العبقرية ولدت منذ مائة عام أورسون ويلز... الرجل الذي «التهم» شكسبير

لم تكن موهبة أورسون ويلز تقف عند حدود، استخدم الإذاعة كعنصر للدراما وأثار ذعر المستمعين، وأعاد تجسيد شكسبير على المسرح بروحية جديدة، وصنع من المواطن كين تحفة سينمائية، وأضفى على كل مجال لمسة من عبقريته الخاصة.
عادة ما تظهر العبقرية على أصحابها في مرحلة عمرية مبكرة، ولكن من النادر أن تتوغل هذه العبقرية في صاحبها, ليس فقط ليتفوق على أقرانه في مجاله، بل في مجالات متعددة، مثلما حدث مع المخرج الأمريكي أورسون ويلز
(6 مايو 1915 - 10 أكتوبر 1985)، فقد ظهرت عليه بوادر العبقرية وهو لايزال طفلاً صغيراً جدّاً فاستوعب الكثير من الثقافات التي لا يفهمها الإنسان العادي إلا في عمر متقدم، وبمتابعة رحلة عطائه بعد قرن من الزمن نلاحظ أمرين بالغي الأهمية في عالم أورسون ويلز، أولهما أنه استوعب الأدب العالمي بشكل جيد، فقدمه لنا بصور متعددة مدهشة للغاية, كما أنه كان أبرز من قدَّم لنا تجسيدات ويليام شكسبير، سواء على خشبة المسرح، أو في السينما والدراما الإذاعية، بمعنى أنه أعاد تفسيرها وأعطاها حياة جديدة. ويعتبر نقاد السينما في العالم فيلمه «المواطن كين» واحداً من أهم عشرة أفلام سينمائية طوال تاريخ السينما، ويضعه كبار النقاد الفرنسيين في المكان الأول على رأس كل قوائم الأفلام على الإطلاق, وكما سنرى فإن المحاولة التي قدمها لرؤية عالم شكسبير في إطار القرن العشرين يمكن رصدها من خلال ما يسمى بدكتاتورية الصحافة.
أكثر من شخص... أكثر من موهبة
ويمكن اعتبار ويلز مجموعة من الرجال العباقرة اجتمعوا في شخص واحد، فهو مخرج سينمائي ومؤلف وكاتب سيناريو من أبرز المؤلفين، وهو مخرج عالي المستوى، وهو أيضاً رسام، وممثل ومنتج, ودرامي إذاعي ليس له مثيل، كما أنه مبادر لا يقلد أحداً، يقدم في طيات أعماله عنصر المفاجأة المصحوبة بالصدمة الحادة. وقد ترك في كل مجال خاضه أثراً ملحوظاً كان له فيه السبق، وهو تاريخ متحرك ارتبط في حياته بأبرز أسماء القرن العشرين في مجالي الفن والأدب، وقد حرص على أن يكون فناناً مستقلّاً، وكثيراً ما كان يختلف مع أصحاب رؤوس الأموال ويترك العمل من دون أن يتمه، وهو بذلك المخرج الذي ترك عدداً كبيراً من الأعمال الجيدة التي لم تكتمل، ربما كانت أكثر عدداً من أفلامه التي شاهدها الناس بالفعل،
وقد ارتبط اسمه أكثر بويليام شكسبير الذي بدا كأنه قد التهمه وهضمه جيداً قبل أن يخرج على الناس بأعماله على خشبة المسرح، وفي الدراما الإذاعية والتلفزيونية, وفي السينما، يظهر عبقرية الكاتب الأكثر أهمية في تاريخ الأدب، كما أنه الوحيد الذي توغل في عالم الكاتب التشيكي فرانز كافكا وقدم روايته «المحاكمة» في معالجة بالغة الأهمية. وكافكا لم يقدمه السينمائيون كثيراً رغم أهمية أعماله، بسبب غموض عالمه. وقدم ويلز أعمالاً لأدباء آخرين لا يقلون أهمية مثل هربرت جورج، وجورج ستيفنسون, وسرفانتس وآخرين. ولم يحبس ويلز نفسه في الولايات المتحدة حيث ولد، ولكنه جاب أغلب المدن الأوربية يبدع فيها ويكتشف كل ما هو جديد وجاد ومهم.
