اليابان القديمة
«اليابان»، كلمة مُحرَّفة عند أهل الملايو تعني «الجُزُر»: «يابون» أو «يابونج». وهي لفظ الكلمة نفسه تقريباً عند الصينيين: جَب – بَن، بمعنى المكان الذي تشرق منه الشمس. هذا هو أصل تسمية اليابان أو «Japan». وتمدنا الأساطير اليابانية بقصة نشأة الخليقة في معتقداتهم، حين اختارت الآلهةُ الإلهَ إيزانجي والإلهة إيزانامي، وهما أخ وأخته، ليبدآ خَلْق اليابان. فوقفا على جسر السماء العائم، وألقيا رمحاً في البحر، تناثرت إثر غوصه في الماء قطرات مقدسة، شكَّلَت جُزر اليابان. كان لابدّ أن يتزوج إيزانجي من أخته إيزانامي، لتستمر سلسلة الخَلْق، وعندما كان ذلك أنجبا «أماتيراسو»، فكانت إلهة الشمس، التي نشأت من حفيدها «ننجي» سلالة مقدسة استمرت حتى يومنا هذا، يمثلها أباطرة اليابان «أبناء الشمس».
اعتقد اليابانيون القدامى باعتقاد «الطوطمية»، فعندهم أنّ لكل مخلوق روحاً، وأنّ الأرواح تتناسخ بقدر قيمة وأعمال الكائن، الطيبة منها والخبيثة، ويستوثقون من ذلك عن طريق الحرق بالنار، فما يكون ريح دخانه عطراً فهو طيّب، وما يكون ريح دخانه نتناً فهو خبيث. لذلك نرى أنّ اليابانيين أكثر سكان شعوب العالم استهلاكاً للبخور، حيث يستورد اليابانيون اليوم ثلث محصول العالم من «العود» لحاجة معابدهم. ومن هذا الاعتقاد نشأت أقدم ديانة في اليابان: «شنتو»، وتقوم على تقديس الأسلاف... أسلاف الأسرة والقبيلة والإمبراطور الحاكم «ابن الشمس»، إلا أنّ البوذية ما لبثت أن انتقلت من الصين، بعد خمسة قرون، ثم دخلت وانتشرت في اليابان عام 522م. وكان سبب انتشارها السريع، حاجة الدولة السياسية لمثل هذا المعتقد الجديد، الذي يؤمِّل الناس بالخير وخلود الروح في النعيم، إن هم تحلوا بفضائل الورع والطاعة والسلام. وبذلك كان هذا المعتقد يبث روح الانقياد والانصياع لأوامر الحاكم «الباب المجيد إلى السماء». إنّ البوذية اليابانية ما كانت يوماً هي المبادئ والقيم التي دعا إليها بوذا نفسه، بل هي نوع من البوذية التي تطوّرت مبادئها على يد كهانها الأولين الداعين إلى مباهج الحياة بأسلوب يبث في النفس الرقة والأمل. وعندما اعتنق الإمبراطور «شو تو كو تايشي» البوذية سياسياً، ووصل إلى سدّة الحكم، أغدق العطاء على المعابد البوذية وكهانها، وأدخل المبادئ البوذية في صلب القوانين المدنية، وشجع العلوم والفنون، وكَتَب تاريخ اليابان، وأشاد معبد «هورويوجي» الذي يعتبر أقدم الآثار التي بقيت من فن العمارة الياباني.
