مسرحية «العاصفة» والنقد ما بعد الكولونيالي «رضوى عاشور» نموذجاً
تعد الناقدة المصرية د. رضوى عاشور من النقاد العرب الذين حاولوا الاستفادة من منجزات النقد الثقافي، وحللوا على ضوئه مجموعة من الأعمال الأدبية، ولاسيما ما اتصل منها بالمسرح. وما قدمته الناقدة في كتابها «صيادو الذاكرة»، يؤكد بشكل كبير طبيعة النزوع الذي بدأ يطغى على عديد من النقاد العرب في مساءلتهم لأرشيف الثقافة الغربية، وخاصة ما ارتبط بالجانب الأدبي، ولعل تلقي الناقدة لمسرحية «العاصفة» لشكسبير، يمثل نموذجاً لطبيعة ذلك التمثُّل، فالناقدة تؤكد منذ البداية أن عاصفة شكسبير من المسرحيات التي حاولت الحط من قيمة الإنسان الشرقي. ولعل النعوت التي وصف بها كاليبان، تبرز لنا التعالي الغربي في مقابل الانحطاط الشرقي، فكاليبان يوسم بأنه شخص لا يجدي نفعاً، إنه غير قابل للتعلُّم، كما أنه فوضوي، ومتمرِّد، ومتعصب، إن طاقاته الشهوانية والحيوانية تفوق بكثير، بل وتسيطر على طاقاته العقلية، وهو ما يضعه في مرتبة أدنى من الإنسان.
وفي مقابل ذلك، يظهر بروسبيرو، وابنته ميراندا، وباقي شخصيات المسرحية، رغم خسة بعضها، بأنها أرقى. فبروسبيرو نموذج للإنسان الغربي المثقف والمتنور، الذي جاء لينشر نور الحضارة الغربية في الجزيرة ويهدي ضاليها. وميراندا، فتاة مثقفة وأنيقة، تحمل الكثير من خصال أبيها. وفرديناد جميل يتميز بخصال النبلاء. بينما تتدثر باقي شخصيات المسرحية، أنطونيو وسباستيان ستيفاتو وترينكولو، بخصال إنسانية رغم تواطئها مع كاليبان، ولكن ذلك التواطؤ لا ينزل بهم إلى مستوى كاليبان الذي يتخذ موقعاً أدنى من باقي الشخصيات، فكاليبان تقدمه المسرحية نقيضاً لكل شخصياتها، إنه شيطان بالفطرة، كما أنه متوحش، ونذل، وسمكة، وغبي، ووحش، وغيرها من الصفات، ما جعله محط اهتمام مبالغ فيه لكونه خارجاً عن المألوف، فهو خارج نطاق البشر، ما يجعل كل شخصيات المسرحية تطمح إلى استعباده واستغلاله.
ولعل اختزال كاليبان في تلك الصفات الدنيئة، لم يخلُ من أغراض خفية، حاولت رضوى عاشور كشفها، من خلال استحضار النسق الثقافي المضمر لنص «العاصفة» ككل، وهو نسق يرمي إلى إيجاد مسوغات التوسع الإمبريالي في أراضي الشرق. فالعاصفة كما تشير إلى ذلك الباحثة، تجسِّد بشكل واضح التعالق المتين بين الفن المسرحي والإمبريالية، وليست الجزيرة المكتشفة من قبل بروسبيرو فردوساً أرضياً حديثاً فحسب، ولكنها «عالم أوربا القديمة بموروثها الثقافي ونهمها للسيطرة والتوسع».
ولعل الخلوص إلى هذه النتيجة من لدن الناقدة يكشف عن مفهوم آخر وظفته من أجل التأكيد على الجانب الاستعماري في النص، ألا وهو مفهوم الدنيوية الذي يقضي بضرورة ربط النص بسياقاته العامة. ومن ثم تضافر السياسي، والتاريخي، والاجتماعي، والثقافي، وهي كلها شروط ساهمت في بناء عاصفة شكسبير، فالنص على نحو ما تشير الباحثة قد استفاد من مجموعة من الحقائق والتقارير التي توسل بها شكسبير في صياغته.
رؤية متعالية
ولذلك، جاء النص ليعبر عن الرؤية المتعالية للإنسان الغربي، والتي هي رؤية توسعية في عمقها مبنية على ثنائيات ضدية، متقدم/ متخلف، صالح/ طالح، نور/ ظلام، راقي/ دنيء، غرب/ شرق، وغيرها من الثنائيات التي وجد شكسبير في بروسبيرو، وكاليبان، نموذجين مهمين لتمثيلها. وبذلك، كان بروسبيرو نموذجاً للإنسان الغربي المتعالي، المتنور، والمتقدم، والمهتدي، وصاحب الرسالة الأخلاقية التي سوف تُخرج الجزيرة من الظلام إلى النور عن طريق تحديثها، بينما وسم كاليبان بنقيض هذه الصفات، الأمر الذي جعله «خارج نطاق البشر وتاريخهم. وهو موجود في المسرحية بصفة الضد الذي يظهر ضده الإنساني».
