حفريات روائية في التاريخ والتراث السردي
في بدايات الرواية العربية في القرن التاسع عشر، كما في زمن ازدهارها ونضجها – بالأحرى: عرسها – منذ أخذ القرن العشرون يغرب، كان التاريخ واحداً من ينابيعها الكبرى، مثلما كان التراث السردي في اللغة أو الشهرزادية، مثلاً. وقد جعل ذلك كثيرين يقولون بالرواية التاريخية، لكني أوثر على ذلك أن يكون القول بالحفر الروائي في التاريخ أو في التراث السردي وغير السردي. وفي هذا المقام سوف أحاول أن أتبين هذا الحفر في عدد من الروايات التي صدرت على الإيقاع السوري المتفجر منذ 15/3/2011.
رواية محمد برهان: عطار القلوب -2014
تشبك هذه الرواية الأولى لكاتبها بالعربية ذ له رواية بالإنجليزية ذ بين الماضي والراهن الذي ألجأ الراوي وأسرته إلى الاحتماء تحت الطاولة، من القصف الذي يزلزل حي الزاهرة ومخيم اليرموك، ويتصادى في أنحاء دمشق الأخرى، وفي أنحاء ريفها وغوطتها.
أما الماضي فيحضر فيما يروي عن جده الحاج محمود العطار صاحب دكان العطارة، الذي عمل الراوي فيه أجيراً. والجد هو شيخ العطارين الذي جعل من دكانه «دكان السعادة» أسطورة قبل 100 عام، حيث علاج مرضى العشق. وهكذا تأتي قصص العشاق المرضى واستشفائهم، ملفوحة بعبق التاريخ، مثل قصة الخواجا الرسام الإيطالي عاشق الشام، أو قصة إبراهيم العطار نفسه والأميرة التركية شهناز. حتى إذا اقتربت الرواية من النهاية، أفردت للتاريخ صفحات تحفل بالأخبار التي تأتي من جبل لبنان والبقاع اللبناني إلى الشام ذ دمشق ذ منبئة بتعرُّض أكثر من 200 قرية مسيحية للاجتياح والنهب، في حمّى ما عُرف بالحرب الطائفية عام 1860، والتي بلغت نيرانها دمشق، حيث تدفق سيل النازحين من ميدان الحرب اللبناني إلى الأحياء الدمشقية المسيحية بخاصة. وإزاء ذلك يظهر الوالي غير مبالٍ، ويعتدي موكبه على الأطفال، ويجتاح المعتدون حياً مسيحياً ويرتكبون فيه مجزرة، فضلاً عن النهب وحرق البيوت والدكاكين والأديرة...
لدرء ذلك يمضي شهبندر العطارين وبعض تجار السوق إلى الجامع الكبير للقاء الأمير عبدالقادر الجزائري، بينما شكل شباب مسيحيون مجموعات مسلَّحة للتصدي للمعتدين، وهربت أُسر مسيحية من حي باب شرقي، وبدت الخيالة ذ مسلحو الحكومة ذ تارة تحمي المسيحيين وأخرى تناصر مسلحي القرى الذين يهاجمونهم.
يستبطن هذا الحفر في التاريخ ما يخاطب به الراهن السوري، وهو شاغل الرواية الأول والأخير. فاعتداء موكب الوالي على الأطفال ربما كان يخاطب اعتداء «الأمن» على الأطفال في مدينة درعا، وهو الشرارة التي أطلقت النفير السوري. وذلك الذي انتهى إليه الحريق الدمشقي قبل قرن ونصف القرن من المصالحة والتسامح وإحلال السلام في الشام، ربما كان هو ما ترنو الرواية إليه، بالإهاب الفني الذي تبدّى في ما أبدع إبراهيم العطار «عطار القلوب» من دواء يذهب بالحقد من القلوب.
رواية خليل صويلح: جنة البرابرة -2014
هذه رواية ألف يوم من الزلزال السوري، إذ تتوقف في 9/12/2013، والزلزال لما يزل يزلزل. ولا تتوقف شهرزاد عن الرواية المنهكة إلا لأن بورخيس أعلن أن تجاوز الليلة الألف يعني الدخول في الليالي اللانهائية.
