حيزية... قصيدة شعبية من الجزائر
«حيزية»... هي قصة حبّ شهيرة في الجزائر، عرفها الناس وتداولوها من خلال قصيدة شعبية رائعة أبدعها الشاعر أحمد بن قيطون؛ الذي وشّاها في دفق سردي بشاعرية عذبة؛ فحكى من خلالها الإنسان كما قالته نفسه من أعماقها وإنسانيته التي بحجم الكون..أخذ بن قيطون متن نصه من واقعة في قومه، حيث أحبّ سعيد بلباي ابنة عمّه حيزية وهام في رحاب المرأة الكون..تزوجها وهي في ريعان شبابها وجمالها، وفي رحلة من سيدي خالد (ولاية بسكرة حالياً) إلى التّل (ولاية سطيف حالياً) من أجل الماء والكلأ في ما يعرف برحلة العشّابة، توفيت حيزية بعد مرض قصير وفقد سعيد جاذبية الحياة وهام على وجهه يبكي لوعته ويقطّع أنفاسه في فقدها... عاشت حيزية الهلالية في قومها الذواودة من 1853 إلى 1878. وما كاد القرن التاسع عشر يتم حتى انتشرت قصتها وحرقة سعيد حبيبها في كل ربوع الجزائر وبلاد المغرب عموما، وذلك بفضل النص الرائع للشاعر أحمد بن قيطون، حتى قيل إن الذي أحبّ حيزية هو ابن قيطون نفسه... في النّص زوايا كثيرة للبحث والمقاربة.. وقراءتي هذه واحدة من كثير.
في البداية
في البداية تقتضي المنطلقات الواعية منهجة أيّ إنجاز دراسي وفق طرح الإشكالات وصوغها على إيقاع التسلسل البنائي، ولذلك على كل نص أن يقول حركته في أثناء قول محتواه. ولعلّ مسار هذا المقال في إنشائه قول يطمح وصف قصيدة «حيزية» لـ «أحمد بن قيطون»، وإعرابها إعراباً ثقافياً ضمن الجملة الكبرى للهوية والانتماء الجزائريين، وهو الأمر الذي لم تنخرط فيه جهود الدارسين والباحثين إلى العمق المطلوب، ولم يتعدّ بذلك هذا النص، وغيره، تصريحه وخطابه المعياري والإمتاعي، وبقي في مساحاته الخصيبة ثقافة وحضارة جدباً وصامتاً.
تحاول هذه القراءة استثمار المقولات الثقافية الفكرية والثقافية الحضارية بسبيل توظيف المقاربة التداولية لطبيعة النص الاتّصالية، وربطها بالبعد البنيوي الأنثروبولوجي، وذلك كلّه في سياق ما أصبح يعرف بالنقد الثقافي، الذي تساوق اطّراداً مع مسارات البحث في نظام المعايير اللّغويّة من حيث هي منظام للقول الدّلالي في ارتباطات النصوص بمجالها في الأصل المنشئ وفضائها الحيّ في التواصل.
يعتبر الأدب الشعبي في المدوّنة الحديثة للإنجازات الأكاديمية أحد الرّهانات المعرفية والعلمية والفنية التي لم تتأخّر عن الاندماج في سياق بحث الشعوب عن مواقعها الانتمائية، ووجد الفلكلوريون في المدوّنات الجماهيرية نصّاً قويّاً للمنطق التحريضي والتعويضي في اكتشاف الشخصية المنسجمة داخل حدود الوحدة والفاعلة في إطار التماسك، والسجلات التأريخية تدل على هذا التوظيف لمواد التراث الشعبي في تشييد الأيديولوجيات الديمقراطية وبناء الأجهزة السياسية ومؤسّساتها، ليصبح الفلكلور إحدى أهمّ لغات السياسات العملية وأقوى اتجاهاتها، وتعتبر هذه الحقيقة التاريخية كاشفاً لثراء النص الأدبي الشعبي، ودافعاً للمعيارية باتجاه خرق الدراسات المغلقة التي تسجن النص في معياره وتعزله عن مجاله الحيّ.