إن عاصفة شكسبير تعلن بشكل جوهري عن فكرة أساسية قد أشار إليها إدوارد سعيد، وهي أن «ثمة غربيين وثمة شرقيين... والسابقون يسيطرون والتالون ينبغي أن يخضعوا للسيطرة». ولكن عندما يتمرد كاليبان على هذا الوضع، ويرفض الخضوع للتبعية، يواجه بأسف الصفات التي تحكمت في عقل الغربي، التي جردته من الإنسانية بشكل مطلق، بل وسوغت بذلك أشكال استغلاله والسيطرة عليه، لأن من واجب الإنسان الأرقى، كما يرى الفكر الغربي، أن يسيطر على من هم أدنى مرتبة من أجل الرقي بهم وتنويرهم، وهذا ما طمح إليه بروسبيرو وهو يستنزف خيرات الجزيرة.
إن رضوى عاشور، تحاول من خلال الوقوف عند مسرحية «العاصفة» الحد من تدويم أفكار بعينها عن شخصية شكسبير باعتباره شاعر الإنسانية الأعظم، وذلك بالكشف عما ينطوي عليه عمله/ أعماله من مناطق مظلمة لابد من إعادة تفكيكها حتى تستطيع استخراج الصورة الواقعية لمسرحية العاصفة، لكونها تمثل دالاً مهماً بالنسبة لممارستها النقدية. إنها تكشف عن أسطورة التفوق الأوربي، وهي الأسطورة التي أحياها شكسبير. يقول بوتسناسينج، مشيرا إلى الهند: «لقد أحيا شكسبير أسطورة لنمو وتفوق الثقافة الإنجليزية، وهذه الأسطورة كانت ذات أهمية محورية بالنسبة للمصالح السياسية للحكام».
ولا يقف شكسبير من أجل إحياء هذه الأسطورة في مسرحية العاصفة عند تجريد كاليبان من المواصفات الإنسانية، بل يجرده أيضاً من المواصفات الحيوانية، عندما ينعته بأنه غير قابل للتعلم. إنه يمارس نوعاً من العنف الإبستيمي، الذي يجعل من كاليبان مجرد شيء فحسب، ما يدفع بالنص إلى التمركز حول قضايا العنصرية والتفوق العرقي. فكاليبان يمثل الطبيعة، بينما بروسبيرو يشكل رمزاً للثقافة، أي كشف التعارض القائم بين الآخر القادم من الجزيرة (كاليبان)، والأنا التي تشكلها الذات الغربية المتعالية (بروسبيرو).
إن قراءة «العاصفة» باستحضار الظروف العامة التي كتبت فيها، وإبراز الصلات العميقة لها بالمرحلة الإمبريالية، «وفي ضوء فكفكة الاستعمار، لا يعني الانتقاص من قوتها الجمالاتية العظيمة ولا معالجتها تقليصياً بوصفها إعلاماً دعائياً إمبريالياً. ومع ذلك فإنه لخطأ أشد فداحة بكثير أن تقرأها مسلوخة من تواشجاتها وانتماءاتها إلى حقائق القوة التي أفعمتها ونفحتها بالمقدرات». ولعل هذا ما حاولت رضوى عاشور الوقوف عنده، من خلال استحضارها لمفهوم القراءة الطباقية، الذي وإن كان يؤكد القيمة الفنية العظيمة لعديد من الأعمال الأدبية، فإنه لا يخفي أنساقها المضمرة التي كان لها دور كبير في دعم التوسع الاستعماري في أراضي الشرق.
تواطؤ غير معلن
فنص العاصفة بفصله عن سياقه التاريخي، يبدو من النصوص المسرحية التي ترفع صاحبها إلى أعلى مراتب الكتابة الدرامية، ولكن عندما يتم استحضار هذا السياق، فإنه يبرز لنا التواطؤ غير المعلن من لدن شكسبير مع الإمبراطورية، وهذا ما تؤكده الباحثة بقولها: «إن الفصل بين مسرحية العاصفة وسياقها التاريخي يجعل من نص شكسبير نصاً مكتوباً باقتدار عن أمير له قدرات خارقة يفقد إمارته، ثم يستعيدها بعد اثنتي عشرة سنة، أما قراءة النص في سياقه فتجعل من المسرحية تعبيراً عن أسطورة من أساطير الحضارة الغربية عن نفسها، أسطورة تفضح الطبيعة المزدوجة لإنسانية مشروع النهضة الأوربية (النهم غير المحدود للمعرفة والسلطة وتأكيد الذات المرتبطة بنفي الآخر واستعباده)».