أسفار وموسيقى
كان أبوه واحداً من رجال الصناعات الكبرى في الولايات المتحدة، وكان شغوفاً بالتنقل حول العالم، وقد ورَّث لابنه هذا الشغف، أما الأم فكانت عازفة بيانو، وساعد هذا على بزوغ موهبة الطفل الموسيقية في سن مبكرة، وقد قال عن نفسه إنه محظوظ، لأن أباه أحد المؤمنين بدور العلم والابتكار.
وأضاف: «أنا مدين له بطفولة متميزة وحب السفر, أما أمي فكانت ذات جمال باهر، تهتم بالسياسة، وكانت بطلة في الرماية، وقد ورثت عنها حب الموسيقى, والذوق الحسن». وهكذا عاش ويلز في ظروف اجتماعية مثالية عجلت بظهور موهبته، حيث أجاد القراءة وهو في سن مبكرة، فقد قرأ مسرحية «الملك لير» في سن السابعة, ومثَّل في السينما الأمريكية في إحدى معالجات «شمشون ودليلة» وهو في سن الثالثة، كما قرأ النصوص الأوبرالية الكبرى، وهو دون العاشرة، وشارك في تجسيد شخصياتها، ومنها «مدام بتر فلاي».
هذه الحياة الأسرية السعيدة لم تستمر طويلاً، ففي عام 1919 انفصل الوالدان ووجد الصغير نفسه يصحب أمه للإقامة في شيكاجو, وفي سن العاشرة عاد إلى خشبة المسرح ليس فقط كممثل، بل كمصمم مناظر وشاعر يكتب الأغنيات للمسرحيات، وحوَّل رواية «الدكتور جيكل والسيد هايد» إلى مسرحية، واكتشف روعة الأدب الكلاسيكي خاصة في بريطانيا، ووزع أنشطته بين مواهبه المتعددة التي رزقه الله إياها, وأقام أول مهرجان مسرحي مدرسي لمسرحيات شكسبير. فقد أورسون ويلز والديه وهو في هذه المرحلة المبكرة من العطاء وصار يتيماً في سن الخامسة عشرة بعد أن ماتت أمه في سن الأربعين عام 1924, أما أبوه فقد رحل عام 1930.
وفي هذه السنوات التفت إلى الإبداع الشرقي التخيلي فقدم مسرحية عن «علاء الدين والمصباح السحري», قبل أن يسافر إلى إيرلندا ليعمل رساماً ومخرجاً مسرحياً, وقد وهبه الله صوتاً أجش، يتسم بقوة ملحوظة، ما أهله ليكون ممثلاً ومخرجاً في الإذاعات البريطانية، وراح يحول النصوص الأدبية العالمية إلى دراما إذاعية في زمن سطوة الراديو، واهتم كثيراً بالنصوص الغامضة والتخيل العلمي، إلا أنه لم يبتعد كثيراً عن المسرح، فعمل فيه بشكل مكثف قبل العودة إلى بلاده عام 1934, وفي هذه الفترة التقى صديقه الممثل جيمس ماسون الذي أطلق عليه اسم «شيطان المسرح», وعمل معه في نصوص شكسبيرية، منها «هاملت» «وريتشارد الثالث», كما جرب الإخراج السينمائي للمرة الأولى حين قدم فيلماً قصيراً مأخوذاً عن رواية «الدكتور جيكل والسيد هايد».