في سياق الوعي المنهجي والتاريخي بخطورة النص الأدبي الشعبي، ترى هذه القراءة فتح المدوّنة على مساحاتها الثقافية والدلالية ذاتاً واجتماعاً داخل محيط الارتباط العضوي للقول بالإطار الزمني والمكاني وما في حدودهما، وبطرح الأسئلة وأشكلتها يقودنا النص المساءل إلى خارج مدارات الانطباعية والذوقية، ليعيد نظرنا في الإسقاطات الجاهزة التي شكّلتها الرّؤى الإنشائيّة، وكذا القصد التعليمي المكرّر بين دفتي المباح واللامباح، والمسموح والمحضور، حتّى ترسب في أغشية وعينا الجمعي المفهوم المحرّم عن الحبّ والخطاب المنجز فيه وحوله، وارتسمت قراءات وثنية للنص فأغلقته وجعلت من يصفه بالمفتوح مارقاً نقدياً ومتمرّداً على الواجب.
نص قصيدة «حيزية» الخالد والرائع تدور الإجابات بشأنه مثل الصّدى الذي يسكن كهف عقولنا ووجداننا قبل مدّة طويلة، فنجد التجاوب حين تناوله نمطيّاً حتّى وإن كان السؤال مختلفاً، فالجميع بمن فيهم الأكاديميون يتحدّثون عن النص وحمرة تعلو وجوههم خجلاً ليقولوا: «قصّة حبّ» أو «بكاء هستيري لرجل فقد أنثاه» أو «غزل فاضح يضيء زوايا الفراش»، والغريب أنّ البعض يحاكم النص وصاحبه حين يقول: «ابن قيطون سينمائي بارع ونصه جريء، صوّر ما حجبته أخلاق الحياء»، وكثيرة هي الأقوال، لكنّها لا تخرج في جملتها عن عقدة الجنس ومدار «الذكر والأنثى». وقد ذكرت هذا من باب التدليل على أن النص ظلم، وأن رفع الظلم عنه يعني التجول في خصبه واستنطاق ثرائه.
فهل فعلاً نص قصيدة «حيزية» ليس إلا قصة حب؟ وهل حقيقة «حيزية» هي المثير الأنثوي الذي فجّر مأساة الفقد الذكوري؟. وهل «ابن قيطون» لم يضمّن قوله غير تاء الأنثى؟
لا ترى القراءة المنهجيّة شيئا مما سبق، لأنها تدفع بالنص إلى مجرته الواسعة وخطابه الناطق والساكت، وتستثمر الدال والمدلول في اجتماعهما المعياري (اللغوي) والتأويلي المحدّد بالنص الثقافي ولغته وعلاماته ومعالمه، والقراءة في إنجازها تحدّد خطوات تلتزمها لمقاربة النص، وترى في اسم العلم عتبة لا بدّ منها:
حيزيّة.. المرأة والدّلالة
كلّ الأمم والشعوب تختم هوياتها بذكر الخالدات من النساء اللّواتي فوضهن وانتدبهن الشعب سفيرات لدى التاريخ، فلايزال ذكرهنّ راسخاً باقياً، بل بعض الشعوب لا تُذكر إلا بنسائها، فمن لا يعرف «كليوباترا.. زنوبيا.. إيزيس.. تاج محل.. الخنساء.. عشتار..» وغيرهنّ، فالمرأة رحم البقاء الآبد، والنص الذي لا ينتهي، والماء الذي لا يجفّ، وكلّ النصوص التي انتسج قولها وخطابها كانت المرأة نواتها الأصل أو المشاركة، فمن أقدم الملاحم والأساطير إلى أحدث النصوص، تفجّرت هذه البؤرة الدّفاقة وصنعت الخالد في مواجهة الفاني، منذ «جلجامش» الملحمة الآشورية التي سجّلت البطل الخالد ولداً على صفحات الأم الآلهة، إلى هاجر وسارة الأم الرّبانية للرّجل النبي، انتقالاً إلى «هيلانة» الحبيبة المسالمة التي أوقدت الحرب وأطفأتها على أرض يونان، إلى عبلة وليلى، وتاج محل التي نبت من جسارتها العمران والحضارة، و«إيزيس» القبر الذي ضم في دفء صدره الإله والحبيب «أوزوريس» الفرعوني، إلى «جولييت» التي كسّرت حصون الطبقية بين القلوب.. ولعلّنا نختم في السياق بعد أن نعترف باستحالة الإحاطة بالذكر لجميعهنّ بالملحمة الحديثة «تيتانيك»، التي تموقعت مثلاً ومعلماً ومرجعاً للخطاب الإنساني الوجداني في عالمنا المعاصر.