فرضوى عاشور ترى أن شكسبير من خلال نص العاصفة، يبقى ابن عصره، والعصر الإليزابيتي على وجه التحديد. ولعل هذا ما عبّر عنه بكل ما أوتي من ملكة، ففي العاصفة، يرفع شكسبير لواء التأييد للتوسع الإمبريالي الغربي في باقي الأراضي، بكل ما يحمله من أيديولوجيات، وهو ما يوجب رد فعل من لدن المهيمن عليهم، الذين يمثل كاليبان من منظور الباحثة واحداً منهم، فكاليبان في تمرده على سيده، إنما يرفض وضع السيطرة التي يمارسها بروسبيرو، وكل ذلك يدفع إلى قيام فعل المقاومة الذي يطرحه النص ذاته، فالمسرحية تعبر عن التجربة الكولونيالية بامتياز، وفي سبيل هذا التعبير، تطرح أيضًا إمكانات متعددة للقراءات والتأويلات المتعلقة بالنص، كما تطرح مجال وجود مقاومة يتيحها التمرد والعصيان اللذان يعلنهما كاليبان. إن النص يورط نفسه كما يشير إلى ذلك بول براون، باعتباره «ليس فقط مجرد انعكاس للممارسات الكولونيالية وإنما اشتباك مع خطاب يعاني الازدواجية بل وحتى التناقض».
ولعل هذا ما جعل رغبة كاليبان في التحرر تجابه بالسخرية، فمنطق النص يكشف عن السياق الأيديولوجي العام الذي يوجه ليس فقط شكسبير، وإنما عصره بأكمله. ولذلك كان انفتاح الباحثة على هذا السياق حتمياً من أجل فهم النص وفهم طبيعة العصر أيضا. فكاليبان من هذا المنظور «مخلوق بلا حقوق مما يجعل تمرده شراً وخيانة وتطلعه إلى الحرية أمراً مثيراً للسخرية». والمتحكم في هذه الصورة النمطية هو طبيعة العصر الذي نمّط في قوالب جاهزة كل ما لا ينتمي إلى المنظومة الغربية، مما يؤدي إلى انتفاء أي «إمكان للتوحد بكاليبان أو التعاطف معه فهو ليس سوى وحش آدمي الهيئة، وبالتالي لا يصلح للحرية ولا حق له في تقرير مصيره». بينما يلوح بروسبيرو بعلمه الذي يمده بالقوة «ويجعله يتسامى عن أفعال البشر، وتكاد تتحرك مشاعر بروسبيرو خارج النطاق البشري، فهي أكثر سمواً من كل الأبطال الآثنيين، بل ومن آلهتهم».
وإذا كانت مقاومة كاليبان ليست ذات طابع سياسي بالضرورة، حيث يتم استكناه فحوى السيطرة الممارسة عليه، فإنها تتخذ بعدًا آخر يسعى إلى تحقيق الهوية، لاسيما عندما يكشف الخطاب المسيطر عن «دواليل الاختلاف الثقافي وإعادة إدراجها لها ضمن علاقات القوة الكولونيالية المتباينة: ضمن التراتبية والمعيارية والتهميش وهلم جرًّا».
ولإبراز البعد الاستعماري لمسرحية العاصفة، تعود رضوى عاشور إلى عقد مقارنة بينها وبين رواية «روبنسون كروزو» لدانييل ديفو، لتؤكد بعد ذلك أن عناصر النصين، تكاد تكون متطابقة، من حيث أهدافها، فكلا النصين، يحتفي بسيد أوربي، يقطن جزيرة خالية، ويحاول تحضير الساكن الأصلي ثم استعباده في ما بعد، فالبطلان وإن اختلفا في أساليب ترويض الطبيعة نظراً لخصوصية كل منهما (بروسبيرو، كروزو) فإنهما ظلا وفيين للعلاقة التي تجمعهما بالآخر، فكل منهما يحاول تحضير الساكن الأصلي. ولذلك تحكمت جملة من النعوت المضادة، في علاقة السيد بالعبد، هي محض ثنائيات، الغاية منها إبراز التعالي الغربي في مقابل التدني الذي يسم ما دونه. ولكن مع اختلاف في طريقة التعامل مع هذا الآخر. ففرايداي، يمثل النقيض لكاليبان تماماً، فبينما يوسم الأخير بالتمرد، والعصيان، والشر، والقبح، فإن فرايداي، يوصف بالجمال، والنبل، والإخلاص. وهو ما يقربه من الأوربيين، بل ويجعل اندماجه معهم أيسر بكثير.
