في أعماق شاعر الوجدان والأشجان إدريس جمَّاع

في أعماق شاعر الوجدان والأشجان إدريس جمَّاع

المواقف الإنسانية أو الهزائم النفسية، غالباً ما تخلق العظماء من المبدعين، خاصة المتطلعين إلى ارتقاء بالحياة الإنسانية، والشاعر السوداني إدريس محمد جماع، الذي مرت ذكرى رحيله قبل فترة، يُعد من تلك الطينة، وهو واحد من أميز المبدعين الذين عَبَروا بالشعر في السودان نحو الجدة والحداثة، ويرى النقاد وأهل الأدب أنه لو اكتفى بهذا البيت «أنت السماء بدت لنا   واستعصمت بالبعد عنا)» لكفاه، لأن مثل هذا القول لم ولن يبتدعه شاعر إلا هو. 

الشاعر جماع الذي توفي في الثالث والعشرين  من مارس 1980 بمدينة حلفاية الملوك  شمال  العاصمة الخرطوم عن عمر يبلغ ثمانية وخمسين عاماً ولايزال حاضراً في المشهد الشعري المدرسي، الغنائي، الوطني، والإنساني في السودان، نجد أن حياته تمرحلت ما بين طفولة مستقرة متعددة الهوايات، ودراسية وعملية غنية بالتفوق تعوزها السلاسة وراحة البال، وحياة مضطربة ألزمته صومعة الذات والتقوقع خلف أستار الأسى على مدى عقدين من الزمان. وكان قد رسم بحروفه الشعرية صوراً صادقة لذاته تكاد تشتمُّ رائحتها وتمسها بأناملك، أجلّها ما جاء في قصيدته «شاعر الوجدان والأشجان».
ما له في مواكب الليل يمشي
ويناجي أشــباحه والظـــلالا
هين تستخفـه بسمة الطفـل 
قـوي يصــــــارع الأجـــيالا
حاسر الرأس عند كل جمال
مستشفٍّ من كل شيء جمالا
وقد عايشت كثيراً من تفاصيل حياته الأخيرة - بحكم الجوار - فعندما أُلحِقنا في أواخر الستينيات بالمدرسة الأولية، كنا نشاهده دائماً عند العودة إلى منازلنا وقت الظهيرة ماشياً متمهلاً  في شرود، منتعلاً حذاء لا يتناسب مع قدميه العريضتين، متوجهاً شمال المدينة غير متأثر بوهج الشمس، أو ماشياً غرباً صوب نهر النيل، وكان في مسيره يسلك طرقاً بعينها وأولها الطريق الرئيس الذي يطل عليه منزله، وحمل اسمه بعد رحيله.  
كما كنا نشاهده أحياناً واقفاً متأملاً صفحة في السماء كمن يبحث عن نجم ضائع في عز النهار، وبعدما يكتفي من تأمله في أكوانه، يمضي مطرقاً رأسه نحو الأرض ينظر فيها بإمعانٍ، علَّه يجد فيها ما لم يجده في السماء، وكان أكثر ما يحيرنا فيه حالة الصمت التي تسيطر على شخصيته.
على تلك الحال كنا نشاهد الشاعر خلال اليوم، ولأن يوم الصغار في مدينتنا ينتهي – وقتذاك - بعد صلاة المغرب، فلم نكن نراه في الليل، ولكن عرفنا - من أسرته - أنه كان يأوي إلى داره في المساء ليتناول وجبة يتقوى بها، ثم ينسلُّ في جنح الظلام هائماً حتى ينتهي عند شاطئ النيل كعادته كما لو كان يخبئ فيه شيئاً ما.

الشاعر والناشئة
وبعد أن تقدمنا في الدراسة الابتدائية، بدأنا أولى عتبات التعرف على الشاعر وسيرته بمنهاج، وعلى روحه الوطنية النازعة إلى الحرية والاستقلال، من خلال قصيدته «نشيد قومي»، التي كانت ضمن مقررات الدراسة.
مضى عهد مضى لــيل 
وشق الصبح أسـتارا
فــــــــــــــــــــــــــــــــلا ذل ولا قــــــــــــــــــــــــــــيـــــــــــــد 
يكبــلـــــنا ولا عـــــــارا
نصـون لأرضــنا استقلا
لـــــــها ونعيـش أحــــرارا
  ولـم تـقـف سـيـرة الشاعر وقصائده عند «الابتدائية» فحسب، بل ظلت تعبر مع الطلاب من مرحلة إلى أخرى، فدرسنا وحفظنا «الفجر المرتقب»، «العلم السوداني»، «بخت الرضا»، وقصيدة «رحلة النيل»، التي تتبعناها معه من المنبع حتى المصب بقوله:
النيل من نشوة الصهباء سلسلة
وساكنو النــيل سمار وندمان
وخفقة المـوج أشجــان تجاوبها
من القلوب التفاتات وأشجان