يحضر التاريخ إلى الرواية في غير إهاب وغير متناص. فها هو ابن جبير يطل بوصفه لدمشق «جنة المشرق». وها هو الراوي يلتقي بابن عساكر الذي أنجز مؤلَّفه الضخم الشهير «تاريخ مدينة دمشق». كما يتعثر الراوي بأبي حيان التوحيدي فيجد أن ما كتبه الرجل في مقدمة مقابساته يخاطب ما يرغب هو ذ الراوي ذ في تدوينه، ولا فرق إلا أن الأول خطّ بالريشة والأخير يخط بالكيبورد. أما الأهم فهو لقاء الراوي بالبديري الحلاق صاحب المؤلف الاستثنائي «حوادث دمشق اليومية». والحلاق هو المؤرخ الشعبي بامتياز، الذي كتب لدمشق سجلها بالبلاغة العامية، وكامتداد للمقريزي، كما يكتب الراوي مقتدياً، فيسجل يومياته الدمشقية الزلزالية مما يرى ومما يسمع. لكن البديري الحلاق ندر أن تدخل في السرد، بينما الراوي ظل يحشر نفسه في المشهد تحت ضغط السردي على الروائي.
بين القرن التاسع عشر، زمن البديري الحلاق، وزمن الزلزلة السورية 2011- لا يفتأ راوي «جنة البرابرة» ينتقل. ومن الكثير الذي يطوي الزمن طياً ليخاطب التاريخُ الطويل التاريخَ الجاري: هجوم العسكر على حي الميدان، وقصف المدافع لسوق ساروجة. ولا يدع الراوي القارئ يتقرى بنفسه ما بين خطاب الماضي للحاضر، بل يكتب مثلاً: «سأتوقف عند حادثة مشابهة لما تعيشه دمشق اليوم بالتفاصيل نفسها أيضاً». وحين تدوي اليوم قذيفة من قمة جبل قاسيون إلى مكان ما من ضواحي دمشق، يرمي صوت القذيفة الراوي بصورة تيمورلنك بعد احتلاله لدمشق بالمنجنيقات. وتلفع السخرية أحياناً هذا الحضور للتاريخ، كما في أسماء الكتائب والألوية وعموم تشكيلات الجماعات المسلحة الإسلامية، وهي الأسماء التي يراها الراوي محتلّة من «دائرة نفوس الكتائب المسلحة»، من زمن الفتوحات.
رواية شهلا العجيلي: سجاد عجمي - 2012
في ربيع 2013 سيطرت تنــــظـــيمات إسلامـــية مسلَّحة على مدينة الرقة. وبعد شهور، طرد تنظيم داعش تلك التنظيمات، وانفرد بالسيطرة على المدينة التي تنتمي إليها شهلا العجيلي. وكانت رواية العجيلي «سجاد عجمي» قد صدرت قبل ذلك بقرابة عام.
تعود هذه الرواية إلى لحظة تاريخية عاشتها الرقة قبل قرون، غير أنها تخاطب اللحظة الراهنة، اللحظة الداعشية. ففي الرواية أن والياً جديداً يدخل إلى الرقة الوديعة الهادئة التي تعيش بمنجاة من الصراعات السياسية والعسكرية. لكن الصراعات متفاقمة في الجوار: في العراق وفي الشام: هكذا كان الأمر، وهكذا هو اليوم. وبدخول الوالي الجديد تنقلب حال الرقة شر منقلب، وهو القادم بحثاً عن «مصحف فاطمة» الذي يقال إنه في الرقة منذ معركة صفين التي غدت واحدة من ضواحي الرقة.
تتخفى السياسة في الدين أو تتماهى فيه، فيعلن الوالي أن غرضه هو وأد الفتنة. لكنه يعاجل المدينة بالرعب الذي يستوي فيه الضعيف والقوي، وبالمؤامرات والفوضى والصراع بين سادة المدينة، وفي صفوف العسكر أيضاً. ومن ظاهرة المدينة تلطمها أخبار القتال بين جند الوالي الجديد والخارجين على الدولة من المسلحين الملثمين المجهولين، الذين يرفعون المصاحف على الأسنَّة والسيوف ويهتفون باسم الله، مما بلبل جنود الوالي بين الولاء له والانتصار لدعوة المسلَّحين التي تكفّر الخليفة ومن والاه، لكأننا في سنة 2013 أو 2014 أو 2015.