تجربة التوسع الإمبريالي
ومهما يكن، فالباحثة ترى في النصين تجربتين متتاليتين لمرحلتين حاسمتين في التوسع الإمبريالي. ولذلك كانت الجزيرة، وسكانها الأصليون، يمثلون حيزاً مهماً من تلك التجربة، تقول الباحثة: «إن الجزيرة في مسرحية العاصفة ورواية روبنسون كروزو هي حيز لإجراء تجربة. في النص الأول نرى تجربة تجسد معارف الإنسان وقدراته اللانهائية، وفي النص الثاني نرى قدراته الفردية على الإنتاج الاقتصادي. بانتقالنا من نص إلى النص التالي، ننتقل من عصر النهضة والأمير العالم الحكيم إلى المجتمع الرأسمالي في القرن الثامن عشر والبورجوازي المستثمر. ولكن الأمير والمستثمر على اختلافهما يشتركان في فعل الاستيطان الكولونيالي ويجدان في الساكن الأصلي موضوعاً للاستغلال المادي والهداية الروحية».
ولعل هذا ما حدا بالباحثة إلى التأكيد على النزوع الاستعماري في النصين، فكل من بروسبيرو وكروزو يحمل الهم ذاته، وهو فرض سيطرتهما على الآخر والقيام بمهمة تحضيره، فكلاهما «أب استعماري يحمّل نفسه مسؤولية حماية الساكن الأصلي من ذاته بتخليصه من توحشه وهدايته».
إن هذه المقارنة الخاطفة التي قدمتها رضوى عاشور تبرز وبجلاء التناول الفج للآخر، والكيفية التي يتم من خلالها الحط من قيمته، وهو ما أكده إدوارد سعيد أثناء قراءته رواية روبنسون كروزو قراءة طباقية، حيث كشف هو الآخر عن البعد الاستيطاني في الرواية، مؤكدًا بدوره أن الرواية بقدر ما تشكل عملاً إبداعياً عظيماً، تحمل أبعاداً أيديولوجية بعيدة المدى. ولعل أهمها، إضفاء السيطرة على الآخر، وتدجينه، يقول: «إن روبنسون كروزو عملياً غير قابل للخطور ببال في غياب المهمّة الإرسالية الاستعمارية التي تسمح له بأن يخلق عالماً جديداً خاصاً به في أقاصي البراري النائية في إفريقيا، ومنطقتي المحيط الهادي، والأطلسي». بل إن الرواية وفق إدوارد سعيد تمنح «المقدرة بصورة صريحة عقائدية للتوسع فيما وراء البحار».
وإجمالاً فقد استطاعت رضوى عاشور من خلال مقاربتها لعاصفة شكسبير أن تكشف لنا عن الأنساق الثقافية المضمرة الثاوية خلف كتابة بعض الأعمال المسرحية، التي لطالما نظر إليها بإجلال كبير، في حين كانت تحمل بين طياتها أسباب تقويضها.
إن الباحثة وهي تقتحم مجال التأويل بالتركيز على السؤال: ما الذي سينتج عن قراءة العاصفة قراءة ثقافية؟ نجدها قد لامست القضايا الكبرى التي يمكن أن تفرزها القراءة الثقافية للمسرحية التي تتطلب وضع النص في سياقه العام، كما تفرض أيضاً على الباحثة العودة إلى الخلفيات الفكرية الناظمة للنقد الثقافي، ولاسيما في شقه ما بعد الكولونيالي، وهو ما برز معها من خلال ورود عديد من المفاهيم التي احتفى بها رواد هذا المنهج من قبيل مفهوم النسق، والمقاومة، والهوية، والهيمنة، والقراءة الطباقية، وجدلية الأنا والآخر، وغيرها. وهي كلها مفاهيم تدفعنا إلى القول بانسجام الرؤية الناظمة للمقاربة النقدية لدى الباحثة، ما يجعل عملية التأويل لديها تتسم بكثير من النضج، وخصوصًا بانفتاحها على العوامل الخارجية التي أسهمت في كتابة نص العاصفة، وهو الانفتاح الذي يشدد عليه رواد النقد الثقافي في إطار ما وسموه بالدنيوية التأويلية، التي توجب النظر إلى النص من مختلف الجوانب التي ساهمت في كتابته. وإن كنا قد سجلنا هنا أن الاهتمام بالجانب الجمالي في النص، قد غُيّب تماماً من لدن الناقدة، ما عدا التأكيد على أنه نص مكتوب باقتدار. وعلى كل حال، فهذه الملاحظة تنسحب على كل نقاد النقد الثقافي الذين اختزلوا النص إلى مجرد مجال للخطاب، من دون النظر في جوانبه الفنية والاستيتيقية ■