر‭ ‬المرخّم‭ ‬المتوازن‭ ‬كثمار‭ ‬التفّاح‭ ‬الملكي،‭ ‬ثمّ‭ ‬الجسد‭ ‬الناعم‭ ‬كالقطن‭ ‬والحرير،‭ ‬الناصع‭ ‬كالثلج‭ ‬بياضاً،‭ ‬والثوب‭ ‬المحزّم‭ ‬عند‭ ‬الخاصرة‭ ‬بألوان‭ ‬قزح‭ ‬وطيّات‭ ‬الثوب‭ ‬كالهرم‭ ‬الشامخ،‭ ‬ختاماً‭ ‬بالساقين‭ ‬الرنانتين‭ ‬غنجاً‭ ‬ودلالاً‭ ‬تهزّ‭ ‬الخلاخل‭ ‬نغماً‭ ‬مقدّساً‭.‬

    ‬كما‭ ‬ثمّة‭ ‬لوحة‭ ‬جغرافية‭ ‬لأطلس‭ ‬الأمكنة‭ ‬يستطيع‭ ‬المتتبّع‭ ‬رسم‭ ‬مواضعها‭ ‬على‭ ‬مسار‭ ‬الحركة‭ ‬من‭ ‬الصّحراء‭ (‬سيدي‭ ‬خالد‭) ‬إلى‭ ‬التل‭ (‬بازر‭) ‬مروراً‭ ‬بمحطّات‭ ‬كثيرة‭ ‬على‭ ‬درب‭ ‬العشابة‭.‬

  ‬ويذكر‭ ‬النص‭ ‬كذلك‭ ‬في‭ ‬وصفه‭ ‬الشمس‭ ‬والقمر‭ ‬بما‭ ‬أن‭ ‬هما‭ ‬معلمان‭ ‬للتقويم‭ ‬الزمني،‭ ‬وفيهما‭ ‬استنطاق‭ ‬آخر‭ ‬للثقافة‭ ‬الزمنية‭ ‬ونشوء‭ ‬مفاهيم‭ ‬الوقت‭ ‬ووحداته‭.‬

 

ما‭ ‬قاله‭ ‬صمت‭ ‬النص

المسكوت‭ ‬عنه‭ ‬أو‭ ‬فراغات‭ ‬النص‭ ‬التي‭ ‬يتركها‭ ‬عمداً‭ ‬هي‭ ‬بالغة‭ ‬المحذوف‭ ‬أو‭ ‬قول‭ ‬الصمت‭ ‬كما‭ ‬تنظر‭ ‬إليه‭ ‬نظريات‭ ‬التلقي‭ ‬وجماليات‭ ‬القراءة،‭ ‬فتصبح‭ ‬النصوص‭ ‬محواً‭ ‬وإغفالاً‭ ‬أشدّ‭ ‬من‭ ‬القول،‭ ‬كما‭ ‬يقول‭ ‬الباحث‭ ‬‮«‬ميشال‭ ‬دي‭ ‬سارتو‮»‬‭ ‬وفي‭ ‬الأثر‭ ‬الصوفي،‭ ‬الذي‭ ‬بلاده‭ ‬المغرب‭ ‬باستحقاق،‭ ‬ما‭ ‬ينشر‭ ‬هذه‭ ‬الحقيقة‭ ‬ويشدّ‭ ‬أزرها،‭ ‬وقراءتنا‭ ‬هذه‭ ‬تحاول‭ ‬أن‭ ‬تستجلي‭ ‬ما‭ ‬خمد‭ ‬تحت‭ ‬انفجار‭ ‬اللغة‭ ‬بتعبير‭ ‬ديريدا،‭ ‬فلست‭ ‬أذكر‭ ‬كم‭ ‬مرّة‭ ‬قرأت‭ ‬قصيدة‭ ‬حيزية،‭ ‬ولكن‭ ‬الأكيد‭ ‬أنّ‭ ‬كلّ‭ ‬تلقّ‭ ‬لها‭ ‬كان‭ ‬فيه‭ ‬جديد‭ ‬غفل‭ ‬عنه‭ ‬سابقه،‭ ‬ومرد‭ ‬ذلك‭ ‬الصمت‭ ‬الذي‭ ‬في‭ ‬النص‭ ‬وخطابه‭ ‬المختبئ‭ ‬تحت‭ ‬بيانه،‭ ‬ووعياً‭ ‬بهذا‭ ‬سأسجّل‭ ‬خطاب‭ ‬القراءة‭ ‬في‭ ‬بعض‭ ‬فراغات‭ ‬النصّ،‭ ‬ولا‭ ‬أجزم‭ ‬أنّي‭ ‬أدرك‭ ‬كل‭ ‬مراد‭ ‬الطلب‭.‬