إبداع مسرحي
كان عليه أن يعود إلى بلاده وقد تسلَّح بمعرفة تقنية جديدة في عالم المسرح، وبدأ يبحث عن أدوار على مقاسه، واكتشف أنه بقياس ويليام شكسبير، فقدم مسرحية «روميو وجولييت»، كما انتبه إلى أهمية مسرحيات الكاتب الفرنسي جان كوكتو الفنتازية، ومنها «قلوب العمر» بما يعني تعدد اهتماماته.
وقد حاول ويلز دوماً أن يجدد في تجاربه، فلم يعتبر المسرح الشكسبيري مخصصاً فقط من أجل النخبة، من هذا المنطلق توجه إلى «حي هارلم» وكوَّن فرقة مسرحية كل أعضائها من الزنوج، وأخرج لهم عديداً من مسرحيات شكسبير، ومنها «ماكبث», كما قدم مسرحية «فاوست» لمارلو المعاصر لشكسبير, وصبغ النصوص الكلاسيكية برؤى وصور جديدة.
وأسس في تلك المرحلة أيضاً مسرح ميركير, وعمل بقوة في الدراما الإذاعية في المحطات البريطانية، ومن أبرز هذه الأعمال الدرامية «جين إير» و«جزيرة الكنز» و«يوليوس قيصر» و«حول العالم في 80 يوماً»، إلى أن جاءت التجربة الغريبة في مسلسل «حرب العوالم» المأخوذ عن هربرت ويلز, حدث ذلك في ليلة الاحتفال بعيد «الهالوين» والناس كلها تتأهب لكل ما هو غريب، حين جاء صوت ويلز الأجش يحذر الأمريكيين وكل العالم من غزو فضائي غريب، وأن عليهم أن يغادروا بيوتهم فوراً، وانتاب الخوف الناس بالفعل وبدأوا يفرون من أماكنهم، وعندما تم اكتشاف الخدعة صار ويلز نجماً بين ليلة وضحاها، وتمكن من إثبات مواهبه بأن جعل الناس يصدقون أن التمثيل حقيقة.
«المواطن كين»
وهكذا أكد المخرج الممثل الكاتب أنه يمكن أن يؤثر في الناس وهو يقدم لهم كل جديد، وحدث ذلك عام 1938, وصار عليه أن يذهب إلى «هوليوود» والتقى كاتب السيناريو هيرمان مانكفتش وكتبا معاً سيناريو فيلم «المواطن كين» وبدت فيه أجواء تأثره بشكسبير، فرغم أنه عن عالم الصحافة المعاصرة فإنه صور هذه الصحافة أقرب إلى الإمبراطوريات والممالك في أعمال شكسبير، فالصحفي كين هو أقرب إلى الملك لير ولديه سطوته، وهو إمبراطور الكلمة, وقد اعتزله الناس والمقربون، ما أدى إلى عزلته حتى الموت.
عاش تشارلز كين حياة البذخ والشهرة والبريق والسلطة. ويحكي الفيلم قصة صحفي أمريكي مشهور هو ويليام هيرست, واعتمد على ما يسمى بعبقرية الفلاش باك، ورأينا كيف كان عاقّاً بأمه، وقدرته على فعل أي شيء للحصول على نصر صحفي, وتزوج من شقيقة رئيس الجمهورية، إلا أنه كان دائم الخيانة لزوجته، ما دفعها إلى طلب الطلاق، فتزوج من امرأة أخرى تربطه بها مصالح إلى أن تخلى عنه كل من يعرفه. ولا شك أن هذا العالم قد رأيناه بتفصيلات مختلفة في رواية «الرجل الذي فقد ظله» لفتحي غانم.
كما اعتبر فيلم «المواطن كين» ثورة في التقنيات، ما أهله للحصول على عديد من الجوائز خاصة في السيناريو، وقد برع ويلز في التمثيل ما دفعه إلى تقديم فيلمه التالي «عظمة آمبرسون» المأخوذ عن رواية لـ«بوت تارنجتون».
