إستراتيجية التجريب في رواية «غيثة تقطف القمر»

إستراتيجية التجريب في رواية  «غيثة تقطف القمر»

أصدرت المبدعة والباحثة المغربية د. زهور كرام، خلال الآونة الأخيرة، رواية جديدة عنونتها بـ «غيثة تقطف القمر». يقع هذا النص، الذي جاء عنوانه استعارياً، في مائة وست وعشرين صفحة من الحجم المتوسط، ليضاف إلى روايتين سابقتين، هما: «جسد ومدينة» (1996) و«قلادة قرنفل» (2004)، وكذا إلى سلسلة الأعمال النقدية التي ساءلت فيها الباحثة الخطاب الروائي من زوايا مختلفة.

 

لعل قراءة فاحصة لهذه الرواية التي تحفل بالدلالات والرموز، وتلمّح أكثر مما تصرّح، جعلتنا نقف عند جملة من الخصائص المميزة لهذا النص الممتع تخص الشكل تحديداً، يمكن رصدها في خمس نقط.

1 - التشذير
لجأت الـروائية إلى تقنية التشذير، المتمثلة في تقسيم الرواية إلى عشرين مقطعاً قصيراً مرقماً بشكل تسلسلي، يقع كل مقطع في صفحات معدودة، ويكاد كل مقطع ينفرد بتيمة محددة، لكن شخصية «غيثة» تبقى هي الخيط الناظم بين مختلف هذه المقاطع، لأنها تدخل في علاقات عديدة مع مختلف الشخصيات الأخرى التي أسهمت في تطوير فعل السرد. وبهذا تكون هذه التقنية التي شغلتها الروائية قد أسهمت في تكسير رتابة السرد، وجعلت النص يبتعد عن صيغ الكتابة الكلاسيكية التي تحتشد التفاصيل بأسلوب سردي متدفق. ولكي يتحقق هذا الاختصار، الذي أصبح في ظل عصرنا الراهن أمراً مطلوباً حتى لا يشعر المتلقي بالملل والرتابة. هكذا، يستطيع كل من أمسك هذا النص، الذي كتب بدقة متناهية، أن يقرأه في وقت لا يتجاوز أربع ساعات على الأكثر، مسافراً بين مقاطعه المكثفة، متفاعلاً مع القضايا الراهنة التي يطرحها، مستوعباً الدلالات الضمنية التي تحيل عليها الرموز والإيحاءات المعبر عنها بلغة مرنة وسلسة وبجمل قصيرة، وهذا أمر ليس في مكنة الجميع. إنها ربحت رهان القارئ، وعرفت كيف تستدرجه من مقطع إلى آخر، حيث إن كل مقطع يجعلك تتلهف إلى قراءة ما سيأتي في المقطع الذي يليه، وآلية الاستدراج هذه التي تحققت عبر بنية التشذير، ساهمت في جعل القارئ يستمتع بالنص من بدايته إلى نهايته من دون كلل أو ملل.

2 - الرمز
يمكن رصد الرمز في رواية «غيثة تقطف القمر» أولاً من العنوان نفسه، حيث إن القمر هنا رمز طبيعي للضوء الذي يزيل الظلام ويبرز المستور، ويمكن رصد الرمز ثانياً من خلال شخصية السيد «السيدا»؛ وهي شخصية تجسد الفساد المستشري في الوطن. لقد اختارت المؤلفة تشبيه هذه الشخصية، التي جردتها حتى من الاسم، لأن الاسم دال ورامز، بفيروس داء فقدان المناعة المكتسبة الذي ينخر جسم المصاب فور دخوله، وينتشر بطريقة لا وجود لعلاجها إلى حد الآن، كذلك ينخر السيد «السيدا» بأساليبه الاستغلالية جسد هذا الوطن ومواطنيه، وحتى «غيثة» الصحفية في صحيفة «الفيترينا» (الفيترينا هي الأخرى رمز للصحف الصفراء)، التي أرادت فضح ممارساته، كان مآلها السجن الذي فقدت بسببه زوجها الذي تخلى عنها بمجرد استدعائها للاستنطاق، وفقدت عملها في الصحيفة التي تخلت عنها ولم يوكل لها مديرها العام محاميا يدافع عنها، وكأن الكل متواطئ هنا مع الفساد، لتكتشف في الأخير أن السيد «السيدا» أصبح مالكاً للصحيفة نفسها. لكن عدم تضحيات «غيثة»، التي كلفها النبش في القمامة لتنبعث منها رائحة الفساد التي تزكم الأنوف لم تذهب أدراج الرياح، ما دامت آمنت بقضية ودافعت عنها، لأن في الأخير سيحاكم السيد «السيدا»، وستقطف غيثة «القمر»، لأنها ستفرح فرحاً كبيراً عند سماعها خبر «المحاكمة». إنها رمز للبطل الإشكالي الذي يواجه الصعاب لكنه لا يستسلم، وسلاحها الوحيد الذي جعلها لا تفشل هو الحب، لأن «من لا يعرف كيف يدافع عن الحب لا يعرف كيف يدافع عن الوطن».
يتحقق الرمز كذلك من خلال فضاءات وعوالم أخرى استدعتها الروائية للدلالة على قضايا يعج بها الواقع، فالبحر الذي ظل «عمر» الأخ الوحيد لـ«غيثة» الحاصل على شهادة جامعية في القانون يأمل أن يركبه هروباً من الواقع، رمز للهجرة السرية تارة التي تحصد مئات الأرواح سنوياً في المغرب، ورمز للاغتسال من المرارة، والبرلمان الذي ظل «عمر» ينتظر أمامه عندما فشل في ركوب البحر بسبب وفاة أمه في غيابه رمز للبطالة التي تعانيها فئة عريضة من شرائح المجتمع، فهو لا يحيل من خلال فضائه الداخلي، أي لا يحضر في الرواية باعتباره مؤسسة دستورية تناقش فيها قضايا المواطنين، بل يحضر من خلال فضائه الخارجي الذي يتحول إلى مكان للانتظار لدى الحاصلين على الشهادات الجامعية العليا. لقد حكمت المؤلفة على «عمر» بالموت لأنه فضَّل الانتظار، وكأن الانتظار هو في العمق موت بطيء، لذلك فهو نموذج للبطل السلبي المأساوي.
أسهمت هذه الرموز التي أحسنت الروائية توظيفها في اختزال عديد من القضايا، فهي تشكل نوعاً من التماثل يصل في بعض الأحيان إلى درجة التماهي، وبذلك تكون قد استعاضت عن الوصف والإسهاب بالرمز الذي يفتح النص على تأويلات عديدة.