بعد هذا، أليست «حيزية» هي عشتار الجزائر، و«هيلانة» في بساط الصّحراء، و«جولييت» و«روز» التيتانيك؟ وهي التي يدل اسمها على حيازتها المحاسن كلّها خَلقاً وخُلقاً، إنّي أراها امرأة تمتدّ في كل شيء، وتسمح بانسيابنا في العبارة من الحب إلى الحرب، نعبر فيها من القول «شعب يحبّ» إلى «شعب يحارب»، وتلكم هي هوية الوجود والبقاء والاستمرار. حيزية هي الرّحم المتناسل منه خطاب التمسّك بالأرض ولون الزّمن الرّاسم كينونة السّائرين معه وفيه، إنّها الكتاب الذي حجز لنا على رفوف مكتبة التاريخ ذكراً، ونحن الذين نزل بساحتنا أعنف وأشرس استدمار في العصر الحديث، وبدخولنا في لحظة تذهّن للوعي الذي فاض منه وعنه الشاعر الجزائري «بن قيطون» نسمعه يقول في ثنايا المسكوت بين كلمات المنطوق: «نحن شعب متمسّك بأرضه وعرضه، يحبّ ويحارب، كان وسيبقى»، لذلك فـ«حيزية» هي هذا الخطاب المتحضّر الدفّاق في مجاري نهر الهوية والتميّز، ينكتب في لغة أوسع من الكلمات وأبعد دلالة من الحروف، يتشارك في نصه الجميع أفقياً عند لحظات الانتشار وعمودياً على مسار التجايل والتّوارث.
تتصف «حيزية» كما قالها النص بالجمال والنسب الشريف:
بنـــــــــــــــــت حــــــــــميــــــــــدة تــــــــــــــبان
كـــــــــــــــي ضــــــــــــــــــــــي الــــــــــومــــــــــــان
نخــــــــــــــــــــلـــــــــــــــــــة الــــــــــــــــبــــــــــــسـتان
طـــــــــــــــــــــويــــــــــــلة شــــــــــعــــــــــــــــــــــــــويـا
وفيها قوة أخاذة، في شخصها رزانة وعقل وعفّة، وعلو في نفسها يطاول قمم الأبطال:
إذا تــــــــــمــــــــشـــــــي قــــــــــــــــــــــــــــبــــــــــال
تــــــــــــــــــــسلـــــــــــــــب الــــــــــــــــــــعـــــــــــقــــّال
أخـــــــــــــــــــــــتي بــــــــــــاي لـــــــمـــــــــــحال
راشــــــــــــــــــق كـــــــــــــــــــــــــــم مــــــــــــــــــــيّا
وفي خصب هذه الأرض الحيزية استنبت الشاعر قوله، وحكى زرع الحبيب الشريك، حيث رأى واستيقن فيها مودّة ورحمة، ورحماً يخرج منه الشرفاء والشجعان قلماً وسيفاً، وكانت بذلك مثالاً للمرأة في أعزّ ما تكون حواؤها، بل هي أيقونة للمرأة الجزائرية الساكنة في لهيب بركان الرجل الجزائري، تسقي فيه الغضب النبيل للشرف، وتبذر فيه عزّة الحرب وهدوء السلام، وما «سي محند أو محند الجزائري» القبائلي إلا سطر آخر في عظيم نصّ اسمه «المرأة الجزائرية»، وغيره كثير تلّاً وصحراء، غرباً وشرقاً.