من الجهل والجهالة إلى وحشية القتل والتنكيل إلى التستر بستار الدين، إلى انقلاب أحوال الرقة شر منقلب، تبدو الرواية تخاطب الراهن وهي تحفر في ذلك الماضي البعيد ذ التاريخ. وقد ضاعفت اللغة السردية التراثية البديعة لهذه الرواية من نفاذ خطابها، بما شبكت من التاريخ الطويل بالتاريخ الجاري، بينما الرقة وأخواتها السوريات والعراقيات يزلزل زلزالها، فتخرج أثقالها: «وهذا من أعجب العجب» كما تخبر الرواية، إذ خرج بلاء الفتنة من الصدور، وأوغل في الزرع والضرع، وانتشرت الفاقة نتيجة عَطَلَة السوق واحتجاز مقدرات البلاد لدعم الجذرية، ونقرأ: «كان أهل المدينة يستيقظون كل يوم على خبر قتل، وفقد، وتنكيل، حتى أن واحدهم بات ينام ليلاً ولا يعرف إذا ما قُدِّر له أن يصبح، هل سيصبح في داره أم في السجن أم في الطريق؟». على هذا النحو تتلامح واحدة أو أكثر من «لغات» العصر العباسي، بزهوها وتراثها وتفرُّدها، بينما ترسم مشهداً أو شخصية أو تنسج قصة حب.
ومن ذلك تسمق بخاصة لبانة العشرينية التي درست النسخ والترجمة عن السريانية، وعملت في بغداد نساخة، ثم عادت إلى مدينتها الرقة «وعليها ثوب من الكتان الأبيض، مطرَّز عند الصدر بخيوط من القصب الأصفر، وقد لفّت شعرها بخمار فيروزي عقصته إلى الخلف».
رواية غازي حسين العلي:
ليلة الإمبراطور - 2014
نقضت جمهرة الروايات التي كتبها محمود المسعدي وإميل حبيبي وفرج الحوار وصلاح الدين بوجاه وغازي القصيبي وجمال الغيطاني.. الاعتقاد بأن اللغة السردية الموسومة بالتراثية ليست لغة روائية معاصرة. وفي هذا النقض تندرج رواية شهلا العجيلي «سجاد عجمي» ورواية غازي حسين العلي «ليلة الإمبراطور». وقد حدّت الأخيرة نسبها التراثي اللغوي في واحدة من حليّه الخطرة، أعني «السجع» الذي يمكن أن ينقلب إلى قيد. لكنه في رواية «ليلة الإمبراطور» قوّى الإيقاع من جهة، وأفسح للسخرية من جهة. وإذا كانت رواية «سجاد عجمي» قد واءمت بامتياز بين اللغة الروائية والحفر في التاريخ، فرواية «ليلة الإمبراطور» واءمت بامتياز بين اللغة الروائية والشهرزادية، ولكن لم يتحقق لها ذلك دوماً عندما حاولت الحفر في التاريخ ، فأَحضرت إلى زمنها الراهن ومسرحها عبدالرحمن الكواكبي أو سليمان الحلبي أو السهروردي..
لقد هيمنت السجعة اللطيفة في أغلب عناوين فصول الرواية: «هذا الكلام يقال همساً في المكاتب، وليس عند أهل الشأن والمناصب «أو» مات بالسكتة القلبية وهو نائم على الصبية «أو» الزموا الحذر ياشباب فإن ما حدث انقلاب، ومهما يُقل في شأن العنوان/ العتبة - إزاء اللعبة الكبرى التي تفتتح الفصول، أو تفتق السرد، والمتمثلة في هذه الجملة: «رأيت فيما يرى النائم» فبفضل هذه العبارة المفتاحية أمكن للراوي أن يقفز بين الأزمنة والأمكنة، وأن يشبكها، حتى ليرى أنه حمال يتجول في سوق النسوان، وأن امرأة بارعة الجمال تقف قبالته وتقول: احمل قفصك واتبعني.. وهي إذن الحفرية في «ألف ليلة وليلة» وما روت شهرزاد في حكاية «الحمال والبنات».
