يوم من أيام رسَّام

يوم من أيام رسَّام

من شباك الغرفة كنت أتمتّع بالنظر إلى الطبيعة الملوّنة بالأزرق، وأشعة شمس لا أراها، كانت مختبئة بين طيّات السّحاب البيض. الطقس لم يكن مثلجاً بل ربيعياً، مزدهراً. أتطلّع إلى السماء وأمواج السحاب تسبح فيها بهدوء كأنها تداعب النسيم، يهبط نظري إلى الشارع الهادئ الساكن؛ ظهرت امرأة من بعيد، بقي نظري يلاحقها، اقتربت، كنت مازلت أنظر إليها، لم يعكّر الشارع وجودها فيه، بل زاده رونقاً وتألقاً، رأيت نفسي تتوق إليها، أشرت بيدي ببعض الخجل، ردّت ودخلت البناء حيث أسكن، دقّت على الباب وكأني سمعت دقات قلبي، فتحته، دخلت ولم أدعها للدخول، لكني فوجئت وسررت، بل فرحت، وكيف أعبّر عن سروري؟ امرأة دخلت منزلي وأدخلت معها جمال الطبيعة وعطر الربيع وشفافية السحاب، لم تقل شيئاً، لم أقل أنا شيئاً، بقينا واقفين وجهاً إلى وجه.

رأيتها‭ ‬تقترب‭ ‬من‭ ‬النافذة،‭ ‬اقتربت‭ ‬منها،‭ ‬لمستها‭ ‬وكأني‭ ‬ألمس‭ ‬النسيم،‭ ‬لم‭ ‬تتحرك،‭ ‬أمسكت‭ ‬بيدها‭ ‬اليمنى،‭ ‬أعطتني‭ ‬يدها‭ ‬اليسرى،‭ ‬تشابكت‭ ‬أيادينا‭ ‬ولم‭ ‬نتفوه‭ ‬بكلمة،‭ ‬كأنها‭ ‬كانت‭ ‬كل‭ ‬الكلمات‭ ‬وكل‭ ‬هذا‭ ‬الصباح‭ ‬الهادئ‭ ‬الجميل‭ ‬الذي‭ ‬يتهيأ‭ ‬ليصير‭ ‬يوماً‭ ‬متكاملاً،‭ ‬ظهراً،‭ ‬عصراً‭ ‬ومساء‭.‬

لم‭ ‬أرد‭ ‬أن‭ ‬أتساءل‭: ‬هل‭ ‬ستختفي‭ ‬أنوار‭ ‬الصباح‭ ‬ويظهر‭ ‬نور‭ ‬القمر،‭ ‬وتبقى‭ ‬المرأة‭ ‬بقربي‭ ‬ألمس‭ ‬يديها‭ ‬وتلمس‭ ‬يديّ،‭ ‬وتبتسم‭ ‬وأبتسم،‭ ‬ولا‭ ‬صوت‭ ‬سوى‭ ‬زغردة‭ ‬العصافير‭ ‬كأنها‭ ‬توقظ‭ ‬الناس،‭ ‬لكن‭ ‬الشارع‭ ‬بقي‭ ‬هادئاً؟