الشاعر والغناء
وبينما صارت بعض قصائده أناشيد قومية يرددها طلاب المدارس إلى اليوم، ظلت الإذاعة السودانية تبثها أغنيات وطنية بجانب أغنياته العاطفية، خاصة «غَــيْرة»، التي عرفها الناس بأغنية «أنت السماء»:
دنــياي أنـت وفرحــــتـي 
ومُــنى الفــــؤاد إذا تمـنّى 
أنتَ الســـماءُ بدتْ لـــنا 
واستعصـمتْ بالبـــعدِ عنا
وهذه القصيدة التي كانت من الومضات الأولى لشاعرية جماع رفعته إلى مصافّ شعراء العربية الكبار، كما جسّدت العلاقة بينه وبين بعض المطربين السودانيين الذين يُعنَون بجماليات اللغة ورصانتها، وكان سيد خليفة الفنان الأول والأكثر قرباً للشاعر، وقدَّما في ما بعد «ربيع الحب»، و«شاء الهوى»، ثم قصيدة «من وراء القضبان»،  التي رسم فيها بأسلوبه الشعري الحزين لوحة تراجيدية مدهشة للحالة النفسية التي ظل يعيشها، باسطاً عظيم مأساته في رؤية بلغت حد النبوءة لمآلات أمره في ما سيكون:
حــــــــياة لا حــــياة بها ولكن   
بقـــية جــــذوة وحطـــام عمـر
خطوب لو جهرت بها لضـاقت 
بها صور البيان وضاق شعري
جهــرت ببعضها فأضاف بثي 
بــها ألمـــاً إلــى آلام غيـــــري
كأني أسمع الأجــيال بعــدي
وفي حنــق تردد هـــول أمــري
وإلى جانب خليفة، فقد ترنم الفنان عبدالكريم الكابلي بأغنيته «شاعر الوجدان والأشجان»، وكذلك المطرب خضر بشير بأغنية «يا ملاك».
وطوال السنوات التي مرت علينا ونحن تلاميذ، كنا نسمع عن جماع الكثير، خاصة حول تجربته العاطفية، وما يدور حولها من أحاديث، مع إشارة لشخصية بعينها في مدينتنا على أنها فجَّرت في زمن ما كوامن عاطفته إبداعاً، تناقله الأجيال على مر الزمان، وكنا ومازلنا نقرأ له بإعجاب وتقدير عظيم، فعرفنا من قصائده قيمة الإنسان والوطن والشعر، ومعاني الجمال والعشق، وصدق الانفعال بسحر الطبيعة. كما كنا نشاهده حتى أواخر أيامه في مهابة، لم يصبه وهنٌ، أو يعتريه هزال، وحتى الشيب الذي خط رأسه لم يحله إلى بياض تام، في حين اتسعت رقعة الحزن في عينيه الواسعتين، وظل قلبه ينبض بالحب والأمل والشعر كما لو كان في عنفوان شبابه.
حدَّثني أحد أقربائه بأن جماع أودعه بيتين من الشعر (لم يُنشرا من قبل)، كان قد كتبهما بعدما وجد رعاية فائقة من أسرة التمريض في مستشفى الخرطوم بحري الذي لزمه قبيل رحيله بأيام، يقول فيهما:
رعاني المخلصات من النبال 
 نساء كالعظــام من الرجال  
همو نور البلاد وحاملـــــوه
إذا مجدُ بدا في الأفق عالي
وهو القائل في تلك الأيام لإحدى الممرضات، التي كانت توليه عناية خاصة، وهي ترتدي نظارة سوداء:
السيف في غمده لا تخشى بواتره
وسيف لحظيك في الحالين بتَّار 

المولد والنشأة
الشاعر إدريس جماع المولود عام 1922 نشأ في بيئة شاعرة، وعاش طفولة هادئة مستقرة، تغلبت فيها موهبة الشعر على الرسم والنحت. التحق عام 1936 بمعهد المعلمين في بخت الرضا، وفيه تجلى نبوغه الشعري بنحو لافت، إذ نظم في الاحتفال بعيد المعهد قصيدته «بخت الرضا»:
يا قبلــة الوطـــن العــزيز ومعهـــدي 
هل كنت إلا للهداية معهـــدا
بالمجد فزت وأنت فى شرخ الصبا
بشراك بالمستقبل الزاهي غداً
  وعندما هبَّت أعاصير الحرب العالمية الثانية وهو في المعهد، تابع تفاصيلها بإنسانية محضة، وكتب برؤية مستبصرة عميقة قصيدته «جنون الحرب»، وفيها رسم صورة مباشرة لحال القادة المصابين بـ «جنون العظمة» وهم يعزفون على أوتار الحروب والبطولات الزائفة بقوله:
برز الخطيــب منفخــاً
أوداجـــــه مستكـــــبرا
قال اعلموا يا قوم
أنا خـــير من وطئ الثرى
خوضــوا المعـــارك فاتحين
ودوّخوا من أنكرا
جمَّاع في القاهرة
وبعدما تخرج جماع في «بخت الرضا» عام 1941 عُيِّن معلماً للمرحلة الأولية، تنقل في بعض المدارس، ولما وجد عالم الوظيفة أشد ضيقاً وأكثر شراسة، هاجر إلى مصر بالطائرة عام 1947 وهو يقول... «في ركاب الأمل»:
أملي وهبت لي الحياة وكنت في سجن الألم
أطبق جناحـــك قد بلــغت فهذه أرض الهرم
    وفي مصر التحق بمعهد الزيتون، ثم واصل تعليمه عام 1949 في كلية دار العلوم بعد أن اجتاز مسابقتها، ولعلها المسابقة التي تحدَّث عنها الشاعر محيي الدين فارس في الإذاعة السودانية (برنامج الصالون الأدبي عام 1983) بقوله:
«فاز إدريس جماع في المسابقة الشعرية، وكان يرأس اللجنة د. طه حسين، بعضوية علي الجارم ود. إبراهيم ناجي، وهذه المسابقة جرّت على جماع آلاماً كثيرة». 
جاءت قصيدته «رحلة النيل» في المرتبة الثالثة، ومطلعها في الكتب المقررة يختلف عن المطلع الذي قرأته في مجلة الرسالة، وهو:
وادٍ مــن السحر أم مــاءٌ وشطآن 
أم جنة زفها للناس رضـــوان؟
عزيمة النيل تفني الصخر حدتهـا
فكيـف إن مسه بالضيم إنسان؟
وفي عام 1951 تخرج في كلية دار العلوم، والتحق بمعهد المعلمين ونال شهادته، ورجع إلى السودان بعد أن قام بطباعة ديوانه «لحظات باقية».