    ‬ترشيحاً‭ ‬لمحفل‭ ‬التلقي‭ ‬المختلف‭ ‬من‭ ‬ائتلافات‭ ‬القول‭ ‬المنظوم‭ ‬في‭ ‬هذا‭ ‬النص‭ ‬نرصد‭ ‬ما‭ ‬يلي‭:‬

‭ ‬نص‭ ‬البناء‭ ‬الاجتماعي‭: ‬بناء‭ ‬اللغة‭ ‬في‭ ‬إنشاء‭ ‬خطابها‭ ‬المتكلّم،‭ ‬نسبة‭ ‬لمنجز‭ ‬الكلام،‭ ‬ومحدداً‭ ‬اتجاهه،‭ ‬تراوح‭ ‬بين‭ ‬‮«‬أنا‮»‬‭ ‬الشاعر‭ ‬باعتباره‭ ‬ناظما‭ ‬و«أنا‮»‬‭ ‬‮«‬سعيد‭ ‬بلباي‮»‬‭ ‬حبيب‭ ‬حيزية‭ ‬وزوجها،‭ ‬في‭ ‬لعبة‭ ‬فنية‭ ‬أتقنها‭ ‬‮«‬ابن‭ ‬قيطون‮»‬‭ ‬ببراعة،‭ ‬حيث‭ ‬استدعت‭ ‬المقاطع‭ ‬الحرجة‭ ‬أن‭ ‬يتراجع‭ ‬‮«‬أنا‮»‬‭ ‬الشاعر‭ ‬إلى‭ ‬خلف‭ ‬‮«‬أنا‮»‬‭ ‬الزوج‭ ‬احتراما‭ ‬للنص‭ ‬النسبي‭ ‬والعقد‭ ‬الديني‭ ‬والعرفي،‭ ‬فالافتتاح‭ ‬‮«‬عزّوني‭ ‬يا‭ ‬ملاح‭ ‬في‭ ‬رايس‭ ‬لبنات‮»‬‭ ‬هو‭ ‬صوت‭ ‬الشاعر‭ ‬نيابة‭ ‬عن‭ ‬‮«‬الزوج‮»‬،‭ ‬ليعود‭ ‬كلاهما‭ ‬من‭ ‬فراغ‭ ‬الإسناد‭ ‬المزدوج‭ ‬إلى‭ ‬منطوق‭ ‬‮«‬سكنت‭ ‬تحت‭ ‬الحود‭ ‬ناري‭ ‬مقديا‮»‬،‭ ‬وهكذا‭ ‬تتواتر‭ ‬اللّعبة‭ ‬في‭ ‬سياق‭ ‬ارتباط‭ ‬القول‭ ‬النصي‭ ‬بالقول‭ ‬النسبي‭ ‬للقبيلة‭ ‬وعلاقات‭ ‬اجتماعها‭ ‬في‭ ‬كل‭ ‬النص،‭ ‬مثل‭ ‬ما‭ ‬نجد‭ ‬في‭ ‬قوله‭ ‬‮«‬ما‭ ‬ركبوها‭ ‬نساب‭ ‬من‭ ‬غير‭ ‬أنايا‮»‬‭ ‬وتوشيم‭ ‬الجسد‭ ‬كإغلاق‭ ‬طوطمي‭ ‬للعذرية‭ ‬الزوجية،‭ ‬في‭ ‬‮«‬بيدي‭ ‬درت‭ ‬لوشام‮»‬‭ ‬المتكلّم‭ ‬فيه‭ ‬صوت‭ ‬‮«‬ابن‭ ‬قيطون‮»‬‭ ‬لكن‭ ‬بلسان‭ ‬‮«‬سعيد‭ ‬بلباي‮»‬،‭ ‬أمّا‭ ‬النص‭ ‬الذي‭ ‬يستوعبه‭ ‬هذا‭ ‬الفراغ‭ ‬فهو‭ ‬قول‭ ‬ابن‭ ‬قيطون‭ ‬‮«‬إنّني‭ ‬أتكلّم‭ ‬بلسان‭ ‬حبيبها‭ ‬وزوجها‭... ‬إنّي‭ ‬أردّد‭ ‬ما‭ ‬يقوله‭ ‬سعيد‭ ‬هيئة‭ ‬وإحساساً‭... ‬إنّي‭ ‬أنقل‭ ‬وأترجم‮»‬،‭ ‬وبطبيعة‭ ‬الفن‭ ‬ومقتضى‭ ‬النص،‭ ‬فإنّ‭ ‬المنطوق‭ ‬المنظوم‭ ‬يتصالح‭ ‬مع‭ ‬المسكوت‭ ‬في‭ ‬الأعراف‭ ‬والاحترام‭ ‬والرضوخ‭ ‬القبلي‭ ‬للنص‭ ‬الاجتماعي‭.‬