إلا أن الراوي يعصرن الحكاية بمكر، وبلا صخب، لتصير واحدة من قطب شهادة الرواية على زمنها، أي واحدة من قطب نسيج التاريخ الجاري الساخن المباشر، مما تعيشه سورية من زلزالها، حيث يلتقي الراوي حبيبته سعاد في بطن الحكاية الألف ليلية، بعدما حرمه منها ابن عمها العماد الذي تنقفل الرواية - فيما يرى النائم - الراوي - على طول ظلم هذا الضابط للعباد، فخرجت إليه الحشود تهتف غاضبة: «الشعب يريد إسقاط العماد ابن عم سعاد»، فخرج العماد إلى الحشود بعدده وعديده، وقتل منها خلقاً كثيراً. لكن الحشود تابعت السير في الحواري والساحات، وهي ترمح بأجسادها، وتصدح بحناجرها بالهتفة الروائية التي ليست إلا صياغة أخرى لهتفة الزلزال العربي الشهيرة: «الشعب يريد إسقاط النظام».
رواية مها حسن: الراويات - 2014
بنت مها حسن روايتها هذه في ثلاث روايات، عنوان الثالثة «مقهى شهرزاد». وفي بداية هذه الرواية يظهر المقهى الباريسي حانةً للعناية بمن تعرَّضوا لجروح الروح، وبخاصة النساء. وقد دخلت أنييس إلى المقهى كما لو أنها تدخل إلى آلة الزمن السحرية، لكأنها في العصر العباسي، وفي تركيا أو إيران أو العراق، وليس في باريس. وبذا تتعزز الشهرزادية التي سبق لها أن أطلَّت مراراً في هيئات شتى، خلال الروايتين الأولى والثانية من الرواية الأم «الراويات».
أما أنييس فهي شهرزاد الرواية الثالثة التي تكتب وتخفي أوراقها. وسوف تبدأ بالحكي في مقهى ذ حانة شهرزاد، ولكن بعد أن تتقد العناصر الشهرزادية، وأهمها العجيب والغريب والخارق، فتقص صبية قصة القصر ذي الغرف الأربعين، وتقص أخرى وهي تعزف على العود حكاية الأخوات الثلاث. وإذ تبدأ أنييس بحكاياتها، يندلق السرد، فتروي سيرة والديها، وهي تجزم بأنها لن ترويها...
في رواية «مقهى شهرزاد» يقوم انتساب الرواية الأم «الراويات» إلى زمن الزلزلة المصرية. أما الزلزلة السورية، فليس لها حضور مباشر. وسيكون من التمحُّل الزعم بأن الزلزلة السورية متضمنة في «الربيع العربي» الذي جاء بشخصية عليا الكندية المصرية إلى القاهرة، لتلتقي بصديقتها الفيسبوكية أليس، فتتهجدان في المعبد الثوري: ميدان التحرير.
وقد جـــاء في هامـــش فصل «فنــــانـــات من أجل السلام» أن للمخــــرجة الســـــورية علياء خاشوف فيلم «الآخر المشتهى»، وهو نفسه فيلم المخرجة المصرية الكندية عليا، كما جاء في المتن، فهل يكفي ذلك للإحالة من عليا الرواية إلى عليا السورية، أو من الزلزلة المصرية إلى الزلزلة السورية، كحلقتين من حلقات الربيع العربي؟ مهما يكن، فالحكايات جميعاً في رواية «مقهى شهرزاد» وفي الروايتين اللتين سبقتاها من الرواية الأم «الراويات» تنادي ألف ليلة وليلة، لتكون للمقهى ذ الحانة في باريس شهرزادها، وذلك في شخصية أليس التي تنضم إليها أنييس في نسج الحكايات وسردها، فشهرزاد هذه الرواية ليست واحدة.
هكذا جاء المنجز الفني للروايات الخمس مميزاً ومتقداً ومنوعاً، سواء في الحفر في قرن مضى أو في قرون، وسواء استلهم ألف ليلة أم استلهم اللغة العباسية.
وربما تتضاعف قيمة هذا المنجز بكونه نتاج مغامرة الكتابة في لجّة النهر المصطخب العكر الدامي والمتلاطم، الذي توحّد فيه دجلة والفرات، في نهر يصدق فيه القول: إن الواقع أغنى وأغرب من الخيال ■