تساءلت‭: ‬ماذا‭ ‬حدث‭ ‬لي؟‭ ‬لم‭ ‬أرد‭ ‬أن‭ ‬أجيب‭ ‬لأني‭ ‬لا‭ ‬أعلم،‭ ‬لا‭ ‬أدري،‭ ‬كأني‭ ‬أصبحت‭ ‬حلماً،‭ ‬لكني‭ ‬لمست‭ ‬يديها‭ ‬بحنان‭ ‬لأتأكد‭ ‬من‭ ‬أنه‭ ‬لم‭ ‬يكن‭ ‬حلماً،‭ ‬اقتربت‭ ‬مني‭ ‬وأصبحنا‭ ‬جسداً‭ ‬واحداً‭... ‬أعرف‭ ‬هذا‭ ‬الشعور،‭ ‬لكن‭ ‬شعوري‭ ‬الآن‭ ‬تبدّل،‭ ‬نظرت‭ ‬إلى‭ ‬السماء‭ ‬وراحت‭ ‬تتأمل‭ ‬السحاب،‭ ‬فعلت‭ ‬مثلها،‭ ‬ظهرت‭ ‬على‭ ‬وجهها‭ ‬تعابير‭ ‬فيها‭ ‬بعض‭ ‬الحزن،‭ ‬لم‭ ‬أتأثر،‭ ‬يداها‭ ‬مازالتا‭ ‬بين‭ ‬يديّ،‭ ‬تشدّ‭ ‬عليهما‭ ‬وتقترب‭ ‬مني،‭ ‬فجأة‭ ‬هطلت‭ ‬الأمطار‭ ‬وتغيّرت‭ ‬ألوان‭ ‬السماء‭ ‬ولجأت‭ ‬الطيور‭ ‬إلى‭ ‬أغصانها‭ ‬وأعشاشها‭ ‬وتلوّنت‭ ‬الأرض‭ ‬بألوان‭ ‬جديدة،‭ ‬قلت‭ ‬بصوت‭ ‬خافت،‭ ‬لا،‭ ‬لم‭ ‬أقل‭ ‬شيئاً،‭ ‬إلا‭ ‬أني‭ ‬شعرت‭ ‬بحزن،‭ ‬هي‭ ‬لم‭ ‬تكن‭ ‬بقربي،‭ ‬ولم‭ ‬أعد‭ ‬أراها‭ ‬وألمسها‭. ‬أغلقت‭ ‬النافذة‭ ‬وأخذت‭ ‬القلم‭ ‬وبعض‭ ‬الأوراق‭ ‬لأرسم‭ ‬وجهها‭... ‬أين‭ ‬هي؟

وهل‭ ‬يرسم‭ ‬النسيم؟‭ ‬حاولت،‭ ‬لكن‭ ‬الأوراق‭ ‬بقيت‭ ‬بيضاء‭ ‬كما‭ ‬كانت‭ ‬سحب‭ ‬السماء‭ ‬عند‭ ‬الصباح،‭ ‬رحت‭ ‬أنظر‭ ‬إليها‭ ‬وأتخيّل‭ ‬الطبيعة‭ ‬التي‭ ‬كانت‭ ‬منذ‭ ‬ساعات،‭ ‬لكنها‭ ‬لم‭ ‬تعد‭ ‬كما‭ ‬كانت،‭ ‬واختفت‭ ‬المرأة‭ ‬التي‭ ‬رأيتها‭ ‬منذ‭ ‬بعض‭ ‬الوقت،‭ ‬فتحت‭ ‬النافذة‭ ‬ثم‭ ‬أغلقتها،‭ ‬وبقيت‭ ‬أبحث‭ ‬عنها،‭ ‬ثم‭ ‬قمت‭ ‬ثانية،‭ ‬رأيت‭ ‬الشارع‭ ‬قد‭ ‬غصّ‭ ‬بالناس،‭ ‬نظرت‭ ‬إلى‭ ‬كل‭ ‬الوجوه،‭ ‬لم‭ ‬أرها،‭ ‬خفت‭ ‬أن‭ ‬أنسى‭ ‬وجهها،‭ ‬عدت‭ ‬إلى‭ ‬أوراقي‭ ‬وأقلامي‭ ‬وأخذت‭ ‬أرسم‭ ‬وجوهاً،‭ ‬لم‭ ‬أجد‭ ‬وجهاً‭ ‬كوجهها،‭ ‬لم‭ ‬أمزّق‭ ‬الأوراق،‭ ‬صففتها‭ ‬على‭ ‬الطاولة،‭ ‬يتنقل‭ ‬نظري‭ ‬من‭ ‬وجه‭ ‬إلى‭ ‬وجه‭. ‬عدت‭ ‬إلى‭ ‬النافذة،‭ ‬بقيت‭ ‬الناس‭ ‬على‭ ‬حالها‭ ‬تسير‭ ‬مسرعة،‭ ‬قلت‭: ‬إلى‭ ‬أين؟‭ ‬هل‭ ‬هناك‭ ‬مكان‭ ‬للذهاب‭ ‬إليه؟‭ ‬وهل‭ ‬هناك‭ ‬شباك‭ ‬كشباكي‭ ‬الذي‭ ‬ينتظر‭ ‬ويأمل‭ ‬عودة‭ ‬المرأة‭ ‬التي‭ ‬زارتني‭ ‬ثم‭ ‬اختفت؟