 

قيمة‭ ‬المرأة

إنّ‭ ‬حقيقة‭ ‬المرأة‭ ‬وموضعها‭ ‬من‭ ‬حقيقة‭ ‬الوجود‭ ‬كله‭ ‬ودورها‭ ‬الفعّال‭ ‬في‭ ‬صلاحه‭ ‬واستمراره‭ ‬ليست‭ ‬بالتي‭ ‬تحتاج‭ ‬إلى‭ ‬ذكر‭ ‬أو‭ ‬دليل،‭ ‬ولكن‭ ‬في‭ ‬قراءتنا‭ ‬لقصيدة‭ ‬‮«‬حيزية‮»‬،‭ ‬استدعاني‭ ‬نص‭ ‬نشز‭ ‬في‭ ‬مسمعي‭ ‬صوته‭ ‬الناعق،‭ ‬ذلك‭ ‬هو‭ ‬ما‭ ‬قرأته‭ ‬في‭ ‬مترجم‭ ‬للمرحوم‭ ‬‮«‬أبي‭ ‬العيد‭ ‬دودو‮»‬‭ ‬عن‭ ‬كتاب‭ ‬للرحالة‭ ‬الألماني‭ ‬‮«‬هانريش‭ ‬ماتسان‮»‬‭ ‬‮«‬ثلاث‭ ‬سنوات‭ ‬في‭ ‬شمال‭ ‬غربي‭ ‬إفريقيا‮»‬،‭ ‬حيث،‭ ‬كما‭ ‬ترجم‭ ‬له‭ ‬المرحوم،‭ ‬يذكر‭ ‬معاملة‭ ‬قبيحة‭ ‬للرجال‭ ‬الجزائريين‭ ‬تجاه‭ ‬نسائهم‭ ‬ووصفهم‭ ‬إياهن‭ ‬حتى‭ ‬بالحمير‭! ‬لكن‭ ‬الحق‭ ‬علينا‭ ‬حين‭ ‬نأمن‭ ‬على‭ ‬مصادر‭ ‬شخصيتنا‭ ‬الغريب‭ ‬الذي‭ ‬لا‭ ‬يسيح‭ ‬لأجلنا‭ ‬ولا‭ ‬يجتهد‭ ‬إلا‭ ‬في‭ ‬تقبيحنا،‭ ‬وأرى‭ ‬في‭ ‬هذا‭ ‬المقام‭ ‬أنّ‭ ‬خير‭ ‬ردّ‭ ‬هو‭ ‬هذه‭ ‬الصورة‭ ‬الرائعة‭ ‬التي‭ ‬يعزّ‭ ‬مثيلها‭ ‬عند‭ ‬باقي‭ ‬الشعوب،‭ ‬والتي‭ ‬وشمها‭ ‬‮«‬ابن‭ ‬قيطون‮»‬‭ ‬صوتاً‭ ‬نائباً‭ ‬عن‭ ‬قومه‭ ‬الجزائريين‭ ‬في‭ ‬ذاكرة‭ ‬التاريخ،‭ ‬فالنص‭ ‬يذكر‭ ‬قيمة‭ ‬المرأة‭ ‬في‭ ‬نظر‭ ‬قومها‭ ‬ويكثفها‭ ‬في‭ ‬أيقونة‭ ‬حيزية،‭ ‬ويحصي‭ ‬لها‭ ‬المحامد‭ ‬ويزن‭ ‬لها‭ ‬كوكباً‭ ‬من‭ ‬المجد‭ ‬والعليا،‭ ‬ويكرّر‭ ‬عند‭ ‬مطالع‭ ‬الأبيات‭ ‬قولاً‭ ‬مركوزاً‭ ‬مغروساً‭ ‬في‭ ‬التأكيد،‭ ‬فيقول‭ ‬‮«‬تسوى‭..‬‮»‬‭ ‬إحدى‭ ‬عشرة‭ ‬مرّة،‭ ‬وفي‭ ‬كل‭ ‬مرة‭ ‬منها‭ ‬يرفع‭ ‬ثقيلاً‭ ‬في‭ ‬كفتها‭ ‬المعادلة‭ ‬فلا‭ ‬ترجح‭ ‬عليها،‭ ‬حيث‭ ‬بسط‭ ‬لها‭ ‬الأرض‭ ‬وما‭ ‬عليها‭ ‬وما‭ ‬في‭ ‬باطنها،‭ ‬وذكر‭ ‬في‭ ‬قيمتها‭ ‬الأكوان‭ ‬والأقوام،‭ ‬والذهب‭ ‬والجواهر،‭ ‬وكل‭ ‬ما‭ ‬حازته‭ ‬مجموعة‭ ‬تعريف‭ ‬الثّمائن‭ ‬المدركة،‭ ‬فلم‭ ‬يجد‭ ‬الشاعر‭ ‬من‭ ‬شيء‭ ‬يعدلها‭ ‬أو‭ ‬ثمنها‭ ‬براً‭ ‬وبحراً‭ ‬مالاً‭ ‬وملكاً،‭ ‬إلى‭ ‬أن‭ ‬يصل‭ ‬به‭ ‬المقام‭ ‬في‭ ‬الاعتذار‭ ‬لأهل‭ ‬الولاية‭ ‬وأصحاب‭ ‬الكرامة‭ ‬من‭ ‬العباد‭ ‬العلماء‭.‬