«حيزيّة» هي الوطن، وهي مسكن الوجود كما يقاس على فلسفة التأويل، إنّها وثيقة الهوية وجواز سفر في المكان والزمان، ومقعد دائم في جمعية هذا العالم الذي أصبح فيه كلّ شعب يسكن في نصّه، وشعب الجزائر قال ثورته وعزّته في المرأة والأرض، وحيزية هي اسم آخر لـ«لالا فاطمة نسومر» و«حسيبة بن بوعلي»، عاشقها الأكبر التاريخ، وألوانها الفنّ والعلم، معطاءة متواصلة متّصلة من جذرها البعيد إلى أعلى قمم الأهقار وجرجرة والأوراس والونشريس، صفحات وجهها زرق بلون المتوسّط، وخجلها شفق أحمر لأجمل غروب في صحراء الجزائر.
ما قاله منطوق النص
نص قصيدة «حيزية» وثيقة أنثروبولوجية ثقافية تتكلّم عبر التاريخ والاجتماع والجغرافيا، وينطق النص عبر جمال اللغة البليغة في مفردها وجملها وقوّة نسيجها بعالم من العناصر الحية، بل الخالدة، ومن عجيب هذا النص وفرادته الإبداعية قبوله كل اتجاهات القراءة كأنّه على قول الناقد «حنا عبّود» في مقاربته الشائقة «القصيدة والجسد»، جزيرة غناء في محيط من النثر، فلك أيها المتلقي أن تبدأ من حيث شئت، والنص يقبل تحديك ويقول عالمه ودلالته على أي وجه تختار، فمن الاقتدار الإبداعي ألا اعتبار لترتيب معيّن في النص الشعري الرصين، وهو ما يسمح لهذه القراءة بأن تشغل مفتاحها في قول الشاعر:
طلــــــــقـــت ممـــــــــشــــــــوط طــــــــــــاح
بـــــــــــــروايــــــــــح كــــــــــــــــي فــــــــــــــــــــاح
حــــاجــــــــب فـــــــــوق اللـــــــــــمــــــــــــــاح
نــــــــــــــونـــــــــــيـــن بــــــــــــريــــــــــــــــــــــــــــــــــــــه
ففي البيت الثاني العينان نونان حرفان متكلّمان يحكيان لغة القول، بل اللّغة هي التي تحاكي هذا الجمال المنغرس في آية عزّ مثيلها، حين نجد الشاعر يأتي محطّة الإحباط من القول في موضع التّصريح:
هــــــــــــــاذا درتــــــــــــــــــــو مـــــــــــــــــــــــــثيل
عـــــــــــن رايــــــــــــــــــــــســــــــة الجــــــــــــيل
فلنتأمّل هذا التماهي العجيب بين اللّغة والمرأة في محضن القصيدة، وكيف اتّفق أن الثلاث إناث لا يعيش الرجل (الذكر) إلا في اتصالهن، لأن الانقطاع يصنع خللاً عظيماً في توازن الرجل والخطاب، وما بكاء الحبيب إلا على فقد المرأة، وما اللغة التي قالت الألم والحزن إلا حكاية قيدتها اللغة، بل اللغة هي التي انتظمت في الحكاية وعبرها، فكل ما طواه القلب في رحلته وكرّره في دورته الوجدانية انفلت خارج طور العقل، كما يقول الفلاسفة، ليؤكّد أنّ للعقل عقلاً على حدّ تعبير «غادامير»، فالنص يقول في افتتاحه:
قلــــــــــــــــــــــــــــــــــــــبي ســـــــــــــافر مــــــــــــع
الــــــــــــضـــــــــامــــــــــــر حـــــــيــــــــزيـــــــــــــــــة
وهي اللازمة التي تتكرّر من أول بيت وعند فواصل المقاطع، ولولا أن الشاعر انتزع نفسه من نص الحزن لما أطاعه المعيار الشعري في القول وكانت هذه العبارة نصاً وحدها، ذلك أنّه مشارك حبيب «حيزية» فجيعته، ومسافر معه في حزنه، وإن رأى بعض الدارسين أن «ابن قيطون» هو المعني الأوّل بما قاله.