أغلقت‭ ‬النافذة‭ ‬وجلست‭ ‬أنظر‭ ‬إلى‭ ‬الوجوه،‭ ‬وكأني‭ ‬سمعت‭ ‬صوتاً‭ ‬يقول‭ ‬الا‭ ‬تنتظر‭ ‬طويلاًب‭. ‬قمت‭ ‬مذعوراً،‭ ‬بحثت‭ ‬في‭ ‬كل‭ ‬زوايا‭ ‬المنزل،‭ ‬لم‭ ‬أجد‭ ‬أحداً،‭ ‬عدت‭ ‬إلى‭ ‬طاولتي‭ ‬وأوراقي‭ ‬وأقلامي،‭ ‬وأخذت‭ ‬أرسم‭ ‬ما‭ ‬يريده‭ ‬قلمي،‭ ‬فجأة،‭ ‬ومن‭ ‬خطوط‭ ‬القلم،‭ ‬ظهرت‭ ‬المرأة‭ ‬التي‭ ‬أبحث‭ ‬عنها‭ ‬وعلى‭ ‬وجهها‭ ‬الابتسامة‭ ‬ذاتها،‭ ‬لمست‭ ‬الرسم‭ ‬فانمحى،‭ ‬وبقيت‭ ‬بعض‭ ‬آثاره،‭ ‬أخذتها‭ ‬بهدوء‭ ‬ووضعتها‭ ‬مع‭ ‬الرسوم‭ ‬المصفوفة‭ ‬على‭ ‬الطاولة،‭ ‬رأيت‭ ‬كل‭ ‬الرسوم‭ ‬تبتسم‭ ‬وتحدث‭ ‬ضوضاء،‭ ‬خفت‭ ‬من‭ ‬حدوث‭ ‬شيء‭ ‬لي،‭ ‬الجنون‭ ‬مثلاً؟‭ ‬فتحت‭ ‬الباب‭ ‬وخرجت‭ ‬منه‭ ‬دون‭ ‬أن‭ ‬أغلقه،‭ ‬وبدأت‭ ‬أمشي‭ ‬في‭ ‬الأحياء‭ ‬دون‭ ‬أن‭ ‬أدري‭ ‬أين‭ ‬أذهب‭ ‬وإلى‭ ‬من‭! ‬وبقيت‭ ‬أياماً‭ ‬أسير‭ ‬من‭ ‬حيّ‭ ‬إلى‭ ‬حيّ‭ ‬دون‭ ‬الشعور‭ ‬بالتعب‭ ‬أو‭ ‬الجوع‭ ‬أو‭ ‬العطش،‭ ‬كنت‭ ‬أنام‭ ‬حيث‭ ‬أشعر‭ ‬بالنعاس،‭ ‬أنام‭ ‬وعيناي‭ ‬معلّقتين‭ ‬بالنجوم،‭ ‬ولم‭ ‬أكن‭ ‬أدري‭ ‬إن‭ ‬كنت‭ ‬أغفو‭ ‬أم‭ ‬أنني‭ ‬أشتاق‭ ‬إلى‭ ‬السماء‭ ‬وشمسها‭ ‬وقمرها‭ ‬ونجومها‭.‬

وعندما‭ ‬يأتي‭ ‬الصباح،‭ ‬أتحرّك‭ ‬وأعود‭ ‬إلى‭ ‬السير،‭ ‬نسيت‭ ‬حي‭ ‬سكني‭ ‬ولم‭ ‬يعد‭ ‬لي‭ ‬بيت‭. ‬لم‭ ‬يهمّني‭ ‬هذا،‭ ‬إذ‭ ‬كنت‭ ‬أفكر‭ ‬في‭ ‬وجهها‭ ‬وفي‭ ‬السماء‭ ‬الزرقاء‭ ‬وسحابها‭ ‬وطيورها‭ ‬وزقزقة‭ ‬عصافيرها‭ .