تســــوى‭ ‬تــــــــــســــــــــــــــــوى‭ ‬مــــــــــــــزاب

وســـــــــــــواحل‭ ‬الــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــزاب

حــــــــــــــاشا‭ ‬نــــــــــــــــاس‭ ‬لــــــــــحـبــــاب

حـــــــــــــــــــــــــــاشـــــــا‭ ‬الأولـــــــــــــــــــــــــــــــــيــــــــا

  ‬غير‭ ‬أن‭ ‬هذه‭ ‬المحاشاة‭ ‬تستغرق‭ ‬ذاتها‭ ‬أين‭ ‬ترتفع‭ ‬المرأة‭ ‬الجميلة‭ ‬الشريفة‭ ‬ارتقاءً‭ ‬إلى‭ ‬الولاية‭ ‬والكرامة‭.‬

عــــــــــــــــزّوني‭ ‬يـــــــــــــــا‭ ‬رجــــــــــــــــــــــــــال

فــــــــــي‭ ‬صـــــــــــــــافي‭ ‬الخــــــــلـــــــــخال

دارو‭ ‬عــــــــــــنـــــــــــــــــــها‭ ‬جــــــــــــــيــــــــــــــال

قـــــــــــــــبــّــــــــــــة‭ ‬مــــــــــــــبنــــــــــــــيــــــــــــــــــــــه

  ‬هي‭ ‬إذن‭ ‬‮«‬حيزية‮»‬‭ ‬صورة‭ ‬المرأة‭ ‬الجزائرية‭ ‬المبجّلة‭ ‬والموقّرة‭ ‬التي‭ ‬لا‭ ‬يساويها‭ ‬شيء،‭ ‬ولا‭ ‬يرجح‭ ‬عليها‭ ‬غال،‭ ‬إنّها‭ ‬الأكبر‭ ‬والأقرب‭ ‬والأغلى‭.‬