ما طواه القلب نشره القول، فاستوت القصيدة بين الحكي والوصف، والخطاب الموجّه بالأمر والدعاء، والحكي الذي لم يكن على سبيل الحبك السردي وإنّما امتطى الخبر في اتجاه المعايشة النفسية، وجملة الأفعال في سياق الإخبار مسندة إلى هيئة الفاعل «حيزية... تمشي، طلقت.. وفات..» في ملكوت الجمال، وترتبط بعد ذلك تاء التّأنيث في معجم الجماعة حين نرصد نون المتكلّم أو الغائب بما يتساوق مع البنية القبلية، حيث الفرد عنصر في المجموعة متناغم المكانية والزمانية مع قبيلة الموضوع «حيزية» التي هي فضاء انتماء المتكلّم (الشاعر) كذلك، أما الوصف فكله كان لهيئة الموصوف «حيزية» وذكر مبدع لدلائل آيات التميّز والجمال المنتهى، وقد تحكّمت فيه بنية تشبيهية عقد فيها الشاعر علاقة إنسانية بين تضاريس الجمال لدى «حيزية» وما يمكن أن يكون مرجعاً لاستنطاقه، حيث وظّف الشاعر عالم الأشياء والوقائع ليخصب خيال المتلقي ويستولد دهشته، فنجد الطبيعة بنباتها وحيوانها، والفلك بسماواته وأجرامه ونجومه، وأشياء الفعل والإنجاز، ونظرة في المعجم تبسط هذا وتشرحه (النور، الرصاص، قرطاس).
كما أخذت القصيدة في انبنائها النصي بظفيرة من النصوص على سبيل المرجعة وتجديد المعلوم في صيغ التوظيف الجمالي، واستطاع نصها تفريد وتغريب النصوص المعروفة بطرق جعلها طارئاً إحالياً في الخطاب بين الألفة والغرابة؛ ألفة العلامات النصية في مرجعيتها وغرابتها في سياقها الوظيفي، ولعل أكثر النصوص تجلية لهذه الحقيقة كان النص الدّيني، ونذكر منه المواضع التالية:
شــــــــــــــــــوف الــــــــــــــــسـيـــــــــــــــــقـــــــــــــــان
بــــــــــخـــــــــــلاخـــــــــــــل يا فـــــــــــــــطان
تـــــــــــسمـــــــــــــــع حــــــــــــــــــسّ الــــقرآن
فــــــــــــوق الـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــرّيحيـــــــــــــــــــه
فالأليف في هذا النص أن القرآن هو النص المريح كما تواتر، مقدس بلفظه ومعانيه والإنصات إليه سبيل إدراكه، غير أن الشاعر دعا إلى الفطنة بعد فعل الأمر «شوف» الذي يعني النظر العقلي في المعجم الشعبي، لتصل لحظة التماهي في دفقة صوفية صوت الخلاخل برجلي حيزية بنغم القرآن اعتباراً لمقدار القداسة والتناهي في الغرابة المعجزة.