3 - الكتابة عبر الأنواع
يتمثل هذا الأسلوب في استدعاء مجموعة من الأنواع الصغرى، وتتجلى وفق قراءتنا في استحضار الأغاني والأمثال الشعبية في سياق السرد. فعديد من الأغاني تأتي منسجمة مع اللحظة السردية، فأغنية «القمر الأحمر» التي كانت تصغي إليها «غيثة» رفقة زوجها الأول الذي تخلى عنها على ضفاف نهر سبو، وغيرها من الأغاني لا تأتي إلا لتعضد موقفاً أو تجسّد مفارقة، فكيف يمكن لشاب يعيش في بلد يقول عنه «نعمان لحلو»: زين البلدان أن يفكر في «الحريك»! وكذلك هي وظيفة الأمثال الشعبية المغربية التي استحضرتها الروائية في كثير من الوحدات السردية للدلالة على التوجيه والنصح أو التقليل والتحقير أو ما شابه ذلك. فهذه القيم عوض أن تخوِّض السرد في شرحها والتوسع فيها تكتفي بالتعبير عنها بالأمثال التي تؤدي وظيفة التكثيف الذي يهمين على هذه الرواية.
والأنواع لا تجسدها الأغاني والأمثال فقط، بل يمكن رصدها من خلال حكاية «السي العربي»، الرجل الذي كان يسلي الأطفال الصغار، وتجسدها أيضاً المقالة التي ربما تـشكل أصل هذه الرواية. فعنوان الراوية، في الأصل، هو عنوان مقالة قرأتها «غيثة» كما جاء على لسان الساردة في موقع السيد «السيدا»، إنها تشكل، إلى جانب الأنواع الأخرى، الحكاية الأصل أو الكلمة النواة التي تم تفجيرها وتمطيطها لتصاغ في قالب روائي شائق وممتع.

4 - قضايا راهنة
عالجت الرواية عدداً مهماً من القضايا الراهنة في المغرب (البطالة، اعتقال الصحافة، الهجرة السرية، اغتصاب الأطفال من لدن الأجانب، تنصيب الحكومة الجديدة...)، غير أن المتأمل في تسريد هذه القضايا؛ أي معالجتها سردياً، يلاحظ أن الروائية قاربتها بأسلوب يجنح نحو النمذجة والتجريد، يبتعد عن المعالجة المباشرة التي تعكس الواقع بشكل آلي، لأن الكتابة عن الواقع بشكل مباشر تجعل العمل الأدبي فجاً ومبتسراً، وهذا ما تحاشته الروائية التي لم تعيّن بقدر ما أوردت قرائن لفظية وحالية تحيل على القضايا السابقة.

5 - التجريب بمقدار
عندما نقرأ رواية «غيثة تقطف القمر»، نلمس كثيراً من تقنيات التجريب، المتمثلة في تكسر خطية السرد، وتقنيتي الاستباق والاسترجاع. فغيثة التي نعرف منذ الصفحات الأولى أنها قضت فترة في السجن، لا نتعرف على أسباب سجنها إلا بعد تقدمنا في فعل القراءة، ولا نمسك بتلابيب هذه الشخصية إلا عندما نتعرف على علاقاتها بالآخرين (الأم، الأخ، الزوج الأول، خالد، ناديا...)، الذين تسترجع رفقتهم ماضيها، وفي كثير من الأحيان، نجد أنفسنا نعود إلى ما سبقت قراءته للتأكد من طبيعة الأشخاص، ولنلملم خيوط الحكاية. وإذا أضفنا إلى هذه التقنية، التي استطاعت الروائية بفضلها شد انتباه القارئ إلى آخر صفحة، التقنيات السالفة الذكر (التشذير، الكتابة عبر الأنواع الصغرى، الحذف...)، أمكننا القول إننا أمام رواية تجريبية، لكن التجريب فيها كان بمقدار، جاء بعيداً عن الإيغال، لذلك لم يمنعنا من القبض على نواة الحكاية واستيعاب دلالاتها، على خلاف بعض النماذج الروائية المغربية الحداثوية الأخرى التي تفهم التجريب بشكل معكوس، ما يجعل القارئ يتخلص منها منذ الصفحة الأولى.
إن ما قدمناه بخصوص هذه الرواية المتميزة والهادفة ليس سوى وجهة نظر تندرج ضمن وجهات نظر متعددة، تسمح بها نظرية التلقي التي أعلت من شأن القارئ ودفعته إلى ملء بياضات النص التي تركتها لنا الروائية فارغة في بعض الأحيان، التي راهنت على قارئ يقظ قادر على فك شفرات النص واستيعابه مضامينه عبر قالبه الفني الذي يعكس حساً فنياً متميزاً وإصغاء عميقاً للنصوص لدى الروائية زهور كرام ■