  الحب‭ ‬طاقة‭ ‬الحرب‭: ‬كما‭ ‬سبق‭ ‬الذكر‭ ‬يعتبر‭ ‬الحب‭ ‬هوية‭ ‬الشعوب‭ ‬وسر‭ ‬بقائها‭ ‬واستمرارها،‭ ‬فهو‭ ‬الروح‭ ‬التي‭ ‬تبث‭ ‬الحياة‭ ‬في‭ ‬جسد‭ ‬الناس‭ ‬والشعوب،‭ ‬وهو‭ ‬القلب‭ ‬الذي‭ ‬يضخّ‭ ‬في‭ ‬الوجود‭ ‬دماء‭ ‬الاستمساك‭  ‬بالهوية،‭ ‬وهو‭ ‬الحبر‭ ‬الذي‭ ‬تطيعه‭ ‬كلمات‭ ‬التاريخ‭ ‬وتنبسط‭ ‬له‭ ‬صفحات‭ ‬الحضارة،‭ ‬ونصنا‭ ‬يربط‭ ‬بين‭ ‬الحب‭ ‬والحرب‭ ‬من‭ ‬الطرف‭ ‬الأقوى‭ ‬الذي‭ ‬هو‭ ‬المرأة‭ ‬الأرض‭ ‬الصالحة‭ ‬لزراعة‭ ‬النسل‭ ‬البطل،‭ ‬واستنبات‭ ‬العمران‭ ‬الحضاري،‭ ‬فكأني‭ ‬بالنص‭ ‬يقول‭: ‬‮«‬أنا‭ ‬أحب‭... ‬أنا‭ ‬موجود‭... ‬أنا‭ ‬أحارب‭ ‬من‭ ‬أجل‭ ‬وجودي‭...‬‮»‬‭ ‬والمنطوق‭ ‬الذي‭ ‬قال‭ ‬هذا‭ ‬المسكوت‭ ‬هو‭ ‬البناء‭ ‬الشرطي‭ ‬للأبيات‭ ‬المتواترة‭ ‬في‭ ‬سلسلة‭ ‬‮«‬لو‮»‬‭.‬

لــــــــــــو‭ ‬تـــــــجــــــــــــي‭ ‬للـــــــــعــــــــــــــــناد

نـــــــــــــنـــــــــــطح‭ ‬ثــــــــــــــــلث‭ ‬أعــــــــــــــــقاد

‭***‬

لـــــــــــــــو‭ ‬تــــــــــجــــــــــــي‭ ‬للـــــــــــــــــــــــذراع‭ 

نحـــــــــــلــــــــــــف‭ ‬مـــا‭ ‬تــــــتــــــــــــبــــــــــــــــــاع

‭ ‬فما‭ ‬يدفع‭ ‬للحب‭ ‬يدفع‭ ‬للحرب،‭ ‬وكلا‭ ‬الطاقتين‭ ‬تصبّ‭ ‬في‭ ‬الأخرى،‭ ‬ولماذا‭ ‬إذن‭ ‬اقتتل‭ ‬الطرواديون،‭ ‬وانعتق‭ ‬‮«‬عنترة‮»‬‭ ‬وانتحرت‭ ‬‮«‬كليوباترا‮»‬‭ ‬وضحّت‭ ‬‮«‬زنوبيا‮»‬‭.. ‬وتنازل‭ ‬‮«‬إدوارد‭ ‬الثامن‮»‬‭ ‬عن‭ ‬عرش‭ ‬بريطانيا،‭ ‬ورد‭ ‬صدى‭ ‬التاريخ‭ ‬صرخة‭ ‬المعتصم‭ ‬بالله‭ ‬التي‭ ‬ارتجف‭ ‬لها‭ ‬بلاط‭ ‬‮«‬قيصر»؟

  ‬نصنا‭ ‬ممتلئ‭ ‬بالحب،‭ ‬بل‭ ‬فاض‭ ‬عنه،‭ ‬واستذكر‭ ‬في‭ ‬حزن‭ ‬الفقد‭ ‬طاقة‭ ‬الحرب‭ ‬عند‭ ‬المعنيين‭ ‬به،‭ ‬لكنّها‭ ‬لم‭ ‬تكن‭ ‬الحرب،‭ ‬بل‭ ‬كان‭ ‬القدر‭:‬

هــــــــــــــــــــــــــــــــذا‭ ‬حكـــــــــــــــــــم‭ ‬الإلــــــــــــه

ســـــــــــيـــــــــــدي‭ ‬مــــــــــــــــــــــــــــول‭ ‬الجاه

ربــــــــــــــــــــــــــي‭ ‬نــــــــــــــزل‭ ‬قـــــــــــــــضــــــــاه

وأدّى‭ ‬حــــــــــــــيــــــــــــــزيــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــة

فالحب‭ ‬والحرب‭ ‬في‭ ‬تدفقهما‭ ‬الغزير‭ ‬يصبان‭ ‬في‭ ‬بحر‭ ‬الإيمان‭ ‬بالقضاء‭ ‬والقدر‭ ‬