ونجد أيضاً:
مـــــــــــاتـــــت مـــــــــوت لجــــــــــــــــــــــــهاد
مصـــــــــــــــبـــــــــوغـــــة لــــــــــــــــــــــــــــــــــــثماد
قـــــــــصــــــــــــــدو بـــــيـــــــــــها بـــــــــــــــــلاد
خـــــــــــالــــــــــــــــــد مــــــــــســــــمـــــــيـــــــــــــــــــه
ففي هذا البيت ليس الموت إلا شهادة، والشهيد نهى الشّرع عن احتسابه مع الأموات، وللجهاد أسبابه وشروطه عمّى الشاعر هنا ذكرها، واكتفى بالنتيجة (الشهادة) مما خلق غرابة صنعها غياب مقدّمات هذا الاعتبار، فكان الموت ميلاد تقاطب مع المعتقد الراسخ في الإيمان، ويسترسل القول دفاقاً:
واثــــــــرنــــــــــــــيـــــــــــــت لـمـــــــــــــــــلـــــــــــــيــح
دارلــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــها تــــــــــــســـــــــــــــــريح
حـــــــــــــــرفـــــــــــــــها للـــــــــــمــــــــسيـــــــــــــــح
ربــــــــــــــــــــــــــي مـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــولايـــــــــــا
فالله سرّح الروح من جسدها وأطلقها للخلود، الذي حجّته قول الشاعر:
عـــــــــــاشت تــــــــــــــحت الإلــــــــــــــــحاد
مــــــوشـــــومــــــــة لــــــــــعــــــــــــــــــــــضــــــــــاد
عـــــــــــــــــــــــــين الـــــــــــــــــشــّــــــــــــــــــــــــــــــــــراد
غـــــــــــابت عـــــــــــلـــــــــــى عــــيـــنـــــيـــــــا
فهي «عاشت» ولم يقل هنا «ماتت»، فكل ما في الأمر أنّها غابت عن العين التي في الدنيا، مما يعضد القول على لسان الحبيب:
صبــــــــــــــــري صــــبري عــــــــــــــــــــــليك
نصـــــــــــــــــــــــــــــبر أن نـــــــــــــاتـــــــــــــــــــيك
للوصف سحره
تمنيت لو أن رساماً فنّاناً أطلق اللّون لريشته حتّى يصف سطح اللّون المهندس «حيزية» وتترجم لغة التشكيل لغة الشاعر، ولنا في تاريخ الفن مثال بارع حين رسم «فيرباس» بورتريه لـ«الإله زيوس» من بيت واحد تلقاه بحسّه الفنّي من «إلياذة هوميروس».
اللّوحة التي رسمها ابن قيطون في نصّه لـ«حيزية» بارعة مكتملة الاستـطيقيا، حيث يـسافر بنا القول في طبوغرافيا الفانطاستيك الجمالي، فمن الشعر المعطّر إلى العينين الكوكبين، نزولاً إلى الخدّ المورّد الدّامي المضيء، ثم إلى زاوية الفم الضاحك البراق بالعاج وبليل ريقه العذب والحلو المعسّل، إلى الرقبة الباسقة بلون نسغ النّيل كمثل زجاجة في طرفيها الذهب الخالص، نزولاً إلى الصدر المرخّم المتوازن كثمار التفّاح الملكي، ثمّ الجسد الناعم كالقطن والحرير، الناصع كالثلج بياضاً، والثوب المحزّم عند الخاصرة بألوان قزح وطيّات الثوب كالهرم الشامخ، ختاماً بالساقين الرنانتين غنجاً ودلالاً تهزّ الخلاخل نغماً مقدّساً.
كما ثمّة لوحة جغرافية لأطلس الأمكنة يستطيع المتتبّع رسم مواضعها على مسار الحركة من الصّحراء (سيدي خالد) إلى التل (بازر) مروراً بمحطّات كثيرة على درب العشابة.
ويذكر النص كذلك في وصفه الشمس والقمر بما أن هما معلمان للتقويم الزمني، وفيهما استنطاق آخر للثقافة الزمنية ونشوء مفاهيم الوقت ووحداته.