ولم يبق أورسون طويلاً في الولايات المتحدة، فسرعان ما توجه إلى البرازيل عام 1942, والتقى في العام التالي الممثلة المبتدئة ريتا هايورث فصنع منها نجمة لسنوات طويلة, وتزوجها وأنجب منها وحيدته ربيكا. وكانت الأربعينيات هي سنوات المجد لويلز: ممثلاً ومخرجاً ومنتجاً وكاتباً، كان لا يتخلى قط عن مجالات نجاحه، خاصة الدراما الإذاعية، ومع بدء انتشار الدراما التلفزيونية راح يصور المسلسلات الإذاعية للمحطات التلفزيونية في الولايات المتحدة وأوربا. أما في السينما فقد حوَّل النصوص البوليسية الشهيرة إلى أفلام ذات رونق حقيقي مثل «الغريب» عام 1946, و«سيدة من شنغهاي» 1947, ولم يلتفت كثيراً إلى شغف زميله لورانس أوليفييه بنصوص شكسبير التي حوّلها إلى المسرح والسينما, فلكل منهما رؤية وتقنية خاصة.
وفي عام 1948 أتحفنا أوليفييه بفيلم «هاملت»، أما ويلز فقد قدَّم «ماكبث» بكل عالمه الدموي، وفي عام 1952قدم «عطيل».
إرهاب «المكارثية»
في المرحلة التالية عانى ويلز كثيراً من الرقابة السياسية في بلاده، ما كان يسمى المكارثية، وقد اتهموه بأنه ماركسي الفكر ولكنه لم يغادر بلاده، واتجه إلى التمثيل بشكل مكثف خاصة في السينما.
غير أنه توقف لأسباب عديدة عن استكمال المزيد من المشاريع السينمائية, وقد ظل دوماً يرتدي ثوب شكسبير على المسرح وفي الاستديوهات.
محاكمة «كافكا»
أما التجربة السينمائية البالغة الأهمية فقد كانت رحلته إلى أوربا, فقد أخرج واحدة من أهم روايات القرن العشرين، وهي «المحاكمة» لـ«كافكا» التي تدور في دهاليز المدينة حول مواطن بسيط يدعى جوزيف. ك يجد نفسه في رحلة عبثية متهماً من دون أسباب في قضايا لا يعرف هويتها، وينتهي به الأمر إلى أن يقوم رجلان غامضان بقتله وسط ظلام الشوارع.
وقد تحولت المدينة هنا إلى إمبراطورية شديدة القسوة، وفي الفيلم جسد ويلز دور القاضي البدين، وكان قد انفصل عن ريتا هيوارث، وصار بدين الجسم، يكاد لا يقوى على حمل نفسه، وكان السؤال هو: لماذا يكف عن الإخراج ويعمل ممثلاً في أفلام متباينة الأهمية مثل «شرخ في المرآة» و«التتار»؟ لكنه كان يظهر في أفلام مهمة، منها «رجل لكل العصور» عن حياة توماس مور صاحب «اليوتوبيا الفاضلة» من إخراج فريد زينمان. ورغم العدد الكبير من الأدوار السينمائية فإن دوره في فيلم «الرجل الثالث» المأخوذ عن رواية لجراهام جرين يعد أهم أدواره كممثل على الإطلاق.
في هذا الفيلم ظهر ويلز عملاقاً بجسده الرشيق, مليئا بالحيوية، وكان ذلك آخر عهده بالرشاقة، فقد صار رجلاً بديناً لا تناسبه أدوار شكسبير وأبطاله، وصار يستخرج شخصيات من مسرحياته ويؤلف عليها نصوصاً جديدة, فهو غير قادر بالمرة على نزع معطف هذه الشخصيات من وجدانه مثلما حدث في شخصية تدعى فالستاف على سبيل المثال.
إنها العبقرية التي لا مثيل لها، فليس هناك نجم في كل هذه الفنون استطاع أن يتجاوز أورسون ويلز، الذي كان دوماً الأول في كل إبداعاته .