العودة إلى السودان
 وفي السودان عمل جماع معلماً للغة العربية، وفي تلك الفترة من عقد الخمسينيات حدث تطور كبير في حياته الأدبية والنفسية، فمن الناحية الأدبية تفتحت آفاق شاعريته بنضوج التجربة، وكثافة الوعي بقيمة الإنسان والوطن، وبما شهدته إفريقيا والعالم العربي من أحداث وقيام حركات النضال، فمع اشتعال الحركة الوطنية في السودان، اندفع الشاعر بروحٍ ثورية، مطالباً بالحرية في قصائد عدة منها «من سعير الكفاح».
سنأخذ حقـــنا مهما تعالــوا
وإن نصبوا المدافع والقلاعا
وإن همُ كتموه فليس يخفى
وإن هُمُ ضيعوه فلن يضاعـا 
وبعدما تم رفع العلم السوداني في 1956، عبَّر عن ابتهاجه بانبلاج صبح الخلاص، بقوله في «هذه الموجة»:
عزف السـودان لحـناً خالـــداً
من صدى الفرحة في رفع العلم
وأفقـنا في سـني الصبح على 
طـرب العـيـــد وتجسـيد الحلــم
 ثم امتد التزامه إلى خارج حدود وطنه، وأصبح يعبر عن قضايا وأهداف إنسانية كبرى، فلما حدث العدوان الثلاثي على مصر في عام 1956، أنشد يقول «في وجه العدوان»:
وكل أرضٍ تراءت بورسعـــيد بهـا
وانتاب ســــاكنها قـاس من النوب
لو أدركوا قيمة الإنسان ما جمحت
بهـــــم لمقتـــــل حـــرٍّ نـزوة الإرب
ثم تلاحقت أشعاره في تلك الفترة، فتناول ثورة الجزائر، كما تغلبت عليه نزعته الإنسانية، وكانت «مجد إنساني».  وغير هذا فقد كانت انفعالاته بالحياة وجمالـياتها عامة أكثر عمقاً وفلسفة، وها هو يقول في «طريق الحياة»:
إن الحـــياة بسحرها
نغم ونحن لها صدى
من مات فيه جمالها
فمقامــه فيها سُــدى
أما على الصعيد النفساني، فالشاعر الذي كانت تهفو نفسه لبلوغ القاهرة، عاد منها  بشيء من عدم التوازن النفسي، إذ عاد ميالاً للعزلة وأكثر شروداً من ذي قبل، كما أن وفاة والده خلّفت في روحه الشفافة حزناً دفيناً استصحبه في حياته وبعض قصائده، بقوله في «لوعة متجددة»:
ذوى حاضري حتى رؤى النفس وانقضت
مباهــــج أيامي فألـــحدتها قــبراً
وهــــا هي أيامي تــــباعاً تشـــــــــابهت
بها صور البلوى إذا اختلفت قدراً

ولا شك في أن ما بثه الشاعر جماع في قصائده الأخرى من شجون ما هو إلا أصداء لما يعتمل في دواخله، ومكنونات كان يكره الإفصاح عنها، وقد بدأ يشعر بأنه ما عاد قادراً على التكيف مع مجتمعه:
لقـــــد جعلتني ليالي العـــذاب
ألـــذ الممـــات علــى بغـضـــــه
وفي أواخر الخمسينيات، بعد أن تراكمت عليه الهموم، بدأ يخرج شيئاً فشيئاً من دائرة النشاط الاجتماعي، فصار الموت أشهى له من الحياة، واستحال أمره على النحو الذي عايشناه حتى انتقل إلى رحمة مولاه ■