ما قاله صمت النص
المسكوت عنه أو فراغات النص التي يتركها عمداً هي بالغة المحذوف أو قول الصمت كما تنظر إليه نظريات التلقي وجماليات القراءة، فتصبح النصوص محواً وإغفالاً أشدّ من القول، كما يقول الباحث «ميشال دي سارتو» وفي الأثر الصوفي، الذي بلاده المغرب باستحقاق، ما ينشر هذه الحقيقة ويشدّ أزرها، وقراءتنا هذه تحاول أن تستجلي ما خمد تحت انفجار اللغة بتعبير ديريدا، فلست أذكر كم مرّة قرأت قصيدة حيزية، ولكن الأكيد أنّ كلّ تلقّ لها كان فيه جديد غفل عنه سابقه، ومرد ذلك الصمت الذي في النص وخطابه المختبئ تحت بيانه، ووعياً بهذا سأسجّل خطاب القراءة في بعض فراغات النصّ، ولا أجزم أنّي أدرك كل مراد الطلب.
ترشيحاً لمحفل التلقي المختلف من ائتلافات القول المنظوم في هذا النص نرصد ما يلي:
نص البناء الاجتماعي: بناء اللغة في إنشاء خطابها المتكلّم، نسبة لمنجز الكلام، ومحدداً اتجاهه، تراوح بين «أنا» الشاعر باعتباره ناظما و«أنا» «سعيد بلباي» حبيب حيزية وزوجها، في لعبة فنية أتقنها «ابن قيطون» ببراعة، حيث استدعت المقاطع الحرجة أن يتراجع «أنا» الشاعر إلى خلف «أنا» الزوج احتراما للنص النسبي والعقد الديني والعرفي، فالافتتاح «عزّوني يا ملاح في رايس لبنات» هو صوت الشاعر نيابة عن «الزوج»، ليعود كلاهما من فراغ الإسناد المزدوج إلى منطوق «سكنت تحت الحود ناري مقديا»، وهكذا تتواتر اللّعبة في سياق ارتباط القول النصي بالقول النسبي للقبيلة وعلاقات اجتماعها في كل النص، مثل ما نجد في قوله «ما ركبوها نساب من غير أنايا» وتوشيم الجسد كإغلاق طوطمي للعذرية الزوجية، في «بيدي درت لوشام» المتكلّم فيه صوت «ابن قيطون» لكن بلسان «سعيد بلباي»، أمّا النص الذي يستوعبه هذا الفراغ فهو قول ابن قيطون «إنّني أتكلّم بلسان حبيبها وزوجها... إنّي أردّد ما يقوله سعيد هيئة وإحساساً... إنّي أنقل وأترجم»، وبطبيعة الفن ومقتضى النص، فإنّ المنطوق المنظوم يتصالح مع المسكوت في الأعراف والاحترام والرضوخ القبلي للنص الاجتماعي.
قيمة المرأة
إنّ حقيقة المرأة وموضعها من حقيقة الوجود كله ودورها الفعّال في صلاحه واستمراره ليست بالتي تحتاج إلى ذكر أو دليل، ولكن في قراءتنا لقصيدة «حيزية»، استدعاني نص نشز في مسمعي صوته الناعق، ذلك هو ما قرأته في مترجم للمرحوم «أبي العيد دودو» عن كتاب للرحالة الألماني «هانريش ماتسان» «ثلاث سنوات في شمال غربي إفريقيا»، حيث، كما ترجم له المرحوم، يذكر معاملة قبيحة للرجال الجزائريين تجاه نسائهم ووصفهم إياهن حتى بالحمير! لكن الحق علينا حين نأمن على مصادر شخصيتنا الغريب الذي لا يسيح لأجلنا ولا يجتهد إلا في تقبيحنا، وأرى في هذا المقام أنّ خير ردّ هو هذه الصورة الرائعة التي يعزّ مثيلها عند باقي الشعوب، والتي وشمها «ابن قيطون» صوتاً نائباً عن قومه الجزائريين في ذاكرة التاريخ، فالنص يذكر قيمة المرأة في نظر قومها ويكثفها في أيقونة حيزية، ويحصي لها المحامد ويزن لها كوكباً من المجد والعليا، ويكرّر عند مطالع الأبيات قولاً مركوزاً مغروساً في التأكيد، فيقول «تسوى..» إحدى عشرة مرّة، وفي كل مرة منها يرفع ثقيلاً في كفتها المعادلة فلا ترجح عليها، حيث بسط لها الأرض وما عليها وما في باطنها، وذكر في قيمتها الأكوان والأقوام، والذهب والجواهر، وكل ما حازته مجموعة تعريف الثّمائن المدركة، فلم يجد الشاعر من شيء يعدلها أو ثمنها براً وبحراً مالاً وملكاً، إلى أن يصل به المقام في الاعتذار لأهل الولاية وأصحاب الكرامة من العباد العلماء.