ويبدو أنّ طبقة اجتماعية جديدة ظهرت بين الإمبراطور والعامة، هي طبقة المحاربين، تلك الطبقة التي جردت الإمبراطور كثيراً من صلاحياته من ناحية، وفرضت على العامة أعباء جديدة من ناحية أخرى. يأتي على رأس هذه الطبقة الحاكم العسكري، «شوجن» Shogun، الذي اصطنع لنفسه امتيازات خاصة كانت أصلاً للإمبراطور نفسه. وكان لكل حاكم عسكري جيش من السيافين، «ساموراي» Samurai، يأتمرون بأمره وينتهون بنهيه، حتى أصبحت طاعتهم عمياء لقائدهم. وفي هذه المرحلة من تاريخ اليابان القديم، كان الفخر للسيف والقتال من دون أي شيء آخر، حتى أصبح العلم والعمل مزدريين وضيعين مقابل مجد القتال. من هنا عمّ الفساد بين هذه الطبقة، فانتشر الميسر وكثرت الفواحش، حتى أصبحت بعض فتيات الطبقة الراقية خليلات للسادة المحاربين العظام. لقد كانت فتيات «الجيشا»، يمتهنّ الفن والغناء ويحفظن القصص، لترقى كل منهن إلى أن تكون خليلة لقائد عسكري، أو ربما الإمبراطور نفسه. وكثير منهن كن من بنات المحاربين الساموراي. أما في وقت المعركة والقتال، فقد كان للساموراي الحظوة في المجد، فإذا كان النصر له حليفاً، فقد فاز برضا الشوجن وغنائمه. أما إذا كانت الهزيمة قد أُلحقت به، فإنّه يفوز بطاعة قائده، عندما ينتحر وفق قانون «هاراكيري»، والكلمة تعني بقْر البطن بالسيف، فكان الساموراي يبقر بطنه بالسيف من جهة اليسار إلى جهة اليمين حتى تخرج أمعاؤه. وقد اعتبر قانون «هاراكيري»، في ما بعد، ميثاق الشرف بين الإمبراطور والحاكم العسكري، أو بين الحاكم العسكري والساموراي. والغريب أنّ هذه العادة، أو قل: تلك العبادة، استمرت عند الجنود اليابانيين إلى أوائل القرن السابق، حين أزهق عدد كبير من الجنود اليابانيين أرواحهم بهذا الأسلوب عام 1905م، خوفاً من وقوعهم أسرى لدى الروس.
وعلى الرغم من اعتماد اليابان على الزراعة والصناعة، فإنّ الطبقة العاملة في هذين المجالين، كانت هي الطبقة الأدنى في المجتمع، وفي الوقت نفسه كانت هي الوحيدة التي تعاني وطأة الضرائب المفروضة عليها من الحاكم العسكري وأتباعه، كما كانت تعاني الاضطهاد ونظام السخرة. وتعلو هذه الطبقة طبقة العلماء والأدباء والفنانين، التي كان يُنظر إليها من الساموراي نظرة احتقار دائم، لاعتقادهم بأنّ هؤلاء عالة على المجتمع الياباني. لذا، يرى الباحث في تاريخ اليابان القديم قليلاً جداً من الإنتاج الأدبي أو الفني، إلا ما كان في فن عمارة المعابد وتحليتها بالنقوش ونحت التماثيل. كان الأرز هو المنتج الزراعي الأهم في اليابان، فمنه يأكلون ومنه يشربون الخمر، الذي أسموه «ساكي» sake، بمعنى السائل الصافي. كما كان صيد البحر مصدراً أساسياً لغذاء اليابانيين، وعليه فإنّ سمة المائدة اليابانية كانت تتميز بالأرز والأسماك والساكي، وأضيف لها الشاي بعد فترة من الزمن ليأخذ في تناوله طقساً من طقوس المجتمع الياباني. واقتصرت الصناعة لديهم على الحدادة التي تركزت منتجاتها على أدوات الحرب وسرابيلها، أما النجارة فشملت صناعة السفن وبناء المساكن وأدوات الطعام. ولعلنا نلاحظ أنّ ما عابه اليابانيون على طبقة الصنّاع في مجتمعهم القديم أصبح اليوم نبراس حضارة ساطعة. لقد استطاع اليابانيون بناء حضارة جديدة على أنقاض حضارتهم البائدة... فهل من مُدّكر؟ ■