تســــوى تــــــــــســــــــــــــــــوى مــــــــــــــزاب
وســـــــــــــواحل الــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــزاب
حــــــــــــــاشا نــــــــــــــــاس لــــــــــحـبــــاب
حـــــــــــــــــــــــــــاشـــــــا الأولـــــــــــــــــــــــــــــــــيــــــــا
غير أن هذه المحاشاة تستغرق ذاتها أين ترتفع المرأة الجميلة الشريفة ارتقاءً إلى الولاية والكرامة.
عــــــــــــــــزّوني يـــــــــــــــا رجــــــــــــــــــــــــــال
فــــــــــي صـــــــــــــــافي الخــــــــلـــــــــخال
دارو عــــــــــــنـــــــــــــــــــها جــــــــــــــيــــــــــــــال
قـــــــــــــــبــّــــــــــــة مــــــــــــــبنــــــــــــــيــــــــــــــــــــــه
هي إذن «حيزية» صورة المرأة الجزائرية المبجّلة والموقّرة التي لا يساويها شيء، ولا يرجح عليها غال، إنّها الأكبر والأقرب والأغلى.
الحب طاقة الحرب: كما سبق الذكر يعتبر الحب هوية الشعوب وسر بقائها واستمرارها، فهو الروح التي تبث الحياة في جسد الناس والشعوب، وهو القلب الذي يضخّ في الوجود دماء الاستمساك بالهوية، وهو الحبر الذي تطيعه كلمات التاريخ وتنبسط له صفحات الحضارة، ونصنا يربط بين الحب والحرب من الطرف الأقوى الذي هو المرأة الأرض الصالحة لزراعة النسل البطل، واستنبات العمران الحضاري، فكأني بالنص يقول: «أنا أحب... أنا موجود... أنا أحارب من أجل وجودي...» والمنطوق الذي قال هذا المسكوت هو البناء الشرطي للأبيات المتواترة في سلسلة «لو».
لــــــــــــو تـــــــجــــــــــــي للـــــــــعــــــــــــــــناد
نـــــــــــــنـــــــــــطح ثــــــــــــــــلث أعــــــــــــــــقاد
***
لـــــــــــــــو تــــــــــجــــــــــــي للـــــــــــــــــــــــذراع
نحـــــــــــلــــــــــــف مـــا تــــــتــــــــــــبــــــــــــــــــاع
فما يدفع للحب يدفع للحرب، وكلا الطاقتين تصبّ في الأخرى، ولماذا إذن اقتتل الطرواديون، وانعتق «عنترة» وانتحرت «كليوباترا» وضحّت «زنوبيا».. وتنازل «إدوارد الثامن» عن عرش بريطانيا، ورد صدى التاريخ صرخة المعتصم بالله التي ارتجف لها بلاط «قيصر»؟
نصنا ممتلئ بالحب، بل فاض عنه، واستذكر في حزن الفقد طاقة الحرب عند المعنيين به، لكنّها لم تكن الحرب، بل كان القدر:
هــــــــــــــــــــــــــــــــذا حكـــــــــــــــــــم الإلــــــــــــه
ســـــــــــيـــــــــــدي مــــــــــــــــــــــــــــول الجاه
ربــــــــــــــــــــــــــي نــــــــــــــزل قـــــــــــــــضــــــــاه
وأدّى حــــــــــــــيــــــــــــــزيــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــة
فالحب والحرب في تدفقهما الغزير يصبان في بحر الإيمان بالقضاء والقدر ■